الدراسات

الدولة والشأن الديني بالمغرب أو مسار بناء «الإسلامية» في المغرب المستقل ‘1956- 2015’

 

مقدمة:

إن سؤال الدولة والدين بالمغرب هو سؤال حديث يعود لحيثيات وظروف ما بعد الاستقلال، سؤال لا ماضي له، فقبل الاستقلال كانت الدولة بالمغرب كما في غيره من المجالات العربية – الإسلامية، ومن الناحية العملية والثقافية، مقتضى من مقتضيات الدين، كما كان الدين هو الآخر مقتضى من مقتضيات الدولة، إذ لا تكاد تعثر على وجود مستقل لأحدهما عن الآخر في العصر الوسيط.

ومن ثم، فسؤال الدولة والدين في السياق المعاصر نشأ بالضرورة إما عن تحول في مفهوم الدولة، أو عن تحول في مفهوم الدين، أو فيهما معا، وإذا كان التحول على صعيد الإسلام مستبعدا بالنظر إلى الحقائق الثقافية والسلوكية المرتبطة به، والماثلة في الواقع، فإن السبب المنتج لسؤال العلاقة بين الطرفين يرتبط بالناحية الأخرى أي الدولة.

إن الدولة المغربية التي وضعت قواعدها سلطات الحماية الفرنسية، وورثتها سلطات الاستقلال بعد رحيل الاحتلال، تختلف في كثير من الجوانب عن الدولة السلطانية الوسيطية التي كانت سائدة بالمغرب إلى سنة 1912م، ولعل أهم خاصية امتازت بها هذه الدولة الموروثة هي إعراضها التام عن الدين، فهي لا تؤدي له أية خدمة، وتحاشت التدخل في مجاله، ولا تطلب منه أي تأييد، ولا تريد – أيضا – أن يتدخل في مجالها، مستقلة بالزمني، تاركة له الروحي، وما في معناه.

غير أن هذه الدولة الحديثة في نسختها المغربية لم تنجح في الحفاظ على حياديتها واستقلالها عن الدين، ووجدت نفسها مضطرة لتعديل طبيعتها الأصلية والدخول في علاقة ما مع المجال الديني، ومن أهم الإكراهات التي ألزمت هذه الدولة بمراجعة موقفها من الدين في التجربة المغربية:

  • أولا؛ طبيعة الإسلام، فالدين المحمدي ليس مجالا روحيا صرفا، بل يمتد إلى الزمني، ويضم جملة من التشريعات والقوانين التي تحكم حياة الجماعة، وتؤثر في موقفها السياسي؛
  • ثانيا؛ طبيعة الواقع، فالشأن العام المغربي تؤثثه عدد من المؤسسات الدينية كالأوقاف، والمساجد، والزوايا، وعدد من المناسبات الدينية، بالإضافة إلى عدد من الأنشطة..؛
  • ثالثا؛ ظهور التعبيرات السياسية الإسلامية في المجال العام المغربي، والتي تمثلت في الحركات والجمعيات الإسلامية؛

فبناء على هذه الظروف، تطورت علاقة الدولة المغربية الحديثة بالشأن الديني عبر ثلاث مراحل رئيسة: المرحلة الأولى، تميزت بتجاهل الشأن الديني، وتطبيق الصيغة «الاستعمارية» حرفيا، وقد تزامنت هذه المرحلة مع عهد الملك محمد الخامس رحمه الله؛ والمرحلة الثانية، تميزت باستعادة الوعي بالخصوصية الدينية والبحث عن النموذج السياسي – الديني المناسب لاحتضان الوظيفة الدينية في جلباب الدولة، وتزامنت مع عهد الحسن الثاني رحمه الله؛ والمرحلة الثالثة، والتي يمكن وصفها بمرحلة النضج، وتميزت بترسيخ الوعي بالخصوصية الدينية وبناء النموذج، حيث أمسى المغرب يتوفر على دولة إسلامية مبنى ومعنى، وهي المرحلة التي تزامنت مع عهد الملك محمد السادس، وسنحاول فيما يلي وصف هذه المراحل، وتقديم أهم عناصرها.

I- الدولة والشأن الديني غداة الاستقلال وتطبيق الصيغة «الاستعمارية»

تميزت علاقة الدولة المغربية بالشأن الديني غداة الاستقلال بمجموعة من الخصائص والميزات، ارتبطت في معظم الحالات بأحداث سياسية أو اجتماعية مؤثرة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الدولة المستقلة في المغرب في مقاربتها للشأن الديني لم تنطلق من تصور نظري وخط مذهبي واضح للموضوع الديني، بل ورثت التناقضات الفكرية والنظرية التي كانت موجودة في زمن الحماية الفرنسية، وتجاوبت مع الظروف الموضوعية والتطورات الميدانية بأشكال مختلفة، وذلك لغياب سياسة دينية واضحة.

ففي عهد محمد الخامس لم تكن الوظيفة الدينية للملك منظمة بشكل كاف، ومدسترة، ولم يكن وصف الملك بأمير المؤمنين دارجا في الخطاب السياسي المغربي، كما لم تكن مقتضياته السياسية واضحة، وهو ما أشار إليه الزعيم علال الفاسي بوضوح في رسالته للملك الحسن الثاني عقب تعيينه وزيرا للشؤون الإسلامية سنة 1961.[1] وتأخر ظهور لقب أمير المؤمنين في القاموس الدستوري المغربي إلى دستور 1962م، الذي نص لأول مرة على أن الملك أمير للمؤمنين وحامي حمى الملة والدين.

كما أن إحداث وزارة تعنى بالشؤون الإسلامية تأخر إلى سنة 1961، وكان تدبير ورعاية المؤسسات والأنشطة الدينية قبل هذا التاريخ مسندا إلى إدارات وزارية أخرى، فالحكومة المغربية الأولى (7 دجنبر 1955)، وكما يبدو من تشكيلتها ووظائفها، لم تهتم بموضوع الإسلام وشأنه، بالرغم من دوره الوطني والسياسي الكبير في مواجهة الاحتلال، وبقيت الاختصاصات «الإسلامية» قبل إحداث وزارة الشؤون الإسلامية موزعة بين وزارة الأحباس (الأوقاف)، ووزارة العدل، فالتعليم الديني والقائمين بالوظائف الدينية كانا من اختصاص وزارة العدلية في فترة الحماية الفرنسية،[2] وفي سنة 1957 تم نقل الإشراف على الموظفين الدينيين إلى وزارة الأحباس.[3]

غير أن هذه التأخرات لا تعني أبدا عدم إدراك المؤسسة الملكية والدولة في المغرب في هذه السنوات المبكرة لمشروعيتها الدينية، ونسبها الإسلامي، فالوقائع والأحداث تدل على خلاف ذلك، وتؤكد أن جل التدخلات الملكية تقريبا في المجال الديني كانت تدرك إدراكا جيدا مشروعيتها الدينية، وتوظفها حسب الظروف توظيفا جيدا.

ومن أشهر الأزمات التي واجهت الدولة المغربية وسياستها من أجل “تأهيل الحقل الديني” في بداية الستينيات من القرن الماضي؛ أزمة جامع القرويين[4]، فقد تفجرت الأزمة الأولى سنة 1960، عقب وضع الدولة مشروعا لتوحيد التعليم وإلحاق القرويين بجامعة محمد الخامس الحديثة النشأة، وتعيين مدير لها من خارج مجلس العلماء، وهو ما قوبل بالرفض من طرف علماء المملكة، ودفعهم للالتئام في لقاء بالرباط حضره حوالي 400 عالم تدارسوا فيه مشاكل التعليم الديني والمخاطر التي تهدده،[5] لقد كشفت هذه الأزمة بالرغم من نجاح القصر في احتوائها عن صراع خفي داخل الدولة وفي أطرافها بين رؤيتين في تدبير الشأن الديني؛ رؤية عصرية تقف وراءها نخبة عصرية، ورؤية تقليدية يقف وراءها العلماء التقليديون.

وإجمالا؛ لم تهتم الحكومات المغربية الأولى في عهد الملك محمد الخامس بقطاع الشؤون الإسلامية، ولم تخصصه بوزارة، وتركته على النحو الذي كان عليه في عهد الحماية الفرنسية، وترجع أولى خطوات تأهيل الحقل الديني في المملكة المغربية وخاصة قطاع “الشؤون الإسلامية” إلى بداية عهد الحسن الثاني.

II- الدولة والشأن الديني في عهد الحسن الثاني: استعادة الوعي بالخصوصية والبحث عن النموذج السياسي – الديني.

كانت أول خطوة رسمية في اتجاه استعادة الوعي بخصوصية العلاقة بين الدولة والدين في المجال المغربي تلك التي تجسدت في وصف الملك في دستور 1962م بـ «أمير المؤمنين»، ولو أن هذا الوصف كان متداولا في الأوساط المغربية قبل الإقرار الدستوري له، وكانت له قيمة ثقافية ودينية، ومما يدل على هذا الوجود الماقبل دستوري، حديث الحسن الثاني رحمه الله في ديباجة الظهير المؤسس لوزارة الدولة المكلفة بالشؤون الإسلامية في 2 يونيو 1961،[6] ومحاكمة الحزب الشيوعي المغربي سنة 1960، حيث استند المجلس الأعلى في حكمه القضائي على «أن العاهل المغربي هو قبل كل شيء، ملك وأمير للمؤمنين».[7]

ويعتبر وصف الملك بأمير المؤمنين في دستور 1962 البداية العملية لاستعادة الوظيفة الدينية للدولة المغربية المفتقدة مع التحديث الاستعماري، لقد تحمل الملك بموجب هذا اللقب مسؤولية الوظيفة الدينية، كما أتاح له إمكانية رعاية السياسة الدينية والإشراف عليها. لقد كان هذا اللقب خطوة أولى على طريق عقلنة وتأهيل الحقل الديني في دولة الاستقلال، ونقل مركز الثقل في المجال الديني إلى المؤسسة الملكية بعدما كانت طرفا متواضعا أمام العلماء، فعلى سبيل المثال في الصراع بين العلماء والنخبة العصرية حول إصلاح القرويين، تدخل الملك في الموضوع باعتباره حكما لا باعتباره وصيا على الحقل الديني ومؤسساته، وللإشارة فقبل الإقرار الدستوري للقب أمير المؤمنين كان العلماء هم سادة المجال الديني والمستبدين بشأنه.

لقد نبهت الظروف السياسية الصعبة التي كان يجتازها المغرب في بداية الستينيات بعض الأطراف السياسية المقربة من القصر إلى أهمية هذا اللقب ومردوده الإيجابي على الشرعية السياسية للملك، فإمارة المؤمنين بالإضافة إلى إلحاقها الوظيفة الدينية بالملك، فإنها أحدثت – وهذا أهم- مصدرا آخر من مصادر الشرعية السياسية للملك وهي الشرعية الدينية، التي ترد مجملة وغير مفصلة في نص الدستور، فوصف الملك بأمير المؤمنين يستوجب السمع والطاعة من عامة المسلمين، وهذه الشرعية كما يبدو في كافة الدساتير التي اعتمدتها المملكة المغربية بدءا بدستور 1962 هي شرعية محايثة وموازية للشرعية السياسية، القائمة على استفتاء شعبي عام.

فالشرعية الدينية للنظام الملكي في المغرب، والتي تجعل من الملك أميرا للمؤمنين هي احتياط استراتيجي، يسمح له بتعويض الدستور وتجاوزه متى احتاج إلى ذلك، وهي من جهة أخرى رد واضح وصريح على التيار الوطني التقدمي الذي مثله حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، المتأثر بالفكر الاشتراكي آنذاك، والحريص على توحيد الشرعية وجعلها شرعية سياسية صرفة.[8] يقول ريمي لوفو في هذا السياق: «ومن الغريب أن نلاحظ أنه في الوقت الذي كان الملك مهتما بإضفاء الشرعية على الملكية بواسطة الانتخاب نجد أن الأحزاب هي التي أدخلت القانون الإلهي (الحركة الشعبية وحزب الاستقلال) كأحد وسائل الحكم.

غير أن هذا لا يعني أن الملك قد تخلى عن أسس شرعيته الدينية، بل إن لجوءه إلى الاستفتاء والانتخاب كان وسيلة لهزم اليسار المغربي في ميدانه وتبني جزء من برنامجه التحديثي».[9]

كما أن الحزبين اللذين كان وراء اقتراح هذه الصفة وتكريسها كأصل للشرعية من الناحية الدستورية وهما حزبا الحركة الشعبية والاستقلال، وكانا يستهدفان من وراء هذا الموقف الانتصار لمرجعيتهما السياسية السلفية بالنسبة لحزب الاستقلال، والإسلامية عموما بالنسبة للحركة الشعبية.

وهكذا، فظهور الصفة الدينية للنظام الملكي وتوظيفها في مغرب الحسن الثاني حكمه سياق سياسي وتاريخي مختلف تماما عن السياق الراهن، بحيث كان الغرض منها كبح جماح اليسار المتطلع بقوة نحو الحداثة السياسية، ووضع اليد على الحقل الديني وسياسة مكوناته وخاصة العلماء والتعليم الديني. ومن أشهر التوظيفات السياسية لمفهوم إمارة المؤمنين في الحياة السياسية المغربية ما تضمنه خطاب الحسن الثاني في افتتاح دورة أكتوبر لمجلس النواب سنة 1981، من اتهامات وتهديدات لنواب الاتحاد الاشتراكي المنسحبين من البرلمان احتجاجا على تمديد عمر البرلمان، حيث اعتبرهم خارجين على الجماعة ومستخفين بها، ولا يخفى أن مثل هذا الاعتبار في المنظور الإسلامي يورد الموصوف به المهالك.

ومن ناحية أخرى، كان إحداث وزارة الشؤون الإسلامية من الخطوات الأخرى الأساسية في اتجاه استعادة الوعي السياسي بالخصوصية الدينية، فقد أحدث المغرب هذه الوزارة لأول مرة في حكومة سنة 1961، بعدما كانت أعمالها موزعة بين عدد من الإدارات الأخرى، وأسندها العاهل الحسن الثاني إلى الزعيم السلفي علال الفاسي، وهو الذي وضع مشروعها السياسي وقانونها الأساسي.

وأُريد لها بحسب ما جاء في خطاب بعث به وزير الدولة المكلف بالشؤون الإسلامية إلى الملك أن تكون ردا سياسيا وبرنامجيا على فئتين: «فئة جامدة تأبى أن تتفهم حقائق الدين وأسسه الصالحة، فهي مع رغبتها في الخير وكفاحها من أجله تدرك نقط الضعف الذي أصاب العالم الإسلامي وأسباب انحطاطه، فهي تلجأ من واقعه المؤلم إلى جمود على الألفاظ واكتفاء بالقشور دون اللباب، فتضر الإسلام عوضا أن تنفعه وتحول بين المسلمين وبين التفتح الحقيقي الذي يعطيهم الانطلاقة اللازمة لأداء الرسالة الخالدة. وطائفة أخرى أهمها أمر الماديات وهالها ما عليه غير المسلمين في الغرب من تقدم عظيم فحسبت أن ذلك كله من التخلي عن الروح.. جاهلة أن الإسلام أول من دعا إلى العلم وحث عليه وأقام صرح حضارة استفاد منها الأوروبيون وغيرهم ما أنشؤوا به مجتمعهم».[10]

وبناء عليه حدد الظهير الشريف المنظم لهذه الوزارة في فصله الأول أهدافها على النحو التالي:

«يعهد إلى وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الإسلامية بالقيام بالإرشاد الإسلامي، والإشراف على كل أعمال الوعظ والتربية الإسلامية ونشر الخلق الإسلامي، وبعث ثقافة إسلامية، وربط أواصر التضامن الأخوي مع الشعوب الإسلامية عن طريق منظماتها، وإبداء الرأي الإسلامي في الشؤون القائمة…».[11]

ومن بين ما نص عليه هذا الظهير إنشاء هيئة للإفتاء من كبار العلماء المغاربة تتكفل بالإجابة عن الأسئلة التي ترد عليها من مختلف جهات المملكة، وتساعد الوزارة في إعداد الرأي متى طلب منها ذلك، ولم يفت المشرع في هذا السياق التنبيه إلى أن الفتاوى التي قد تصدر عن هذه الهيئة لها صبغة دينية صرفة، ولا يكون لها أي تأثير على القوانين الجاري بها العمل.[12]

ولم تستفد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية من أي تطور قانوني أو مؤسساتي، مدة ثلاثة عقود، أي من سنة 1963م، وحتى 8 نونبر من سنة 1993 تاريخ صدور ظهير جديد في شأن اختصاصات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

لقد شكل ظهير 93 نقلة نوعية في تعاطي الدولة المغربية مع المجال الديني،[13] حيث حدد هذا الظهير أهداف الوزارة في ثلاث أهداف رئيسة: أداء رسالة الأوقاف والمحافظة على كيانها…؛ والحفاظ على القيم الإسلامية وسلامة العقيدة؛ والحفاظ على وحدة المذهب المالكي..؛ والتكوين والتأطير والدراسات في المجال الديني. كما اختزل هذا الظهير الحقل الديني الرسمي في الأبعاد التالية: العمل الثقافي الذي يهدف إلى تطوير الدراسات الإسلامية، والنشر، والترجمة…، وأعمال التوعية، والإفتاء والمجالس العلمية.

غير أن أهم جديد قانوني حمله ظهير 1993، يتمثل في الاعتراف القانوني بالجمعيات العاملة في الميدان الديني، وشرعنة الاتصال الرسمي بها، وربط العلاقات بها، ففي سياق بيانه لاختصاصات مديرية الشؤون الإسلامية جاء النص التالي: «ربط العلاقات مع الجمعيات العاملة في الميدان الديني داخل المغرب وكذا مع المنظمات الإسلامية»، وتفعيلا لهذا الاختصاص أحدثت مصلحة خاصة به. وقد شكل هذا النص مؤشرا قويا على عزم الدولة الواضح على الانفتاح على الحركات الإسلامية، والتعاون معها.

وإجمالا، إن اهتمام الحسن الثاني رحمه الله المبكر بقطاع الشؤون الإسلامية لاعتبارات مختلفة ثقافية وسياسية، لم ينعكس على بنيته المؤسساتية والقانونية، إذ لم يشهد قطاع الشؤون الإسلامية خلال أربعة عقود من حكمه تطورات كبيرة، خلافا للوزارات والقطاعات الحكومية الأخرى، وبقي ظهيري 61 و93 علامتين بارزتين في تجربة “الشؤون الإسلامية” في مغرب الحسن الثاني.

وبالرغم من محدودية التطور القانوني والمؤسساتي لهذا المجال من الحقل الديني، فإن النصوص التي أنتجت في هذا المجال تختزل هموم  السياسة العمومية في المجال الديني وأغراضها التاريخية، ففي العشرين سنة الأولى من حكم الحسن الثاني أي من الستينيات إلى مستهل الثمانينيات كان الهدف من السياسة الدينية للدولة هو الحد من نفوذ اليسار المتعاظم وسط النخب المثقفة والطلبة والتلاميذ، وأيضا مواجهة الجمود الديني المتمثل في بعض المكونات الصوفية والسلفية، وقد عبر علال الفاسي عن هذه الهموم بوضوح في رسالته للملك الحسن الثاني بمناسبة تعيينه وزيرا للشؤون الإسلامية.

غير أن إكراهات صراع النظام الملكي مع المعارضة اليسارية في الستينيات على الخصوص لم تفقد الحسن الثاني توازنه في التعامل مع إشكالية الديني والسياسي في بنية الدولة المغربية، والدمج بينهما، بحيث حافظ على استقلال كل مجال عن الآخر، وتجلى هذا الأمر بوضوح في تحديد اختصاصات هيئة الإفتاء التي نص عليها ظهير 61 وتوضيح علاقتها بالتشريع والقانون؛ فإدراكا من المشرع المغربي للتضارب الذي قد يحصل بين القانون والفتوى، فقد أوضح في سياق تعريفه لهيئة الإفتاء أن الفتوى لها صبغة دينية صرفة، ولا يكون لها أي تأثير على القوانين الجاري بها العمل، وهو ما أسس قانونيا -ومع مرور الوقت- لنوع من العلمنة والازدواجية في تدبير شؤون الحياة، فالفتوى أريد لها أن تحكم الشأن الخاص، وإذا تعلق بعضها بالشأن العام فلا اعتبار قانوني له، أما الشأن العام فحكمه من اختصاص القانون. وربما لم يكن قصد المشرع من خلال هذا التمييز بين الفتوى والقانون التأسيس للعلمانية، وإنما غرضه تجاوز الازدواجية التشريعية.

لقد نجحت الدولة المغربية نسبيا من خلال قطاع الشؤون الدينية في تشجيع ميول الأسلمة داخل المجتمع المغربي، أو على الأقل لم تكن عائقا أمامها، ومن ثم ساهمت هذه السياسة إلى جانب تحولات عميقة شهدها المجتمع المغربي مرتبطة بالنمو الحضري والانتشار النسبي للتعليم، بالإضافة إلى تفاعل المغرب مع محيطه الخارجي في بروز حركة إسلامية نشيطة ابتداء من سنوات السبعينيات، ما فتئت تنمو وتتطور. لكن المثير في هذه الظاهرة الجديدة بالنسبة للدولة المغربية في هذا الظرف هو التهديد المحتمل الذي باتت تشكله على الاستقرار الروحي والأمن الداخلي، وهو ما حفزها على مراجعة الإطار القانوني للشؤون الدينية وتكييفها مع التحديات الجديدة، ويعتبر ظهير 1993 ترجمة ملموسة لهموم الدولة في هذا الطور.

لقد حمل هذا الظهير في طياته إشارات قوية أعربت عن توجهات الدولة المغربية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات في المجال الديني، وكشفت بشكل لا لبس فيه عن تنامي الوعي الرسمي بالخصوصية المذهبية للمملكة، على مستوى العقيدة والفقه، وعائدها الإيجابي على الاستقرار الروحي للمغرب؛ فقد جعل هذا الظهير من الوزارة ولأول مرة أداة للحفاظ على “سلامة العقيدة، والحفاظ على وحدة المذهب المالكي”، بعدما كان هوى الدولة سلفي في السنوات الأولى من الاستقلال، ولا تبدي اهتماما كبيرا بأمور المذهب، ولا أدل على ذلك خطاب علال الفاسي للعاهل المغربي الحسن الثاني، الذي جاء فيه: «ولقد علمت رغبة جلالتكم في السير على النهج الذي خطه جلالة والدكم المقدس محمد الخامس رضي الله عنه حينما أسند منذ أول عهده حركة البعث الإسلامي التي تجلت في الدعوة السلفية الحق الداعية إلى تطهير الدين وتقوية مظاهره وإنعاش مساجده ومعاهده، والدعوة إلى التمسك بأخلاقه، وتشجيع ما دعى إليه من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر».[14]

ومن أهم الوقائع الداخلية والخارجية المتصلة بالمجال الديني، التي شهدتها مرحلة السبعينيات والثمانينيات، التي حفزت الدولة على مراجعة سياستها الدينية:

– ظهور الشبيبة الإسلامية سنة 1972، التي تبنت نهجا معارضا للنظام الملكي، وتورطت بعد وقت وجيز من تأسيسها في اغتيال أحد قادة اليسار.

– تأليف الأستاذ عبد السلام ياسين لرسالة “الإسلام أو الطوفان” المنتقدة للنظام، وإرسالها للملك سنة 1974.

– الاضطرابات الاجتماعية التي شهدتها المملكة سنة 1984 بالتزامن مع قمة المؤتمر الإسلامي.

– أحداث مكة سنة 1979 التي تورطت فيها مجموعة سلفية وهابية، تعتقد المهدوية.

– الثورة الإيرانية سنة 1979، التي شع بريقها في مختلف أصقاع العالم الإسلامي واستهوت فئات واسعة من الشباب بما فيهم الشباب المغربي.

وقد كشفت هذه الأحداث عن تكون نخبة إسلامية حديثة داخل المغرب، استفادت من سياسة الدولة المتسامحة مع العمل الديني والمشجعة له، لكنها لا تقاسمها المرجعية المذهبية، ولا تدين لها بالولاء السياسي، بل الأخطر من هذا وذاك تشكيكها في مشروعية النظام الدينية والطعن فيها، متممة لدور المعارضة اليسارية التي كانت تنكر على النظام مشروعيته السياسية. ومن ثم كان رد الدولة على هذه التطورات ردا هادئا ومتكاملا جمع بين الملاحقة الأمنية للعناصر المتشددة التي تكفلت بها وزارة الداخلية، وإدماج البعد المذهبي في السياسة الدينية للمملكة بشكل قوي، وفتح جسور التواصل مع التيارات الإسلامية المعتدلة في الداخل والخارج، الذي تكفل به وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري، ويعتبر ظهير 1993 ترجمة قانونية وسياسية لهذا الرد.

إن سياسة “الشؤون الدينية” في المملكة المغربية خلال عقد التسعينيات وإلى وفاة العاهل الحسن الثاني تميزت بالعمل على تكريس الخصوصية المذهبية، وتطوير العلاقة مع الإسلاميين ومحاورتهم، وعقدت لهذا الغرض مؤتمرا دوليا أطلق عليه “الجامعة الصيفية للصحوة الإسلامية”، انعقدت دورته الأولى سنة 1990، وحضرته قيادات إسلامية محلية وعالمية، ومن أبرز الأسماء الدولية التي حضرت هذه الدورة: الأستاذ رشيد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية والأستاذ محفوظ النحناح رحمه الله رئيس حركة مجتمع السلم بالجزائر، ويعتبر وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق العقل المدبر لهذه السياسة.

وإجمالا؛ انطلاقا من هذه المراجعة المتأنية لسياسة الدولة المغربية في المجال الديني في عهد الحسن الثاني، انتهينا إلى مجموعة من الخصائص يمكن اعتبارها العناوين الأساسية لسياسة تأهيل الحقل الديني في هذه المرحلة، وهي على التوالي:

1- الاستعادة التدريجية للوظائف الدينية للدولة: إن الدولة المغربية عقب الاستقلال بدا وكأنها غير مهتمة بالمجال الديني، وكانت إمارة المؤمنين تمارس اختصاصاتها بشكل تقليدي وعشوائي، لكن شيئا فشيئا ظهرت الحاجة إلى قطاع الشؤون الدينية الذي ستوكل له مهمة التأطير الديني وتنمية الثقافة الدينية، وسيخصص بوزارة في بداية الستينيات، ثم بعد ذلك احتيج إلى العلماء، فعملت الدولة على استقطاب العلماء وإدماج أعمالهم في نظامها من خلال مشروع المجالس العلمية، وإصدار قانون المساجد…

2- الوعي المذهبي المتأخر: إن الدولة المغربية في بدايتها وفي العشرين سنة الأولى من حكم الحسن الثاني لم تكن تهتم كثيرا بقضية المذهب، وتساهلت مع المذاهب الإسلامية “الدخيلة” على المغرب وخاصة المذهب الوهابي، لكن في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي أدركت الدولة الأخطار التي باتت تتهددها بسبب تساهلها في هذا المجال، وإهمالها له، ومن ثم بدأ إلحاح الدولة على الالتزام المذهبي في علاقتها بالفاعلين الدينيين داخل المملكة.

3- نهج سياسة الترشيد والحوار مع المكونات الإسلامية التي لا تنازع في الشرعية الدينية للملك، وتعترف بقواعد النظام السياسي المغربي، وبالمقابل التشديد والتضييق على الأطراف التي تنازع في هذه الأسس: تجلت هذه السياسة بوضوح في الطريقة الاستيعابية التي تعاملت بها الدولة مع الشبيبة الإسلامية قبل صدور مجلة المجاهد، حيث تميزت بالمرونة والتغاضي عن بعض الأخطاء بما فيها حادث اغتيال عمر بن جلون، وأيضا التفاهمات غير المعلنة والضمنية بين الدولة والجماعة الإسلامية في بداية الثمانينيات التي أتاحت لهذه الأخيرة هامشا واسعا للعمل والنشاط الثقافي والتربوي والدعوي، أما الطريقة الإقصائية للدولة في معالجة الملف الإسلامي فلها أمثلة عديدة، من أبرزها المتابعات الأمنية لقيادات وأعضاء “أسرة الجماعة”، وجماعة العدل والإحسان بعدها.

وتأكد هذا النهج الترشيدي والحواري للدولة من خلال مجموعة من المبادرات، من أبرزها الجامعة الصيفية للصحوة الإسلامية، التي شكلت مناسبة لالتقاء عدد من قادة العمل الإسلامي في المغرب والخارج وتطوير النقاش والحوار حول عدد من القضايا والإشكاليات الفكرية والسياسية، وأيضا عقد لقاء وطني لخطباء الجمعة وهو الأول من نوعه لتدارس موضوع خطبة الجمعة، الحوار مع العدل والإحسان والجماعة الإسلامية وحركة الإصلاح والتجديد…

4– العمل ما أمكن على حصر العمل الإسلامي في أبعاده التربوية والتثقيفية، والحيلولة دون تطلعاته السياسية: وتجلى هذا الأمر بوضوح في أوامر أمير المؤمنين للعلماء، المحذرة لهم من الخوض في السياسة بالمعنى المباشر، ورفض الدولة لطلب تقدم به أعضاء حركة الإصلاح والتجديد سنة 1992 لتأسيس حزب التجديد الوطني.

III- الدولة والشأن الديني في عهد محمد السادس: تتمة بناء الدولة الإسلامية.

إن الاهتمام الاستثنائي الذي حظي به الشأن الديني في عهد الملك محمد السادس سياسيا ومؤسساتيا وماليا..، لفت الانتباه إلى تحول نوعي في علاقة الدولة المغربية الحديثة بالدين، مس في العمق مفهوم هذه الدولة، ومقوماتها النظرية، وشكل تمثلها للدين، فالإصلاحات الهيكلية التي شهدتها، والمفاهيم التي أطرت هذه الإصلاحات جعلت منها دولة “إسلامية” حديثة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، تهتم بالوظيفة الدينية، وتعتبرها اختصاصا أصيلا لها، كما تعنى بغيرها من الوظائف.

إن مفهوم الدولة المغربية في ضوء الإصلاحات الهيكلية الكبرى التي عرفتها في عهد محمد السادس أمست إطارا سياسيا ومؤسساتيا للقيام على العباد بما يصلحهم في الدنيا والآخرة، وذلك برعاية التعبد من خلال شبكة من المؤسسات الدينية الرسمية (المجالس العلمية، الرابطة المحمدية، الإعلام الديني…)، وتطوير المعاش، وجلب المصالح ودرء المفاسد، أو ما يصطلح عليه فقهيا بتحقيق المصالح المرسلة. وقد انعكست هذه الإصلاحات على مفهوم إمارة المؤمنين التي لم تعد كما كان الحال في السابق على عهد الحسن الثاني لقبا سياسيا بالأساس، بل أمست – صدقا – لقبا سياسيا ودينيا بالمعنى الحصري للدين، يلتزم بموجبه أمير المؤمنين بعدد من الوظائف الدينية: العلمية، والتوجيهية، والتحكيمية، والفتوى.. إلخ.

لقد تجسد هذا الجهد الاستثنائي من أجل النهوض بالحقل الديني في عهد محمد السادس في عدة مبادرات وإنجازات، غطت سائر مجالات العمل الديني، وخاصة مجالات التأطير والتكوين والإنتاج العلمي والثقافي…، ومن أبرز القطاعات الدينية التي طالها الإصلاح، وفي تناغم مع متطلبات هذا التحول النوعي: قطاع الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمجالس العلمية، ومعهد دار الحديث الحسنية، ورابطة علماء المغرب، والتعليم العتيق، والمساجد، والإرشاد الديني والخطابة، والإعلام الديني…، وفيما يلي موجز لأهم هذه التطورات:

– إعادة هيكلة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (4دجنبر 2003): صدر في 4 دجنبر 2003 ظهير شريف في شأن اختصاصات وتنظيم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ناسخا ظهير 1993. وقد حدد هذا الأخير بوضوح أهداف الوزارة في قطاع الشؤون الدينية، ومن أبرز هذه الأهداف:

– العمل على التعريف الصحيح بحقائق الدين الإسلامي الحنيف والسهر على نشر تعاليمه السمحة وقيمه الراسخة؛

– الحفاظ على القيم الإسلامية وسلامة العقيدة، والحفاظ على وحدة المذهب المالكي والعمل على ضمان إقامة الشعائر الدينية في جميع مساجد المملكة…؛

– إحياء التراث الإسلامي وبعث الثقافة الإسلامية والعمل على نشرها على أوسع نطاق؛

– المساهمة في بناء المساجد وترميمها وتوسعتها وتجهيزها وتأطيرها، ودراسة طلبات الترخيص ببناءها؛

– إعداد سياسة الدولة في مجال التعليم العتيق والإشراف عليه وتنظيم شؤونه؛

– توثيق أواصر التعاون وإقامة علاقات التبادل والتنسيق مع القطاعات والهيئات الوطنية والدولية في إطار السعي لتحقيق أهداف الوزارة؛

– وضع سياسة للتكوين الأساسي والمستمر لفائدة الأطر الدينية من أجل تحسين أدائهم والرفع من مستوى تكوينهم.[15]

ولم تكتفي الوزارة –فقط- بتطوير أهدافها لتلبية حاجات الحقل الديني، وإنما عملت –بالموازاة مع ذلك- على إقرار مجموعة من المؤسسات التنفيذية لهذه الأهداف، وفصلت اختصاصاتها بدقة كبيرة، وأبرز هذه المؤسسات: مديرية الشؤون الإسلامية، مديرية المساجد، مديرية التعليم العتيق.

لقد أظهر هذا القانون مجموعة من الاهتمامات الجديدة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، لم يتضمنها قانون 1993، ومن أهم هذه الاهتمامات: المساهمة في بناء المساجد وترميمها ودراسة طلبات الترخيص ببنائها…، والعناية بالتعليم العتيق، ووضع سياسة التكوين الأساسي للأطر الدينية، تنمية النشاط الثقافي للوزارة من خلال نشر الدراسات والأبحاث والترجمات….

إن إعادة الهيكلة التي خضعت لها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية سنة 2003 قوت من حضور الدولة في الحقل الديني، وجعلت منها الفاعل الأساسي، وذلك من خلال وضعها اليد على المساجد والتعليم العتيق، واستقلالها بوضع سياسة تكوين الأطر الدينية، وتكوين الخطباء والوعاظ والأئمة…

ومما يلفت الانتباه في إعادة الهيكلة هاته؛ التعديل الذي طال المادة 10 من قانون 93، التي كانت تنص على: «ربط العلاقات مع الجمعيات العاملة في الميدان الديني داخل المغرب وكذا مع المنظمات الإسلامية»، واستبدالها في ظهير 2003 بما يلي: «توثيق أواصر التعاون وإقامة علاقات التبادل والتنسيق مع القطاعات والهيئات الوطنية والدولية في إطار السعي لتحقيق أهداف الوزارة»، ويعتبر هذا التعديل مؤشرا على اتجاه الدولة إلى القطع مع سياسة الانفتاح التي نهجتها مع الإسلاميين في فترة التسعينيات من القرن الماضي، والتمهيد القانوني لاحتكار وتأميم العمل الديني في المملكة.

ولم يقتصر هذا التأهيل الذي استفاد منه الحقل الديني على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بل تعداها إلى جل مكونات الحقل الديني تقريبا:

  • المساجد؛
  • – إصلاح التعليم العتيق (29 يناير 2002)
  • – إعادة هيكلة وتنظيم المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية (22 أبريل 2004)؛
  • – إحداث الهيئة العلمية للإفتاء (22 أبريل 2004)؛
  • – تأسيس الرابطة المحمدية لعلماء المغرب (30 أبريل 2004)؛
  • – إطلاق إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم (16 أكتوبر 2004)؛
  • – إطلاق قناة محمد السادس للقرآن الكريم والموقع الإلكتروني لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (2 نونبر 2005)؛
  • – إعادة تنظيم مؤسسة دار الحديث الحسنية (24 غشت 2005)؛
  • – تكوين الأئمة والمرشدات (05- 2006)؛
  • – إحداث المجلس العلمي المغربي بأوروبا (6 نونبر 2008)؛
  • – إطلاق خطة ميثاق العلماء (29 أبريل 2009).

وعموما؛ إن كثافة المبادرات والإصلاحات في المجال الديني التي شهدها العقد الأول من عهد محمد السادس وحجم الإنفاق العمومي الذي واكبها، يدل دلالة واضحة على المكانة المتقدمة التي تحتلها المسألة الدينية في إستراتيجية الحكم في العهد الجديد، فلم يسبق للشأن الديني بمستوياته المختلفة في دولة الاستقلال أن حضي بما حضي به في العشر سنوات الأخيرة. ومن خلال تحليل أولي لرزنامة الإصلاحات الدينية المطبقة في المملكة في هذا العقد يمكن استخلاص العلامات الأساسية لأسلوب محمد السادس في إدماج الوظيفة الدينية ضمن نسيج وظائف الدولة الحديثة التي أرسيت لبناتها الأولى في المغرب مع دخول الاستعمار الفرنسي، ومن أبرز هذه العلامات:

  • الارتكاز على الفصل 19 من دستور 1996م، والفصل 41 من دستور 2011م:

إن كل تدخلات الدولة المغربية في عهد محمد السادس في المجال الديني ارتكزت على هذين الفصلين اللذان يجعلان من الملك أمير المؤمنين، وحامي حمى الملة والدين. وإذا كان الدستور المغربي فصل في صلاحيات الملك السياسية، وأبان في توزيع السلطة بين الملك، والوزير الأول، والحكومة، وبقية المؤسسات السياسية، فإنه فيما يتعلق بالوظيفة الدينية للملك لم يفعل الشيء نفسه، حيث فضل دستور 96 الصمت، وجعل السلطات الدينية ممركزة في يد الملك لا يشاركه فيها أحد، بحيث لا توجد بين المؤسسات الدستورية للمملكة مؤسسة دينية أو لها اختصاص ديني، الشيء الذي حاول تجاوزه نسبيا دستور 2011م، بإشارته إلى المجلس العلمي الأعلى.

وبناءا عليه فوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية هي وزارة سيادة، تمارس المهام الدينية نيابة عن أمير المؤمنين وبتفويض منه، وأمير المؤمنين هو رئيس المجلس العلمي الأعلى وباسمه تصدر الفتوى، ورئيس مؤسسة مسجد الحسن الثاني…

وعموما يشكل الفصلين 19 (دستور 96)، و41 (دستور 2011) من الدستور المغربي مرجعية عليا للتدخل في المجال الديني وصوغ المبادرات في إطاره، بعيدا عن سلطة رئيس الحكومة والحكومة.

2– استعادة المحتوى التاريخي للتدين المغربي: يشكل عهد محمد السادس فيما يتعلق بالمجال الديني، استعادة شبه شاملة لمفردات التدين التاريخي المغربي، في أبعاده العقدية والفقهية والسلوكية، فقبل هذا العهد كان الوعي بالخصوصية المذهبية محدودا، وكانت الإحالة دائما عند الحديث عن الخصوصية المغربية على المذهب المالكي، لكن مع بداية “العهد الجديد” اتسع الأمر، ليشمل العقيدة الأشعرية، وطريقة الجنيد في التصوف. وتجسد مشروع الاستعادة هذا في التشديد على اقتفاء أثر المذهب المالكي في العبادات، حيث عملت الوزارة على تتبع الخروقات المذهبية ومحاربتها في المساجد وأماكن العبادة عموما، وفي الوقت نفسه عملت على إحياء ما اندرس من رسوم المذهب في بعض المساجد، وكذلك العمل الدؤوب من أجل إحياء الحركة الصوفية ودفعها نحو المبادرة العملية في المجالات المختلفة.

وصفوة القول، إن استعادة التدين التاريخي المغربي في الظرف الراهن له دلالتين رئيسيتين:

الدلالة الأولى: وتتمثل في كون الاختيار المذهبي المغربي بمستوياته المختلفة، كما جسدته التجربة التاريخية غني بمعاني وقيم التوسط والاعتدال، والتسامح والقبول بالآخر، والسلم…، ومغذي لها، وهي قيم مهددة في عالم اليوم، وتنافسها بشدة قيم التطرف والغلو والعنف والإقصاء…، وبالتالي استعادة المذهبية المغربية والحالة هاته هي بطريقة غير مباشرة استعادة للقيم التي تنضح بها، وهي شكل من أشكال النزول الاضطراري في الماضي والاستعانة به بمعالجة آفات الحاضر.

الدلالة الثانية: تعتبر استعادة التدين التاريخي المغربي نوعا من الاحتماء بالخصوصية وحماية لها في الآن نفسه، في عصر اشتد فيه القصف الإعلامي والثقافي للخصوصيات بمظاهرها المختلفة، وفي زمان العولمة الثقافية، وارتفاع الحواجز أمام الأفكار والقيم.

4- إعطاء الأولوية للتأطير: من الأولويات الأساسية لمشروع تأهيل الحقل الديني في المملكة في العشر سنوات الأولى من حكم محمد السادس استعادة المبادرة الرسمية في مجال التأطير الديني، فتقريبا كل المبادرات استهدفت إعادة تعبئة المواطن المغربي تعبئة دينية جديدة، على أساس توحيد نمط التدين ومراجعه، بدءا بإصلاح وزارة الأوقاف وتعزيز قدراتها التأطيرية، وإعادة تنظيم المجالس العلمية، وانتهاء بخطة ميثاق العلماء…

5– الهيمنة على الحقل الديني: لقد واكبت عملية إصلاح وتأهيل الحقل الديني نزول مجموعة من القوانين والتشريعات همت مجالات مختلفة من الشأن الديني كالمساجد، والتعليم العتيق، والوعظ والإرشاد، وتعيين الأئمة والخطباء والقيمين الدينيين، والفتوى…، ملأت مساحات الفراغ القانوني الذي كان يطبع هذا المجال، حيث كان ينشط المجتمع والحركات الإسلامية.

ويشكل هذا النمو الفجائي في المنظومة التشريعية التي تؤطر المجال الديني علامة وصول منطق الدولة الحديثة إلى المجال الديني ولو متأخرا.

6- الحداثة والتنمية: إن إعادة تأهيل الحقل الديني في عهد الملك محمد السادس لم تستهدف فقط حل إشكاليات التطرف والغلو والخروج عن المنهج الوسط من الناحية العقدية والفقهية والسلوكية، ولكن استهدفت أيضا إدماج الفعالية الدينية في دينامية التنمية والبناء الحضاري، وتجسد هذا الأمر بوضوح في مبادرة تطوير وظيفة المسجد وإدماجه في التنمية من خلال برنامج محاربة الأمية في المساجد، والعناية بالمرأة العالمة، التي أصبحت حاضرة في كل مبادرات التأهيل تقريبا، في المجلس العلمي الأعلى، والمجالس العلمية المحلية، وبرنامج تكوين الأئمة والمرشدات…

كما أن النهج التحديثي الذي تبنته الدولة في مقاربة قضايا الشأن الديني من حيث الشكل والمضمون توخا درأ التعارض بين الحداثة بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية… والدين، فإذا كانت الكثير من التيارات الدينية ومظاهر التدين تبدو في كثير من الحالات خصما عنيدا لما استقر من مظاهر الحداثة، فإن الرسالة الضمنية لكل مؤسسات الحقل الديني الرسمي هي التوفيق بين الأمرين.

خاتمة واستنتاج

إن الجهود التي بذلها المغرب في اتجاه إدماج الدين في السياسة، والتخلص من الجوهر العلماني للدولة الحديثة، أدت في النهاية إلى بناء دولة إسلامية حديثة، يتكامل فيها الدين مع السياسة، ولا يتصارعان.

وقد تتبعنا – لبيان هذا الأمر – تطور الوظيفة الدينية في الدولة المغربية، التي يستقل بها الملك باعتباره أميرا للمؤمنين، منذ الاستقلال وإلى الآن، وقد لاحظنا في هذا السياق تأخر الاهتمام التحديثي بهذه الوظيفة مقارنة بالوظائف الأخرى، ويرجع سبب ذلك من جهة إلى أن معظم الصلاحيات الدينية كانت من اختصاص المجتمع ومفوضة له، وبالتالي كان أداء هذه الاختصاصات في الغالب تقليديا تبعا لحالة المجتمع، ومن جهة ثانية افتقار الدولة الحديثة التي أقر أسسها الاحتلال الفرنسي للعنصر الديني نظرا لنسبها العلماني.

وتعتبر سنة 1961 الانطلاقة الفعلية لمشروع تحديث الحقل الديني في المغرب، وإدماجه في بنية الدولة الحديثة حيث شهدت هذه السنة إنشاء وزارة الشؤون الإسلامية، التي أسندت لها مجموعة من المهام الدينية وفي مقدمتها الإرشاد الديني وتوجيه المعاهد الدينية والفتوى…، وستزداد جرعات التحديث مع توالي السنين وبروز جملة من التحديات الدينية، ويعد تأسيس المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الإقليمية سنة 1981 أبرز مظاهر تحديث الوظيفة الدينية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني. وفي مقابل هذه الوجوه التحديثية على الصعيد السياسي بقي المجتمع موفيا بالتزاماته الدينية، حيث استمرت المدارس والمعاهد العتيقة في تخريج الأئمة والقيميين الدينيين بتمويل من الأوقاف الخاصة بهذه المدارس، أو من خلال مساهمات تكافلية بين أفراد “الجماعة”، وظهرت مجموعة من الحركات الإسلامية والجمعيات المدنية نشطت في هذا الهامش الواسع الخارج عن الدولة، واشتغلت بالتأطير والدعوة.

غير أن مستجدات نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة، والتي تزامنت مع اعتلاء الملك محمد السادس عرش أسلافه في المغرب دفعت الدولة إلى الاهتمام أكثر بوظيفتها الدينية وزيادة جرعات التحديث، وقد تجسد هذا الأمر في استكمال بناء الصرح المؤسساتي لإمارة المؤمنين التي تمثل رمزيا وعمليا الاختصاص الديني في بنية الدولة، وتجسد هذا الزخم التحديثي في العديد من المبادرات غطت سائر مناحي الحياة الدينية: التأطير، والتكوين، والمعرفة…

فالدولة المغربية الحديثة بعد تنفيذ معظم خطوات هذا البرنامج التأهيلي والإصلاحي للحقل الديني تخلصت من إعاقة وظيفية خطيرة صاحبتها منذ تأسيسها الحديث، واستطاعت استيعاب الدين تحت عباءتها، وهو ما جعلها دولة إسلامية حديثة ونموذجية بكل المقاييس.

[1]  انظر رسالة للزعيم علال الفاسي إلى العاهل المغربي الحسن الثاني في دجنبر 1961، نشرت في الجريدة الرسمية للمملكة إلى الظهير المحدث لوزارة الشؤون الإسلامية، 2566، 29 دجنبر 1961، ص. 3338.

[2]  انظر الظهير الشريف الصادر بالجريدة الرسمية، العدد المزدوج: 101، 102،أبريل 1915، ص. 112.

[3]  الظهير الشريف الصادر بالجريدة الرسمية عدد 2359، الصادر ب 10 يناير 1958، ص. 81.

[4]  القرويين هو جامع وجامعة قديمة تأسس سنة 245 هـ الموافق ل 859م بفاس أيام حكم الأدارسة للمغرب، ومنذ ذلك التاريخ وإلى يومنا هذا تعقد فيه مجالس العلم والدراسة، وقد كان منارة من منارات العلم البارزة في الغرب الإسلامي في العصر الوسيط، وبلغت شهرته الآفاق. وهو اليوم جامعة مستقلة تدرس أصول الدين والعلوم الشرعية.

[5] محمد طوزي، الإسلام والدولة في المغرب العربي، م. س. ص. 29.

[6]  الظهير الشريف رقم: 1.61.190، المنظم لوزارة الدولة المكلفة بالشؤون الإسلامية، الصادر بالجريدة الرسمية 29 دجنبر 1961.

[7]  ريمي لوفو، الإسلام والتحكم السياسي في المغرب، م. س. ص. 169.

[8]  ظهر حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إثر انشقاق في حزب الاستقلال سنة 1959، ومن أشهر زعمائه المهدي بن بركة. وفيما يتعلق بموقفه من الدستور، كان يعارض معارضة شديدة المنهجية التي سلكها العاهل المغربي الحسن الثاني لإقرار دستور للمملكة، حيث كان يطالب بمجلس تأسيسي للدستور، منتخب، تمثل فيه كل القوى الشعبية، وأيضا كان يناضل من أجل الحداثة السياسية والقطع مع نزعات المحافظة والتقليد في المجال السياسي وبالدرجة الأولى على مستوى الدستور.

[9]  ريمي لوفو، الإسلام والتحكم السياسي في المغرب، م. س. ص. 169، 170.

[10]  من رسالة للزعيم علال الفاسي إلى العاهل المغربي الحسن الثاني في دجنبر 1961، نشرت في الجريدة الرسمية للمملكة إلى الظهير المحدث لوزارة الشؤون الإسلامية، 2566، 29 دجنبر 1961، ص. 3338

[11]  الظهير الشريف المنظم لوزارة الشؤون الإسلامية، م. س. ص. 3339.

[12]  نفسه، ص. 3340.

[13]  انظر نص الظهير الصادر في 8 نونبر 1993 في شأن اختصاصات وتنظيم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالجريدة الرسمية، عدد 4236، 5 يناير 1994، ص. 23.

[14]  رسالة علال الفاسي إلى الحسن الثاني بمناسبة تعيينه وزيرا للشؤون الإسلامية، م. س.

[15]  الظهير الشريف رقم 1.03.193 الصادر في 4 دجنبر 2003.

محمد جبرون

باحث مغربي، وأستاذ جامعي متحصل على الدكتوراه في التاريخ، له مجموعة من االمؤلفات ولأبحاث والدراسات، من بينها "الفكر السياسي بالمغرب والأندلس في القرن الخامس الهجري؛ فصول من تاريخ المغرب والأندلس"، "المقاصد في الفكر الإصلاحي الإسلامي، إمكان النهوض الإسلامي"، "الإسلام والحداثة "..الخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى