المقالات

الحياة الروحية لا تتحقّق بلا صلة حيّة بالله

   يولع بعضُ المثقفين والكتّاب العرب بشذرات النفّري في “المواقف والمخاطبات” وأمثالِها من نصوص العرفاء، ذاتِ الكثافة الدلالية والاستبصارات المضيئة، ويستشهدون بها وينشرونها ويكتبون عنها، ويتعطّش بعضُهم لحياة العرفاء الروحية وصلتِهم العميقة بالله، المؤسَّسة على المحبة والتراحم وتذوّق تجليات الجمال الإلهي في الوجود. يحاولون أن يتصيدوا تجربةَ النفّري والحياة الروحية لأمثاله، بالتقاط كلماتهم، غير أنههم يفشلون في تذوّق بهجة الروح باستبصارات أولئك الروحانيين الحاذقة. لم يدرك هؤلاء أن الحياةَ الروحية حالةٌ وجودية معيشة لا يتحقّق فيها الإنسانُ ما لم يبني صلةً حيّة بالله. هذه الصلة لا طريقَ لها سوى العبادة بكيفياتها المتعارَفة في الأديان، إن كان مسلمًا عليه أن يؤدي الصلاة، وإن كان يدين بديانةٍ أخرى عليه أن يؤدي الطقسَ على وفق تكريس الحياة الروحية فيها.كلامي هنا في سياق مناقشة بعض الذين يدعون للاكتفاءِ بالتأمل والتفكير الواعي اقتباسا من بعض الأديان الآسيوية، والاستغناءِ عن الحاجة للصلاة والعبادات في الأديان. التأمل والتفكير الواعي ضروري، لكنه ليس بديلًا عن الصلاة والعبادات. لا يتكرّس الإيمانُ ويلبث حيًّا فاعلًا في البناء والعمل الصالح إلا بعبادةٍ يومية في إطار ديانة الإنسان.

 أعرف محققًّا تخصّص في إحياء تراث العرفاء وشغف بآثارهم كلَّ حياته، وبذل جهودًا مضنية في تحقيق نصوص ثمينة لهم. لبث سنوات طويلة ينقِّب في خزائن المخطوطات، وينهك نفسَه في البحث عن رسالة أو كتاب غير منشور، واستطاع بمهارةٍ فائقة اكتشافَ نصوص نفيسة منسية أو مجهولة، وتحقيقَها باحتراف خبيرٍ، وإخراجَها للنور من ظلام أقبية خزائن المخطوطات.كان يتوهم بإمكانية بناء صلةٍ حيّة بالله بلا عبادة، بل كان يعوّض العبادةَ بالكحول، وجد نفسَه كلّما شرب افتقر للمعنى الروحي الذي يتذوق قراءته بتلذّذ في آثار العرفاء.كان يشتدُّ ظمؤه الأنطولوجي، وتنطفيء شعلةُ حياته الروحية، ويتفاقم اغترابُه الوجودي، فيسرع لإرواء ظمئه ومداواة اغترابه بالكحول. تراه كأنه يهرول وراء سرابٍ يحسبه ماء، حتى تاه متسكعًا في حالة من الغثيان والسأم المضجر، وهو يلهث بغيةَ أن يقبض على شيءٍ من سكينة الروح وطمأنية القلب. في غفلةٍ منه وجد نفسَه مدمنًا، لا يمكنه الإفلاتُ من البئر المظلم الذي غطس فيه، فمضي دون جدوى يغوص في طبقاته، وصار كلّما غرق في الكحول أشد تعاظمت غربتُه واغترابُه في العالَم، وأكلته وحشةُ الوجود، ونضب أيُّ منبعٍ للمعنى في حياته. بعد أن ضاع هو، ضيّع عائلتَه، وتزلزل وانهار بيتُه، وفقد وعيَه، وانطفأت بصيرتُه، وعجز عن التوقف للحظة ومراجعة مسيرته، والنظر بهدوء إلى عبثه بنفسه وخسارته لذاته، ولكل ِّشيء ثمين في حياته. أخيرًا ساقه هذا الطريقُ المظلم لمغادرة الحياة عاجلًا، بعد أن أحرق الكحول أحشاءه. 

 لا أتحدث عن الحياة الروحية بوصفها تديّنًا شكليًّا، الذي هو نمط تديّن سطحي دعائي مجوّف، لا تغذيه صلة حيّة بالله، ولا يحضر فيه شيءٌ من روح الدين ومقاصده في مواقف وسلوك المتديّن، ولا يشعر صاحبة بسكينة وسلام باطني. ويستعملُ هذا التديّنُ بوصفه قناعًا لأغراض الوجاهة، ولتسويقِ شخصيات لا تتصف بالحدِّ الأدنى من طهارة القلب واليد واللسان. إنه تديّنٌ مفرّغٌ من نبضِ الحياة الروحية، ووهجِ الضمير الأخلاقي. تديّنٌ يضعُ معاييرَ ظاهريةً تُقاس درجةُ التديّن بمدى الالتزام بها، بغضّ النظرِ عن بناءِ الكيان الروحي والأخلاقي للإنسان. ينتهي التديّنُ الشكليّ إلى تديّن زائفٍ يمحق روحَ الدين، بعد أن تنطفيءَ فيه جذوةُ الإيمان، وتتهشم القيم، وتتحوّل المفاهيمُ المولّدةُ للطاقة الروحية إلى مفاهيم محنطة، وطالما تحوّل هذا التديّن إلى نوعٍ من الفلكلور المبتذل، لذلك كان سببًا أساسيًّا لنفور الناس من الدين.

 أتحدث عن الحياة الروحية والإيمان بوصفه كائنًا حيًّا يقظًا فوّارًا، وبوصفه أمرًا وجوديًّا، لا يتحقّق ويزدهر من دون روافد يستقي منها وجودَه، وتتجدّد بها حياتُه. إنه جذوةٌ مشتعِلة، وهذه الجذوةُ بلا صلاة وطقوس تظلّ تذوي شيئًا فشيئًا حتى تنطفئ. مالم تتكرّر الطقوسُ والصلاةُ في سياقِ تقليدٍ عباديٍّ مرسومٍ، يذبل الإيمانُ ويذوي حتى يصير حطامًا. الإيمانُ بمثابة حديقة الأزهار، مالم نواظب على سقيها تذبل وتموت وتندثر. الصلاةُ والطقوسُ كأنها ينابيعُ مياه عذبة صافية تسقي حديقةَ الإيمان، لولاها لاندثر وأصبح هشيمًا تذروه الرياح. ينعكس تكريسُ الروح وإرواءُ ظمئها على بناءِ الإرادة وترسيخِها على الدوام، وهذه من الأغراض الأساسية للعبادة في الأديان، ‏وإن كانت هذه العبادةُ تنحرف عن غايتها الأصلية، وتُستعمل أحيانًا في وظيفةٍ مضادة.

   اهتمَ كلُّ دينٍ معروف اهتمامًا واضحًا بالعبادة، وحرصتْ كلُّ الأديان على رسم تفاصيلها بجلاء، وحذّرت مَنْ يتّبع الدينَ من أدائها كيفما يشاء خارج رَسمها المحدّد، لأنه يهدر وظيفتَها ويمسخ هويتَها. القولُ بأن لكلِّ شخص عبادته وصلاته الخاصة كلامٌ غريبٌ على منطق الأديان وروحها، وما ترمي إليه العبادةُ فيها، وأغربُ منه محاولاتُ بعض الناس ترقيعَ والتقاطَ عناصر متضاربة من أديان مختلفة في عباداتها وطقوسها وشعائرها، وخلطَ بعضها ببعضها الآخر، ولصقَها بصورة متناشزة مشوّهة، وممارستَها بشكلٍ يمحقُ الدينَ، وينتحلُ حالةً مشوهة للإيمان.

    إن تاريخ الأديان الطويل ينبؤنا بأن العبادات تشكِّل رافدًا يغذّي الصلةَ الوجودية الحيّة بالوجود المطلق، الذي يتجلى في كلِّ دين على شاكلة شريعة أتباعه. وأن ما تتميز به العباداتُ يكمن في اشتراك ماهيتها وصورتها بين أتباع الدين الواحد. ولم يصادف أن نجد دينًا أتاح لمعتنقيه أن يختاروا عباداتهم خارج إطار شريعتهم، أو يلتقطوا عناصرها من أديان متنوعة كيفما يشاؤون.

 في ضوء هذا المفهوم للعبادة في الأديان، نجد الهندوسي يؤدي طقسَه وعبادتَه الخاصة في معبده، وفي المسيحية يؤدي المسيحي قدّاسَه في كنيسته، وفي الإسلام يؤدي المسلمُ صلاتَه في مسجده. كيفيةُ القدّاس الذي يؤديه المسيحي في الكنيسة، تختلفُ عن كيفيةِ طقس الهندوسي في معبده، وتختلفُ عن كيفيةِ صلاة المسلم في مسجده، وهكذا الحالُ في الأديان الأخرى. لا ننكر التشابهَ في بعض عناصر العبادات والطقوس والشعائر في الأديان، الذي يعبّر عن مشتركات الأديان والثقافات في المجتمعات المختلفة، إلا أننا لم نجد تطابقًا وتماثلًا كليًا بينها، لكلِّ عبادة بصمتُها الخاصة ولونُها الذي يعكس صورةَ الديانة المشتقة منها. لكلِّ إنسان حياتُه الروحية، روحُ الإنسان تتغذّى من العبادات المشترَكة في ديانته. صلاةُ الحلاج والبسطامي والنفري وابن عربي وجلال الدين الرومي ومحمد حسين الطباطبائي، وغيرهم من العرفاء، هي صلاةُ الإسلام ذاتها، غير أنهم تهذّبوا وتسامت أروحُهم بنور الله، وابتهجوا بمحُبّته[1]. الحياةُ الروحية تتحقّق في سياق شريعةٍ محدّدة، الحياةُ الروحية تتطلب أن تستقي على الدوام من العبادة الخاصة بهذه الشريعة، بوصفها من سنخها وترتسم فيها صورةُ الديانة، وينعكس فيها شيءٌ من عناصر البنى اللاشعورية للديانة الراسخة في باطن الإنسان. فلو ركّبَ الإنسانُ على ديانته تقليدًا عباديًّا مستعارًا من ديانةٍ أخرى،كما لو أن مسلمًا كان يمارس تقليدًا طقوسيًّا هندوسيًّا أو العكس، سيفضي ذلك إلى التناشز بين طقسٍ ترتسم فيه صورةُ ديانةٍ غير ديانته، وبين الحياة الروحية في أفق ديانته. لكلِّ ديانةٍ طقسٌ خاص من جنسها، بمعنى أنه مشتقٌّ من طبيعة البنى اللاشعورية للديانة الراسخة في باطن الإنسان، وكيفية رؤيتها للعالَم، وبصمة الحياة الروحية فيها[2].


.[1] الرفاعي، عبد الجبار، الدين الظمأ الأنطولوجي، ص 72، ط 3، 2018، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ودار التنوير، بيروت.

[2]  الرفاعي، عبد الجبار، الدين والكرامة الإنسانية، ص 63-64، ط 2، 2022، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ودار الرافدين، بيروت.

عبدالجبار الرفاعي

د. عبدالجبار الرفاعي مفكر عراقي، ‏متخصص في الفلسفة وعلوم الدين. من مؤسسي علم الكلام الجديد في المجال العربي. منذ ثلاثين عامًا يكرّس منجزه لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة، منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم. أصدر أكثر من 50 كتابًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى