الدراسات

القيم في منهاج التربية الإسلامية: بين الخصوصية الديداكتيكية والكونية الإنسانية

السياق التاريخي لتبلور مفهوم القيم:

لقد كانت دراسة القيمة في أوروبا مبدأ أساسيا في الاقتصاد، وظهرت نظريات عديدة تبحث في طبيعتها، إلا أنها لم تعرف عمليا كواحدة من المواضيع الفلسفية الأصيلة إلا في القرن التاسع عشر. صحيح أن الفلاسفة القدامى ناقشوا موضوعات مثل الخير والحق والفضيلة والعدالة والجمال والصدق… وكذلك ما تم تداوله في الفكر الإسلامي عن الأخلاق والفضائل.. إلا أن تصور القيم لم يتضح إلا في الفلسفة المعاصرة حيث صار يشغل منزلة الصدارة بين موضوعات الفلسفة من حيث الأهمية والحاجة. ولهذا يعد ردولف هرمان لوطزه (1781-1871) أول من حلل القيمة من الناحية الفلسفية، لأنه ارتأى أن نقطة البداية في الميتافيزيقيا هي الأخلاق.

أما القيم في الخطاب العربي الإسلامي فلا نكاد نجد دراسة فلسفية تؤرّخ لها، ولعل الجابري أكّد على خلو الثقافة العربية الإسلامية من مؤلفات في “تاريخ الفكر الأخلاقي” ولو من النوع الذي كتب في “تاريخ الفلسفة العربية” سواء من طرف مستشرقين أو أساتذة عرب. على أن هناك ما هو أخطر من كل ذلك وهو تسليم جل الذين عرضوا للموضوع بفكرة “أن العرب لم ينتجوا لا في الجاهلية ولا في الإسلام فكرا أخلاقيا باستثناء ما ردده بعض فلاسفتهم من آراء في إطار ما نقلوه عن فلاسفة اليونان”[1].

وفي سياق موجة العولمة الجارفة، ظهر الحديث عن القيم الكونية، ونجد هانز كينج[2] وهو عالم لاهوت كاثوليكي يؤمن بأن الديانات العالمية تتشارك في العديد من القيم وهي في عمقها النهائي حريصة على سعادة الإنسان وذلك بتقديم التوجه الديني الأساسي، أي السند والعون والأمل ومنحنا الكرامة الإنسانية والحرية الإنسانية والحقوق الإنسانية… وينطلق من هذا الإيمان لوضع مشروعه العظيم عن “أخلاق كوكبية” يمكن أن يتفق على مبادئها جميع المؤمنين في جميع الأديان –بل وأصحاب النزعة الإنسانية من غير المتدينين- ويكوّنوا تحالفا مشتركا لخير البشرية. ونتج عن فكرة كينج هذه “الإعلان عن الأخلاق العالمية” الذي أقرّه برلمان الأديان العالمية الذي انعقد في شيكاغو سنة 1992، وهذا البرلمان ليس مؤسسة رسمية، كما أن أعضاءه لا يمثلون سلطات دينية رسمية. ولكن هذا لا يجرّد الإعلان من أهميته، وإنما يؤكد أن أفكار كينج تلقى ترحيبا واسعا وتقدم إمكانية حقيقية للتفكير بصورة تتفق اتفاقا كاملا مع المبادئ التي تقوم عليها الأديان المختلفة.

ومن هنا تم طرح ثنائية الديني والكوني واعتبار الكوني يتسامى ويتعالى على الديني، وتأكيد كذلك الجدلية القائمة بينهما بحيث أن المعطى الديني هو مجموعة قيم مخصوصة والمعطى الكوني هو جملة قيم مشتركة بين كافة البشر. ومن هذا المنطلق فقد حث المنهاج الدراسي لمادة التربية الإسلامية على القيم الكونية والانفتاح على الثقافات والحضارات الإنسانية في عديد من المواضع. وعليه فما هي هذه القيم الكونية التي دعا إليها المنهاج؟ ألا تعتبر قيم الإسلام قيما كونية تقوم على الحب والاحترام والسلم والتعايش والتسامح..؟ ألا يعتبر الإسلام كاملا كي تكون فيه قيما خاصة بالزمان والمكان والإنسان وقيما عابرة للحدود والقارات؟ ولماذا هذا الفشل الذريع لخطاب الكونية في زمن الحداثة وما بعد الحداثة؟ وهل حقا ترجم المنهاج الدراسي هذه الرؤى الكونية في الدروس؟

أولا: القيم الكونية: المفهوم والأبعاد.

  • مفهوم القيم الكونية.

يعد مفهوم القيم الكونية من أكثر المفاهيم ضبابية وتعقيدا في واقعنا، إذ عَرف في الآونة الأخيرة رواجا واسعا في العديد من المجالات، وأصبح أمرا مقدسا ومسلما لطائفة مهمة من المثقفين والتربويين وهيمن على خطاباتهم، لهذا سأحاول مقاربة المفهوم من زاوية فلسفية. فالقيمة ابتداءً؛ قدْر الشيء أو مقداره، أما في الاصطلاح فهي تدل على معان كثيرة بحسب المجالات التي ترد فيها، ففي المجال الفلسفي تفيد “القيمة”: “المعنى الخُلُقي الذي يستحق أن يتطلع إليه المرء بكليته ويجتهدَ في الإتيان بأفعاله على مقتضاه”، فهو المعنى الذي يجمع بين استحقاقين اثنين:

استحقاق التوجّه إليه؛

واستحقاق التطبيق له؛

وبناء على هذا التحديد الفلسفي الإجمالي لكلمة “قيمة”، يجوز أن نستعمل لفظين آخرين يَسُدّان مسدَّها، أحدهما اختص به الفلاسفة، وهو لفظ “المثال” أو قل “المثال الأعلى”؛ ونذكر من المُثُل التي اشتغل بها هؤلاء قديما: الخير والحق والجمال.. ومن تلك التي يشتغلون بها حديثا: الحرية والمساواة والعدل.. أما اللفظ الثاني، فقد اختص به علماء الأصول، وهو لفظ “المصلحة”؛ ونذكر من المصالح التي أجمعوا على دلالة النصوص الشرعية عليها الخمسة الآتية، وهي: الدين والعقل والنفس والمال والعِرض”[3].

والكونية أو الكوني Universel، فالشائع بين الناس أن ما يتقاسمونه إنّما يشملهم كلّهم لذلك فهو مشترك بينهم. أما في علم المنطق، فغالباً ما يستخدم مفهوم الكوني للدلالة على أن القضية المنطقية التي تشير إلى جملة من العناصر أو الأفكار هي التي يشملها الحكم نفسه، مثل القول الشائع: كل إنسان فان، سقراط إنسان. بحيث يصير الحكم فيها شاملا كل إنسان من دون استثناء. بينما في الاستخدام الفلسفي العام، فإنّ الكوني غالباً ما يدلّ على فكرة معيّنة أو قيمة ما عليا منظوراً إليها بوصفها مُثُلا أعلى، مثل (الخير، الجمال، العدل..) وقد يدلّ الكوني أيضا على منظورية قيمية أخرى قادرة على تأطير الإنسانية في كلّيتها وشموليتها مثل: السلام، العدالة، الحرية..أ

  • الأبعاد الإبستمولوجية للقيم الكونية.

لقد بدأت جدلية الديني “المسيحية” والكوني “الفلسفة اليونانية بما هي نسق ميتافيزيقي نظري وعملي” منذ العصر المسيحي الأول، خصوصا مع آباء الكنيسة الأوائل كالقديس أوغيسطين وتلميذه توماس الأكويني.. وذلك كون النظر الفلسفي العقلي يقوم على مبادئ البرهان المنطقي والإقناع الفكري، بينما يتأسس التفكير الفلسفي على مبدأ التسليم القلبي والوجداني.. وهكذا عرفت الثقافة الإسلامية هذه الجدلية فيما بعد، خصوصا بعد حركة الترجمة ما يعرف بـ”ثنائية العقل والنقل”، ثم انتقلت إلى الثقافة المسيحية اللاتينية مجددا في العصور الوسطى المتأخرة؛ أي القرون 12 و 13 و14 لينتج عن هذا الثورة الكوبيرنيكية التي أحدثت هزّات نظرية وفلسفية أدّت إلى فصل الديني عن الكوني بإطلاق فيما بعد[4].

ولعل تيم والاس كان واضحا في الحديث عما يدين به الغرب للحضارة الإسلامية، ومدى حضور القيم الإسلامية في تعامل المسلمين مع غيرهم، حيث يقول: “لقد حافظ العلماء المسلمون على علم اليونان القديم وحسنوه، ووضعوا أسس العلوم والطب والفلك والملاحة الحديثة وألهموا بعض إنجازاتنا الثقافية. ولو لم يكن نتيجة التسامح المتأصل مع أهل الكتاب الجلي داخل العالم الإسلامي طوال 15 قرنا، لكان من المشكوك فيه جدا أن يتمكن الشعب اليهودي من البقاء بشكل كيان عرقي وديني.. ونحن في الغرب ندين للعالم الإسلامي بدَيْنٍ لا يمكن تسديده كليا. على الرغم من جذورنا الدينية والروحية المشتركة، فقد عَبّرنا عن شكرنا لهم بقرون من الارتياب ووحشية الحملات الصليبية والهيمنة الإمبريالية التي تجري بلامبالاة قاسية تجاه حاجات الشعوب التي قمنا باستغلالها.

ثم تساءل؟

-هل يستطيع العالم الإسلامي أن يحل مشكلاته؟ لقد قام بذلك في الماضي، وبفضل المبادئ الأساسية في دينه، لقد فعل ذلك بتسامح واحترام تجاه المعتقدات والثقافات الأخرى”[5].

لاستكمال قراءة الدراسة، يمكنكم تحميلها عبر النقر هنا 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – انظر: العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت، ط1، 2001.

[2] – نشر أول كتاب في هذا الموضوع سنة 1990 تحت عنوان “مشروع الأخلاق العالمية” ثم كتاب “المسؤولية الكوكبية في البحث عن أخلاق عالمية جديدة سنة 1991.

[3]  – تعددية القيم: ما مداها؟ وما حدودها؟، طه عبد الرحمن، المطبعة والوراقة الوطنية- مراكش، ط1 2001، ص: 11-12.

[4] – انظر: العنف في تاريخ الفكر النظري: إشكالية العقل والإيمان نموذجا، عبد المجيد باعكريم، منشورات وليلي-مكناس، أبريل 2009.

[5]– تيم والاس ميرفي، ماذا فعل الإسلام لنا؟ فهم إسهام الإسلام في الحضارة الغربية، ت: فؤاد عبد المطلب، ط1، 2014، جداول-لبنان، ص 255-257.

محسن اعريوة

باحث في الفكر الإسلامي وقضايا التأويل مجاز من جامعة القرويين بفاس، حاصل على شهادة الماستر "الحوار الديني والحضاري وقضايا الاجتهاد والتجديد في الثقافة الإسلامية-بني ملال".

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى