الدراسات

“فتور الشريعة” لأحمد عاطف أحمد

قراءة في كتاب

أما قبل،

فتعد مهارة قراءة في كتاب من الأمور التي لا تخضع لمنهج صارم، ولكنها تفتح دائما فسحة أمام القائم بها وتوفر له حيزا للإبداع في قراءته إذا لم يكن من دعاة التقليد. وفي النهاية فإن محصلة هذه المهارة تعد شكلا من أشكال النقد في الكتب التي يتم تحليلها على أساس المحتوى والأسلوب والجدارة. ومن ناحية ثانية فهي ليست تقريرا ولا ملخصا، بل تتعدى هذين الشكلين إلى تحليل مضامين الكتاب وإبراز مواطن القوة والضعف فيه من خلال كشف النقاط الجوهرية في عمل صاحبه، والأهداف التي سعى إلى تحقيقها، وتقييم مدى نجاحه في مسعاه. كل ذلك عن طريق العرض الجيد وتقديم الحجج والأدلة المؤيدة والتعليق عليها.

وفي اعتقادنا، فإن هذا الأمر لا يتأتى إلا لقارئ متمرس يمتلك من الخبرة في التعامل مع النصوص الشيء الكثير، ويتمتع بقدر كاف من الإلمام بالقضية أو القضايا التي يتناولها الكتاب الذي يقوم بقراءته في مجال من المجالات.

وبناء على ما تقدم؛ فإنني لا أزعم أنني أقدم هاهنا قراءة في كتاب بالمعنى المذكور أعلاه، فكل ما أعرضه في هذه الورقة لا يتعدى أن يكون محاولة لتقديم الكتاب إلى القارئ، من خلال إضاءة موضوعه، وعرض لمحتوياته، وتحديد للإشكالية التي يتناولها، مع بعض الملاحظات التي قد لا ترقى إلى مستوى تقييم وتقويم الكتاب، مما يعني أن هذه القراءة لا تلزم أحدا سوى القائم بها، ولا تعفي أحدا من العودة إلى الكتاب وقراءته قراءة خاصة.

تمهيد

لقد عرف العالم الحديث تطورات متسارعة، يصعب على الإنسان حتى وصفها، وعرف تحولات جذرية في منطلقات الإنسان المعاصر الفكرية وتصوراته المنهجية، وممارساته النقدية، في مختلف مجالات الحياة، وذلك راجع بالأساس إلى تطور التفكير البشري، وتقدم البحث العلمي، فتواترت المعارف الإنسانية تترا بشكل لم تعرف له نظيرا من قبل، وتعقدت مجالاتها إلى الحد الذي يجعلها غامضة، مستعصية على التحديد والفصل بينها.

وكان للمجتمعات الغربية قدم السبق إلى هذه التحولات، وامتلكت من القدرات المادية والفكرية ما يؤهلها إلى مواكبة هذا التغير المتسارع لمستوى تقدم العالم. في حين أن المجتمعات المسلمة يبدو أنها لا تزال متخلفة عن مواكبة هذا الركب. وقد أدت هذه الوضعية التي تعيشها هذه المجتمعات إلى انبثاق السؤال الكبير والمؤرّق : لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟

وأسفرت محاولة الإجابة عن هذا السؤال عن ثلاثة اتجاهات بارزة، أولها يمكن أن نسميه بالاتجاه السلفي الذي يرى بأن آخر هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها. والثاني يمكن نعته بالعلماني، ويرى بأنه لا مناص من فصل الدين عن الدولة والأخذ بالأسباب التي أخذ بها الغرب لتحقيق ما حققوا، والثالث ظل بين الموقفين يقدم رجلا ويؤخر أخرى.

ولعل الحمل الأثقل من تبعات هذا الوضع يلقى على كاهل الشريعة الإسلامية، التي تجد نفسها في وضع المتهم، فحتى الذين لم يعتبروها سبب التأخر يطرحون عليها سؤال كيفية تعاملها مع هذه المستجدات المتسارعة لهذا العصر، فهل نخضع العصر للشريعة أم الشريعة للعصر، وبمعنى آخر هل نؤسلم العصر، أم نعصرن الإسلام؟ وهذا سؤال إشكالي ليس من السهل الحسم في الجواب عنه.

ومن تحت هذا السؤال العريض انبثقت مجموعة أسئلة أخرى، ولعل واحدا من أهمها هو ذلك المتعلق بمدى قدرة الشريعة الإسلامية على الصمود في ظل هذا الوضع الذي أصبح يتسم بطابع العالمية؟ وبصيغة أخرى هل يمكن أن نتحدث عن فتور الشريعة أو اندراسها، ولا سيما في العصر الراهن؟ وهذا هو السؤال الذي شكل مدار كتاب فتور الشريعة للدكتور أحمد عاطف أحمد.

بين يدي الكتاب

النسخة التي نشتغل بها هي ترجمة للدكتور طلعت فاروق، ومراجعة الدكتور سعيد فارس حسن، من منشورات الشبكة العربية للأبحاث، ببيروت، في طبعتها الأولى الصادرة سنة 2017.

يصرح الباحث منذ مفتتح بحثه أنه يدحض أطروحة موت الشريعة، وربما هذا هو ما دفعه لاستعمال مصطلح “فتور”، بدلا من “موت”، وتعتبر قضية “فتور الشريعة” من القضايا الضاربة في القدم في التراث الإسلامي، لذلك فهي ليست من ابتداع الكاتب، وإنما يعالجها انطلاقا من آراء علماء القرون الوسطى فيها، وقد اعترف باستفادته من كل الذين ساهموا في هذا النقاش وعلى رأسهم علماء العقيدة والفقه من المعتزلة، والأشاعرة، والحنابلة، آخذا – على المستوى المنهجي – من كل طرف ما يأتي :

من المعتزلة : عدم المبالغة في تقدير أهمية بعض التفسيرات للنصوص الشرعية في أي زمان. ومن الأشاعرة : الصيغة الدينية التي تؤمن بأن التغيير قوة فاعلة في التاريخ مثلها مثل عامل الاستمرارية، ومنه فحتى المبادئ الإلهية ربما لا تبقى متاحة عبر الوسيلة المعتادة، وهي العلماء والمجتهدون. ومن الحنابلة : المسؤولية الفردية للمرء لا يمكن أن تغفل أثناء أو بعد فترات وجود الهياكل (المؤسسات) الدينية القوية، مثل المذاهب.

ويعزي الباحث الاهتمام بهذا الموضوع إلى الإشارات التي وجدها عند ابن بهادر الزركشي الأشعري الشافعي المتوفى في نهاية المائة الثامنة للهجرة “حول خلو الزمان من المجتهدين”، وهذا الخلو هو تعريف الأشاعرة لفتور الشريعة.

ويسطر مجموعة من الأفكار التي يعدها أصولا ينطلق منها في مناقشة هذه القضية، وهذه الأفكار ثلاثة على النحو الآتي :

1- أن من أنشأ المذاهب الأولى يقدر على إنشاء ما هو مثلها.

2- أن أصلي العقل والعرف اللذين يمكن البناء عليهما ما زالا قائمين صالحين لاستخراج أحكام وأفعال تناسبهما في هذا الزمان والزمن المستقبل.

3- إن القول بأن المذاهب الأولى هي كل الشريعة لا معنى له.

ويبدو أن هذه الأصول كلها تصب في اتجاه دحض دعوى موت الشريعة الذي عبر عنه الكاتب في البداية.

إن السؤال السابق يأخذ عند الباحث صورا متعددة، ومن بينها هذه الصيغة : هل يمكن للشريعة الربانية أن تندرس[1] في مرحلة معينة؟ ويقدم ثلاثة أجوبة في شكل افتراضات على النحو الآتي :

1- نعم : لقد حدث هذا بالفعل، فالوحي قد صار بالفعل مقطوعا عن الحياة العصرية.

2- لا : لم تندرس المعرفة ولا الالتزام بالوحي، ولكن ربما يندرسان في المستقبل القريب.

3- لا : لن يحدث هذا مطلقا، لأن الله لن يهمل البشرية.

إن هذه الأجوبة تعني بالدرجة الأولى الشريعة الإسلامية، ومعنى ذلك أن السؤال المركزي الذي يشغل بال الباحث هو مصير الشريعة الحالية ومكانتها من منظور المسلم. وهذا يمنح صيغة ثانية للسؤال وهي : هل يمكن للبشر أن يعيشوا في عالم تغيب فيه الشريعة الربانية؟ ويترتب على الجواب بنعم سؤال ثان ملازم له، وهو في هذه الحالة ما الذي على المؤمن فعله؟ وهذان هما السؤالان اللذان تنبني عليهما إشكالية الكتاب.

ولكن السؤال عن اندراس أو فتور الشريعة تسبقه أسئلة ممهدة من قبيل : كيف يمكن للمرء أن يعرف أن الشريعة قد اندرست؟ هل نعيش حقا في عالم فتور الهدي، فتور الأحكام الربانية؟ فتور الشريعة؟

إن الباحث، وهو يعالج قضية فتور الشريعة في العصر الحالي، يعود إلى النقاشات القديمة حول هذا الموضوع، ولا سيما نقاشات القرون الوسطى، جاعلا من مبدأ “أن النقاش القديم حول الشريعة مفيد في النقاش الحالي لها” أحد أبرز منطلقاته البحثية. فكيف سيبلور هذا المبدأ عبر مراحل الكتاب وفصوله؟

بنية الكتاب

يقع الكتاب في أربعة أقسام، وكل قسم يتكون من فصول، وبلغ مجموع الفصول عشرة، القسم الأول ورد تحت عنوان “مبادئ عامة”، وتفرع إلى ثلاثة فصول، يركز الأول والثاني على محاولة بيان أنه لكي نفهم النقاش حول مصير الأحكام الربانية بدرجة كاملة، لابد من تقسيم هذا النقاش إلى مباحث متعددة. أما الفصل الثالث فيعالج المصطلح الأساس الذي يزيد من درجة تعقيد المسألة وهو مصطلح “الاجتهاد”.

أما القسم الثاني فمعنون بـ“مجتهدون وغير مجتهدين”، ويضم ثلاثة فصول تعرض المواقف المتبناة في هذا النقاش ، التي كان الفقهاء في القلب منها.

وفي القسم الثالث المعنون بـ“الحداثة ومسائلها”، فصلان يعالجان وضع تصور للشريعة من دون التأكيد الشديد على المذاهب، وكيف تؤثر إضافة عناصر الإمامة والمجتمع على النقاش في معادلة قوة الشريعة وضعفها.

وأما القسم الرابع والأخير فعنوانه “بعد الحداثة”، وتحته فصلان، يناقش فيهما الباحث الآراء الحديثة التي ترى بأن الشريعة ربما تكون قد صارت بالفعل علما ضائعا، أو تراثا مفقودا.

وقبل هذه الأقسام، تقديم، وتوطئة، ومقدمتان إحداهما للطبعة العربية، والأخرى للإنجليزية، ويختتم الكتاب بخاتمة ولائحة للمراجع العربية والأجنبية.

القسم الأول : مبادئ عامة

ما المقصود بفتور الشريعة عند القدماء وفي عصرنا الحديث؟ حول هذا السؤال تتمحور فصول هذا القسم. إذ يعرض الباحث في البداية كيف عرف القدماء مسألة “فتور الشريعة”، وكيف نظروا إليها. فالمتكلمون والفقهاء الأشاعرة عرّفوا فتور الشريعة بخلو الزمان من الفقهاء المؤهلين للاجتهاد، وناقشوا هذه القضية عبر هذا السؤال : “ماذا يحدث حين تشهد الشريعة فتورا، أي حين يخلوا الزمان من المجتهدين؟ أما المعتزلة والحنابلة فطرحوا استحالة حدوث فتور الشريعة، لكنهم اختلفوا حول معناه.

واختلف علماء العصور الوسطى حول الإجابة وحول كيفية توصيف السؤال؛ فبعضهم يرى أن القضية افتراضية محضة لا غير، بينما رأى آخرون أنها مسألة واقعية ولها تطبيقاتها المهمة.

ومن خلال هذا العرض يخلص الباحث إلى نتيجة يعتبرها مهمة مفادها “أن أي نقاش يشأن كون الشريعة لا تزال حية أو قائمة أم لا، يعتمد على أدوات العصور الوسطى وطريقة استخدام الدراسات الحديثة لهذه الأدوات في تطبيقاتها المعاصرة”[2]، غير أن عودة الباحث إلى هذه المناقشات لا يعني – بحسب رأيه- أن يكون عمله مجرد سرد تاريخي، بل إن  وكده منصرف إلى التعليق عليها. كما أن هذا النقاش عليه أن يأخذ بعين الاعتبار التمييز بين مفهوم “خلو الزمان من المجتهدين، وغياب المجتهدين عن مكان ما وليس عن العالم بأسره في عصر ما”.

بعد ذلك يعمد إلى تناول مصطلح “فتور” وينطلق من الدلالة اللغوية، ذلك أن الماء يوصف بالفتور حين لا يكون ساخنا ولا باردا، وحين يوصف الشعر بهذا الوصف فإنه يكون فاقدا للحيوية والصنعة، وأما الدلالة الاصطلاحية فظهرت مع الأشاعرة، وهي “خلو الزمان من المجتهد”. وقد أفرز اختلافهم حول معنى “الفتور” آراء متباينة؛ فمنهم من اعتبره الانقطاع التام عن الشرع، وبالتالي قطع بعدم حدوثه لأن ذلك سيكون بمثابة محو تام للذاكرة الجمعية، وميز آخرون بين التطبيق العادي لمجموعة من الأحكام والاعتماد الانتقائي على مجموعة منها، ورأى بعضهم بأن فتور الشريعة لا يستتبع تعارضا مع العدل الإلهي، بل ربما يكون نافعا للبشر.

ويرجع الباحث أصل هذا النقاش إلى المرحلة التي تطور فيها كل من علم الكلام وعلم أصول الفقه باعتبارهما حقولا معرفية مستقلة؛ إذ برزت أربعة أسئلة وهي :

1- هل العقل غير المؤيد بالوحي قادر على الوصول إلى أحكام قطعية للمسائل الأخلاقية والشرعية؟

2- هل يظل شرع من قبلنا شرع لنا بعد نزول الوحي المحمدي، الذي هو الرسالة الخاتمة؟

3- هل من الممكن أن يسكت الشرع عن مسألة ما؟

4- هل هناك احتمال أن تكون الشرائع السابقة للشريعة المحمدية قد شهدت فتورا أو انطماسا، وما الذي يجب أن يحدث حينئذ؟.

وهذه الأسئلة تنبني عن قضايا محل خلاف على النحو الآتي :

أ- الخلاف حول العقل غير المؤيد بالوحي

يستعرض الباحث آراء كل من المعتزلة  والأشاعرة في هذه المسالة؛ فالمعتزلة يمنحون العقل دورا في استنباط وتقرير الأحكام الشرعية والأخلاقية قبل الوحي وبعده، وأما الأشاعرة فيعتقدون بأن العقل غير المؤيد بالوحي قادر على إدراك الحسن والقبيح من الأفعال، لكن السؤال عندهم يتعلق بكيف يمكن للمرء التأكد من أن الله سيثيب العبد أو يعاقبه من دون إرسال رسول بوحي منه. بعد ذلك يخلص الباحث إلى أن محل الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في هذه القضية ليس في قدرة العقل غير المؤيد على تمييز القبيح من الحسن، ولكن خلافهم حول تبني اعتقادات بشأن الثواب والعقاب المبني على حدوث هذه الأفعال.

فالمعتزلة كانوا يرون أن الوحي ليس هو الطريق الوحيد لإدراك الناس الفرق بين الحسن وما دونه، لذلك فإنهم يرون أنه في حالة خلو الزمان من الشريعة يلجأ  الناس إلى فكرة العقل غير المؤيد. أما الأشاعرة فأعربوا عن عدم قدرتهم على تقديم جواب كامل عن كيفية معالجة غياب الشريعة.

ب- الخلاف حول باقي الشرائع

بخصوص هذه النقطة يقسم الباحث الآراء على النحو الآتي : فبعض الأصوليين من أهل السنة يرون أنه من الواجب على المسلم اتباع الشرائع السابقة للشريعة المحمدية بشرطين، أولهما أن تكون هذه الشريعة غير منسوخة بالقرآن أو بالسنة، والثاني أن تكون ورد ذكرها في القرآن والسنة.

ج- الخلاف حول سكوت الشرائع السماوية

يرى الباحث بأن السؤال حول إمكانية وجود فراغ في الشريعة خلال مسيرتها الطويلة أمر خلافي، ويحوّل السؤال بطريقة أخرى وهي : هل الشريعة تتضمن إجابات عن كل الأسئلة؟ وهل هي قادرة على تصنيف كل أفعال العباد وفقا للأحكام الفقهية المعروفة. ويذكر بأن الإجابة السنية تقتضي أن الشريعة لا يمكن أن تسمح بحدوث فراغ، ودليلهم في ذلك قوة دليل القياس، الذي يقصد منه “تغطية النطاقات الظاهرة التي خلت منها الشريعة من خلال توسيع مدى أحكامها الظاهرة لتشمل تلك النطاقات التي تبدو الشريعة ساكتة عنها”[3].

د – الخلاف بخصوص فتور الشرائع

يستحضر الباحث رأي الكعبي المعتزلي الذي يرى استحالة حدوث فتور الشريعة تطبيقا لمبد الإيمان بوجوب الأصلح على الله، ثم جاء الجويني فأبطل هذا الرأي وبمرور الوقت أقر الأشاعرة بجواز فتور الأحكام الشرعية بمرور الزمن.

بعد ذلك ينبه الباحث إلى أن المشكلة الكبرى المتعلقة بقضية فتور الشريعة هي تلك المتعلقة بكيفية معالجة غياب الشريعة أو خلوها من الأحكام، ويرى بأن المسألة تستدعي حلين هما :

أولا :  العودة إلى العقل غير المؤيد، وهو جواب كثير من المعتزلة والأشاعرة.

ثانيا : الإحالة إلى الذاكرة الحافظة للشريعة استنادا إلى الأصول.

أما الحنابلة فيرون أن هذه المسألة يمكن أن تقع في آخر الزمان، وهناك لن يكون متسع من الوقت لفعل أي شيء.

وأما بخصوص زماننا فإن الباحث يرى بأن أقوى الأقوال هو القول بأن الشريعة فقدت حضورها المتماسك في العصر الحديث، ويستند أصحاب هذا الرأي إلى حجتين : أولاهما هي وجود قطيعة مع الاجتهادات السالفة، والثانية هي وجود ثغرات في أحكام الشريعة.

نظرية الاجتهاد

أشار الباحث في مستهل حديثه عن هذه النقطة إلى درجة تعقد البحث في هذا المصطلح الذي أجهد الفقهاء والمؤرخين للفقه السني بالنظر إلى مرونته. ويقدم تعريفه للاجتهاد بأنه “القدرة على استفراغ الوسع لاستنباط الحكم الشرعي”[4].

وحول هذه النقطة ذكر أن الأشاعرة يربطون خلو الزمان من المجتهدين بفتور الشريعة ويساوون بينهما، بعد ذلك يثير الباحث سؤالا يطرح نفسه على الذين يريدون الخوض في هذا النقاش، وهو : هل يجب علينا أن نتقيد بمناقشة المعنى القديم للاجتهاد كما يفهمه هؤلاء الذين يرون في المجتهدين ممثلين للشريعة، أم يجب علينا المضي قدما وترك المجتهد القديم لزمانه والذي يختلف بالتأكيد عن زماننا؟

ثم يطرح سؤالا آخر وهو كيف يكون من الصواب أن القاعدة الأسمى التي ينبغي ألا تحيد عنها الشريعة هي نصوص القرآن والسنة؟ وأن هذه النصوص غير كافية لتقديم هيكل أساسي لتلك الشريعة نفسها؟

ثم يختم بخلاصة مفادها التأكيد على أن الفراغات الموجودة في أي نظام فقهي لا تدل بذاتها على فشل هذا النظام في التمدد إلى هذه المسائل المسكوت عنها، ما دام هذا النظام يحتوي على مبادئ يمكن تطبيقها في هذه المسائل.

نسبية الاجتهاد وفتور الشريعة

الحديث عن هذه النقطة دفع الباحث إلى طرح سؤال، هو هل نسبية الاجتهاد تعني نسبية الشريعة؟ ثم استعرض ثلاثة اعتراضات عن ذلك، وهي أن بعضهم يؤكد أن الشريعة والفقه غير متطابقين، وأن عدم اليقين بالنسبة إلى الأحكام لا يعني أنها نسبية، وأن الإجماع يجعل بعض الأحكام دائمة وجازمة.

وفي نهاية القسم الأول سطر الباحث بعض النقاط يمكن أن نعتبرها خلاصات لهذا القسم، وهي أن الحجج التي قدمها الكعبي المتكلم المعتزلي والأصوليون الحنابلة لرفض أطروحة فتور الشريعة تستشهد بعدل الله بين خلقه والذي يوجب قدرا أساسيا من العلم به وبكيفية عبادته، وبالتالي لا يمكن للشريعة أن تندرس، وأما جمهور الأشاعرة فيجيز ذلك معتبرا أن غياب مصدر لهداية الخلق لا يتعارض مع عدل الله، وبالتالي فحين تشهد الشريعة فتورا فلا يتوقع من الناس أن يفعلوا المستحيل؛ أي أن يطلبوا نصح مجتهدين غير موجودين، بل عليهم بذل وسعهم فقط.

القسم الثاني : مجتهدون وغير مجتهدين

يستهل الباحث مطلع هذا القسم بطرح سؤال جعله عنوان الفصل الرابع، يتعلق بالشق الثاني من قضية “فتور الشريعة” التي يدور حولها مجموع الكتاب، وهذا السؤال هو : ماذا لو نسينا الشريعة؟ ويشير إلى أن النقاش حول هذه المسألة بدأ مع القرن الرابع الهجري، وبنهاية القرن الخامس تشكلت ثلاثة آراء، وينعت هذه المرحلة بالمرحلة التقليدية التي استمرت إلى حدود 1250هـ، ثم بدأت مرحلة جديدة من النقاش استهلت بكتابات الشوكاني (1250هـ). فما الذي حدث خلال الفترة التقليدية وأدى إلى تطور النقاش حول فتور الشريعة؟

يرى بأنه كان هناك رأيان، الأول يقول بأنه ليس هناك دليل عقلي أو نقلي على ديمومة حيوية الشريعة؛ أي أن هذه الأخيرة قد تشهد فتورا بالفعل. والثاني ينسبه إلى الكعبي المعتزلي الذي يقول بأن الله لن يسمح بفتور الشريعة، وينكر كون التاريخ قد شهد انقطاعا للوحي. كما يعرج على رأي الشيعة الذين يرون أن الإمام يجب أن يكون معصوما، وفي عصمته هاته حل لمسألة وجود العدل الإلهي من خلال ممثل الوحي.

ويعقب على هذه الآراء قائلا بأن خلو أزمنة معينة من الأنبياء قد حدث دون أن يتعارض مع العدل الإلهي، فهي لم تكن تامة حيث شهدت وجود آثار لوحي سابق، ويعتبر أن الأمر يتعلق بحالات مرض لا موت، ومعلوم أن الموت والمرض ليسا واحدا عند الناس.

وفي الفصل الخامس يطرح الباحث سؤالا آخر، وهو : هل من المحتمل أن تندرس الشريعة بعد العلم والعمل بها – بأحكامها، وتفسيراتها، وحججها- لمدة من الزمن الطويل؟

في حالة خلو الزمان من فقهاء الشريعة فإن الناس سيعيشون حالة من الجهل بشرع الله، ويرجع الباحث انقراض الفقه واندراسه لعوامل مختلفة منها : خلو الزمان من المجتهدين الذين يعلمون الناس الشريعة وأحكامها، وإنكار الناس لسلطانها، ولاحظ بأن القضية متعلقة بمنحيين أولهما هو هل يمكن انقراض علماء الشريعة؟ والثاني هو هل تزول قوة الشريعة الوجودية وقابليتها للتطبيق إن حدث ذلك (انقراض العلماء)؟

ويذكر بأن بعض العلماء أجابوا بالنفي عن الشق الأول، وبالتالي أعرضوا عن السؤال الثاني. أما الزركشي فيرى بأنه يجوز اندراس الشريعة بعد مرور زمن طويل، وأنه لا دليل على بقائها ولا دليل على اندراسها، فكلاهما جائز. ثم ينطلق إلى مناقشة السؤال الآخر، وهو كيف يعيش العوام حياتهم في ظل غياب الهدي الشرعي والأخلاقي؟

أنكر جمهور الأشاعرة فكرة المعتزلة بأن العقل – مستقلا عن الشرع- قادر على استنباط تكاليف الشرع التي تحمل وجوبية الشريعة السماوية. ويقول الأشاعرة بفتور الشريعة لكنهم لا يقبلون بشرع بعدها قبل نهاية الزمان، وبالتالي فإن فتور الشريعة عندهم معناه حياة بدون أحكام مستندة إلى الشرع.

وأما الجويني (ت 478 هـ) فيرى بأن مسألة اندراس الشريعة ذات شقين؛ أولهما متعلق بخلو الزمان من الفقهاء العالمين، والثاني متعلق بزوال سلطانهم، لأن حياة أي شرع تعتمد على عنصرين هما الشرع، والأفراد الملتزمين بهذا الشرع. ويرى بالتالي أن الزمان قد يخلو من الفقهاء.

يعمد الباحث إلى حديث قبض العلماء[5]، فيعلق من خلاله على ما سلف ذكره معتبرا إياه نبوءة قاطعة في إثبات التنبؤ بفتور الشريعة. ثم يعود لرأي الحنابلة في مسألة فتور الشريعة ويذكر أنه هو رأي المعتزلة نفسه، وهو أنه لا معنى للتفكير في فتور الشريعة، وأن أفضل جواب عن سؤال ماذا يحدث لو اختفى المبلغون عن شرع الله؟ هو أنه ليست هناك إجابة لأن ذلك لن يحدث. وبالتالي فالحنابلة يقبلون بعدم فتور الشريعة لكنهم يختلفون عن المعتزلة في فرضياتهم المتعلقة بالعدل الإلهي وبقاء العقل كأداة لمعرفة الخير والشر. والاجتهاد عندهم ليس الرجوع إلى العقل وحده، ولكنه يعني القدرة على الاستدلال العقلي في إطار ثوابت الوحي الإلهي. لأن العقل في رأيهم يهتدي بالشرع.

يناقش الباحث رأي الحنابلة القائل بان الله لن يترك المسلمين دون هداية في المستقبل، بهذا التساؤل : ألا يمكن على الأقل بأن الله قد فعل ذلك بالأمم السابقة قبل أن ينزل الشرائع؟ لقد أنكروا ذلك واحتجوا بقول الجاحظ (بوجود بعض العلماء في كل أمة في أي عصر)، وأن علم الأمة المحمدية بشرعها سيبقى. ويخلص إلى نتيجة هذا الرأي، وهي أن العلم بالأحكام الربانية نفسها سيبقى، بوجود العلماء أو من دون وجودهم. ويورد استشهادا على هذا الرأي لفقيه حنبلي هو أبو يعلى الفراء (ت458هـ) الذي يقول بأن البشرية لم تشهد حياة قبل ورود الشرائع، مبررا ذلك بأن الله أول ما خلق آدم أمره ألا يأكل من الشجرة المحرمة، وبالتالي فالقول بما حكمها قبل ورود الشرائع باطل.

ثم أشار إلى أن كثيرا من الذين أيّدوا الحنابلة في رأيهم شدّدوا على كون الشريعة التي تستلزم كثيرا من الانخراط من جانب أتباعها محميّة بأكثر من علمائها، أي أنها محمية بهؤلاء الملتزمين بها. وقد أيد هذا الموقف من الأشاعرة ابن دقيق العيد. ومن المؤيدين كذلك من غير الحنابلة الشاطبي الذي بنى موقفه على التمييز بين هذه الشريعة والشرائع الأخرى.

وحجة الشاطبي تدور حول محورين : الأول هو الآية القرآنية[6]، والثاني تجريبي واقعي يظهر حالة الاهتمام المتزايد بتعلم أصول الشريعة. وقد خلص الشاطبي إلى أن البحث في فتور الشريعة لم يكن مهمة ضرورية، ولا يستحق أكثر من التجاهل.

القسم الثالث : الحداثة ومسائلها

يشير الباحث في هذا القسم إلى التطور الذي عرفه النقاش حول الشريعة في العصر الحديث، وما صاحب ذلك من تغيير لمكانة الفقهاء التقليدين في ظل التأكيد على أصول الشريعة وتحولات الدولة الحديثة. ويرى بأن فكرة إمكانية التوفيق بين الشريعة والأنواع المختلفة من القوانين الأخرى لم تكن وليدة العصر الحالي، ولكنها كانت مألوفة عند فقهاء العصور الوسطى، كما يرى بأن هذه التوفيقات هي العبء الأكبر الذي اضطلعت به جهود وإصلاح التشريع الإسلامي.

ثم يتوقف ليبدي رأيه الذي يدور حوله الكتاب، ويقول معبرا عنه : “أما هذا الكتاب فلا يمكنه تأييد الرأي القائل بنهاية الشريعة، سواء كعلم شرعي أو كثقافة؛ لأسباب عدة”[7]، وهذه الأسباب هي أن الحياة الاجتماعية في المجتمعات المسلمة قد تشربت وحفظت كثيرا من قواعد الشريعة، وأن كبار علماء الشريعة قد تحملوا ما أصابهم من هجوم وأثروا في الفكر المعاصر المرتبط بالقانون والأخلاق.

ويرى بأن ظهور مرحلة جديدة من النقاش حول الشريعة في العصر الحالي لا يعني القطيعة التامة مع شريعة العصر القديم.

إعادة النظر في مسألة إصلاح الشريعة في العصر الحديث

في سياق مناقشته لهذه القضية يبدي الباحث بعض التحفظات على النحو الآتي :

1- ربما يكون مصطلح الإصلاح ملائما لوصف رد فعل إزاء السيطرة الخارجية (الغربية).

2- لاعتبار عملية تطور ما في تراث معين اصطلاح ينبغي أن يكون المرء قادرا على التمييز بوضوح بينها وبين مراحل التطور الأخرى داخل هذا التراث.

وعلى الرغم من هذه التحفظات فإنه يعتبر أن المسألة قد اكتسبت شرعية كافية، ويعود السبب في ذلك إلى أن إدراك السياق العالمي الذي تتحدث في ظله الحركات الحديثة عن إصلاح الشريعة الإسلامية لا ينفي وجود هذا السياق وأهميته. كما يرى بأن إصلاح الشريعة الإسلامية يتألف من سلسلة من الأحداث والحركات والأفكار التي تستحق الدراسة، وبالتالي يمكن لمؤرخي التشريع الإسلامي تحديد رواد الإصلاح التشريعي الإسلامي إلى جانب المشككين فيه. ويحذر من خطر القراءات القصيرة النظر لهذا التاريخ.

الاجتهاد والتجديد

يرى الباحث أن فكرة التجديد في الدين ليست جديدة استنادا إلى الحديث الذي رواه أبو داود “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”[8]. وقد ذكرت أسماء لمجددين من قبيل عمر بن عبد العزيز (ت101هـ)، والشافعي (ت204هـ)، وابن سريج (ت306هـ)، والغزالي (ت505هـ)، والرازي (ت606هـ)، وابن دقيق العيد (ت702هـ).

الإصلاح في الدين وفي القانون

قارن الباحث بين الإصلاحات الشرعية وبعض الإصلاحات القانونية في أوربا باعتبار الشريعة الإسلامية تحكم سلوك الإنسان في بيته وفي السوق وفي غير ذلك، وأشار إلى أن البعض يفرّق بين معتقدات المسلمين والشريعة الإسلامية بوصفها نظاما قانونيا. ووفقا لهذا الرأي يرى أن إصلاح الشريعة الإسلامية يعد مشروعا فكريا وليس دينيا صرفا. مع الإشارة إلى ما يترتب عن التشابه بين إصلاح الأحكام الدينية والبدعة. أضف إلى ذلك أن الإنتاج الفقهي في الشريعة الإسلامية ليس مرهونا بالإلزام الحكومي، فقد يفتي فقيه بحرمة تعامل ما على الرغم من أن السلطة الحاكمة تجيزه،(الربا على سبيل المثال).

مراحل إصلاح الشريعة في العصر الحديث

يقسم الباحث هذه المراحل إلى أربع على النحو الآتي :

1- فجر الإصلاح : أبرز رواد هذه المرحلة هو الفقيه الدلهوي (نسبة إلى دلهي)، وقد طرح فكرتين : الأولى هي أن كل الأحكام الإسلامية، بما فيها المنظمة للعبادات ترتكز على أسس معقولة المعنى وقابلة للتفسير(الصلوات تبين حاجة الفرد إلى الخلوة، وتجديد الطاقة)، والثانية أن جميع الشرائع وثيقة الصلة بسياقاتها، إذ على الفقهاء دراسة سياق أي مسألة شرعية قبل الإجابة عنها.

2- مرحلة النزاعات الفقهية والدينية الشعبية وأضدادها

3- مرحلة الفقه التجريبي وردود الأفعال المتعددة : ومن روادها جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده.

4- مرحلة انتصار التهجين، والمقصود بها المزج بين العناصر الإسلامية التقليدية والعناصر الغربية الحديثة في جميع مناحي الاجتهاد في الشريعة الإسلامية. وأكبر قدر من التهجين يلاحظ في جهود العالم السنهوري (1895-1971). في شرحه الوسيط للقانون المدني.

مسائل قديمة حديثة

يرى الباحث بأن الإصلاحيين يواجهون بعض المسائل التي يمكن النظر إليها على أنها قديمة أو حديثة، ويضرب لذلك مثلا بانتهاك حرمة الجسم البشري لأسباب مشروعة كزراعة الأعضاء أو تشريح الميت، فهو يعتبرها قديمة لأن فقهاء العصور الوسطى تناولوها وأخضعوها للموازنة بين الحاجة لحفظ كرامة البدن، والحاجة لتقديم الرعاية الطبية وتطوير التعليم الطبي، كما يعتبرها جديدة لكون زراعة الأعضاء تعتبر إنجازا طبيا يوفر طرقا جديدة بشأن الجسم البشري. بالإضافة إلى قضايا أخرى، كاختيار أساليب جديدة للحكم، والمساواة بين الرجل والمرأة.

ويذكر أن كثيرا من الإصلاحيين يؤمنون بأن التراث الشرعي يقدم رؤى إرشادية حول المسائل التي تبدو جديدة، ويبحثون عن القواعد العامة القديمة التي يمكن لها معالجة المسائل الجديدة.

مرحلة ثانية من النقاش

يرى الباحث بأن النقاشات عن مستقبل الشريعة أدت إلى نقاشات أخرى حول ماهيتها، ويطرح بهذا الخصوص سؤالا وهو : هل أنتج الفقه الإصلاحي الذي ناقشناه آنفا علما شرعيا جديدا أنهى بصورة فعلية الارتباط الشديد بالعلم الشرعي القائم على المذاهب؟ ويذكر بأن بعض المؤرخين يعتقدون أن الإصلاح الناجح يتحقق فقط على أيدي الفقهاء المجتهدين الذين يمكنهم تقديم أطروحات تنطوي على طبقات من التراث القديم، كي تشكل جسرا بين طرائق التفكير القديمة والجديدة.

التاريخ الإسلامي وتاريخ التشريع الإسلامي

يميز الباحث بين التاريخ الإسلامي وتاريخ التشريع الإسلامي، فيقسم الأول إلى عصور سياسية، وهي عصر الخلفاء الراشدين، والعصر الأموي، والعصر العباسي. أما تاريخ التشريع الإسلامي فيقسمه إلى أربعة مراحل على النحو الآتي :

1-عصر الصحابة، ويمتد إلى نهاية ق 1 هـ، ويعتبره أساس كل المعارف المتعلقة بالقرآن والسنة.

2- العصر الأول للمذاهب (من 100هـ إلى 700هـ)

3- العصر الثاني للمذاهب (من 800هـ إلى 1250هـ)، ويتميز بإحياء الاهتمام بالسنة كمصدر للتشريع، ومن ممثليه ابن حجر وابن تيمية.

4- العصر الحالي، ويتميز بالاجتهاد الهجين، أي تعايش أشكال جديدة من الاجتهاد مع الاجتهاد القديم.

ويعتقد أن مرحلة خامسة قد تظهر بمجرد أن يخفت هوس المقارنة بالقوانين الغربية، ويصبح الفهم الواضح للسياقات الاجتماعية والسياسية أمرا مفروغا منه. ويدعو إلى أن تكون السمة البارزة لهذه المرحلة هي الشروع الفوري في تحليل المسائل من دون وساطة للأفكار والنظم الأوربية أو الأمريكية.

بعد ذلك يطرح سؤالا آخر له علاقة بموضوعه، وهو هل الحكم أحد عناصر الشريعة؟ أم جزء من الإيمان نفسه؟ أم هو فقط حاجة عملية للمجتمعات كافة بما فيها الإسلامية؟ ويستعرض الآراء في هذه المسألة؛ فالأشاعرة يرون أن الحكم من المسائل العملية وليس من أصول الإيمان، والشريف الجرجاني يقول بأن كون الحكم ليس من العقيدة لا يعني أنه أمر غير مرغوب فيه، أما التيار الرئيس للفكر السني في العصور الوسطى فيرى بأن الارتباط بين صحة الحكم وإذعان الناس له وبين صحة الشريعة أمر غير ذي معنى.

الحكومات التي لا تتسرب إلى أعماق مجتمعها

يرى أحمد عاطف بأن المجتمعات المسلمة الحديثة تعيش في كنف حكومات قد تحكمت بدرجة كبيرة في حياة الأفراد، ويعرض رأي وائل حلاق القائل بأن وضع المجتمعات المسلمة الحالية لا يختلف عن العصور الوسطى حيث كان لانقسام المجتمع وما فيه من حكومات دور رئيس في خلخلة المجرى الطبيعي لحياة الشريعة، ويتفق مع هذا الطرح، إلا أنه يرى بأنه لا يجوز اعتبار ذلك إنكارا للحياة الخاصة للشريعة التي هي السبب الوحيد لوجود مؤيدين لها حتى الآن.

القسم الرابع : بعد الحداثة

يستهل الباحث هذا القسم بطرح سؤال مهم أيضا، وهو هل يمكن إعلان موت الشريعة من غير أهل الاختصاص الشرعي أم أن الأمر يشترك في تقريره المتخصصون وغير المتخصصين؟

بعد ذلك يعرض أطروحة وائل حلاق التي تعلن موت الشريعة نتيجة للانقطاع المعرفي والاجتماعي والمؤسسي عن الشريعة، وبخصوص رأيه في هذه الأطروحة فإنه يبدي تأييده لها جزئيا، ومعارضتها لها جزئيا، ويذكر أنه كان يعتقد أن الشريعة شبه ميتة، إلا أنه مع مرور الوقت اكتشف أنه كان ضحية توجه قام على أيدي أناس ادعوا بأن كثيرا من تعاليم الإسلام أصبحت غير ذات صلة بالعالم الحديث، وباتوا مرددين لهذا الرأي دون النظر إلى إيمانهم به من عدمه. ووجد بأن بعض العلماء الذين يرشدون الناس قد تسلل اليأس إلى قلوبهم فبدؤوا يدعمون رأي موت الشريعة، وهذا جعله يشكك في نسبة بحوثهم  إلى الشريعة.

أما اليوم فبات يؤمن بأن عقيدة موت الشريعة بدأت تضعف يوما بعد يوم كلما طُرحت للنقاش، ويدافع عن هذا الاعتقاد، ويرى بأن الإحباط الذي يصيب علماء اليوم هو نسخة من الإحباط الذي أصاب علماء العصور الأولى مع تغير في الظروف، وبنى رده بخصوص موت الشريعة على حجتين أساسيتين، الأولى هي أن هذا الأمر يتعلق تعلقا كبيرا بالتعريفات، وهو متمحور حول التعريف، فإن جاز تعريف الشريعة تعريفا ضيقا إلى الحد الذي يسمح بالقول بموتها فسيكون فائزا. والثانية تعتمد على التأمل في كتاب الغياثي للجويني، إذ رأى بأن هذا العالم لم يستطع أن يقنع قارئه بوجود حدود واضحة تفصل بين مراحل الضعف المختلفة التي طرأت على الشريعة، والتي من خلالها يتوصل إلى الوقت المحدد لموت الشريعة، وهو خلو الزمان من الفقهاء.

ويرجع الباحث سبب ضعف أطروحته القديمة التي كان يعتقد فيها موت الشريعة إلى أنه كان يتوهم أنه يفهم الشريعة فهم إحاطة لا يعتريه قصور، فقد كان يظن أنه يعلو الكبار وقادر على أن يفهم بعض الأمور فهما يربو على فهمهم للأمور الفقهية. ويشكك اليوم في كون المسلمين قد حادوا عن الممارسات التي تحض عليها الشريعة، كما يشكك في كون العادات الاجتماعية في المجتمعات المسلمة لا تولد قيما تشريعية. كما أنه لا يعتبر التغيير الذي طرأ على مكانة علماء الدين مع النحيب على الأيام الخالية دليلا كافيا على انهيار الشريعة، وبالتالي فالشريعة عنده يجب أن ينظر إليها كعلم يكيف حسب الظروف، وليس علما تنفيه الظروف.

تفسير متجدد للشريعة

يؤكد الباحث بأن الخوض في الحديث عن الشريعة يستدعي أمرين أساسيين وهما : أولا تحديد الأسئلة التي يتم طرحها وتمييز المهم منها والهامشي الذي ينبغي إهماله، والثاني هو الاستمرار في بذل أقصى جهد لتوضيح المصطلحات، ويقترح أن تقسم القضية الكبرى المتعلقة بحياة الشريعة إلى عدة مسائل، وعلى كل موقف أن يعبر عن وجهة نظر محددة ولا يدعي الإحاطة بجميع وجهات النظر الأخرى.

الخاتمة : ما الجديد الذي أتى به هذا البحث؟

يؤكد الباحث بأن بحثه أتى بجديد، وهذا الجديد هو صعوبة إحساس من يشارك في تقييم حيوية الشريعة في هذا الزمان بأهليته ليشارك في هذا التقييم، وأهم شيء أن يشعر هؤلاء المشاركون بقدرتهم على وضع حلول للمشاكل التي تواجهها الشريعة، وقد لا يكونون فقهاء بالمعنى التقليدي للكلمة. فالوضع الحالي بحسب رأيه يستوجب اقتراح وسائل لفهم السؤال الأكبر بطريقة أكثر فاعلية، وأن تطرح طرائق يتم بها تقسيم السؤال إلى أسئلة متعددة حتى تصل إلى حل معقول لهذا السؤال، وربط السؤال بالأسئلة الأخرى حتى يزول الغموض عنه.

خلاصات وملاحظات

1- لقد تناول الباحث أحمد عاطف أحمد قضية فتور الشريعة في إطار الرد على أطروحة وائل حلاق القائلة بموت الشريعة، واستعرض النقاشات التي عرفتها العصور الوسطى بهذا الخصوص مع التعليق عليها، ليصل في النهاية إلى بلورة أطروحته الرافضة لموت الشريع بناء على حجج نقلية ومنطقية وأخرى واقعية.

2- وافتتح كتابه بسؤال كبير هو : ما هو دور الشريعة اليوم؟ ويشير إلى أن هذا السؤال لا يعني المنشغلين بالحقل الديني وحدهم، ولكنه يعني المفكرين والسياسين وغيرهم كذلك. ويأتي هذا الكتاب في سياق الجواب عن هذا السؤال لكن ليس بطريقة مباشرة، مما يجعل من هذا السؤال سؤالا إشكاليا، ويبدو أنه كان على وعي بإدراك الفرق بين السؤال والإشكالية.

3- ناقش الباحث باستفاضة كبيرة آراء العصور الوسطى في قضية موت الشريعة وقد ظهر أنه كان معجبا بشدة بآراء الجويني أكثر من آراء المناقشين الآخرين، لكنه عندما أتى إلى العصر الحالي لم يذكر أسماء بعينها يمكن اعتبارها من الفقهاء المعاصرين أو المجددين، فهل معنى ذلك أنه لا يؤمن بوجودهم؟ أم أنه استعصى عليه تحديد أسماء من بين أخرى كثيرة؟ أم أن وراء ذلك خلفية إيديولوجية ما؛ فكلنا يعلم أن العصر الحالي عرف مجموعة من الأسماء التي دعت إلى الإصلاح وجاءت بمشاريع إصلاحية تنظيرا وتطبيقا، ولقيت أتباعا ومناصرين، وعالجت القضية التي يتناولها الكاتب في كثير من جوانبها، نذكر على سبيل المثال لا الحصر : مشروع حسن البنا رحمه الله مؤسس حركة الإخوان المسلمين في مصر، ومشروع عبد السلام ياسين رحمة الله عليه مؤسس حركة العدل والإحسان في المغرب. وفي اعتقادنا أن العودة إلى مثل هذه المشاريع كانت ستغني النقاش بشكل كبير ولو على سبيل النقد. كما أن الأمثلة التي قدمها على الأسئلة التي يواجهها فقهاء الشريعة اليوم كانت قليلة جدا، واكتفت بإثارة الأسئلة من دون عرض كل الأجوبة التي قدمت بخصوصها وتحليل مواطن الاختلاف فيها وبيان الراجح من المرجوح منها.

4- وعند حديثه عن التغيرات التي عرفتها المجتمعات المسلمة المعاصرة، أغفل تأثيرات أحداث الحادي عشر من شتنبر والتي، في اعتقادنا، كانت حاسمة في إعادة النظر في كثير من الأمور الشرعية وعلى رأسها قضية الجهاد. حتى إن أغلب الدول المسلمة أعادت النظر في مناهجها التعليمية وخصوصا منهاج التربية الإسلامية، ولا يخفى ما لهذه المراجعة من أثر في فهم الشريعة والالتزام بها في حياة الناس، ولا سيما المسلمين المقيمين في الغرب.

5- لقد وضع الباحث اليد على مكمن الداء الذي تعاني منه نقاشات المسلمين اليوم حول الشريعة الإسلامية وأحكامها، وهو غياب ذوي الاختصاص، ولقد صرنا اليوم نسمع ونقرأ لأشخاص يتحدثون عن الشريعة الإسلامية دون أن يفقهوا منها ومن سياقاتها شيئا، كما أشار إلى أمر مهم بات غائبا عن البحوث في الشريعة الإسلامية، أو لنقل إنه غائب عن البحوث في مختلف المجالات، وهو المعالجة الإشكالية للقضايا، ذلك أنه رأى بأن البحوث لكي تكون مجدية لا بد لها من الطرح الإشكالي الذي يقسم السؤال الكبير إلى أسئلة فرعية تتم الإجابة عن كل واحد منها في إطار ربطه بالسؤال الكبير. هذا مع التنبيه إلى ضرورة إيلاء القضية المصطلحية عناية لائقة بها، فكم ضاعت من الجهود في خلافات نتجت عن عدم التوافق حول المصطلحات.

6- وقد قدم في بحثه هذا نموذجا عمليا لما اقترحه، إذ بناه على الأسئلة، وكلها أسئلة محورية ومنبثقة عن السؤال العريض، هل يمكن للشريعة أن تندرس؟ وطرحه لهذه الأسئلة لا يعني أنه كان يجيب عنها، ولا يعني أنه ملزم بالإجابة عنها، لأن أنجح البحوث- في اعتقادنا- هي التي تثير الأسئلة الجوهرية حول القضايا، وتنبه المختصين إليها، وتحيي النقاش حولها؛ لا تلك التي تقدم الأجوبة.

7- أعتقد أن الأطروحة القائلة بعدم موت الشريعة لها من الأمثلة النقلية من الكتاب والسنة ما يكفي للاستدلال على صحتها، إذ أن أغلب المؤمنين الذين هم على شاكلة الشوكاني لا يجادلون في ذلك، ولكن مثل هذا البحث مهم في تطوير النقاش وتعميقه في زمن لم يعد النقل وحده كافيا إلا عند فئة محدودة من المؤمنين، أما بعض المسلمين فلا يطمئنون إلا إلى إثباتات العقل، بالنظر إلى تأثرهم بالتطور الفكري المعاصر ذي النزعة العقلانية والفلسفية.

8- ونحن نخوض تجربة قراءة هذا الكتاب، لابد وأن نعترف بأننا لم نعدم متعة في تتبع تفاصيله من ألفه إلى يائه، ولا لذة في إعادة قراءة بعض فقراته والتوقف لتأملها. ولكن تحرير ما دوناه في المسودة بأكمله من شأنه أن يجعل هذه القراءة طويلة إلى الحد الذي قد يجدها من يقرؤها مملة. والقارئ(القراءة الإنتاجية) لا يمكنه إلا أن يكون انتقائيا في قراءته؛ فقد دوّنا ما بدا لنا مهمّا، وربما أغفلنا عناصر هي عند آخرين أكثر أهمية، مما يعني أن هذه القراءة لا تغني بأي حال عن قراءة البحث والعودة إليه، ولا سيما بالنسبة لذوي الاختصاص في مجاله.

 

[1]  درس : درس الرسم يدرُس دروسا عفا (..) واندرس الرسم والخبر انطمس (أنظر : المعلم بطرس البستاني : محيط المحيط، باب الدال.)

[2]  فتور الشريعة، ص 42.

[3]  نفسه، ص 46.

[4]  نفسه، ص 71.

[5]  الحديث كما في صحيح البخاري : عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ” إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا”.

[6]  قوله تعالى : “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” سورة الحجر الآية 9.

[7]  فتور الشريعة، ص 151.

[8]  الحديث رواه أبو داود وغيره وصححه الحاكم وقال الزين العراقي : سنده صحيح، وقال السيوطي في مرقاة الصعود : اتفق الحفاظ على تصحيحه.

عرنيبة ميلود

أستاذ للغة العربية. وباحث في سلك الدكتوراه. تخصص تلقي السرد القديم. شارك في بعض الندوات الوطنية والدولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى