الدراسات

روجيه جارودي والتأسيس الفكري لحوار الحضارات

مقدمة

إن تعدد الحضارات مما اقتضته الحكمة الإلهية؛ فالكون قائم على التنوع في الطبيعة سواء في عالم النبات، أو الأجناس أو المعادن، قال الله عز وجل في كتابه الحكيم ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِين﴾،[1] وفي هذا التشكل والازدواجية والكثرة تظهر الحكمة الربانية التي اقتضت ما عليه العالم من التقابلات، فالحديث عن فكرة حوار الحضارات خاصة في الوقت التي اختلطت فيها المفاهيم، وانقلبت فيها الموازين، وطرحت فيها مسائل حول كيفية التعامل مع الآخر، يقتضي تسليط الضوء على أهم أعلام فكر حوار الحضارات ونقصد هنا أحد أكثر المنظرين والمتحمسين لهذه الفكرة، ألا وهو زعيم الثورة الفكرية الفرنسي المعروف بـ ” روجيه جارودي،” والذي أسس لبنودها في كتابه الشهير ” في سبيل حوار الحضارات “ الصادر سنة 1977م، وهو كتاب تميز بمنطق شديد التماسك، وبخطاب موثق بالشهادات والوقائع والحقائق، يمكن وصفه بمثابة مرافعة محكمة في الدفاع عن قضية حوار الحضارات.

هذه الدعوة في أطروحة جارودي مرت بثلاثة أطوار زمنية وفكرية، جسدت شخصيته الفكرية في انتقالاته وعبوره بين الأيديولوجيات والأديان، وكشفت عن طبيعته الجدلية والإشكالية، وذهنيته الحائرة والقلقة، بحثاً عن الأمل الذي ظل يفتش عنه في الثقافات والحضارات الإنسانية، وهذه الأطوار هي:

الطور الأول: الدعوة للحوار بين الماركسية والمسيحية، وذلك حينما كان جارودي مفكراً في الحزب الشيوعي الفرنسي، وكان يصف نفسه آنذاك بالمحرك الرئيسي لهذه الدعوة في فرنسا وأوروبا، طيلة اثنتي عشرة سنة، وكانت الغاية من هذه الدعوة حسب رؤية جارودي هي بناء العلاقة بين التحرر والإيمان، التحرر الذي تمثله الماركسية، والإيمان الذي تمثله المسيحية.

الطور الثاني:  في سنة 1968م تكونت عند جارودي رؤية لفت بها نظر المجتمع المسكوني للكنائس في جنيف، حيث اعتبر أن الحوار بين الماركسيين والمسيحيين سوف يظل إقليمياً حسب تعبيره، ولن يتقدم إلا في نطاق منطقة ثقافية واحدة، وهي منطقة الغرب، وإنه من الأهمية في نظره التحول نحو إدارة هذا الحوار على مستوى الحضارات، وكانت الغاية من هذا الحوار في نظر جارودي هي بناء العلاقة بين الإيمان والتاريخ، الإيمان والعالم، الإيمان الذي يعطي الشعوب القوة والأمل في تغيير العالم والحياة.

الطور الثالث:  التأكيد والتركيز على الحوار بين الغرب والإسلام.

وهذه الدراسة تطمح للتعرف عن دعوة المفكر روجي جارودي إلى ضرورة حوار الحضارات من خلال السعي إلى الإجابة عن سؤال مركزي. ما هو منهج روجيه جارودي في التأسيس لحوار الحضارات ؟

منهج روجيه جارودي في التأسيس لحوار الحضارات

وظف جارودي في كتابته عدة مناهج أبرزها المنهج الوصفي السردي التاريخي، متزامنا مع المنهج النقدي التحليلي، بأسلوب فلسفي وفني أدبي، ينم عن روح فنان أصيل أو ناقد فني متخصص، عند حديثه عن النماذج الحضارية المختلفة من آسيا وإفريقيا، وما كان من تأثير فني لها على الفنون الغربية، كما نجده يوظف في المنهج التاريخي منهجا مقارنا بين الشرق والغرب، وحضارتهما والمبادئ التي تحكم كل منهما، فتجد مناهج متكاملة : فلسفية، تاريخية، أدبية فنية، وكذلك تجد تكاملا في النماذج المقدمة من كل طرف من الأرض، لتقديم فكرته عن حوار الحضارات الذي يسعى إليه. مؤكدا على ضرورة الاستفادة من الإنتاج الإنساني بشكل عام، مؤكدا أن الغرب رغم تمركزه على ذاته، ما هو إلا تشكل حضاري سابق استفاد منه في تفوقه المادي الحاصل الآن. وأن ” منابع الغرب وروافده الحضارية – الإغريقية والرومانية والمسيحية – إنما ولدت في آسيا وفي إفريقية.”[2]

وبهذه المناهج المتكاملة اعتمد جارودي في مرافعته في سبيل حوار الحضارات على عناصر أساسية :

أولا: بلد الغسق وأساطيره، ” عقدة مارتون ” وذكر فيه عن بول فاليري أن أوروبا وليدة تقاليد ثلاثة :

1 ـ التقليد المسيحي : وقد بين فيه أن المسيحية منذ القرن الأول شابه الفكر الإغريقي مؤكدا أن ” الجانب الأصيل في المسيحية هو الجانب الشرقي،”[3] موضحا أن سبب فساد المسيحية التي دخلت إلى الغرب هو تلك ” الثنائية اليونانية والمثالية اليونانية على الصعيد الفكري النظري، وأصابت بنيات الإمبراطورية الرومانية تنظيمها بتحول جذري.”[4]

2 ـ التقليد الروماني : ذكر فيه الحقبة الرومانية التي كانت رافدا من روافد الشخصية الغربية أنها ” حقبة من حياة روما، وفيها استعيض عن الإبداع بنهب الثروات والثقافات، وبهذا الاعتبار كانت روما تصلح لنشر المأخوذة من الشعوب الأخرى.”[5]

3 ـ التقليد الإغريقي : يقول في ذلك إذا ” رفضنا اعتبار الغرب ماهية جغرافية، ونظرنا إليه باعتباره حالة فكرية متجهة نحو السيطرة على الطبيعة والناس، وجدنا أن مثل هذه النظرة إلى العالم ترقى إلى الحضارة الأولى المعروفة،  تلك التي ظهرت في دولتا – دجلة والفرات – في بلاد – الجزيرة وهي العراق اليوم.”[6]

وتساءل جارودي عن انفصام الغرب عن هذه التيارات الثلاث المكونة له، مبينا أن الغرب مثلما يظهر نبات لا يمكن معرفة جذوره وأنه كائن فريد وحيد، كنوع من معجزة تاريخية، وأكد أن هذا يخفي الجوهر الأساسي في ” أن ما اصطلح الباحثون على تسميته باسم الغرب، وإنما ولد في ما بين النهرين وفي مصر أي في آسيا وإفريقيا.”[7]

ويذهب جارودي في تسلسل تاريخي يصف فيه الحضارات الأخرى، وكيف تكونت شخصية الغرب من خلالها، إلا أن رجحان الفرد وسيطرة المفهوم سيطرة شاملة يظلان أمرين تابثين في التصور الغربي عن العالم، وكيف تأسس الفكر الغربي على ثقافة الأساطير اليونانية التي تتخذ قاعدة صراع الإنسان مع الآلهة.

وقد بين المفكر الفرنسي مدى انغلاق وتقوقع الغرب على ذاته خصوصا في المعاهد الفرنسية التي تحرم الطالب في المدارس الثانوية من الاطلاع على ثقافات الهند والصين وإفريقيا والإسلام.

ثانيا : الغرب عرض، يعمل جارودي في هذا الفصل على إبراز مدى فردانية هذه الحضارة الغربية القائمة على المجتمعات الصناعية، التي حولت الإنسان إلى آلة لا تعرف إلا الإنتاج من اجل الاستهلاك.

وقد كشف عن السبب الرئيسي الذي جعل الحضارة الغربية تصل إلى هذا النمو الصناعي، وهو الاستعمار الذي استنزف ثروات البلدان المستعمرة بأبشع الأساليب، مستعملة أحدث الأسلحة التي وصلت إليها. ويؤكد على أن المؤسس للحضارة الغربية هي سواعد الأفارقة الذين اختطفوا من أراضيهم ” أن التجارة الأساسية مع إفريقيا ظلت تجارة العبيد طوال ثلاثة قرون…وقد قامت حرب مستمرة بين الجماعات الإفريقية للإستيلاء على الأسرى من أجل بيعهم على الشاطئ إلى الأوروبيين.”[8]

وهذا ما أدى إلى نزع اليد العاملة واختطافها بالقوة موضحا ذلك بقوله : ” إن التخلف هو التعبير الدال على علاقة  استغلال بلد بلدا آخر.”[9]

وبعد سرده التاريخي لما وقع في البلدان التي استعمرت، من تعامل منهجي تحكمه التبعية على المستوى التعليمي والاجتماعي لتطويع أصحاب الأرض، ويضرب مثلا باليابان وهو البلد الآسيوي الوحيد الذي لم يتخلف لأن ” التخلف وليد تبعية قوة أجنبية.” [10]

ويحاول جارودي أن يصل بالقارئ إلى قناعة مفادها أن الحضارة الغربية نشأت على أنقاض الجماجم وقامت على ” ثلاث موضوعات :

  • تحيل الفكر إلى الذكاء
  • وتحيل الإنسان إلى العمل
  • تحيل اللانهائي إلى الحكم

ففي نظر المفكر جارودي لا سبيل للخروج من هذه الحلقة المفرغة إلا بفتح ” الحوار الحضاري ” مستشهدا في طرحه هذا بـ “هوغدي فارين” في كتابه ” ثقافة الآخرين” “إننا نحن مالكي الحضارة التقنية وعبيدها إنما علينا أن نرقب من ثقافة الآخرين قدرتنا على البقاء.”[11]

إن التقاء الحضارات معلم من معالم التاريخ الحضاري للإنسانية، وهو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه، وقد تم دائما وأبدا وفق هذا القانون الحاكم التمييز بين ما هو مشترك إنساني عام وبين ماهو خصوصية حضارية.

فالحديث ” يدور حول ” حوار الأديان ” ” حوار الحضارات ” وحوار ” التيارات الثقافية المختلفة ” و” حوار الشمال والجنوب ” و” الحوار العربي الأوروبي ” و” الحوار الإسلامي المسيحي،” فالحوار اليوم أضحى من روح العصر وإحدى ظواهره العامة، لاسيما في عصر قد تميز بثورة الإتصال التي هي إحدى ثمار ثورة العلم والتكنولوجيا الحديثة، واتسعت دائرة الحوار وتنوعت موضوعاته بصورة لم تعرفها الإنسانية من قبل.”[12]

وكل هذا مع الاستمداد من المنهج القرآني البديل الذي انبهر به جارودي واتخذه مسلكا ” بهذا يصبح المنهج الإلهي بديلا… فليس إعجاز القرآن في المبنى اللساني ولكنه في المعنى المنهجي ـ الذي يعتبر ـ حجته الآن على أهل الحضارات العلمية ضمن أرقى أشكالها الوضعية العالمية… التي تظل محتوى للوعي الكوني أكبر من موروث النبوات، بل هو الحكمة المهيمنة على حكمة الأنبياء والوعي الذي يتجاوزهم زمانا ومكانا، كما يتجاوز كل زمان ومكان،… لقد منحنا الله بمحمد منهجا يرقى على كل المناهج ونورا نافذا إلى كل التفاصيل وساطعا في كل الأرجاء محيطا بكل التجارب ويتجاوزها في الوقت نفسه بالنقد والتحليل… وبه ندرك أبعاد الماضي والحاضر والمستقبل.[13]

فالقرآن الكريم ” كتاب حوار فهو الذي يجب أن ندرسه دراسة واعية، لنجد فيه الوثيقة الرائعة من وثائق الحوار الديني الذي يتعلق بكل قضايا العقيدة ابتداء من فكرة وجود الله، ووحدانيته، إلى الأحكام الشرعية.”[14]

وفي السيرة النبوية تطبيق لهذه المبادئ التي أقرها الإسلام في بيان أساليب الحوار ـ مع المسلم أو مع غير المسلم ـ فالنبي صلى الله عليه وسلم قد كتب كتابا يتضمن المبادئ التي قامت عليها أول دولة في الإسلام، وفيها من الإنسانية والعدالة الاجتماعية، والتسامح الديني، والتعاون على مصلحة المجتمع، وذلك فيما يعرف بصحيفة المدينة،[15] التي تعد أول ميثاق للتعايش في المجتمع المسلم. وفي ذلك يقول محمد حسين : إن ” السيرة النبوية الشريفة هي بحق تمثل التطبيق العملي للمنهج القرآني الذي ركز القاعدة وأقام البناء.”[16]

ثالثا : الفرص المفقودة، ويقصد جارودي هنا المنتوج الإنساني الذي أضاعه الغرب بتمحوره على  ذاته،  فهو ينبذ العزلة والانحياز، ويشير إلى أن الغرب لو أنه استفاد من الحضارات الأخرى بفتح حوار حقيقي معها لعم النفع على الجميع، متأسفا على ضياع الحضارة الألمانية وضياع الفرصة على الغرب.

كما تحدث عن الإنتاجات العلمية للحضارات المختلفة، ومنها الحضارة العربية وما وصلت إليه من تفوق علمي كان رحمة على المجتمعات التي دخلها، وهو يدحض ادعاء الاستعمار الانكليزي والاسباني والفرنسي حول ما يطلقون عليه ” غزو اسبانيا ” بقوله ” لم يكن غزوا عسكريا لقد كان عدد سكان اسبانيا في ذلك الحين زهاء عشرة ملايين نسمة ولم يزد عدد الفرسان العربية في الأراضي الاسبانية البتة على سبعين ألفا، وإنما لعب التفوق الحضاري دورا حاسما.”[17]

ينطلق جارودي في تشبيه ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية من علوم بذكر ما وصل إليه العلماء في مجالات مختلفة مثل الكيمياء، والملاحة، والفيزياء والرياضيات والفلك وعلم الاجتماع… يقول جارودي ” إنما يدين ( العرب ) بعصر النهضة لـ ” غزو ” العربي الذي عرف كيف يخلق الشروط الفكرية اللازمة لتقدمه، وعدد الأمثلة الأخرى لما وصلت إليه الحضارات ليخلص إلى أن هذه الفرص المفقودة، ولو استفيذ منها، لكانت الحضارة الإنسانية الآن مجتمعة على كلمة سواء لنفع الإنسان….

وخلاصة القول أن جارودي في هذا الموضع يريد أن يدحض القناعة التي تشبع بها الفكر الأوروبي والتي مفادها أنهم غير محتاجين لما عند الآخر، ويبين لهم أن حضارتهم المادية ما هي إلا استفادة من قهر شعوب أخرى.

رابعا : الأبعاد المطلوبة مجددا، اهتم المفكر الفرنسي كثيرا بتأثير الشرق على الغرب، خاصة في الجانب الفني والذي ركز عليه بشكل كبير قائلا : ” نشاهد أن تأثير الثقافات اللاغربية في الفن الغربي تأثيرا ثابتا لا مراء فيه، منذ عصر النهضة.”[18]

Roger Garaudy 2012-1913

وقد دعا إلى توحيد الشرق والغرب والأمر بتكامل جميع الأبعاد الإنسانية، ونادى بهذا المطلب أيضا مفكرون غربيون، مما نجم عن ذلك أن بدأت النسبية تصيغ بصبغتها  قواعد الجمال المقررة في عصر النهضة، والقائمة على مفهوم عن العالم يرى أن الإنسان، بوصفه فردا، هو مركز  الأشياء كلها ومقياسها،”[19] حيث أظهر الرسامون الغربيون في نهاية القرن 19 ومستهل القرن 20 نفع الإخصاب المتبادل بين الثقافات والحضارات باكتشافهم الفنون اللاغربية، والتي جعلت من الضرورة القضاء على المركزية الأوروبية، وقد أبانت دراسة عصر النهضة مدى ما تدين به لفنون الإسلام ومن ورائها إلى فنون الشرق الأدنى والصين، بفضل كنوزها التي أقصى الكثير  منها إلى متاحف الغرب. وقد أكد على ضرورة الاعتراف بالمشترك الإنساني والثقافي والروحي بين جميع الشعوب، ” وفي نهاية القرن التاسع عشر، بل وفي مستهل القرن العشرين، أعاد الرسامون اكتشافهم في الفنون اللاغربية ما كان مفقودا منذ سبعة قرون في الفن الغربي.”[20]

وإذا لاحظنا اهتمام جارودي بالفن التشكيلي الذي يعتبره ركيزة في البناء الحضاري صنفناه فنانا تشكيليا لا أستاذا للجمال فقط، بل اعتبر الحقيقة الفنية شأنها شأن الحقيقة في الفلسفة والعلم، فجعل بذلك الفن من أول مظاهر الحوار بين الحضارات، فيقول معلقا على ذلك “رغم ذلك ما زلنا في مجال الخطوات المتعثرة التمهيدية لهذا الحوار الحقيقي، وذكر من بين الفنون المؤثرة، الفن الإفريقي الذي كشف الغرب النقاب عنه، حيث تأثرت به حركات فنية غربية مشهورة كالتكعيبية والسريالية والتعبيرية،  وأكد أن حوار الحضارات فصمته ستة قرون من الاستعمار، بازدراء الثقافات اللاغربية، وانه لم يستأنف إلا في القرن العشرين.”[21]

وانتقل جارودي بعد ذلك إلى الحديث عن الفن الإسلامي مشيرا إلى تأثر مجموعة من الفنانين الغربيين به، إضافة إلى الشعر الصوفي بالأساس مخصصا المسجد بالذكر باعتباره  ملتقى  جميع فنون الإسلام، يقول ” قد أصاب القائلون إن جميع الفنون تقود في الإسلام إلى المسجد والمسجد إلى الصلاة،”[22] وقد عضد هذه الفكرة في كتاب آخر إذ يقول ” إن جميع الفنون في الإسلام مؤدية إلى المسجد، ويعود المسجد بدوره إلى عبادة الله… فالفن في الإسلام فن عبادة فهو لا يختلق حاجزا بين ما هو دنيوي وما هو مقدس، ومن ميزة هذا الفن أن يتشابه أنى كان منشؤه : مسجد ابن طولون بالقاهرة ومساجد سمرقند وقصر الحمراء بالأندلس تبدو كلها وكأنها من صنع يد واحدة.”[23]

وقد اعتبر الفن عموماً والمعماري منه خصوصاً، من أصدق أنباء التاريخ، وهو واحد من أهم علوم هندسة الروح والجسد وأكثرها سمواً ورقياً، ذلك لأنه قادر كموسوعة وقوة خازنة لخيال الأمم، على تحقيق التواصل والتفاعل الحضاري، والفن المعماري أقدر من غيره على التواصل مع الآخر، وقد لعب الفن المعماري الإسلامي دوراً كبيراً في خلق حوار فني حضاري متميز، لأنه انطلق من هويته وحافظ على خصوصيته الثقافية فاستطاع من خلال جمالية إبداعه الفني تقديم الوجه الحقيقي لحضارته.[24]

كما ذكر سمات الفن الإسلامي التي يأتي على رأسها :

  • الوظيفية.
  • تجريده وموسيقيته.
  • عدم فصل العادي عن المقدس.[25]

ففي ” الإسلام جميع الفنون تؤدي إلى المسجد والمسجد يحمل الصلاة، إن الجامع الذي تكاد حجارته نفسها تصلي، مركز إشعاع لجميع فعاليات الأمة الإسلامية وهو نقطة الإلتقاء لجميع الفنون… ويستجيب الجامع بطبيعة بنيته لوظيفته فهو لا يشبه الكنيسة المسيحية ولا المعبد اليوناني… إن الحيز ” الفارغ ” هو أحد مميزات الفن الإسلامي : ليس فحسب لا يأوي المحراب أي تمثال أو أية صورة ولكنه يعني الله بهذا الفراغ نفسه من كل شيء : إن الله موجود، حاضر في كل مكان ولكنه لا يرى في أي مكان.”[26]

خامسا : المشروع الكوني، عمل جارودي على إبراز امتيازات وإيجابيات اللقاءات الحضارية القديمة ويمثل لذلك بقوله ” إن أراضي الدلتا الغرينية في مصب الأنهار الكبرى، وهي تيسر أسباب الزراعة والحياة الحضرية، سرعان ما غدت مراكز حضارية متألقة أفادت من الإخصاب المتبادل بلقائها.”[27]

والهدف من هذا التأمل كما يقول جارودي معرفة شروط إمكان لقاء جديد وليثبت أن الاكتشافات العظمى في عصر النهضة تبقى أمورا نسبية، وإنما كان هذا العهد منطلقا للاستعمار ومؤطرا لفكرة “العالم الآخر” ومما زاد تعميق الأمر أن هذا التاريخ كتبه الذين أرادوا السيطرة لإبراز التفوق الثقافي والحضاري وقد بين بعض شروط إمكان اللقاء الحضاري:

  • دراسات الحضارات اللاغربية بأهمية تعادل الثقافة الغربية.
  • أن يشغل مبحث المجال منزلة تعادل بأهميتها على الأقل أهمية العلم والتقنيات.
  • أن تعادل النظرة الأمامية المستقبلية والتفكير في الغايات والأهداف أهمية التاريخ على الأقل.[28]

وقال : ” هذه هي التغييرات الأساسية الثلاث التي يستطيع بها حوار حقيقي بين الحضارات في مضمار منظومتنا التربوية،”[29] لأن هذه التغييرات من شأنها نزع صفة الجبرية عن المستقبل والعثور من جديد على توازن مع الطبيعة، ومن شأنها إضعاف هذه المركزية الغربية التي ارتكبت جرائم في حق الحضارات كنهب الكنوز والاستعمار وحصر التاريخ في تاريخها الخاص، وما يجري داخله من تناقضات كالإعلان عن حقوق الإنسان في الوقت الذي تمارس فيه القهر والاستعمار.

وقد أشار إلى بعض المحاولات التركيبية التي يقترحها اللاغربيون اتجاه المركزية الغربية، مثل بوبوهاما الإفريقي لكونه يحقق توازنا ماديا وروحيا مع الكون عكس الثنائية الغربية التي تفرق بين الروح والجسد، وقد كشفت طاقة التقنية العمياء التي أطلق لها الغرب العنان من عجزها في تحقيق السعادة للإنسان.

وقد أكد على الدور الذي تلعبه الإرادة والتضحية في التفوق حتى على السلاح، ويرى بوبوهاما أن الشرق يستطيع الإسهام في تقديم معنى عن الإنسان يفتقر إليه الغرب اليوم افتقارا رهيبا الذي غدا “الإله” في الرأسمالية، و”المادية الجدلية” في الاشتراكية، وهذا ما نقل عدواه إلى بلدان أخرى فذكر أن إفريقيا لم تكن تعرف الإقطاع ولا الرأسمال قبل المجيء الأوروبي الاستعماري الذي فرض نظاما اقتصاديا يخدم نموه. كما أكد كذلك جارودي على الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه التربية في تحقيق التنمية النابعة من الذات، والمعتمدة على القوى الخاصة. كما تحدث كثيرا عن الفكر الاشتراكي كسبيل للتنمية حيث قال ” إن الإسلام والاشتراكية يعيان اليوم إمكان تكاملهما في بناء المستقبل بدلا من تناقضهما، إن بناء الاشتراكية يطابق ازدهار القيم الإسلامية.”[30]

ثم انتقل مفصلا في التجربة الهندية في التحرر، من خلال نموذج المهاتما غاندي الذي سماه بـ “ساتياغراها غاندي،” خلال النصف الأول من القرن 20 والذي أسهم في إعطاء بعد جديد للسياسة، قائم على التشارك، وإعطاء معنى لمسؤولية الشخص البشري، اعتمادا على مشروع يتبنى سياسة اللاعنف، والإقناع الداخلي للخصم، وفي المقابل يعمل على تحقيق إرادة قوية قادرة على المواجهة والمقاومة، مستعدة لكل الاحتمالات والنتائج، وهنا يبرز جارودي دور التغيير الذاتي في تغيير المجتمع فيقول ” ليس بصحيح تغيير مجتمع بأسره دون أن يتغير المرء ذاته وبالعمل المشترك.”[31]

وقدم هنا أيضا نموذجا للثورة الصينية،[32] واعتبرها الثورة الاشتراكية الوحيدة التي تمنع مقوماتها من فردية الثورات البورجوازية الغربية لاعتمادها على أسس تنموية جوهرية أبرزها عدم فصل العمل اليدوي عن العقلي وخلق التوازن بين المدن والريف، وأهم من ذلك زرع الثورة الثقافية الصينية في ثقافتها الخاصة اللاغربية مما جعلها إحدى أجمل ثقافات العالم.

كما أشار إلى أفكار جوهرية، هي أن تخلف العالم الثالث نتاج فرعي عن نمو البلدان الرأسمالية الكبرى التي تسعى إلى خلق مركز ومحيط، نتيجة فقدان الشعور بالآخر، وعم تحديد الغايات التقنية، واختلاط مفهوم الحرية لديه باعتبارها في الحقيقة ” وعي بالانتماء إلى الكل، والحياة مع هذا الكل، حياة الكل.”[33]

وأكد على أنه ” لا يدعي الإجابة على جميع المشكلات التي طرحتها الهيمنة الغربية خلال 500 سنة، وإنما النظر إلى الثقافة نظرة سمفونية، ولا سيما إلى انتشار الثقافات انتشارا واسعا شعبيا لا غربيا، لفسح المجال لمشروع الأمل – مشروع ثقافة عالمية شاملة -، وقد يسعى إلى فكرة إقامة التوازن مع الطبيعة، والإفادة من حكمة الصين وإفريقيا والهند والإسلام، وإعطاء السياسة بعدا جديدا، ينخرط فيه الإنسان، انخراطا تشاركيا، ويكون العمل الخارجي فيه تعبيرا عن إيمانه الداخلي.[34]

ويدعو جارودي إلى التعامل مع الآخر واكتشاف الذات من خلاله، مؤكدا على ضرورة الجمع بين المعنوي والأدبي والتقني، وعلى الدور الذي يناط بالأديان في هذا الأمر – أي في إحداث تغيير في الناس – حيث أن التفاعل الحضاري لا يمكن أن يتم ويتحقق إلا عن طريق حوار بناء وفعال بين الأديان، ولعالم اللاهوت الألماني هانس كنج قول شهير في ذلك : (لا حوار بين الحضارات بدون سلام ولا سلام بدون حوار بين الأديان[35] والهدف من هذا الحوار هو تحقيق (العيش المشترك) في عالم يسع الجميع مهما كانوا متباينين على المستوى العقائدي والثقافي والحضاري، ويطلق على هذا المصطلح – كما حددته مريم آيت أحمد – بـ ” حوار الحياة.”[36]  حيث إن ” عملية التفاعل مع الآخر الحضاري، لا تعني الذوبان أو الإنسلاخ من المدى الثقافي الأصيل، والإنتقال أو القفز إلى المدى الثقافي المضاد، المهيمن، المسيطر، الغالب. وإنما التفاعل يعني : إن ما من جسم حضاري إلا وله ركائزه ومقوماته ونقاط قوته، يحاول تعميمها ونشرها في ربوع العالم، لذلك فالتفاعل لا يعني المماثلة وتقليده في ركائزه وأنماط معيشته، وإنما التفاعل هو عبارة عن حركة داخلية- ديناميكية – تجري في عروق المجتمع والأمة متحفزة للبناء والتطوير، وتمتلك الاستعداد النفسي الكافي لتكوين حالة تثاقف أو تفاعل مع الجانب الحضاري الآخر.”[37]

إلا أن جارودي يشير إلى عجز كنائس الغرب في هذا الأمر، فيقول: ” إن الكنائس والأحزاب تبقى محافظة بصورة أساسية مادامت تحسب أنها مستودع معرفة مطلقة، وأنها مزودة بسلطة منح معرفتها للجماهير، من الخارج ومن أعلى وهذا هو تعريف النزعة المحافظة للذات.”[38]

خاتمة :

لقد أنفق جارودي جل عمره في سبيل ترسيخ مبادئ حوار الحضارات التي تجاهلها الغرب نيفا من الزمن. وقد وجد ضالته في تبنيه للمنهج الإسلامي، وسطر قاعدته المأثورة التي تؤمن بأن تحقيق الحوار المنشود بين الإسلام والغرب يقتضي طرحا جديدا يُبنى على الوضوح ويلتزم بأخلاقيات الحوار، ويعيد النظر في الأهداف والوسائل الموصلة إلى ذلك، ولن يتأتى هذا الهدف المنشود والمتوخى إلا بتوسيع قاعدة هذا الحوار ليصير حوارا ثقافيا مدنيا، يشمل كل المكونات والفعاليات الثقافية في المجتمعين المتحاورين.

والقرآن الكريم حينما يدعو إلى مبدأ التعايش والتسامح الإنساني من منطلق توسيع دائرة الحوار، وجعله أساسا راسخا لعلاقة المسلم مع غير المسلم فلا يجوز أن يفهم هذا التسامح الإنساني على أنه انفلات، أو استعداد للذوبان في أي كيان من الكيانات التي لا تتفق مع جوهر هذا الدين، فهذا  التسامح لا يلغي الفارق والاختلاف ولكنه يؤسس للعلاقات الإنسانية التي يريد الإسلام أن تسود حياة الناس، فالتأكيد على الخصوصيات العقائدية والحضارية والثقافية لا سبيل إلى إلغائه، ولكن الإسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التفاعل الحضاري بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] سورة الروم الآية 21

[2] روجي جارودي، في سبيل حوار الحضارات، تعريب د.عادل العوا، عويدات للنشر والطباعة، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة، 1999م، ص 9

[3] نفسه،  ص 31

[4] نفسه، ص 31

[5] نفسه،  ص 29

[6] نفسه،  ص 18

[7] نفسه، ص 17

[8] نفسه، ص 46

[9] نفسه، ص 40

[10] نفسه، ص 72

[11] نفسه، ص 78

[12]  مريم آيت أحمد، جدلية الحوار قراءة في الخطاب الإسلامي المعاصر، تقديم د. عبد المجيد النجار، الطبعة الأولى. 2011م،  ص 7

[13] أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، تقديم ومراجعة محمد العاني، دار الساقي، الطبعة الثالثة، 2012م، ص 691

[14] محمد حسين فضل الله، الحوار في القرآن الكريم قواعده أساليبه معطياته، سورية، دار التعارف، الطبعة الخامسة، 1407هـ/ 1987م، ص 10

[15] المعافري، السيرة النبوية ( سيرة ابن هشام )، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، ، دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة، 1410هـ / 1990م، ( 2/ 501، 502)

[16] محمد حسين فضل الله، الحوار في القرآن الكريم قواعده، أساليبه، معطياته، مرجع سابق،  ص 10

[17] روجي جارودي، في سبيل حوار الحضارات، مرجع سابق، ص 83

[18] نفسه، ص 110

[19] نفسه، ص 114

[20] نفسه، ص 114-115

[21] نفسه، ص 115

[22] نفسه، ص 144

[23]  روجيه جارودي، لماذا أسلمت ؟ نصف قرن من البحث عن الحقيقة، القاهرة، ص 82

[24] مريم آيت أحمد، فن المعمار الإسلامي جسر للتواصل الحضاري الإنساني، مجلة حراء العدد 21، أكتوبر 2010م، ص 40

[25] روجي جارودي، في سبيل حوار الحضارات، مرجع سابق، ص 145-146

[26] روجي جارودي، وعود الإسلام، ترجمة ذوقان قرقوط، القاهرة، دار الرقي، الطبعة الثانية، 1985م، ص 145-146

[27] نفسه، ص 155 وما بعدها.

[28] نفسه، ص 159

[29] روجي جارودي، في سبيل حوار الحضارات، مرجع سابق، ص  160

[30] نفسه،  ص 180

[31] نفسه، ص 182

[32] نفسه، ص  208

[33] نفسه

[34] نفسه، ص 215-216

[35] مريم آيت أحمد، جدلية الحوار قراءة في الخطاب الإسلامي المعاصر، تقديم د. عبد المجيد النجار، الطبعة الأولى،2011م، ص 8

[36] نفسه

[37] نفسه

[38] روجي جارودي، في سبيل حوار الحضارات، مرجع سابق، ص 227.

لطيفة يوسفي

باجثة في الفكر الإسلامي، تعمل على تحضير رسالتها للدكتوراه في مختبر الحوار والمقاصد والدراسات، تكوين : الحوار الديني والثقافي في الحضارة الإسلامية بجامعة السلطان مولاي سليمان كلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال المغرب. كما نشرت العديد من الدراسات والابحاث في مجال الفكر الإسلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى