الدراسات

الوظيفة الإبستمولوجية للمثال في بناء المعرفة

مقدمة تمهيدية

ينطلق هذا البحث من مسلمة لدى الباحث تتعلق بالمثال في علاقته بالمعرفة من حيث نقلها، وتلقيها؛ وهي أن المثال أو التمثيل لا يعتبر ترفًا في المعارف، بل له أثر ووظيفة في العمل التربوي المتعلق بطرق التدريس وتصنيف المحتوى إلى معرفي، ومحتوى مهاري، ومحتو قيمي، وأن له وظيفة في بناء المعرفة وتأسيسها، وتحقيق المهارات وتحصيلها وتنبيتها وتطويرها وإنضاجها.

وقد بدأتُ بالمسلمة قبل أن أثير ما ووجه به المثال في أدبيات الدرس الشرعي واللغوي من عدم الحاجة إلى مباحثة المثال، وأن الاعتراض عليه ومناقشته عند التمثيل هو خطأ منهجي؛ وذلك أنهم يقولون: “ليس من دأب الرجال مناقشة المثال” أو يقولون: “لا مشاحَّة في الأمثال” وقد يعبرون بقولهم: “المثال لا يعترض عليه” وقد يحكمون بمقتضى ذلك فيقولون: “المثال يفترض” أو “يكفي في المثال الافتراض” دون التحقق من السياق التاريخي لهذا القول، ولا عن مدلول القولة لتحمل على خصوصها الذي أريد منها؛ فتعميم حكم عدم مناقشة الأمثلة دون الالتفات إلى زاوية النظر التي يتجوز فيها بالافتراض ويسمح به؛ أدى إلى إعمال هذا القول في غير محله، فعوملت الأمثلة كما تعامل النصوص؛ فوقع فيها الرضا بالموجود، ودوفع عنه بأقوال غير صحيحة وفي كل سياق، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى؛ فزعم أن المثال لا يناقش هو ـ في نهاية المطاف ـ رأي من الآراء؛ على افتراض أنه لم ينقل إلينا رأي يخالفه؛ وأيضا؛ فهو قول منصرف إلى عدم اشتراط واقعية المثال الذي يمثل به؛ لا على أنه ليست له وظيفة في بناء المعرفة؛ أو أنه غير مؤثر في تصحيحها وتخطئتها؛ أو أنه لا يؤدي وظيفة في تمهير الطالب والمتعلم، بل غاية ما في التسليم بالمثال أن يكون المقصود منه أن التمثيل معفوٌّ فيه عن المطالبة بتوثيق قصة مدلول المثال، أو تأكيد صحة موضوعه، وذلك اشتراط ما يشترط في جميع النقول والأقوال؛ وإنما قصد بقول “إن المثال لا يعترض” أنه يكفي فيه الاحتمال والافتراض؛ وهذا في حقيقة الأمر؛ وإن كان يوحي لبعض الدارسين بعدم أهمية المثال؛ فإنه يوحي في حقيقة الأمر بأهميته لا العكس؛ وذلك أنهم قبِلوا حتى المفترض منه؛ لخدمة المعرفة؛ وأن الضرورة إليه ملحة؛ حتى سمح أن يصار فيه إلى افتراض مثال.

وهذا النقاش يجعل المثال جديرا بالبحث في علاقته ببناء المعرفة؛ وبمصادر المعرفة؛ وما الذي يمكن أن ينتج عن مثال علقت به رواسب تاريخية، أو يكون ذا حمولة غير تربوية؛ مما يمكنه أن يعيق تحقق الأهداف التربوية.

وهنا انبثقت إشكالات هذا البحث، وصيغت على الشكل التالي:

الإشكالية:

  • ما العلاقة بين المثال وبين مصادر المعرفة؟
  • أي وظيفة للمثال في بناء المعرفة؟
  • هل يمكن للمثال أن يكون عائقا إبستمولوجيا للمعرفة؟

الفرضيات:

  • يفترض أن يكون للمثال علاقة جدلية بمصادر المعرفة؛
  • يفترض هذا أن يكون للمثال أثر في بناء المعرفة؛
  • ويفترض كذلك أن يكون له أثر سلبي في ركود المعرفة.

الأهداف (القيمة):

  • إدراك حدود الحاجة للتمثيل؛
  • إدراك القيمة الحقيقية للمثال؛
  • التنبه إلى الأثر السلبي للمثال.

الأهمية:

يمكن اعتبار هذا النوع من الدراسات ذات الاهتمام بالمجال الإبستمولوجي ذات جدوى على المستوى المعرفي والمنهجي والتربوي؛ ذلك أن القناة الرابطة بين المعرفة وبين المتعلم والطالب أو المتلقي عموما؛ أو بين المخاطِب والمخاطَب هي المثال؛ فإعادة النظر فيه وتعميق البحث فيه؛ وبحث روافد هذا المثال؛ وحدوده من المعرفة؛ ذلك كله هو الذي يمكن أن يحدد تموقع المثال داخل العمل التربوي والبحثي والفكري؛ وهو كذلك قناة رابطة بين المعرفة والواقع؛ إذ المثال إنما يستمد مادته من الواقع العملي أو التاريخي للناظر في المعرفة؛ ملقيا ومتلقيا؛ وهو كذلك الأقدر على ربط المعرفة مرة أخرى بالواقع؛ تذويبا للهوة الحاصلة أو المتوقعة بين ما هو تنظيري وما هو تطبيقي؛ فبالمثال يمكننا تجاوز التنظير المجرد؛ ذلك أن المثال يعتبر شاهدا تحاكم به وإليه المعرفة؛ وبهذا يكون ذا أهمية معرفية، ومنهجية؛ غير أن هذه الأهمية قد تجعله يحول دون الانتباه إلى ما يمكن أن يؤول إليه عدم النظر فيه في ضوء الأهداف المرجوة منه في بناء المعرفة؛ فيكون معيقا عن البناء؛ بل هادماً؛ والمثال ـ بهذه الحيثية ـ لا يقلل من أهميته؛ بل يقوي أهمية بحثه وتأمله؛ ومحاولة ضبطه بضوابط معرفية ومنهجية وبيداغوجية.

الدراسات السابقة المتعلقة بالمثال:

لقد تناول البحث في المثال مجموعة من الدراسين من تخصصات أدبية أخرى، منها ما يتعلق بالدرس الفلسفي، ومن ذلك كتاب “منزلة التمثيل في فلسفة ابن رشد” للدكتور فؤاد بن أحمد؛ قد تناول فيه الدكتور منهج ابن رشد في التعامل مع التمثيل؛ من تعريفه، وموارده، وأغراضه، وعلاقته ببعض المناهج كالاستقراء والاستنباط

ووظائفه في الحجاج والمناظرة، ثم تحدث عن موقع المثال داخل العلوم الأخرى من غير الفلسفة؛ إلا أنه لم يتناوله في جانب بنائه للمعرفة؛ لأن البحث منصب أساسا على مناقشته داخل تراث ابن رشد؛ وليس بحثا في المثال استقلالا.

ومن ذلك أيضا كتاب من حجم صغير بعنوان “المثال الشارح: مدخل لتعليم الفلسفة” للدكتور محمد سعيد أحمد زيدان، وقد تناول البحث في زاوية تربوية؛ لكنه اهتم كثيرا بالمجال التعليمي المتعلق بأثر الأمثال والأمثلة؛ أكثر من الاهتمام بما هو منهجي وإبستمولوجي؛ ونجد كذلك الاهتمام بالمثال في المجال البلاغي، إذ اطلعت على مقال حول “بلاغة المثال: السرد المثلي بين التخييل والحجاج” للدكتور الغرافي مصطفى، تناول فيه أثر المثال البلاغي في تبليغ المعنى؛ وهو منصب كذلك على الجوانب المتعلقة بالتأثير؛ من الناحية البيانية والحجاجية؛ وليس متعلقا بموضوعنا الذي يبرز أثره في بناء المعرفة كرافد من روافدها.

ويتناول المثال كذلك بالدرس والبحث في المجال اللغوي والنحوي؛ أحيانا بربطه بالمجال التعليمي التربوي؛ وأحيانا يُدْرَس من زاوية اجتماعية استنطاقا للمثال النحوي باعتباره معبرا عن ذاكرة ثقافية وفكرية واجتماعية، ونجد من ذلك مقالات وأبحاثا تولت دراسة المثال عند سيبويه في كتابه، أو عند ابن جني؛ ومن هذه الأبحاث:

  • الأمثلة النحوية – بين المعيارية والمنوال التواصلي” للدكتور كمال عطاب.
  • الأمثلة النثرية في كتاب سيبويه – دراسة نحوية تحليلية” للباحث جعفر كمال الدين أحمد بجامعة أم درمان[1]
  • المثال النحوي في كتاب سيبويه بين الدلالة الاجتماعية والقاعدة النحوية” للدكتور حسن خميس الملخ[2]
  • الحياة الاجتماعية وأثرها في أمثلة النحاة وشواهدهم في عصور الاحتجاج” للباحث محمد ناجي حسين دراغمة[3]

فكما هو ملحوظ؛ فهذه الأبحاث تناقش المثال من منظور تربوي تعليمي نظرا لطبيعة المثال التي تعتبر حلقة وصل بين القواعد ومسالك التلقي لدى الطلبة والمتعلمين؛ ويناقش كذلك من زاوية اجتماعية باعتبار الحياة الاجتماعية أكبر رافد من روافد التمثيل في العلوم الإنسانية؛ فمن الطبيعي أن تتسع دائرة بحث المثال فيها؛ ولأن المرء لا يفهم المجردات إلا وفق المحسوسات التي يعيشها؛ فصارت أمثلة من حياة الدارس والطالب أقدر على تحقيق غايتين مهمتين في التعليم؛ وهما: بيان العلم، وغرس القيم في الناشئة من خلالها.

لقراءة الدراسة كاملة يمكنكم تحميلها بصيغة PDF عبر النقر هنا 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] وهو بحث لنيل درجة الدكتوراه

[2] منشور بمجلس الإمارات العربية المتحدة صفحة 347 ـ 370 العدد العشرون 2001

[3] وهو بحث لنيل درجة الماجستير.

مبارك بلعسري

حاصل على شهادة الدكتوراه، تخصص أصول الفقه، كلية الشريعة، جامعة ابن زهر، أكادير، المغرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى