الدراسات

في نقد معيار تقسيم المعمورة

إشكاية الحيز بين القبض والبسط في المنظور الفقهي.

 

يشكل تقسيم المعمورة إلى عالمين مخالفين في التصور الفقهي، إحدى النظريات الكبرى في الفقه السياسي الإسلامي والسياسة الشرعية في جانبها المتعلق بالعلاقات الخارجية، وقد حكم هذا المفهوم التاريخي بنية التفكير في الكيانات السياسية والعقدية الموجودة خارج أرض الإسلام.

فالمعطيات الواقعية الآن مختلفة تماما عما كان عليه الوضع قديما، فنشوء مفهوم “الدولة الحديثة” أفرز نظاما سياسيا مفارقا للمحتوى الفقهي الذي تصوغه نظرية الخلافة، وهو نظام جرى تحكيمه شيئا فشيئا في أجهزة الحكم في العالم الإسلامي.

وجدير بالذكر أنه لم يعرف المسلمون في عصورهم الأولى مفهوم “الدولة”، بالمعنى المتداول في قواميس العلوم السياسية اليوم، ولكنهم بالمقابل تعاملوا مع مفهوم “الدار”، كاصطلاح يعبر عن مجمل الهموم السياسية والأفكار التنظيمية التي يلتئم منها المجال الجغرافي الذي تقوم على أرضه سلطة الإسلام، وتنعكس من خلاله رؤية خاصة للعالم وسياسة تدبير التنازع على الحيز.

ومفهوم الدار هذا ليس جغرافية ذات حدود مرسومة، إنما هي بقعة متحركة قابلة للتمدد بتمدد النفوذ وانتشار الفتوحات الدعوية، أو بفعل التوسعات العسكرية التي تمليها غريزة البقاء ونفسية الصراع بين القوى والإمبراطوريات.

أما خطورة هذا التقسيم للمعمورة، فنابعة من نقل متعسف لتربة هذا التصور من حقل السياسة إلى حقل العقيدة، ومن مجال الفروع إلى مجال الأصول، ولذلك انبت عليه أحكام قاسية وعلى قدر كبير من الاحتياط والخوف، بفعل ثقل الجانب الديني على الاجتماعي الذي أضفى على الاختلاف بعدا غيبيا، وانتزعه من دائرة التداول المدني المطبوع بجدليات المصالح وهموم البقاء.

وإذا كان هذا التقسيم مستساغا في وقت مضى من تاريخ المسلمين، بفعل عدم انضباط الحياة السياسية العالمية آنئذ لقواعد صارمة في العلاقات الدولية، فإنه صار عبئا على كاهل العقل الفقهي المعاصر، الذي انسحبت من ميدانه الواقعي شروط تنزيل تلك التصورات.

وإذا كانت المعمورة بدأت تنسج خيوط أطرافها في آفاق العالم، ليلتئم منها تأليف القرية الصغيرة وإلى أمم متحدة، فهل ينتهي تقسيمها إلى شطرين متنافرين إلى نقض غزلها من بعد قوة أنكاثا؟

لقد سبق للرئيس الأمريكي الأسبق “جورج بوش الابن” أن صنف العالم إلى محورين متناقضين، محور الخير الذي تتزعمه دولته ومن يجري في فلكها، ومحور الشر الذي ينضوي خارج إحداثياتها، محاولا استدراج العالمين إلى صراع وتضاد مرير محسوم الخيار في مقولته الشهيرة: “من معنا ومن ضدنا”[1].

وهذه النظرة المتعصبة التي تزيد من تأزيم العلاقة بين العالمين الإسلامي والغربي، إنما كانت استمرارية وانعكاسا لأفكار منظري الفكر الغربي، حيث إن أطروحات كل من الأمريكي “صامويل هنتغتون” في كتابه “صدام الحضارات” والياباني فرانسيس فوكوياما في مؤلفه “نهاية التاريخ”، هي الشرارة الأولى وهي البذور المؤسسة لثقافة الصراع والتخويف بين الأمم، لزرع أوهام الصدام بين مكوناتها ولأجل تنفيذ وتصديق بعض النبوءات الدينية والسياسية.

وفي حالتنا الإسلامية استخدمت الحركات المتطرفة هذا الشعار المقسم للعالم لبلقنة لحمة الاجتماع الإنساني، فبدأت ترسم خريطة جديدة للعالم الجديد، وفقا لأفكارها عما ينبغي أن يكون عليه الوجود البشري[2].

وما دامت هذه المنظومة الفكرية قد استولت على ثقافة التيارات الجهادية، فقد أثمرت سلوكا غريبا في الأمة وفي منهجها المعتدل والمشرق، إذ فاضت عقدة الآخر من الحيز النظري إلى العملي، لتنتج عنها ممارسة الإقصاء والنفي بآليات مادية لا تبقي ولا تذر، وما ضرب العمق الاقتصادي الأمريكي والعالمي في نيويورك، إلا دليل فاضح على إرادة الصراع بين مجاهل القادة من “الساسة” و”المشايخ”[3].

والغريب والأمَر أن مفجري برجي مركز التجارة العالمية، قد أطلقا اسما من أبواب فقه السرايا والجهاد على عملهم الأخرق، فلقبوا فعلتهم ب”غزوة مانهاتن”، في عملية تركيب جديدة للمفاهيم وعسف في إضفاء المقدس على المدنس، لأجل تحريك الوعي الجمعي وتحفيزه لتبني ثقافة الجهاد الكبير، واستثماره في شن الحرب على أمريكا وحلفائها.

إذ ليس من الصدفة بمكان أن يمتح “الإرهابيون” هذا المصطلح من قاموس التراث الديني، ما لم يكونوا قد عمدوا إلى صياغة اختراعاتهم الاجتهادية في قالب من المعاني الشرعية، وهذا نوع جديد من الحرب الفكرية والعقدية بين أطياف العالم الجديد.

والحاصل أن تنظيم القاعدة قد أجرى تمرينا عقديا وفقهيا على تراث تقسيم المعمورة في “نازلة مانهاتن” إن جاز لنا هذا التعبير، حيث إن الصورة الماثلة في أذهان هذا التنظيم وزعيمه “ابن لادن”، أن أمريكا قد استحقت قلبا وقالبا لقب نموذج “دار الكفر” أو “دار الحرب”.

مما زاد من منسوب غواية القتال والجهاد ضد الآخر المخالف، لوجود مبررات عقدية وفقهية تشرعن الحرب وتزحف بها من حالة الضمور إلى حالة الظهور، لتنزيل مقتضيات الولاء والبراء على الأرض، من حيزها الجامد في السطور إلى مجالها المتحرك في الثغور.

ولعلنا نرتضي سببا آخر يعطي حافزا مضافا للحركات الراديكالية، التي ألجمت الاختلاف السياسي على مستوى “تنازع الاختصاص الوجودي” على الأرض بلجام العقيدة، في دافع تنبه له الباحث عبد الرحمان الحاج الذي صاغه في عنوان مقاله الموسوم ب: “الإسلاميون والبحث عن النظام الإسلامي السياسي، صورة الدولة وظل الخلافة”[4].

وما دام حنين الخلافة يفعل فعله في رجع الصدى على تمثلات الدولة السياسية ونظام الحكم فيها، فإن غيوم الحيرة لن تتلبد في سماء التفكير الفقهي، في نظرته إلى سيرورة وصيرورة العالم المعاصر.

ويكفي أن المخاوف والتوجسات إلى وجود الأقليات المسلمة بالغرب، تذكيها عقلية الفصل بين الذات والآخر، مما يزكي نظرتها إلى الهجرة إلى خارج الأوطان، وينمي شعورها نحو ضياع جزء من هذه الذات في ثقافة الآخر، الذي استوفى كل عناصر التيه والاستلاب.

ذلك أن تقسيم العالم إلى ثنائية قطبية بين خير وشر، يلغي حتى منطق التعارف والتواصل والتداول الذي بنيت عليه الحضارة الإنسانية، وأشار إليه القرآن بلفظ الآيات والسنن الكونية في التنوع والاختلاف والتداول[5].

لذلك فلابد من إعادة النظر في التقسيم الفقهي القديم للمعمورة انطلاقا من معطيات واقعية، فما لم تستدمج الدولة الحديثة في الفقه السياسي لن يكون الاجتهاد واقعيا في المجال السياسي، بل سيظل مثاليا ومجردا يبغي التاريخ ويلغي الراهن، فالعالم محكوم بنظام دولي جديد يعترف بمفهوم “الدولة الوطنية”، ولم تترك فتوحات العولمة دار وبر ولا مدر إلا دخلتها بخيلها ورجلها.

وضرورة المراجعة نابعة من كون التقسيم الفقهي للمعمورة ظهر باعتباره وسيلة ضرورية للبت في مشكلة العلاقات الدولية، القائمة بين الدول الإسلامية والدول المحيطة بها، مساهمة في تأسيس بوادر قانون دولي تنتظم العلاقات الدولية في إطاره، وتحدد أحكام الحرب والسلم والمعاهدات.

كما يأتي هذا الشعور تلبية لحاجة الأمة في تحديد كيانها، ورسم حدودها الجغرافية أمام إمبراطوريتين كبيرتين وهما الروم والفرس، دفعا لأي توغل أجنبي في عمق أراضيها، أو لمراقبة تحركات المناوئين المتاخمين لمناطق نفوذها[6].

ومن جانب آخر، لأجل تحديد خريطة الولاء السياسي للرعايا وفرزهم عن الخصوم، زد على ذلك تدبير الخلاف البين على مستوى الثقافة والسلوكات، والرؤى الماثلة بين مختلف معتنقي الديانات والمذاهب العقدية حينئذ، ولأجل كذلك تسهيل تنفيذ الأحكام الشرعية على ترابها ومناطق نفوذها.

لهذا السبب، نجد خلافا فقهيا في مدى تحديد مجال تنفيذ الأحكام الإسلامية من طرف القضاء الشرعي، أو ما يسمى اليوم بتنازع الاختصاص وقواعد الإسناد في القانون الدولي الخاص، وقد كان رأي الحنفية أن الأحكام في الشريعة الإسلامية إقليمية المجال[7]، أي لا تتعدى المجال الترابي لإقليم السلطة الإسلامية التي تخضع لنفوذها، وذلك على خلاف الجمهور الذي يؤمن بوحدة الأرض الإسلامية في تطبيق الأحكام[8].

مما يجعل من هذه الأمور قضية ترقى إلى ما نسميه حاليا بالنظام العام، الذي تسهر كل دولة قائمة على الحفاظ عليه وتنزيل أقصى العقوبات على مخالفيه، وتسن من أجله القوانين والأعراف، وهذه مقاصد ينبغي أن تستحضر عند تقليب النظر في زوايا هذا الموضوع.

إن نظام الدارين إذن هو محض تخريج فقهي ابتكره الفقهاء لحل معضلة الحدود بين الدول، وهي فكرة قديمة انطلقت مع الرومان حينما قسموا العالم آنذاك إلى “دار الوطنيين الرومان” و”دار الأجانب أو الأعداء”[9].

ولذلك نؤكد على عدم استناد هذا الاجتهاد على نص صريح أو صحيح، بقدر ما هو نوع من التعامل النسبي مع النص في إطار زماني ومكاني معينين، تولد مع ضغط الحاجة وإيحاء الصراع على الوجود، في نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث الهجريين[10].

ومع ذلك اختلف الفقهاء في مضامينه وتقسيماته بين مقسم إلى دار الإسلام ودار الحرب، وبين من يزيد عليها دورا أخرى كدار الموادعة أو دار العهد، إلا أن الملاحظ في تناول الفقهاء لهذا الموضوع هو كون الفقهاء الأحناف هم أكثر إسهابا في التنظير لفقه المعمورة.

ولا أدل على ذلك كون فقيه حنفي معروف قد خصص مؤلفا فقهيا هاما في تاريخ مصادر العلاقات الدولية في الإسلام، ممحضا إياه لمشكلات الأرض وجدليات الصراع والانفتاح بين أهل الملل، والأمر يتعلق بتلميذ أبي حنيفة النعمان وأحد قطبي مدرسته، إنه الإمام أبو الحسن الشيباني صاحب كتاب “السير الكبير”، والذي عكف الحنفية على شرحه وبسط معانيه كما فعل الإمام السرخسي وغيره.

لكن سؤالا فقهيا يظل مستشكلا على كل باحث في موضوع نظام الدارين في الفقه الإسلامي، ذلك أن الفقهاء لم يحددوا نوع العلاقة بين هاتين الدارين، أهو الحرب أم السلم؟ مما يفتح باب التأويلات والتقديرات على أوسع نطاق.

ولقد ألمحنا إلى منحى تفسيري لجأ إليه تيار أصولي (بالمعنى السياسي)، حين استثمر هذه الثغرة لكي يفتق فهمه المتطرف للعلاقة بين الدارين، فألبسها لباس الحرب لأجل تبرير أعماله العسكرية والتخريبية اتجاه الغرب.

مما يوهم بتحقيق المناط الفقهي على كثير من هجماته، على المنشآت والمصالح المدنية داخل وخارج أرض الإسلام، فضلا عن توليد فهم مشوش عند الآخر، مفاده أن الإسلام والمسلمين يشكلون مصدر قلق وعدم استقرار في العالم[11].

وثمة مفهوم عقدي يمثل خلفية نظرية لمفهوم الحرب – أو الجهاد – وهو “الحاكمية”، الذي يعني إسناد التشريعات واستصدار القوانين لمصدر واحد وهو الله، ثم انتقل إلى المجال السياسي ليعني ضرورة إسقاط الأنظمة التي لا تطبق الشريعة، وتأتمر بسلطة الشعب أو القانون الوضعي، وممن وظف هذا المفهوم وبكثافة لافتة أبو الأعلى المودودي في الهند وتبعه سيد قطب بمصر، وتلقفته الجماعات المسلحة المنادية بإحلال الشريعة محل الديمقراطية.

ثم إن القول بأن آية السيف الواردة في سورة التوبة قد نسخت آيات السلم في القرآن[12]، شكل عنصر إضافة لمن تمخضت لديه فكرة سوق عيال الله لمقتضى شريعة الله ولو عنوة، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وقد يزكي هذا الفهم في بعض المصادر الفقهية، مقابلة دار الإسلام بدار الحرب في كثير من الأحكام الشرعية، وورود عبارات تدل على وجوب القتال ما بقي للكفار دار، وكأن حال العلاقة بينها هو حتمية الجهاد والقتال، رغم أن دار الحرب ليست هي دار الكفر، ولا بقية النعوت الفقهية التي توصف بها الدور المخالفة لشريعة الإسلام.

فدار الحرب يجب أن يقتصر مجالها على الدول التي تقاتل المسلمين فعلا وممارسة، لا أن يشمل هذا المصطلح بقية الدول التي لها علاقات وعهود ومصالح استراتيجية مع البلاد الإسلامية، ثم إن مصطلح الحرب هو أمر خارج عن الشرعية القانونية الدولية لما بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يعد استخدام القوة جائزا إلا في حالات الدفاع عن النفس، وكتدبير للأمن الجماعي الذي هو من أولويات مجلس الأمن.

وهكذا نقرأ في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة عبارة صريحة انتهى إليها المجتمع الدولي، بعد أن طوق حزام العنف أطراف العالم: “نحن شعوب العالم وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الإنسانية من ويلات الحروب، التي جلبت على الإنسانية مرتين خلال جيل واحد أحزانا يعجز عنها الوصف”[13].

ولذلك “إن ما يضعه القانون الدولي المعاصر من قاعدة ملزمة تقضي بمنع استخدام القوة، أو استخدامها فعلا يتفق مع الشريعة الإسلامية تماما، وهو بدوره ينقض دعوى تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب”[14].

وعلى مستوى دلالات الحرب، نجد أن استخدام مفهوم الحرب يعكر الغايات التي يستنفد فيها الجهاد، أي أن المطابقة بين الجهاد والحرب تعسف في المماثلة، إذ أن قيام الحرب يكون بدواع عدوانية ولأجل مصالح توسعية وأطماع غير قانونية، من طريق الاحتلال والغصب والإبادة، أما الجهاد[15] فلا يكون إلا لأجل قضية عادلة للدفاع عن النفس أو لمفاداة مسلم أو ذمي، أو لتحرير أرض أو للتمكين لعمل يعود على الإنسانية بخير[16].

ولذلك لم يستعمل القرآن لفظ الحرب إلا في أعمال المشركين والكافرين الذين يحاربون الله ورسوله، وإذا ذكر منسوبا إلى الله أو الرسول أو المسلمين فإما مجازا، أو عند نقض العهد أو الخيانة العظمى وعند الدفاع عن النفس[17]، لذلك عوضه بمصطلحي الجهاد والقتال ومشتقاتها، للدلالة على ميزة القرآن في توظيف المفاهيم والتدليل عليها في النوازل والأشخاص، لأن المصطلحات جزء من بنية الحضارة والتكوين الذهني والذوقي للمسلم.

وهذا الاضطراب في الفهم تولد من سوء التداخل في الاستعمال المفاهيمي بين مفهوم دار الحرب، وبين مفهومي دار الشرك ودار الكفر، فالأول يمتح من حقل دلالي في المجال العسكري والحربي في الميدان، فيما الآخران لهما صلة وثيقة بالجانب التعبدي العقدي، والبون بينهما شاسع من حيث كون الأول يرمز إلى واقع القتال والصراع والنفي، دون أن نجد أثرا لهذه المعاني في المصطلحين المتبقيين، واللذين يشيران إلى ثقافة الاختلاف والتعدد في الأفكار والتصورات.

ولما كان الحنفية أكثر المذاهب استعمالا لمصطلح دار الحرب، وحتى لا ينصرف الفهم إلى حصر هذا المفهوم في معاني القتال، فإن فقيها حنفيا معاصرا قد انبرى لدفع هذا الوهم مؤكدا على أنه: “ليس المراد بدار الحرب في اصطلاح الحنفية، أن يكونوا في حالة حرب قائمة بينهم وبين المسلمين، بل المراد بدار الحرب أنها غير إسلامية، بل مستقلة غير داخلة تحت سلطة الإسلام”[18].

وفي واقعنا الحالي إن وجود عرف دولي مقيد باتفاقيات سلام ووئام، تنص على أحقية الدول في البقاء وتقرير مصيرها وعلى تمتعها بصلاحياتها في إطار السيادة الوطنية، أمر يجعل حق التدخل في شؤونها تنطعا ومروقا عن أصل المحبة والسلام في الأديان وبين الشعوب، وشرودا عن إجماع ميثاق الأمم المتحدة.

والواقع أن أوصاف الدار في الاستعمال الفقهي تتردد بين معان كثيرة، لذلك نجد توظيفا متباينا لأوصاف متعددة توجيها لأوضاع مختلفة، فالدور التي على جانب من السلبية تتراوح بين استخدام دار الحرب ودار الكفر ودار الفسق ودار البغي، وفي المقابل نجد دورا كأضداد للأولى منها دار الإسلام ودار العدل ودار العهد ودار الموادعة ودار الذمة.

وهذا التنوع في الدور، يوسع من دائرة النظر الاجتهادي في التعامل مع إشكاليات استخدام المفردات الفقهية عند تنزيلها على الواقع، في إطار تدبير جغرافية العالم وضبط حركة المسلم في محيطه الكوني.

وعلى خلاف التراث الفقهي، نرى مدى غنى التصور القرآني للأرض، الذي استغرق النظرة الضيقة للمنظور التاريخي لحالة العالم وصيرورة المعمورة، ولهذا فالقرآن يفتح لنا أفقا رحبا للنظر في علاقاتنا مع العوالم الأخرى المخالفة لنا في المجال والفكر، لأجل تنفيذ مهمة الخروج للناس وتصديق نبوءة الخيرية بينهم، بالأمر فيهم بالمعروف والنهي فيهم عن المنكر[19].

فمفردة الأرض تحظى بكثافة الورود في القرآن الكريم، مقارنة بالمفردات الأخرى المتعلقة بالمعمورة التي ترد بأسماء ثلاثة (البقعة، الدار، البلد)، وتحتل موقع المركز في الحقل الدلالي لهذه المفاهيم، التي تعود كلها إلى مركزية الأرض.

وترد “الأرض” ومشتقاتها في القرآن الكريم 466 مرة، وفي الوقت الذي ترمز السياقات التي ترد فيها الأرض، وكذلك مفردتي البقعة والبلدة إلى عالم الوجود المادي الذي تطأه قدم الإنسان، نجد مفردة الدار تشير وحدها إلى مفاهيم من عالم الأذهان والتجريد، ويكاد المفهوم المادي للدار يكون مفهوما عارضا فقط[20].

ويتلخص المفهوم القرآني لجغرافيا المعمورة في ثلاثة معان كما يلي[21]:

  • الأرض الأولى بخصوصية بالغة، وتشمل “البلد الحرام” و”المسجد الحرام”.
  • الأرض الثانية بخصوصية أقل، وتشمل “الأرض المباركة” و”الأرض المقدسة”.

والملاحظ أن هذين النوعين تتعلق بهما أوصاف عقدية واضحة وثابتة.

  • الأرض الثالثة وهي مطلق الأرض التي تتعلق بأفعال الإنسان، من مثل “أرض المستكبرين” و”أرض الفساد” و”أرض البغي” و”أرض الجهاد” و”أرض الهجرة” و”أرض النفي”…

وخاصية هذه الأنواع من الأرض الثالثة أنها دون الأوليتين في ارتباطهما بالبعد العقدي، حيث تشتد وشائجهما بفعل الإنسان في الخير والشر، وهي أفعال لها اتصال بالمجال السياسي الذي يتدخل فيه الإنسان ويتغير في الزمان والمكان.

لذلك حق للأوليتين أن تتصفا بطابع الثبات والاستقرار لتعلقهما بالجانب العقدي (الحرام- المقدس- المبارك)، فيما الثالثة لم تتجاوز إلى هذه المرتبة ونزلت إلى مقام المتحول والمتغير، لارتباطها بأفعال المكلفين ونزوعاتهم المتبدلة الأحوال (الاستكبار- البغي- الاستضعاف- الهجرة- النفي- الجهاد).

وعلى ضوء هذه المعالم القرآنية، يمكن تقسيم عالم اليوم من خلال نظرتنا إلى الآخر إلى نوعين من الدار: دار إسلام ودار سلام، لأن دول العالم قد دخلت في عقد أمان في إطار ميثاق الأمم المتحدة، مع إمكانية إضافة صنف آخر من الدور،، وهو دار الحرب في حالات استثنائية تتجلى في أنماط الدول التي تخوض مع المسلمين حربا على أرض الواقع[22].

وهذا التقسيم يراعي تطور أنماط العلائق السياسية والقانونية بين الدول والأمم، فالانتماء للإسلام ليس هو من يحدد نوع العلاقة بين الدول ولا حتى بين دولة مسلمة وأخرى، بل المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية هي التي تحدد نوع هذه العلاقات.

بل إن وجود قانون دولي يحمي ويراقب انتشار الأسلحة في العالم، ويحرص على توازن الرعب بين القوى الفاعلة فيه، لدليل على انسحاب المفاهيم التقليدية من ساحة التداول السياسي والقانوني بين الدول المعاصرة.

ولعله من المناسب للاجتهاد المعاصر أن يراعي تطور الأحوال والعوائد والنيات والأشخاص، عند استصدراه للفتاوى في مجال الانفتاح أو الانزواء عن المحيط الجغرافي، لأن الأصل هو تأسيس هذه المسألة على الرؤية الكلية للعالم، برد الفرع إلى الأصل وبربط الجزئي بالكلي من منظور مقاصد الشريعة.

وقد سبق للإمام القفال الشاشي  كما حكا عنه الإمام الرازي [23] في تفسيره، أن وضع تقسيما فقهيا متطورا على بقية الفقهاء القدامى، بل إنه سبق به زمانه بنظرته الاستشرافية للعالم وما ينبغي أن يكون عليه، حينما فرق بين نوعين من الأمة: أمة الدعوة وأمة الإجابة، وقياسا على ذلك تفرق الأرض إلى دارين: دار الدعوة ودار الإجابة.

والمقصود بدار الدعوة، هي الدول التي أمر المسلمون بحمل الدين إليها وتبليغ أهلها تعاليمه، أما دار الإجابة فهي دار الإسلام التي استجابت لأمر ربها وينفذ فيها شرع الله، وعليه فإن تسمية دار الحرب ودار الإسلام ودار العهد وغيرها، تسمية تدبيرية تدخل في نطاق مفهوم “الإدارة السياسية”، وليست فاعلة في مجال الدعوة والتبليغ الديني.

وهذا النظر موافق لعالمية الإسلام وشموليته لمتغيرات الواقع في الزمان والمكان، ومنفتح على روح العصر وقوانين التمدن، ويخدم مصالح وقضايا الجاليات المسلمة بالغرب، لذلك مال إليه مؤتمر اتحاد الشباب المسلمين سنة 1994 بفرنسا، حيث خلص المؤتمرون فيه إلى كون فرنسا صارت دار تبشير بالإسلام (أي دار دعوة) ولم تعد دار عهد.

وحتى من الناحية التاريخية، لما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، آخى بين المهاجرين والأنصار وعدهم معا “أمة واحدة من دون الناس”.

وقد شكلت المدينة المستقبلة منطقة استقطاب للمسلمين الآفاقيين بفعل عامل الحث على الهجرة، “لدعم دار الإيمان الجديدة حتى كان فتح مكة، فانتصرت مقولة الأمة الشاملة، وجرى نسخ الهجرة العامة إلى المدينة، وصار المطلوب الانتشار من أجل الدعوة، والسعي لكي تتطابق أمة الدعوة مع أمة الإجابة، والتطابق لا يعني التوحد في دولة واحدة، لأنه بحسب القرآن فإن الناس سيبقون أمما وسيبقى الاختلاف، وإنما المراد استمرار السعي إلى التوافق والمسالمة بين سائر الأمم (الشعوب والقبائل) من طريق التعارف”[24].

ولذلك فإن الأليق تسمية الغرب في حالتنا المعاصرة بدار الأمان أو دار الدعوة ودار التبشير بالإسلام، أما نعتها بدار الحرب فهو مصطلح لا يصف الواقع، ولا يرقى إلى طموحات الأقليات المسلمة التي استقر بها الوضع بهذه البلاد، وبدأت تجني ثمار صبرها في مختلف ميادين الحياة في المُهاجَر.

ويبقى هذا التقسيم صالحا وملائما لظروف العالم، مما يحفظ للمسلم شروط الأمان العام في العبادة والممارسة، والتحرك بحرية في كافة الأنشطة خارج بلاد الإسلام، وهو مقصد من خلاله يجد المسلم نفسه منبسطا في رحاب عالمية الإسلام وشموليته، الذي يورث له صلاحية الفعل الرسالي في أرجاء المعمورة من منطلق الخيرية والعمل الصالح، الذي أفصحت عنه الآية الكريمة: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)[25].

ووراثة الأرض بهذا المعنى لن تكون بوسائل عسكرية حربية، إنما تتأتى من منهج الدعوة والموعظة الحسنة وسلوك السلم، الذي يدخل الناس في العمل المشترك على الخير، وقد نبه النبي عليه السلام أصحابه إلى هذا المعنى الاستراتيجي.

فقد أورد الصنعاني في مصنفه أنه: “بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية إلى خيبر فأفضى القتل إلى الذرية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما يحملكم على قتل الذرية، قالوا أليسوا أولاد المشركين، قال أوليس خياركم أولاد المشركين؟”[26].

فانظر إلى كيفية تربية الرسول الكريم لجيل الصحابة في تعاملهم مع الجغرافيا والتاريخ، إنه التخطيط للمستقبل والاستلهام من الماضي، وفي ذلك لفت لطيف لأنظار المسلمين إلى تبني بعد النظر في بحث مشكلات الحياة.

وإذا كان النفاذ إلى أقطار السماوات لا يتم إلا بسلطان، فكذلك النفاذ إلى أقطار الأرض محتاج إلى سلطان، وهو العلم والإبداع كما الصناعة والإنتاج، ثم القدرة على الإقناع والتماس اللين والحكمة مع المخالف، وكل ذلك جماع أمر الدعوة التي أمر المسلم بحملها إلى العالمين[27].

وقد سرني تعليق نفيس للمفسر المقصدي الفخر الرازي، الذي أعلى من شأن الجهاد بالدعوة ورفع من مقامه على الجهاد بالقتل، لكون الأول أكمل آثارا على الثاني وأدعى إلى إيقاع المراد في النفوس.

قال في هذا الصدد: “ولأن الجهاد بالمقاتلة لا يحسن أثرها إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة، وأما الجهاد بالحجة فإنه غني عن الجهاد بالمقاتلة، والأنفس جوهرها جوهر شريف خصه الله تعالى بمزيد الإكرام في هذا العالم، ولا فساد في ذاته إنما الفساد في الصفة القائمة به وهي الكفر والجهل، ومتى أمكن إزالة الصفة الفاسدة مع إبقاء الذات والجوهر كان أولى”[28].

ومثل رحمه الله لذلك بمثال حي، وهو الانتفاع بجلد الميتة من بعض الوجوه، لذلك حث الشرع على إبقائه بعد دبغه وإصلاحه وتطهيره، فأردف بعبارة لطيفة: “فالجهاد بالحجة يجري مجرى الدباغة، وهو إبقاء الذات مع إزالة الصفة الفاسدة، والجهاد بالمقاتلة يجري مجرى إفناء الذات، فكان المقام الأول أولى وأفضل”[29].

وفي ظل هذه المراجعات يتحول الحديث من نظام الدارين إلى الإقرار بوحدة الدار[30]، ووحدة الأرض في الإسلام إما حقيقة (باعتبار الحال) أو حكمية (باعتبار المآل)، أخذا من طبيعة هذا الدين الذي لا يعرف للجغرافيا حدودا، ولا تحد رسالته الآفاق ولا اختلاف الدارين ولا تعدد أجناس بني البشر، بقدر ما هو رحمة للعالمين ورسوله رحمة مهداة للناس كافة[31].

“فالأرض لله والإسلام دينه، وكل بلد هو دار إسلام بالفعل في الواقع الحاضر، أو دار إسلام في المستقبل الآتي”[32]، فالتأسيس الصحيح لما ينبغي أن نرى به العالم من حولنا هو بعولمة الدعوة وتنزيل مقتضياتها على القاعدة العريضة للإنسانية، لنزع الطائفية عن الخطاب الديني وتنمية مداركه، ليكون إسلامي المنطلق وإنساني المقصد كما أشرق به نور الرسالة الخالدة.

ولو صيغت رؤيتنا للأرض والمعمورة على هذا النحو، لأمكن تغيير الكثير من الأحكام الفقهية التي بنيت على أساس اختلاف الدارين، والتي أحجمت حركتنا في الفعل الخير بين الناس، وأدخلتنا إلى دائرة الهامش في الحضارة بعد أن كنا في عمق مركزها.

        لائحة المصادر والمراجع:

  • أبو الحسين مسلم النيسابوري، صحيح مسلم: طبعة بيت الأفكار الدولية بالرياض، 1419-1998.
  • أبو القاسم الطبراني، المعجم الصغير: دار الكتب العلمية بيروت،1403-1983.
  • أبو بكر السرخسي، المبسوط: دار إحياء التراث العربي بيروت، د ت،
  • أبو زهرة، العلاقات الدولية في الإسلام: الدار القومية بالقاهرة، 1964.
  • أبو زيد الدبوسي، تأسيس النظر ومعه رسالة الكرخي في الأصول: بتحقيق وتصحيح مصطفى محمد القباني الدمشقي، دار ابن زيدون بيروت، ومكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة، بدون طبعة ولا تاريخ.
  • أبو محمد الدارمي، مسند الدارمي المعروف بسنن الدارمي: تحقيق حسين سليم أسد، دار المغني بالرياض، ط1/1421-2000.
  • إحسان الهندي، أحكام الحرب والسلام في دولة الإسلام: دار النمير بدمشق، ط1/1413-1993.
  • جعفر عبد السلام وأحمد السايح، المسلمون والآخر أسس لتبادل الحوار والتعاون السلمي: سلسلة فكر المواجهة الصادرة عن رابطة الجامعات الإسلامية، القاهرة، العدد 20، 1427-2006.
  • الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين: دار المعرفة بيروت.
  • ديباجة ميثاق الأمم المتحدة
  • زين العابدين ابن نجيم الحنفي، البحر الرائق في شرح كنز الدقائق: دار المعرفة بيروت، ط2.
  • طه جابر العلواني، مدخل إلى فقه الأقليات: المجلة العلمية للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، ع 4-5، ربيع الثاني 1425هـ.
  • طه جابر العلواني، مقاصد الشريعة: دار الهادي بيروت، ط1/1421-2001.
  • عبد الرحمان الحاج في مقاله الموسوم ب: “الإسلاميون والبحث عن النظام الإسلامي السياسي، صورة الدولة وظل الخلافة”، صحيفة الحياة.
  • عبد الرحمان الحاج، المنظور الفقهي والتقسيم القرآني للمعمورة: ضمن مجلة إسلامية المعرفة، وهي مجلة فكرية فصلية محكمة تصدر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرجينيا، س 12، ع45، صيف 1427/2006.
  • عبد الرحمان السالمي، الجغرافية وخريطة الإسلام في العالم: ضمن مجلة التفاهم، وهي مجلة فصلية فكرية إسلامية تصدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بسلطنة عمان، س9، صيف 2011م/1432هـ، ع33.
  • عبد الرزاق الصنعاني، المصنف: المكتب الإسلامي بيروت، 1972.
  • علاء الدين الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: دار الكتاب العربي بيروت، ط2/1402.
  • قرآن كريم برواية ورش عن نافع.
  • فخر الدين الرازي، تفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب: دار الفكر بيروت، ط1/1401-1981.
  • فيصل مولوي، الأسس الشرعية للعلاقات الدولية بين المسلمين وغير المسلمين: دار الرشاد الإسلامي بيروت، 1987.
  • مالك بن أنس، المدونة الكبرى: دار صادر، مطبعة السعادة بمصر، ط1/1323.
  • مجد الدين بن محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، القاموس المحيط: ت مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، بإشراف محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة بيروت، ط8/1426-2005.
  • محمد ابن إدريس الشافعي، الأم: تحقيق رفعت فوزي، دار الوفاء بالمنصورة، ط1/1422-2001.
  • محمد ابن إدريس الشافعي، الأم: دار المعرفة بيروت، 1393هـ.
  • محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم المشتهر بتفسير المنار: دار المنار القاهرة، ط2/1366- 1947.
  • مصطفى الزرقا، فتاوى مصطفى الزرقا: دار القلم دمشق، ط3/2003.
  • مونتسكيو، تأملات في تاريخ الرومان: تعريب عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء، ط1/2011.
  • وهبة الزحيلي: آثار الحرب في الفقه الإسلامي، دار الفكر بدمشق 1981.
  • ياسر لطفي العلي، الجغرافيا الفقهية للعالم من صور التاريخ إلى صورة الواقع المعاصر: ضمن مجلة إسلامية المعرفة، وهي مجلة فكرية فصلية محكمة تصدر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرجينيا، س 12، ع45، صيف 1427/2006.

[1]– المقولة انتشرت بعد ضرب برجي مركز التجارة العالمي عام 2001 وانطلاق الحملة على الإرهاب أثناءها.

[2]ـ بعض جماعات الغلو سمت نفسها بأسماء توحي فعلا بعقلية الإقصاء والاعتزال للمجتمع، فمثلا مسمى “جماعة التكفير والهجرة” مصطلح من صلب إشكالية نظام الدارين في تقسيم العالم إلى فسطاطين بين موالين ومعادين، فالولاء لمن على تفكيرهم والبراء ممن خالفهم تكفيرا وهجرة.

[3]– نستعمل هذا المصطلح على سبيل التجاوز، وجريا على ما يوظف في وسائل الإعلام من ألقاب لا تمت إلى الحقيقة بصلة، لأن الفوضى هي سمة التداول المعرفي في غياب تام عن الرقابة والتمحيص في المفاهيم، التي يؤدي سوء استعمالها إلى انتشار ثقافة التجهيل والإعماء، ولذلك ليس غريبا أن يوصف زعماء التنظيمات الجهادية بالمشايخ وألقاب العلماء وهم دون مستوى طلبة العلم.

[4]– صادر عن صحيفة الحياة.

[5]– إشارة إلى قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وأوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)، الآية 22 من سورة الروم.

[6]– هذه الحاجة الملحة لليقظة الأمنية والسياسية، أعقبها نوع من النشاط الفقهي على مستوى التنظير المكثف لفقه الجغرافيا من قبل المجتهدين الفقهاء، أما الساسة والحكام فنلحظ مدى اهتمامهم بمتابعة هذا الحراك الثقافي والعسكري، من خلال الإشراف على تنفيذ عمليات الدفاع ضد الأعداء، وقد لازم ذلك التفاعل إضفاء الهالة على الذات السلطانية في تغيير أسماء وألقاب رجال السلطة، تماهيا مع هذا المعطى الجديد في التخطيط لتقسيم المعمورة، فالنعوت المضافة إلى أسماء السلاطين من قبيل: “الحاكم بأمر الله” و”عضد الشريعة” و”خليفة الله” وغيرها… ألقاب من وحي تجربة الوصل والفصل مع الآخر.

[7]– ينظر المبسوط للسرخسي: ج1/220. والبحر الرائق في شرح كنز الدقائق، لزين العابدين ابن نجيم الحنفي: 5/18. وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين الكاساني: 5/192.

[8]– ينظر الأم للشافعي: ط دار الوفاء، ج7/354. والمدونة الكبرى، للإمام مالك: دار صادر، المجلد 6 ج15/291.

[9]– لاحظ رصدا ممتعا لهذه المماثلة في الكتاب الشيق لمونتسكيو: تأملات في تاريخ الرومان: الصفحات 26-27-90-91-154.

[10]– نلمس هذا الموقف كذلك عند عدد من الباحثين مثل: وهبة الزحيلي في “آثار الحرب في الفقه الإسلامي”: ص 194. وإحسان الهندي في “أحكام الحرب والسلام في دولة الإسلام”: ص6. وكذلك عبد الرحمان الحاج في مقاله: المنظور الفقهي والتقسيم القرآني للمعمورة: ضمن مجلة إسلامية المعرفة، ص 68. وياسر لطفي العلي في مقاله “الجغرافيا الفقهية للعالم من صور التاريخ إلى صورة الواقع المعاصر”: ضمن مجلة إسلامية المعرفة، ص 123.

[11]ـ مقاصد الشريعة، طه جابر العلواني: ص56.

[12]ـ المقصود هنا: ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليومِ الآخرِ ولا يحرمون ما حرم اللَّه ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أُوتوا الكتاب حتى يعطُوا الجزية عن يد وهم صاغرون﴾ الآية 29 من سورة التوبة.

[13]– وتتمة هذه الديباجة هي: “… وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأن نبين الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة، واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي، وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدما، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح. وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معا في سلام وحسن جوار، وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي، وأن نكفل بقبولنا مبادئ معينة ورسم الخطط اللازمة لها ألا تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة، وأن نستخدم الأداة الدولية في ترقية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها”.

[14]– جعفر عبد السلام وأحمد السايح، المسلمون والآخر أسس لتبادل الحوار والتعاون السلمي: ص 29.

[15]– لاحظ أن الدلالة اللغوية للجهاد تحيل على معان جميلة، فالجهاد قرين النشاط وبذل الجهد والوسع في سبيل الانعتاق من الكسل ومن الخمول، وفيه كذلك إنتاج الطاقة والقوة لصنع الممكن من المستحيل، أما الحرب فما هي بنشاط ولا بإبداع، اللهم إلا إذا وظفا في سبيل الإفناء والتدمير والفساد. ولاحظ أن الدلالات التي تفيدها الحرب تتردد بين الشجاعة وبين سلب المال وشدة الغضب وفساد الدين والطعنة وعدو محارب. يرجع للقاموس المحيط، لمجد الدين بن محمد بن يعقوب الفيروزآبادي: مادة الجهد، ص 275، ومادة حرب، ص73.

[16]– ورد في تفسير المنار عند تفسير الآية 190 من سورة البقرة: “الحكمة لشرعية القتال وهي منع الظلم والعدوان والفتنة والاضطهاد، وتقرير الحرية والأمان والعدل والإحسان”، تفسير القرآن الحكيم المشتهر بتفسير المنار، تأليف محمد رضا: 2/213. وعلق الإمام عبده على قوله تعالى: ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾، الآية 189 من سورة البقرة: “(ولا تعتدوا) بالقتل فتبدأوهم، ولا في القتال فتقتلوا من لا يقاتل، كالنساء والصبيان والشيوخ والمرضى، أو من ألقى إليكم السلم وكف عن حربكم، ولا بغير ذلك من أنواع الاعتداء كالتخريب وقطع الأشجار، وقد قالوا إن الفعل المنفي يفيد العموم”، 2/208- 209.

[17]– وهذه المعاني تتردد في ست آيات حصرية في القرآن منها: الآية 278 من سورة البقرة، الآية 35 من سورة المائدة، الآية 66 من سورة المائدة، الآية 58 من سورة الأنفال، الآية 108 من سورة التوبة، الآية 4 من سورة محمد.

[18]– مصطفى الزرقا، فتاوى مصطفى الزرقا: ص626.

[19]ـ تنفيذا لقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، من الآية 110 من سورة آل عمران.

[20]ـ يقارن ب: عبد الرحمان الحاج في مقاله: المنظور الفقهي والتقسيم القرآني للمعمورة: مرجع سابق، ص76-77.

[21]ـ للتوسع ينظر المرجع السابق: ص 78-94.

[22]ـ هذا الرأي تبناه ثلة من فقهاء العصر، نذكر منهم الشيخ أبو زهرة في كتابه: العلاقات الدولية في الإسلام: ص75. والشيخ فيصل مولوي في: الأسس الشرعية للعلاقات الدولية بن المسلمين وغير المسلمين: ص 104.

[23]– تفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي: عند تفسيره لقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، الآية 110 من سورة آل عمران، 8/195-196.

[24]– عبد الرحمان السالمي في مقالته الافتتاحية: الجغرافية وخريطة الإسلام في العالم: ضمن مجلة التفاهم، ص9.

[25]ـ الآية 105 من سورة الأنبياء.

[26]ـ عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه: 5/203.

[27]– القرآن الكريم طافح بهذه المعاني الكبرى من مثل: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)، الآية 125 من سورة النحل. ومن مثل: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)، الآية 64 من سورة آل عمران. وقوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، الآيات 24 إلى 28 من سورة الحج. وكذلك: (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى مستقيم وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعلمون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون) الآيات 67-68-69 من سورة الحج.

[28]– التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي: 16/205- 206.

[29]ـ المصدر السابق، ج16/206.

[30]– نسب الإمام أبو زيد الدبوسي قولا للإمام الشافعي عن وحدة الأرض في كتابه تأسيس النظر، فزعم أن “الأصل عندنا أن الدنيا كلها داران دار الإسلام ودار الحرب، وعند الإمام الشافعي الدنيا كلها دار واحدة …”، تأسيس النظر ومعه رسالة الكرخي في الأصول: ص 119. والواقع أن الشافعي قد قسم الأرض إلى دار إسلام ودار حرب، لكنه على مستوى تطبيق الأحكام الشرعية فإنه سوى بينهما فقال: “ولا فرق بين دار الحرب ودار الإسلام فيما أوجبه الله على خلقه من الحدود”، الأم: ط دار المعرفة ، 7/304.

[31]– استلهاما من نص الآية: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، الآية 106 من سورة الأنبياء، ومن نص الحديث: “إنما أنا رحمة مهداة“، أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه على شرط الشيخين ولم يخرجاه: كتاب الإيمان، رقم الحديث 100. ورواه الدارمي في سننه مرسلا، باب كيف كان أول شأن النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 15. والطبراني في الصغير: باب من اسمه إسماعيل، رقم 264. ورواه مسلم بلفظ آخر جاء فيه: “لم ابعث لعانا وإنما بعثت رحمة“، ومن فقهه أنه رواه في كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها، رقم 2599.

[32]– طه جابر العلواني، مدخل إلى فقه الأقليات: ضمن المجلة العلمية للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، ص 98.

العربي إدناصر

باحث وإعلامي مغربي، حاصل على الدكتوراه من كلية الشريعة، له العديد من الدراسات والمقالات والمشاركات العلمية المنشورة داخل المغرب وخارجه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى