الدراسات

ماركس واستئناف الأمر القطعي الكانطي

ملخّص: كنّا قد أكدّنا في ما سبق من قراءات وتأويلات على ضرورة أن تتخطى الماركسيّة  ذاتها وأن تستحمّ في نهر الراهن لتكون متماهية مع منهجها وصادقة مع واقعها وزاجلة في سياق تاريخها ومتساوقة مع تناقضات الراهن، إيمانا منّا بأن حياة الإنسان في هذه العوالم ليست ملكا لطبقة أو لحزب أو لدولة أو حتى كوكبة من التحالفات الدوليّة. فمقام الإنساني ليس موضعا للتجارب الفيروسيّة أو النوويّة ذلك أنّ علّة انوجاده ليس لأن يقتل أو يعذّب أو يسفك دمه أو حتى التعامل معه باعتباره شبيها بمن غباه التراب.

أن تتخطّى المادّيّة ذاتها هو أن تنفتح على الأمر الراهني باعتباره أمرا كونيا مشتركا تعي فيه شعوب العالم أنّ شرط إمكان حياكة أو إبداع المستقبل يمرّ عبر الوعي بتهافت آمال الحداثة وما بعدها، فجعل شعوب العالم تستشعر الخوف من ما هو كائن هو المقدّمة للتفكير الشجاع  في المستقبل بما هو أمر.

   هذا هو المقام الإشكالي الذي ارتضيناه كي نستأنف ماركس وأمره القطعي على ضوء أمرنا الذي خلّفته الشروط المادّيّة للإمبراطورية المعولمة، ذلك أن استئناف الأمر القطعي الكانطي وتشغيله على الراهن سيساهم في تحقيق ثلاث مهمات تكون في علاقة بأسئلة الراهن : فتجذير النقد سيؤول إلى تصريفه في غير المصارف التي كانت دارجة في تاريخ الفلسفة وهو ما سيمكّن في نظرنا من إعادة بناء النّقد على أسس ماديّة تاريخيّة وبالتالي إعادة بناء الأمر القطعي الكانطي  وهو ما سوف يغيّر وجهة الفلسفة ومن خلفها الفيلسوف، فاستئناف الكانطيّة من جهة اليسار سيساهم في دفع الفلسفة اليوم كي تجاور الأزمة وتعاشرها لتبحث عن ممكنات أنوار جديدة خارج الأطر والثنايا التي تحدّدها سلط ما خلف السوق، أعني التفكير في أنوار الهامش ليس من منظور الاكتمال الميتافيزيقي للتاريخ البشري الذي يروّج له فوكوياما وأتباعه.

كنّا قد أكدّنا في ما سبق من قراءات وتأويلات على ضرورة أن تتخطى الماركسيّة  ذاتها وأن تستحمّ في نهر الراهن لتكون متماهية مع منهجها وصادقة مع واقعها وزاجلة في  سياق تاريخها ومتساوقة مع تناقضات الراهن، إيمانا منّا بأن حياة الإنسان في هذه العوالم ليست ملكا لطبقة أو لحزب أو لدولة أو حتى كوكبة من التحالفات الدوليّة. فمقام الإنساني ليس موضعا للتجارب الفيروسيّة أو النوويّة ذلك أنّ علّة انوجاده ليس لأن يقتل أو يعذّب أو يسفك دمه أو حتى التعامل معه باعتباره شبيها بمن غباه التراب.

أن تتخطّى المادّيّة ذاتها هو أن تنفتح على الأمر الراهني باعتباره أمرا كونيا مشتركا تعي فيه شعوب العالم أنّ شرط إمكان حياكة أو إبداع المستقبل يمرّ عبر الوعي بتهافت آمال الحداثة وما بعدها، فجعل شعوب العالم تستشعر الخوف من ما هو كائن هو المقدّمة للتفكير الشجاع  في المستقبل بما هو أمر، وما قيل ترجمه ماركس منذ نقده لفلسفة الحق لهيغل حينما قال: “يجب أن نعلم الشعب الخوف من نفسه كي نعطيه الشجاعة”[1].

   إنّ الانفتاح على أمر ماركس وأمرنا في صيغة الكوني هو في نظرنا شرط إمكان زراعة المستقبل ، زراعة تتدرّب فيها الإنسانيّة على أن تخاف من نفسها وأن تستشعر الضياع الكائن هنا  وتلك هي النوابت الأولى لمعاودة الانتماء أو الانخراط في مشاريع تحرير الإنسانيّة، ذلك أن الإنسانيّة اليوم استحالت جسما غريبا عن نفسها، أعني عن أقوالها وأفعالها وبكلمة عن تاريخها.

   هذا هو المقام الإشكالي الذي ارتضيناه كي نستأنف ماركس وأمره القطعي على ضوء أمرنا الذي خلّفته الشروط المادّيّة للإمبراطورية المعولمة، ذلك أن استئناف الأمر القطعي الكانطي وتشغيله على الراهن سيساهم في تحقيق ثلاث مهمات تكون في علاقة بأسئلة الراهن : فتجذير النقد سيؤول إلى تصريفه في غير المصارف التي كانت دارجة في تاريخ الفلسفة وهو ما سيمكّن في نظرنا من إعادة بناء النّقد على أسس ماديّة تاريخيّة وبالتالي إعادة بناء الأمر القطعي الكانطي  وهو ما سوف يغيّر وجهة الفلسفة ومن خلفها الفيلسوف، فاستئناف الكانطيّة من جهة اليسار سيساهم في دفع الفلسفة اليوم كي تجاور الأزمة وتعاشرها لتبحث عن ممكنات أنوار جديدة خارج الأطر والثنايا التي تحدّدها سلط ما خلف السوق، أعني التفكير في أنوار الهامش ليس من منظور الاكتمال الميتافيزيقي للتاريخ البشري الذي يروّج له فوكوياما وأتباعه.[2]

   إنّ تجذير النقد وإعادة صياغة الأمر القطعي الكانطي[3]  صياغة مادّيّة تاريخيّة ودفع الفلسفة كي تنخرط في معركة تغيير العالم هي مصادر قيام مقدّمة لكل أمر قطعي مستقبلي يمكن أن تكون فيه الإنسانيّة متناغمة ومتماهية مع طبيعتها وماهيتها كما مع حواسها وتاريخها وهذا هو ما نمهّد له.

  1. في تصريف الأمر القطعي

   يعني تصريف الأمر القطعي بما هو تمهيد لهذا المقال البحثي وضع الأمر في إطاره من أجل تصريفه  نحو الممكن أو نحو الحتمي محاولة لحلّ الإشكاليات التي تنخر الأنظمة القائمة وثمّة ممكن واحد في ما نعتقد  هو ممكن إعادة بناء النّقد وبالتالي إعادة بناء الفلسفة وتحديد علاقة الفيلسوف بالواقع  والعالم  لأن في ذلك شرط إمكان التحرر الذي فيه تتمّ حياكة المستقبل والعمل على خلقه ودفع السياسات إليه وهو الذي نوجّه إليه الماركسيّة اليوم.

   يقال الأمر في لسان العرب على معان كثيرة قد أحصاها أهل لسانهم ففي معناه الأوّل يفيد الأمر “نقيض الشيء”[4] وفي المعنى الثاني يفيد معنى “الحادثة”[5] فنحن نقول “أمرُ فلان مستقيم وأموره مستقيمة”[6] ، أمّا معناه الثالث فيفيد الأمر الذي يعيد المأمور إلي أصله فنحن نقول ” إلق فلانا وآمره فردوه إلى أصله”[7]. ويقال الأمر أخيرا على معنى علّة الفعل الذي لها وقع الفعل وهذا هو المعنى القوي للأمر من بين المعاني الأربعة وهو الذي جاز لنا أن نربطه بهذا المقال البحثي.

   لئن صرّف كانط أوامره القطعيّة[8] l’Impératif Catégorique على المسألة الأخلاقيّة مكتفيا بالتشريع ووضع الأوامر وصياغة القواعد بمعزل عن التجربة فإن ماركس يعيد بناء النقد وأمره القطعي على أسس ماديّة وتاريخيّة

  1. ماركس وتجذير النقد أو من جغرافيّة العقل إلى جغرافيّة الواقع

   يستلهم ماركس من كانط مشروعه النقدي ليعيد بنائه على أرضيّة سياسيّة واقتصاديّة فلم يعد الأمر بعد كانط متعلّق بنقد السماء أو بالتساؤل عن شروط المعرفة القبليّة بل إنّ الأمر النّقدي بات لحظة حاسمة من لحظات هندسة المستقبل.

   إن ماركس لا يسأل عن شروط إمكان الأحكام التأليفيّة والتركيبيّة المنعزلة عن التجربة[9] ولا يضع على عاتقه سبل إمكان جعل الميتافيزيقا علما على شاكلة الرياضيات والفيزياء المحضتين، بل إنّ نقطة انطلاقه هي جعل النقد في تمحك مع موضوعاته، أعني إجبار النّقد أن ينزل من سماء التجريد إلى الحياة الواقعيّة بما هي المنبت والأصل التي تمثّل في نظرنا علّة النقد وأمره.

لا يكتفي ماركس بالموروث الفلسفي والاقتصادي الذي حلّفته الإنسانيّة عبر مسارها الطويل بل ينهل منه ويعيد تأسيسه، فالنّقد بعد كانط أجبر على النزول ليكون معبّرا على شقاء الإنسان وتعاسته الدينيّة والدنيويّة وبذلك يمرّ من جغرافيّة العقل كما كان كانط طرحها في كتبه النقديّة إلى جغرافيّة الواقع والحياة المادّيّة وهنا مكمن الجذريّة النقديّة التي لا يبرأ منها أحد.

   والأمر في ما بعد كانط لم يعد من قبيل التساؤل عن شروط إمكان قيام الميتافيزيقا ولا حتى بالتساؤل عن مستطاع العقل وقدراته ولا بإثارة الفرق بين ما يكون خيّرا في ذاته وبين الخير الذي لا يكون خيرا إلا باعتباره وسيلة للحصول على شيء ما، بل إنّ الأمر النّقديّ سيصرّف في ثنايا جديدة وفي جغرافيا لم يكن مفكر فيها وحتى ولو فكّر فيها فلم يكن إلّا من باب التبرير والتزيين للمصالحة بين الواقعي والعقلاني أمّا خوفا أو حفاظا على التراتبيّة الطّبقيّة، هي جغرافيا الهامش أين يتكاثر الفقر بنسب تكاثر السكان.

   يدشّن ماركس جغرافيا الهامش بالمرور من نقد العقل إلى نقد الواقع السياسي والاقتصادي ومن مستطاع العقل إلى مستطاع البشر الواقعيون والفاعلون ومن تأويل العالم وتأمله إلى العمل على تغييره جذريا لا تأمليا أو مثاليا، ذلك أنّ النقد الماركسي لا يستهدف رسم حدودا للعقل حتى لا يخرج عن حدود الظاهرة ولا حتى بناء تشريعات وقواعد تحدّد أخلاقيّة الفعل الأخلاقي بل إن الأمر النقدي استحال إلى جغرافيا واقعية تتبّع أشكال الاغتراب والاستغلال الرأسماليين لتمسك بهما من جذورهما، هي جغرافيا جذريّة لأنّها لا تبحث في الظاهرة ما قبليا بل تنظر إليها في حركتها المستمرّة ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وهي جذريّة لأنّها تمسك موضوعات الواقع من منابتها عبر ربط المنهج بجغرافيّة الواقع ذلك أنّ تكوين معرفة بالواقع هو شرط إمكان نقد المعرفة.

   يبيّن لنا ما قيل أنّ “النقد الماركسي يتميّز عن النقد الكانطي لأن ماركس المتمثّل لاكتشافات هيغل في فينومنولوجيا الروح يعي شأنه في ذلك شأن هيغل استحالة فصل المنهج عن المضمون واستحالة نقد المعرفة قبل المعرفة، استحالة تعلّم السباحة قبل الغوص في الماء”[10]، ففصل المعرفة عن مضمونها هو ما سيتيح لماركس إعادة بناء النقد وتجذيره عبر تكوين معرفة مادّيّة بالواقع الموضوعي لرسم حدود للاقتصاد السياسي الرأسمالي نشأة وتكوّنا وترحّلا عبر السيرورات التاريخيّة لمنظومة رأس المال وتشكيلاتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فتكوين معرفة بمنظومة رأس المال هو شرط إمكان كل نقد.

   أعاد ماركس، إذا، بناء النقد على أسس مادّية تاريخيّة، فمن النقد الفلسفي والأدبي إلى النقد الاقتصادي والسياسي، فالغاية التي تحرّك النّقد هي رسم حدود لمنظومة رأس المال من أجل العمل على فعل عبورها وتخطيها وهذا هو في نظرنا خلاصة الأمر القطعي الماركسي وهو ما نحاول أن نوجّه له الماركسيّة اليوم، ذلك أنّ تكوين معرفة بآليات اشتغال منظومة رأس المال والوقوف على أدواتها وأجهزتها هو عماد تجذير النّقد، فمهّمة النّقد هي نزع القناع الذي يحجب عنّا جغرافيّة الواقع وتتبّع حركة الملكية وفائض القيمة ودوران رأس المال منذ صرخته الأولى  وصنميّة البضاعة؟؟؟؟؟ فذلك هو في نظرنا الطريق الملكي لقيام ثورة كوبرنيكيّة في الفلسفة، فهي ثورة تبدأ فقط مع ماركس وليس مع كانط لأنّ ماركس لم يكتف بالمعرفة الماقبليّة ولم يسعى جاهدا إلى تأسيس مشروع أخلاقي ميتافيزيقي بل أرجع الإنسان إلى واقعه والى الشروط المادّية والتاريخيّة المستقلّة عنه وهو ما مكّنه في نظرنا من تعرية أشكال الاغتراب والاستلاب الرأسماليين[11] .

   لا يعتبر ماركس في تجذيره للنقد وفي مروره من  جغرافيّة العقل إلى جغرافيّة الواقع أنّ الأزمة هي أزمة عقل بما هو عقل ميتافيزيقي[12] بل إنّ الأزمة هي أزمة سياسيّة واقتصاديّة ، فالقصور الحقيقي في نظر ماركس ليس “في خروج المرء من القصور الذي هو مسؤول عنه “[13] بل في تخطّيه لما يعيقه على استرداد ذاته المصادرة في معبد السلع العالميّة أعني عودة ذاته المستلبة والمغرّبة والمستغلة من قبل علاقات إنتاجية جعلت منه دون مستوى الكفاف اليومي.

   يستأنف ماركس المشروع النقدي الكانطي فمن نقد العقل إلى نقد الواقع ومن التأمل والتأويل إلى الفعل والممارسة ومن الصراع بين العقلانيين والتجريبيين على المستوي المعرفي إلى الصراع بين المضطًهد والمُضطهِد  على المستوي الاقتصادي والسياسي والإيديولوجي، ومن تفكيك العقل إلى عقول يقع الحكم فيها على المعرفة والأخلاق والجمال إلى تفكيك المجتمعات والطبقات وأنماط الإنتاج وصنميّة البضاعة وفائض القيمة عبر إخضاع كلية المجتمع إلى قانون الماديّة التاريخيّة وهو ما سيسمع لماركس في كتابات النضج المرور من تفكيك الواقع إلى تفكيك الاقتصاد الرأسمالي وطبقاته.

إنّ إعادة بناء النّقد الكانطي وتجذيره هو الذي سيفتح الطريق لتجذير الأمر القطيعي.

  1. تجذير الأمر القطعي

   إنّ أمر ماركس هو على النقيض التام من الواجب الكانطي[14] ذلك أن كانط في النقد الثاّني فسح المجال للإيمان ناقلا أحلام الإنسانيّة إلى عالم آخر ف”حالة ألمانيا في القرن الماضي تنعكس بصورة تامة في كتاب كانط نقد العقل العملي، كان كانط راضيا بالإرادة الطيّبة وحدها حيث بقيت دون نتيجة على الإطلاق وقد نقل تحقيق هذه الإرادة والتناغم بينها وحاجيات الأفراد وحوافزهم إلى عالم آخر”[15]، لكن أمر ماركس هو أمر ثوري وجذري يستهدف التثوير الكلّي والشامل للعالم وعدم الاكتفاء بتأمّل العالم وعقلنته أو حتى تعليق الحكم بشأن تحقّق الأمر القطعي في هذا العالم.

   إنّ أمر ماركس القطعي هو عصارة لتاريخ الفلسفة وخلاصتها جميعا فمنذ كتابات 1846 وعى تمام الوعي بعجز المادّيات السابقة والمثاليات الألمانيّة مضاف إليهما الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، فتصحيح هيغل والاستحمام في جدول النار الفيورباخي هو الذي سيمهّد الطريق في نظرنا لإعادة بناء الأمر القطعي على عماد جبلين في تاريخ الفلسفة أعني كانط وهيغل.

   إنّ الأطروحة الحادية عشر من أطروحات حول فيورباخ هي بيان تأسيسي في الأمر القطعي، أمر تغيير العالم ليكون عالما إنسانيا عبر التخطي الإيجابي للاقتصاد السياسي الرأسمالي ولا يكون ذلك ممكنا إلا بتعريّة الشمس الوهميّة والسعادة الخياليّة والمطالبة ب”سعادة حقيقيّة”[16]  تفتك داخل هذا العالم بواسطة “ثورة اجتماعيّة”[17]. يبيّن لنا ما قيل الصيغة المادّيّة التاريخيّة للأمر القطعي الماركسي والمتمثّل رأسا في تخطّي ما يحول دون سعادة الإنسان، أي، تخطّي الظّروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي جعلت الماهيّة الإنسانية ماهية مغربة.

   قدّم لنا ماركس صياغات مادية للواجب ففي نص المسألة اليهودية يطرح مشكل تحرّر الأقليّة اليهودية في علاقة بالدّين المسحي والذي يكون متوقفا على التحرّر من اليهودية العمليّة والواقعيّة التي تجد كمالها في “المتاجرة”[18] وفي نص نقد فلسفة الحق يصبح الواجب الماركسي أكثر جذريّة وكليّة، فهو متوقف على قلب الأوضاع الاقتصاديّة التي أنتجت الاغتراب والاستلاب، فالواجب الماركسي ،إذا، هو واجب ثوري تجاه العالم ومهمّة الطبقات المنخلعة عن أسلوب الإنتاج هي “قلب كل الأوضاع الاجتماعيّة التي تجعل من الإنسان كائنا ذليلا، مستعبدا، ومهملا ومحتقرا”[19].

   يرسم ماركس إذا بطريقة منهجيّة وهادفة أمره القطعي ويحدّدُ صيغته الجديدة المختلفة عن التقليد السائد في تاريخ الفلسفة ويمكن أن نجملها في:

المرور من نقد السماء إلى نقد الأرض ,

المرور من تأويل العالم إلى تغييره.

قلب العلاقات الاقتصاديّة التي تجعل من الإنسان كائنا مستعبدا عبر شتى أشكال التشكيلات الاقتصاديّة.

بناء حلقة وصل بين النظريّة والممارسة حتى يكون الواجب في صياغته المادّيّة أمرا ممكنا.

– ربط الطبقة العاملة بالنظريّة والممارسة حتى تعي بمهمتها في صلب التاريخ.

   فتحت هذه الصيغة التي لا عهد لكانط بها للواجب القطعي الماركسي على الحياة فلم يعد الوعي ماهية مكتملة وجوهر مترفّع على الواقع ومستقل عن أحوال الناس مثلما ذهب التقليد الفلسفي من بارمينيدس مرورا بأفلاطون وأرسطو توقفا عند ديكارت[20] وكانط وصولا إلى هيغل، فتفجير الوعي كي يخرج من نزعته الذاتيّة والصوريّة هو الذي سيساهم في المرور من التأمل إلى الفعل فماركس لا يسأل عن إمكانات جعل الميتافيزيقا علما؟ بل كيف نغيّر العالم كيف نخرج من المعاصرة للحاضر إلى المعاصرة للتاريخ؟

   توقّع هذه الإشكاليات ميلاد أمر قطعي لا يعبّر عن مصالح ذاتيّة ولا يحمل مطالب فئويّة ومهمّته هي تعريّة الواقع وفضح أشكال الهيمنة والاضطهاد التي تمارس على الإنسان، يقول ماركس معبّرا على الصيغة المادية للأمر القطعي:

“يجب جعل الاضطهاد الواقعي أشدُّ وطأة بأن نظيف إليه وعي الاضطهاد (…) يجب أن نجعل العار أشدّ معرّة بنشره على الملأ (…) يجب إرغام هذه الظّروف المتحجّرة على أن ترقصبأن نغنّي لها لحنها الخاص”[21].

      جذّر ماركس النقد وفتحه على جغرافيّة الواقع وأخرج الواجب الكانطي من نزعته الصوريّة وفتحه على الواقع عبر الربط بين النظريّة والممارسة والضامن لهذا الرابط هي الطبقة العاملة بما هي “رأس المجتمع وقلبه”[22]ذلك أنّ ما تُشكّل منه هذه الطبقة عبر السيرورات التاريخيّة للأنظمة الاقتصاديّة ووسائل إنتاجها ليس الفقر بمعناه الطبيعي، أي، “الفقر الموجود طبيعيا وإنّما الفقر المنتج صناعيا “[23]، فماركس لا ينقل أحلام الإنسانيّة وتطلّعاتها في ما وراء العالم ولا يعالج تناقضات الواقع صوريا كما فعل كانط ولا مثاليا كما انتهج هيغل بل ينخرط سرديّة تغيير العالم بمهاجمة الأوضاع القائمة وقلبها.

   إنّ الصيغة الماديّة التاريخيّة للواجب هي فنّ تدريب الإنسانيّة على تبصّر المستقبل وتشكيله أو هي التدرّب على إمكانات الانخراط في معضلة تغيير العالم وسبل تحصيل السعادة وكيفيات تدبير الماهيّة الإنسانيّة بحثا عن الطرق والمصارف التي تقود إلى استرداد الماهيّة وحواسها، وبكلمة، الوعي بالمهمّات المطروحة على الإنسانيّة في علاقة بالتاريخ، فلا تقتضي هذه الصيغة الماديّة تغيير الوعي حتّى يتغيّر العالم بل تشترط “تثوير العالم القائم ومهاجمة الأوضاع القائمة (…) وتغييرها عمليا”[24] .

   لمّا كانت الصيغة الماديّة للواجب تستلزم مهاجمة الأوضاع القائمة وقلب العلاقات الماديّة التي غرّبت الإنسان فإنّ مثل هكذا صيغة تشترط من جهة المفهوم المادّي للتاريخ فعلا شيوعيا، ذلك أنّ أمر تغيير العالم يتطلّب “حركة واقعيّة تلغي الأوضاع القائمة”[25]  وتفرض بمنطق القوّة الانعتاق الايجابي بواسطة وعي شيوعي قطعي وثوري وهو قطعي:

 أوّلا لأنّه يقطع مع نمط الوعي والإنتاج السابقين ولا يبالي بهما أو يحاول ترميمهما كما ذهبت في ذلك الفلسفات المثاليّة والمحافظة والاقتصاد البرجوازي، فالقطعيّة هنا تقابل الجذريّة .

ثانيا: لأنّه لا يقف عند مصلحة مخصوصة أو يتحدّد بفترة زمنيّة يكون فيها محبّذا أو يكون في غيرها غير محبّذ، إنّه قطعي لأنّه لا ينطلق إلا من ذاته ومن الموقف التاريخي والإنساني الذي طرح عليه هذه المهمّة.

ثالثا: وهو جذري لأنّه لا يطالب بإصلاحات جزئيّة بل يرنوا إلى التغيير الشامل ولا ينادي بتحرير طبقة بل ينادي بتحرير المجتمع بأسره أي، الإنسانيّة ب” القلب العملي للعلاقات الاجتماعيّة فالثورة،لا النقد هي القوّة المحرّكة للتاريخ”[26].

   لمّا يعيد ماركس بناء النقد على أسس مادّيّة وتاريخيّة فإنّه في ذات الوقت يعيد بناء أمره القطعي ليصرّفه في مصرف  تغيير العالم، فمهاجمة الأوضاع القائمة وقلب الأشياء المقلوبة والقطع من أشكال الوعي السابقة سواء كانت تحيّة أو فوقيّة وتفكيك منطق اشتغال منظومة رأس المال والذهاب مع حركة الملكيّة وفائض القيمة في حركة رواجهما وقوفا على مصائر ها هو في حقيقة الأمر دعوة إلى تخطّي التنوير والحداثة الغربيين ذلك لأنّهما وظفا توظيفا ايديولوجيا لخدمة  مآرب رأس المال، فماركس كان قد نبّه إلى خطورة هذه المنظومة في حركتها المستمر وفي توسّعها المتواصل  ودعا صراحة إلى ضرورة الإسراع في عمليّة تفكيكها وإظهار تناقضاتها ونشر غسيلها  وعارها  على الملأ  تقصيرا  لمدّة حملها وتجنبا لكوارثها وتخفيفا من أوجاع الإنسانيّة وآلامها، فلو كان حكماء الأرض وفلاسفتها وجهابذة الاقتصاد السياسي أكثر تبصّرا لما كانوا انتظروا حتى القرن العشرين، قرن الكوارث والحروب لينتقدوا الحداثة أو الحلم حداثة مغايرة، فلقد كان ماركس من تجذير النقد إلي تجذير الأمر القطعي قد أبان وفتح لهم الطريق ولكنّهم لم يبصروه أو تعمدّوا أن لا يتبصرون.

   إنّ إعادة بناء النّقد مادّيا اتيقيا بعد كانط واشتقاق منابت جديدة للواجب سيؤول إلى إعادة بناء الفلسفة وتحديد مهمّة الفيلسوف تدبيرا وتحصيلا.

  1. في تدبير الفلسفة

تقال لفظة التدبير في لسان العرب على معان كثيرة قد أحصاها أهل لسانهم وأشهر دلالتها بالجملة ما يذكرها ابن سينا وهي الدالة “على ترتيب الأفعال نحو غاية مقصودة”[27] وهذا هو التدبير في معناه القوي وهو ما نروم أن نربطه بالفلسفة الماركسيّة ذلك أنّ إعادة بناء النقد أولا وصرف الأمر القطعي الكانطي ثانيا في غير ذلك المصرف الدارج في تاريخ الفلسفة، أعني الصياغة المادّيّة التاريخيّة للواجب هو الذي سيمكّن من تحديد وجهة الفلسفة ومهمّتها ومهمّة الفيلسوف، لذلك وجّه ماركس الفعل الفلسفي لكي يتصادم مع الواقع السياسي والاقتصادي أين يجثم روح الظروف الاجتماعيّة ولا يكون طردها ممكنا إلا بمهاجمة أشكال المنع والخلع والفصل التي تمارسها العلاقات الإنتاجيّة الاستبداديّة.

   أعاد ماركس تصريف الفلسفة من التأمّل إلى الفعل ومن الترفّع إلى التحايث ومن المصالحة بين الواقعي والعقلاني إلى التنافر بينهما، فالفلسفة التي اتجه إليها  تدبيرا وتحصيلا هي الفلسفة الثوريّة ومن هنا كانت دعوته إلى ضرورة دفع الفلسفة كي تضطلع بمهماتها داخل التاريخ وتوجيه نداء لبؤساء العالم كي يعو بواجبهم القطعي تجاه أوضاعهم، فمنذ نقد فلسفة الحق كان ماركس قد وجّه الفلسفة نحو غاية مقصودة كي يكون أمر تحقّقها ممكنا وهي مهاجمة الأوضاع القائمة وقلب العلاقات الاقتصاديّة التي صيّرت الإنسانيّة دون مستوي ماهيتها وتاريخها، فلا يمكن، إذا، تدبير الفلسفة إلا متى تحوّلت أوّلا إلى فلسفة ثوريّة مقاتلة والفيلسوف ثانيا إلى رأس حرب الثورة وقلب نابض داخل إيقاع التناقضات فلئن كانت الثورات السابقة قد “بدأت في دماغ الراهب”[28] فإنّ الثورة في زمنيّة تناقضات رأس المال “تبدأ في دماغ الفيلسوف”.[29]

   لم تعد الفلسفة، إذا، لا خادمة للاهوت ولا لسلطان العلم والسياسية ولم تعد خطابا تجريديا بل أصبحت مادّيّة لها مهمّة في طيّ التشكل والإعداد وهي مهمّة لا تزال غير منجزه لذلك لا تزال الفلسفة الحقّ لم تتشكل بعد أو قل لم تتحقق ذلك أن المهمة الرئيس للفلسفة هي قلب الأوضاع الكائنة وفضح أشكال الهيمنة والاستغلال وتتبع أشكال الاغتراب الذي يعاني منه بؤساء العالم وضحايا التوسّع الرأسمالي ومن ثمّة الثورة على هذا التاريخ الذي جعل من الإنسانيّة دون مستوى التاريخ والقطع معه.

     إن الأمر القطعي الماركسي هو أمر ثوري يتصادم جذريا مع الواقع فله أساسه ومنهجه وغايته، فالأساس الفلسفي للأمر القطعي يعود بنا تحديدا إلى الكانطيّة، والمنهج إلى هيغل وفيورباخ والاقتصاديين الكلاسيكيين، وتحدّدت الغاية بتخطي الاغتراب والاستغلال الرأسماليين لتحقيق الانعتاق الإنساني، فأداة الانعتاق هي الفلسفة وروحها هي الطبقة العاملة، يقول ماركس في هذا الموضع:  إنّ انعتاق الألماني هو انعتاق الإنسان رأس هذا الانعتاق هو الفلسفة وقلبه هو العمّال”[30].

   إنّ شرط إمكان جعل الوجود متناغما مع الماهية أو حتى شرط تصالح الحواس الإنسانيّة  مع نفسها هو أن “تنفي الطّبقة العاملة ذاتها”[31]، أي تمارس الفعل الشيوعي بما هو فعل إلزامي لتخطّي أشكال الهيمنة التاريخيّة عبر إلغاء معوّقات تأكيد الذات ذلك أن “العمّال ملزمون إذا ما أرادوا أن يؤكّدوا أنفسهم على أنّهم أفراد أن يلغوا شرط وجودهم بالذات”[32]

   لمّا كانت الفلسفة المادّيّة الاتيقيّة توقيعا مضادا للمثاليات الألمانيّة فإنّ هذا التدبير القطعي للشأن الفلسفي هو في عمقه تدرّب على تبصّر ما هو كائن من أجل اختراع ما لم ينوجد بعدُ، فالغاية التي تحرّك التفلسف هي البحث  أنوار جديدة في ما بعد الأنوار الكانطيّة أنور تكون للجميع وتنفتح على المشترك، وما يؤكّد كونية التنوير وأساسه المادّي هو مرور ماركس من نقد السماء إلى نقد الأرض ومن تأويل العالم إلى الانخراط في معركة تغييره، ومن تحليل الاستلاب السلعي كشكل يتحكّم في إعادة إنتاج المجتمع في شموليته من جهة إعادة إنتاج التناقضات الطبقيّة عينها إلى الدعوة لضرورة التخطّي الايجابي لهذه المنظومة والعمل على تغييرها بنظام اقتصادي آخر ذلك لأن منظومة رأس المال لا تهدف إلى تحقيق التوازن بل هي وفق تشخيص سمير آمين “تنتقل من لا توازن إلى لا توازن “.


—————————————————————————————-

[1]نقد فلسفة الحق لهيغل،ص6.

[2]  يفكر فوكوياما من داخل نظام العولمة ويعتبر أن النظام اللليبرالي وما ينتج عنه من سياسة وثقافة واقتصاد واعلام وسياحة هو  أفضل النظم التي عرفتها الإنسانيّة  وأنّه بمثابة نهاية التاريخ لأنه يصنع مشهد الإنسان الأخير.

[3]  يعرف كانط الأمر القطعي الصارم بقوله: “هو الذي يعرض فعلا باعتباره ضروريا في ذاته وخارج أيّ علاقة بأيّ هدف ، أي باعتباره ضروريا من زاوية موضوعيّة” ;ويضيف: أمّا الأمر القطعي فلا يتحدّدُ بأيّ شرط من الشروط وبما أنّه يكون ضروريا بشكل مطلق، رغم كونه عمليا فيمكن أن يسمّى بالتدقيق باسم : الأمر القطعي.

Kant (E),, Fondement de la métaphysique des mœurs, trad, Victor Delbos, revue et modifiée  par Ferdinand Alquié, p276.279

 

[4]  لسان العرب، ص 129

[5] نفسه

[6] نفسه

[7] نفسه

[8]  صرّف كانط أوامره القطعيّة  داخل المسألة الخلقيّة فميّز بين نوعيّن من الأوامر:أوامر شرطيّة مقيّدة وأوامر قطعيّة مطلقة  والنوع الأوّل من الأوامر يخضع للقاعدة التاليّة: بأن من أراد الغاية فقد أراد الوسائل أيضا” أي أنّه يلزمنا بإتباع الوسائط اللازمة لبلوغ الغايات المنشودة، أمّا الأوامر القطعيّة فهي غير مشروطة لأنّها ضروريّة في ذاتها وبالتالي تلزمنا إلزاما لأنّها عكس الأوامر الشرطيّة ليست مقيّدة بشروط تجريبيّة أو بظروف خارجيّة، أي أنّها شاملة تعبّر عموميّة القانون الأخلاقي .

[9]  يمكن العودة في هذا الموضع إلى:

Critique de la raison pure,p 64.

[10]

[11]

[12]  عبّر كانط عن هذه الأزمة بالصراع بين العقلانيين والتجريبيين حينما قال: ” هي حلبة معدّة أساسا لتدريب القوى على المبارزة الاستعراضيّة، لم يقدر فيها أيّ مبارز على الفوز بأقل موضع والمحافظة عليه”

Kant (E), Préface à la deuxièmement édition de la critique de la raison pure in œuvre1, p738.    

[13] Kant (E),Qu’est ce que les lumières in œuvre 270.

[14]  إنّ تأسيس كانط لمتافيزبقا الأخلاق ولكونية الأوامر القطعية هو في حقيقة الأمر تبصر لمستقبل التنوير الغربي ، فالتقدّم التقني والتثوير الدائم لأسلوب الإنتاج أـدّى إلى إعادة تشكيل المجتمعات لتكون خاضعة لمنطق النجاعة والمردودية وبالتالي إفلاس الإنسان قيما وطغيان ما هو براغماتي على المستوي العملي وما يرافقه ذاتيا من تراجع ما هو عقلي أي لكأنّ كانط  أبصر ما سيكون لكنه انتهى إلى صياغة ميتافيزيقيّة للأخلاق لا يمكن للواقع أن يستوعبها,

[15]  ماركس (كارل)، انجلز (فريديريك)، الايديولوجيا الألمانيّة، ترجمة،ص47,

[16]  نقد فلسفة الحق، ص 205.

[17]  نفسه ص206

[18]  المسألة اليهوديّة ، ص53.

[19] نقد فلسفة الح205.ق ص

[20]  يمكن العودة في هذا الموضع إلى:

– (René),règle pour la diréction de l’esprit, p24 ,vrin,1970 .

– Descartes (René),méditation, p29,vrin, 1970 .

[21]  نقد فلسفة الحق ص6

[22]  نفسه، ص211

[23] نفسهص 16

[24]   الايديولوجيا الألمانيّة، مصدر مذكور سابقا،ص34.

[25]  نفسه، ص44.

[26]  نفسه، ص97

[27]  تدبير المتوحّد، ص5

[28]  نقد فلسفة الحق ص 206

[29] نفسه ص206

[30]  نفسه ص397

[31]  ماركس (كارل)، انجلز (فريديريك)، العائلة المقّسه، ترجمة فؤاد أيوب، ص40.

[32]  الإيديولوجيا الألمانيّة، مصدر مذكور سابقا، ص67.

سلام زويدي

سلام زويدي دكتور في الفلسفة من تونس أنجز اطروحته حول ماركس وله العديد من المقالات المنشورة من بينها إمبراطورية الإرهاب2015 وجينيالوجيا2017 الاغتراب، وما بعد ماركس واكتمال العدمية2019

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى