الدراسات

تسجيل الحجاج في اللغة: حالة نظرية الكتل الدلالية – كوهي كيدا

تسجيل الحجاج في اللغة: حالة نظرية الكتل الدلالية – كوهي كيدا([1])

ترجمة: د. إبراهيم أمغار

توطئة المترجم:

مرت نظرية الحجاج في اللغة(l’Argumentation dans la Langue (ADL، منذ ظهورها أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بعدة تحولات. لقد تأسست في بدايتها على يدي ديكرو DUCROT وأنسكومبر ANSCOMBRE  وعرفت باسم “التداولية المدمجة“، وبرزت من خلال عدة دراسات ومؤلفات مثل كتاب “السلالم الحجاجية” لديكرو، وكتاب “الحجاج في اللغة” لديكرو وأنسكومبر، وكتاب “كلمات الخطاب” لديكرو وآخرين. ولكن تعرضت لانتقادات كثيرة بخصوص فرضياتها الأساسية عن جوهرية الحجاج في اللغة من طرف لغويين كثيرين مثل بيير مارتان Pierre MARTIN وأنطوان كوليولي Antoine CULIOLI وفرانسوا ريكاناتي François RECANATI، ما استدعى من ديكرو وأنسكومبر إدماج مفهوم الموضع الحجاجي بفهم مختلف عما هو رائج في الدراسات المنطقية والفلسفية في النسخة الثانية من النظرية. ولكن النظرية الموضعية تعرضت بدورها لانتقادات عديدة، دفعت بأنصار الدلاليات الحجاجية، ومعظمهم من زملاء ديكرو أو تلامذته، إلى طرح بدائل أخرى، تتفق رغم تنوعها في سعيها إلى وصف الحمولة الحجاجية المسجلة في معجم اللغة، فضلا عن الطريقة التي تقيد بها اللغة التوجيهات الحجاجية للتعبيرات اللغوية، وخاصة من خلال أنواع مختلفة من الأدوات اللغوية كالروابط والعوامل ومفهوم الأصواتية polyphonie، ومن هذه البدائل:

  • نظرية الكتل الدلالية Blocs sémantiques التي دشنتها ماريون كاريل Marion CAREL وطورتها مع ديكرو، وهي التي يقدم هنا أحد تلامذة ديكرو نبذة مقتضبة عن أهم مفاهيمها وأدواتها الوصفية ولإجرائية؛
  • ونظرية القوالب théoriedesstéréotypes التي طورها أنسكومبر، منتقدا التوجهات الجديدة لزميله ديكرو، ويتشبث فيها بمفهوم “الموضع” الحجاجي وفق تصور بديل للنسخة الأصلية من النظرية، مستمد من تصور بوتنام PUTNAM للمعنى، ويطرح فيها نظرية مختلفة عن نظرية ديكرو وكاريل حول العلاقة بين المعنى والمرجع في العالم الحقيقي أو ما يفترض أنه كذلك، وهو ما يسميه أنسكومبر بالوظيفة المرجعية؛
  • ونظرية الحجاج اللغوي الموسع التي يتبناها تلميذ ديكرو المغربي أبو بكر العزاوي، واعتمد فيها على النظرية الأصلية، مع توسيعها لتمتد من حدود الجملة والملفوظ إلى دراسة أنماط مختلفة من الخطابات، متشبثا كذلك بمفهوم “الموضع” بمفهوم أوسع وأشمل مما في النظرية الموضعية لديكرو وأنسكومبر، ومنفتحا بشكل أكبر على المظاهر التداولية والمعرفية للخطاب، والمفسرة للسيرورة الحجاجية بين طرفي التفاعل، وربطه بمسارات التأويل المعرفية؛ فكان تصوره للحجاج أقل بنيوية وأكثر تداولية مما لدى ديكرو وكاريل مثلا؛
  • وأطروحة بيار-إيف ركاح Pierre-Yves RACCAH عن “دلاليات وجهات النظر” Sémantique des points de vue والقيود على الحجج الممكنة، مستثمرا كذلك مفهوم “الموضع” ومحتفظا ببعض أدوات النسختين السابقتين من النظرية، مع ميل كبير إلى الصورنة والتمثيل الدلالي المنطقي؛ فطور ما يسميه “الموضع المعجمي” وفتح طرقا جديدا للوصف الدلالي الصوري للوحدات المعجمية؛
  • ونظرية أولغا غالاتانو Olga GALATANU عن “دلاليات الممكنات الحجاجية”  Sémantique des possiblesargumentatifs؛ وتستند إلى البحث عن نموذج لتمثيل الدلالة المعجمية، أو على نحو أدق إعادة بناء الدلالة المعجمية انطلاقا من فرضيات ناشئة عن تأويل معنى الكلمة المعنية بالدراسة في شتى صيغ ورودها المختلفة. ويسمح هذا التأويل بفهم التمثلات الخاصة بالعالم المصمم والمتصور بواسطة اللغة، وتلك الخاصة بالإمكانات الخطابية على مستوى التسلسلات الحجاجية للكلمات، وهو ما يشكل العنصر المميز للدلاليات الحجاجية في جميع تياراتها.

وستعرفنا هذه المقالة المترجمة فيما يلي على أهم الأدوات المبتكرة من طرف نظرية الكتل الدلالية لضمان وصف دلالي للغة منفصل عن الواقع تماما، ويحقق الأطروحة المركزية لنظرية الحجاج في اللغة، عن بنيوية الخطاب المثالي؛ مع رصد لدورها في تحديد الدلالات المعجمية لمفردات اللغة وتحليل الخطاب.

Dr. Kohei Kida Faculty of Letters, Department of Humanities and Social Science (Literature) (Mita)

نص المقال:

  1. مدخل

من المعلوم أنه منذ الأعمال التأسيسية لديكرو وأنسكومبر، التي تعود إلى سنوات الثمانينيات، ظهرت مقاربات عدة تتمحور حول فرضية أن الحجاج ليس فقط ما نقوم به مع اللغة، بل هو مؤسس داخل اللغة، مسجل فيها. وتثير هذه الفرضية، المقبولة حاليا بشكل عام في خطوطها العريضة، كثيرا من المسائل التفصيلية: أين يتم تسجيل الحجاج تحديدا (في الخطاب أم في اللغة، أم في الدلالة)؟ ما هي طبيعة حجاج من هذا القبيل بالضبط (هل هو سلسلة من الاقتضاءات المشكلة لاستدلال ما، مبتور أم لا، أو خطاب تحكمه قوانين خاصة به)؟ إلى أي درجة يتم تسجيل الحجاج (إذا افترضنا على سبيل المثال أنه مسجل في دلالة الكلمة، هل يتعلق فقط بجزء من الدلالة، أم أنه يستنفد هذه الدلالة كلها)؟ أقترح تقديم إجابة أولية عن هذه الأسئلة، في محاولة لوصف وحدات من المعجم في إطار نظرية الكتل الدلالية Théorie des Blocs Sémantiques (اختصارا TBS)، التي مهدت لها ماريون كاريل Marion Carel الطريق أوائل التسعينيات. وقد أسهمت، وما زلت أسهم، في تطوير النظرية. وبالنسبة للمراجع البيبليوغرافية، سأقتصر على الإشارة إلى مقالي المنشور في العدد الأخير من مجلة Travaux de linguistique.

  1. مصطلحية

لنقف أولا على مواضعة اصطلاحية، وسأعتبر التمييز الذي وضعه ديكرو بين «الجملة» phrase و«الملفوظ» énoncé أوائل السبعينيات أمرا مفروغا منه، وهو ما يماثل التمييز بين «الجملة» sentence و«التعبير» utterance من قِبَل التداوليات المعاصرة الآخذة في التطور في أوساط اللسانيين الناطقين بالإنجليزية بالخصوص؛ حيث الجملة وحدة تركيبية مجرّدة، تشكل ملفوظا بحدوثها المتفرد في لحظة معينة ومكان معين. وإضافة إلى ذلك، سأعتبر، مقتديا بديكرو، «الدلالة» signification القيمة الدلالية للجملة و«المعنى» sens تلك الخاصة بالملفوظ. وبالمثل، سأتحدث عن الدلالة فيما يتعلق بكل عنصر من العناصر المشكلة لجملة (كلمات أو مجموعة كلمات)؛ فالدلالة بطبيعتها ثابتة غير متغيرة من سياق لآخر. وباعتبارها نظرية دلالية، فإن نظرية الكتل الدلالية تهدف إلى وصف دلالة التعبيرات اللغوية.

سأفترض أن معنى ملفوظ يتضمن عدة “محتويات”، بعضها ينقل صراحة وقصديا من قبل المتكلم، والبعض الآخر ضمنيًا، مستنتجا من محتوى صريح، بالاحتكام إلى عدد من المبادئ التداولية مثل “قوانين الخطاب” لديكرو أو “الحكم التخاطبية” لغرايس GRICE. وبغية التبسيط، سأفترض لاحقا أن المتكلم بملفوظ ينقل محتوى صريحا وواحدا فقط.

  1. التسلسل الحجاجي والمحتوى الحجاجي

ما المحتوى الصريح لملفوظ؟ غالبا ما تسمه التداوليات المعاصرة بمصطلح “القضية” (proposition) أو “المحتوى القضوي” (contenu propositionnel) أو “المحتوى الصدقي” (contenu vériconditionnel). أما “نظرية الكتل الدلالية” فترى الأمور بصورة مختلفة؛ فعوض السؤال عن المحتوى الصريح لملفوظ ما، فإنها تبدأ بطرح هذا السؤال المنهجي والتجريبي: كيف يمكننا الوصول إليه؟ والجواب هو أن الطريقة الوحيدة المؤكدة، في ظل الظروف الراهنة، للقيام بذلك هي اللجوء إلى اللغة، وإلى استعمال مفردات اللغة، وباختصار إلى إعادة الصياغة paraphrase. وقد اكتشفت”نظرية الكتل الدلالية” أن المحتوى الصريح للعديد من الكلمات يمكن وصفه على نحو واف بواسطة ما يطلق عليه “التسلسل الحجاجي”.

وهاك بعض الأمثلة. لنعتبر الملفوظ (1):

  • كان بيير مقتصدا.

ما المحتوى الذي يقصد المتكلم في (1) تبليغه؟ وفقًا لـ “نظرية الكتل الدلالية”، فقد تمت إعادة صياغته بواسطة خطاب حجاجي من قبيل (2):

  • شيء ما عديم الفائدة لذا لم يقم بيير بشرائه.

وينطبق الشيء نفسه على (3)، الذي تمت إعادة صياغة محتواه الصريح بواسطة (4):

  • كان بيير حذرا.
  • واجه بيير خطرًا لذا اتخذ الاحتياطات اللازمة.

ولا يتم إنشاء الخطابات التي تستعملها “نظرية الكتل الدلالية” لإعادة صياغة محتوى ملفوظ بواسطة “لذا” (donc)([2]) فقط كما هو الحال في (2) و (4)، بل يمكن أيضا صياغتها بروابط مثل “لأن” (car) أو “بسبب” (parce que). ومن ثم، تتم إعادة صياغة محتوى (1) لا بواسطة (2) فقط بل كذلك عن طريق خطاب مثل (5):

  • لم يشتر بيير شيئًا معينًا، بسبب انعدام فائدة هذا الشيء.

ويمكن للرابط “إذا” أن يفي بالغرضأحيانًا، فتتم إعادة صياغة محتوى العبارة (6) بخطاب مثل (7):

  • بيير حذر.
  • إذا واجه بيير خطرا، فسيأخذ الاحتياطات اللازمة.

لإعادة صياغة محتوى ملفوظ، ما يزال ممكنا استخدام مجموعة أخرى من الروابط، مثل: “رغم أن” (pourtant)، “بينما” (bien que)، “حتى لو” (même si). وهكذا، تتم إعادة صياغة محتوى ملفوظ كـ (8) بخطاب مثل (9):

  • كان بيير شجاعا.
  • كان الأمر خطيرا غير أن بيير فعلها.

والأمر نفسه بالنسبة لـ (10) الذي أعيدت صياغته بواسطة (11):

  • بيير ذكي.
  • حتى لو كان الأمر صعبا، فإن بيير سيفهمه.

كل هذه الخطابات المذكورة، المستعملة لإعادة صياغة محتوى ملفوظ، تعيّنها “نظرية الكتل الدلالية”بالمصطلح العام نفسه “التسلسل الحجاجي”. وتصنف التسلسلات الحجاجية إلى فئتين، اعتمادًا على ما إذا كانت صيغت مع رابط من نوع (donc)”إذن” أو (pourtant) “رغم  أن”. ولنتفق على أننسمي “حجة” كل محتوى ملفوظ موصوف بواسطة تسلسل حجاجي يعد بمثابة إعادة صياغة.

وقد يكون مغريا تحليل محتوى حجاجي إلى محتويين قضويين كاملين ومستقلين، متصلين بواسطة رابط. ومن ثَمَّ، سيتكون المحتوى الحجاجي (2) “شيء ما عديم الفائدة لذا لم يقم بيير بشرائه” من محتويين قضويين [شيء ما عديم الفائدة] و [بيير لم يشتر هذا الشيء]، قابلين للتقييم بمعزل عن بعضهما البعض، مرتبطين بواسطة “لذا”. لكن الحال ليس كذلك. بشكل عام، يشكّل المحتوى الحجاجيكلا غير قابل للتجزئة، ونتيجة لذلك، يُشكِّل وحدة بالمعنى الأولي. دعونا نأخذ على سبيل المثال التسلسل الحجاجي (2) “شيء ما عديم الفائدة لذا لم يقم بيير بشرائه”. لنتخيل موقفا وجد فيه بيير شيئًا عديم الفائدة ولم يشتره، لا لأنه عديم الفائدة بل لأن بيير لا يملك المال. فلن نقول حينئذ إن بيير كان مقتصدًا. لماذا؟ لأن التسلسل الحجاجي (2) “شيء ما عديم الفائدة لذا لم يقم بيير بشرائه” لا يقول إن هناك شيئًا ما بلا فائدة، وبصرف النظر عن هذه الحقيقة، فإن بيير لم يشتره، بل إن شيئا ما كان عديم الفائدة، ولهذا السبب تحديدا، لم يشتره بيير. وينطبق التحليل نفسه على (9) “كان الأمر خطيرا غير أن بيير فعلها”. فمايقوله هذا التسلسل الحجاجيليس أن بيير فعل شيئاعلى الرغم مما يمثله من خطر (كما لو قام مثلا في موقف ما بفعل دون أن يدرك خطورته)، بل أن بيير فعل شيئًا رغم خطورته. وينبغي التنويه بالمناسبة إلى أنه إذا كان بيير قد فعل شيئًا بسبب ما يمثله من خطر، فسنكون حينئذ بصدد ملفوظ مثل “كان بيير متهورًا”، حيث تعاد صياغة محتواه بـ “كان الأمر خطيرًا لذا فعلها بيير”.

  1. الخطاطة الحجاجية والدلالة

ذلك هو في الأساس النمط الذي تعاين به “نظرية الكتل الدلالية” معنى الملفوظات، لكنها تتجاوز ذلك إلى وصف التعبيرات اللسانية المختلفة. ولأجل ذلك، تقحم أداة وصفية أخرى هي “الخطاطة الحجاجية”. والمقصود بها ما هو مشترك بين تسلسلات حجاجية.

لننظر في الملفوظات التالية من (12) إلى (14) والتسلسلات الحجاجية من (15) إلى (17) التي تعيد صياغة المحتوى المخصوص لهذه الملفوظات:

  • كان ألبان حذرا.
  • ظل برياك حذرا.
  • سيدريك حذر.
  • واجه ألبان خطرا لذا احتاط للأمر.
  • أخذ برياك احتياطات بسبب مواجهته لخطر.
  • سيأخذ سيدريك احتياطات إذا ما واجه خطرا.

وتفترض “نظرية الكتل الدلالية” أن هذه التسلسلات الحجاجية كلها مبنية على الخطاطة الحجاجية نفسها، موضحة في (18):

  • خطرذناحتياط([3]).

فالخطاطة الحجاجية هي ما يظل باقيا من تسلسلات حجاجية مختلفة، باستبعاد العناصر المتحدث عنها (ألبان، برياك، إلخ)، والأزمنة النحوية (الحاضر، الماضي المستمر، الماضي المركب، إلخ)، والروابط (لذا، بسبب، إلخ). ويتم تمثيل الروابط بواسطة “ذن” (DC) أو “رغ” (PT)، بحسب ما إذا كانت من صنف “إذن” (donc) أو “رغم أن” (pourtant). وتشبه الخطاطة الحجاجية هيكلًا عظميًا يكسوه المتكلم لحما بكلمات لبناء تسلسلات ملموسة. وسنقول إن التسلسلات الحجاجية المبنية على الخطاطة الحجاجية نفسها “تُـجسِّد” أو “تُـحَقِّق” الخطاطة.

وثمة ملاحظة بالغة الأهمية. فكما أشرت، فبقدر ما يشكل التسلسل الحجاجي كلاً لا يتجزأ دلاليا، فإن الخطاطة الحجاجية عبارة عن وحدة دلالية غير قابلة للتجزئة. لذلك لا ضرورة لاعتبارها مكونة من محمولين مستقلين دلاليا، بخلاف ما يمكن أن يوحي به تمثيلها كما في (18).

أما الآن، فسأبين كيف تصف “نظرية الكتل الدلالية” دلالة كلمات المعجم. لنعتبر الملفوظات الثلاثة (12) إلى (14). ولمراعاة حقيقة أنه يمكننا أن نبني، من هذه الملفوظات، التسلسلات الحجاجية (15) إلى (17)، تفترض “نظرية الكتل الدلالية” أن الصفة “حَذِرٌ” تحتوي في دلالتها الخطاطة الحجاجية(18) “خطرذناحتياط”. وهو ما يمكنني تمثيله كما في (19):

  • حذر:خطر ذن احتياط.

ومن المنظور نفسه، تصف “نظرية الكتل الدلالية” دلالة الصفات “مقتصد، شجاع، ذكي”، بربطها بخطاطات حجاجية بالصيغة التالية:

  • مقتصد:غيرمفيدذننفحجاشترى.
  • شجاع: خطِيرسبفَعَلَ.
  • ذكي: صَعْبسبفَهِمَ.

(“نفحج” (Narg) هو رمز النفي الحجاجي الذي لا يشمل فقط النفي “ليس، لا…” في استعماله غير الميتالغوي([4])، بل أيضا التعابير ذات التوجيه السالب حجاجيا مثل “القليل، نادرا، إلخ”).

  1. تلخيص

باختصار، تفترض “نظرية الكتل الدلالية”، كما تبين لنا، أن الحجاج مسجل في اللغة على مستويين: على مستوى معنى الملفوظات من جهة، حيث يقوم الحجاج بدور منهجي أوليّ، في صيغة تسلسل حجاجي، لجعل المحتوى الصريح للملفوظات جليا؛ وعلى مستوى الدلالة من جهة أخرى، حيث يجري تنفيذها، متبلورة، إذا جاز التعبير، وفق خطاطة حجاجية، لوصف دلالة وحدات اللغة.

  1. مشكلة

بعد أن أوضحت أساسيات “نظرية الكتل الدلالية”، أود أن أقدم لكم فيما يلي مشكلة تقنية انشغل بها أتباع “نظرية الكتل الدلالية” لبعض الوقت، وهي مشكلة أعتقد أنها ذات أهمية كبيرة ليس فقط لأولئك الذين يندرجون في إطار هذه النظرية بل كذلك لمن يهتم بتحليل النص أو الخطاب.

يتعلق الأمر بالعودة إلى الاقتران بين خطاطة وتسلسل. ولنتذكر أن الخطاطة الحجاجية هي ما نحصل عليه من عدد معين من التسلسلات الحجاجية بأن نستبعدمن هذه التسلسلات كل عنصر من قبيل (الزمن النحوي، الروابط، إلخ).. ولكن بعد ذلك، يطرح سؤال جديد، وهو معرفة درجة الاستبعاد التي يمكن للمرء المضي فيها للحصول على خطاطة حجاجية. ففي الواقع، يمكن أن يتولد لدينا انطباع، بمجرد النظر في الأمثلة (15) إلى (17)، بأنه يكفي الأخذ بهذا اللفظ أو ذاك من تسلسلات حجاجية للحصول على الخطاطة الحجاجية التي تبنى عليها.ومن ثَمَّ، فإن الألفاظ المتكررة التي تشكل التسلسل الحجاجي (15) إلى (17)، في هذه الحالة “الخطر” و”الاحتياط”، تعاد كتابتها بكل بساطة في الخطاطة الحجاجية(18) “خطرذن احتياط”، لكن الشواهد العملية تظهر أن الأمور ليست بهذه البساطة.

سأناقش هذه المشكلة بالتفصيل من خلال محاولة وصف الفعل “عاقب” (punir). ولننظر في المثال التالي:

  • – أوه! لكن الله موجود! سيعاقبك الله! إلهي! فليعان يوما مما أعاني منه! (دوما، الفرسان الثلاثة «نبيذ أنجو»)([5]).

المتحدث هو جندي يدعى بريزمون. وفي مخيم منصوب أمام [بلدة] لاروشيل، يتلقى دارتانيان دزينة من زجاجات النبيذ، معتقدا أنها مرسلة من أصدقائه الثلاثة، فقام بإعداد مأدبة، ودعا بريزمون، مقدما له كأسا، ولم يكن يعلم أن النبيذ مسموم. يحتضر بريزمون، وهو يعتقد أن دارتانيان هو من سممه، فألقى عليه لعنة كما في (23).

ما المحتوى الذي يزمع بريزمون تبليغه لدارتانيان عندما قال له: «سيعاقبك الله»؟ سأقترح إعادة صياغته في تسلسل حجاجي كما في (24):

  • لقد سممتني لذا سيجعلك الله تتسمم.

وأنا مدرك جيدًا أن هذا التأويل قد يبدو غير متوقع نوعا ما، للوهلة الأولى على الأقل، لكنه عند التمعن، يغدو ممكنا تماما، ويكفي لي أن أقول إنه يظل إحدى الاحتمالات الممكنة.

والآن، ما الخطاطة الحجاجية التي استند إليها هذا التسلسل الحجاجي؟ لو تبنينا بالضبط الإجراء نفسه الذي يتيح الحصول على الخطاطة الحجاجية (18) انطلاقا من تسلسلات حجاجية (15) إلى (17)، فسيتعين علينا أن نتخيل، بالنسبة لـ (24)، خطاطة حجاجية من قبيل (25):

  • تسممذنجعله متسمما.

وتنشأ الصعوبة عندما نفترض أن هذه الخطاطة الحجاجية هي جزء من دلالة الفعل “عاقب”. وفي الواقع، تقودنا هذه الفرضية إلى توقع خائب. فلننظر في المثال التالي:

  • – سيدي، واصل فيلتون الكلام مستثارا، سيدي، حذار، انجلترا كلها سئمت من آثامك؛ سيدي، لقد أسأت استغلال القوة الملكية التي اغتصبتها تقريبًا؛ سيدي، أنت ممقوت من البشر والله. سيعاقبك الله لاحقًا، لكنني سأعاقبك اليوم (دوما، الفرسان الثلاثة، «الحوادث التي جرت في بورتسموث في 23 أغسطس 1628»)([6]).

كان هذا الضابط فيلتون الذي يخاطب دوق باكنجهام قبل وقت قصير من اغتياله. يرى فيلتون أن الدوق يستحق الإعدام لعدة أسباب: فهو رجل دولة فاسد؛ ويضطهد البيورتانيين([7]) (وفيلتونبيوريتاني متعصب)؛ وقد أخزى “ميلادي” التي يحمل لها فيلتون تقديسا وثنيا (وهذ الخزي في الحقيقة من وحي الخيال).

ما هو المحتوى الصريح للملفوظ «سيعاقبك الله» في هذا السياق الخاص؟ سوف أقترح إعادة صياغته بواسطة تسلسل حجاجي مثل (27):

  • أنت خسيس لذا ستحترق في الجحيم.

ومع ذلك، لا يعتمد هذا التسلسل الحجاجي على الخطاطة الحجاجية (25) “تسمم نج جعله متسمما”: كيف يمكن أن نجسد “تسمم” و”جعله متسمما” بواسطة “خسيس” و”الاحتراق في الجحيم” على التوالي؟ والأدهى من ذلك، يمكننا أن نتخيل خطاطة حجاجية أخرى من قبيل (28):

  • خسيس ذن الاحتراق في الجـحيم.

وهو لا يتيح بدوره حساب بناء التسلسل الحجاجي (24) “لقد سممتني لذا سيجعلك الله تتسمم”.

ويتمثل الحل الذي أقترحه في إيجاد خطاطة حجاجية تجريدية بالقدر الكافي للتطبيق على حد سواء على كلا التسلسلين الحجاجيين (24) و(27). وإليكم ما أقترحه:

  • عاقب: خطأذن معاناة.

في هذا المنظور، يُؤَوَّل المقطع الأول من التسلسل الحجاجي (24)، “لقد سممتني”، على أنه حالة خاصة من “الخطأ” المقصود في الخطاطة الحجاجية (29)؛ ويؤول المقطع الثاني من التسلسل الحجاجي نفسه، “سيجعلك الله تـتسمم”، على أنه حالة خاصة من “المعاناة” التي تشير إليها الخطاطة الحجاجية نفسها. وينطبق الشيء نفسه على التسلسل الحجاجي (27)، حيث يؤول فيه على التوالي المقطعان، “أنت خسيس” و”ستحترق في الجحيم”، على أنهما تجسيد للنمط نفسه. وتجدر الإشارة إلى أن “الخطأ” المعني في هذه الخطاطة قد يكون متفاوتا في الخطورة تبعا للسياق، بدءاً من رفض بسيط لإطاعة الوالدين إلى جريمة نكراء؛ وينطبق الشيء نفسه على “المعاناة” التي تشير إليها الخطاطة نفسها، سواء أكانت بدنيةً أو معنويةً، من فقدان لذة الأكل إلى عقوبة الإعدام. وهذا يعني، أنه يجب ألا ننسى أن الخطاطة الحجاجية عبارة عن وحدة غير قابل للتجزئةدلاليا. لذلك يعد من انتهاك اللغة الفصل بين “الخطأ” و”المعاناة”. وأود التشديد على أن مقطعي الخطاطة، “الخطأ” و”المعاناة”، مترابطان دلاليا لدرجة أنهما يتحدان في كيان واحد؛ فجميع الأخطاء المذكورة تشترك في أنها تفضي إلى المعاناة، مثلما تشترك جميع أصناف المعاناة المذكورة في كونها نتيجة لخطأ.

ويستلزم هذا الحل، فيما لو كان جيدا، أن تتيح الخطاطة الحجاجية (29) “خطأذنمعاناةنظريا بناء عدد لا نهائي من تسلسلات حجاجية. وسيكون كافيا للتحقق أن يكون هذا هو الحال بالنسبة لحالتين أخريين. وللقيام بذلك، سآخذ على سبيل المثال نصين آخرين لدوما.

المثال الأول. لننظر في النص التالي:

  • – آه! قال لامول، هذا أمر مفهوم: لقد مددت يدك له في يوم زيارتنا؛ لقد نسيت أن جميع الرجال إخوة، لقد كنت مزدريا. والله يعاقبني على غروري، شكراً لله! (دوما، الملكة مارغو، “الكنيسة”)([8]).

يخضع كوكوناس ولامول، المتهمان بجريمة انتهاك الذات الملكية، للاستجواب من قبل عساكر. ويقوم الجلاد كابوشبتجنيب كوكوناس عناء الألم، بينما يتعرض لامول للتعذيب لدرجة أن عظامه «تكسرت»، وجسده كله «ليس سوى كومة جروح». لماذا هذا الاختلاف؟ خلال زيارتهما لكابوش، لشكره على مرافقتهما إلى متحف اللوفر بعد معركتهما، كان لكل واحد منهما سلوك مختلف تجاهه؛ كانكوكوناس من مدّ يده لمصافحة يد الجلاد. وفي هذا المقتطف، يخاطب لامول كوكوناس عن الجلاد كابوش.

يمكننا إعادة صياغة المحتوى الذي يقصد لامول التعبير عنه بوضوح بقول «الله يعاقبني على غروري»، من خلال تسلسل حجاجي مثل (31):

  • كنت مغرورا لذا جعلني الله أعاني من التعذيب.

ومن المفهوم أن هذا التسلسل الحجاجي يحقق بدوره الخطاطة الحجاجية (29)، خطأذنمعاناة، حيث يعتبر غرور لامول هنا خطأ، والتعذيب المقصود معاناة.

وبهذا الصدد ثمة ملحوظة صغير عن تركيب الجملة. ففي منظور كمنظورنا، يمكننا وصف حرف الجر (من “ز”)في التركيب (“س” عاقب “و”من “ز”) على أن له وظيفة تحديد القسم الأول من خطاطة حجاجية (29). وهذا واضح في حالة ملفوظ لامول عندما تتم إعادة صياغة محتواه كما في (31).

المثال الثاني والأخير. لننظر في النص التالي:

  • –غالبا ما دفعت السجينة قريبا من التهلكة أين ترمين بنفسك الآن بفضائحك وانتهاكاتك. إن الله يعاقبك بجرك إلى الموت هذه الفتاة التي أحببتها كثيراً. (دوما، فارس البيت الأحمر، «التذكرة»)([9]).

تم إيداع ماري أنطوانيت في الكنيسة في انتظار محاكمتها، يعتني بها السجان تيسون وزوجته. وكانت زوجة تيسون تضطهد السجينة بإهانتها. في يوم ما، اكتشفت رسالة في زهرة قدمت للسجينة. وتتهم زوجة تيسون بالتآمر كلا من موريس ليندي، وهو شاب من الحرس الوطني للملكة، ولورين، زميله وصديقه. لكن خلال المحاكمة، يتبين أن الابنة تيسون هي التي أخفت الرسالة. لذلك نددت الأم مكرهة بابنتها. وهي يائسة، في طريق العودة إلى المعبد، تلتقي السيدة تيسون برجل يخفي وجهه في معطفه. ويقترح عليها طريقة لإنقاذ ابنتها إذا أرادت مساعدة الملكة في هروبها. ومن هنا جاء الخطاب (32)، كما لو كان تذكيرا لها بالحالة التي تردَّت إليها.

إن المحتوى الذي يقصد الرجل ذو المعطف تبليغه صراحة عندما يقول: «إن الله يعاقبك بجرك إلى الموت هذه الفتاة التي أحببتها كثيراً»، تعاد صياغته بواسطة تسلسل حجاجي مثل (33):

  • أنت تضطهدين الملكة لذا يقود الله ابنتك إلى الموت.

من السهل ملاحظة أن المقطع الأول من (33) يحقق “الخطأ” من الخطاطة الحجاجية (29) “خطأ ذنمعاناة“، على الأقل بالنسبة للمتكلم، المناصر للملكية على الأرجح، ويحقق المقطع الثاني “المعاناة” من النمط نفسه.

وملحوظة صغيرة عن تركيب الجملة مرة أخرى. يمكن وصف المصدر في التركيب (“س” عاقب “و”بـ”ز”) على أن له وظيفة تحديد القسم الثاني من الخطاطة الحجاجية(29)، “خطأذنمعاناة”، أي “المعاناة” في هذه الحالة. وهو ما أكده المثال (32)، الذي يبدو أنه يعطي دليلاً يوضح ماهية معاناة السيدة تيسون. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الملحوظة التركيبية وكذا نظيرتها السابقة تشكل، مثلما أفعل، حجة أخرى لوضع الخطاطة “خطأذنمعاناة” ضمن الدلالة نفسها لـ “عاقب”.

  1. خلاصة

وختاما، فمن السهل نسبيًا العثور على تسلسل حجاجي لإعادة صياغة محتوى ملفوظ، ولكن بالنظر إلى عدد معين من التسلسلات الحجاجية، فإن الأكثر صعوبة هو العثور على خطاطة حجاجية جيدة تنبني عليها هذه التسلسلات كلها. وهنا مكمن اشتغال اللغوي.

بمجرد اكتشافها، يمكن استخدام خطاطة حجاجية لتوجيه القراءة. في الواقع، ستكون سمة هذه الخطاطة دفع القارئ إلى البحث وإعادة تنظيم العناصر النصية التي يمكن أن تحقق الخطاطة. وهكذا، فإن تأويل ملفوظات بريزمون أو فيلتون «سيعاقبك الله»، يعني أن يكتشف في النص ما الذي يحقق الخطاطة الحجاجية(29) “خطأذنمعاناة” المفترض أنها مسجلة في دلالة لفظة “عاقب“. ومن ثم، يسلط مفهوم الخطاطة الحجاجية ضوءا جديدا على مسألة ما هي عملية القراءة، وما هو فهم النص.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1])Kohei Kida, «L’inscription de l’argumentation dans le langage: le cas de la Théorie des Blocs Sémantiques,Argumentation & Langage, Sep 2015, Lausanne, Suisse.

https://halshs.archives-ouvertes.fr/halshs-01512444. Submitted on 23 Apr 2017.

والمؤلف أستاذ جامعي بقسم الآداب في جامعة كايو Keio اليابانية، حصل على الدكتوراه في علوم اللغة من فرنسا سنة 1998، تحت إشراف رائد الحجاج اللغوي الفرنسي أوزفالد ديكرو Oswald Ducrot.نشر عدة دراسات في الدلالياتالحجاجية والأدب الفرنسي.

([2]) من المعلوم أن للفظتين donc وpourtant مقابلات في العربية متنوعة بتنوع سياقات استعمالهما، وقد آثرنا أن يكون المقابل الرئيسي لـ (donc) هو “إذن” والمقابل الرئيسي لـ (pourtant) هو “رغم أن”، بشكل عام ومجرد، على أن نستعمل مقابلات أخرى بما تقتضيه سلامة التركيب اللغوي وتجنب الركاكة عند ترجمة الأمثلة. [المترجم]

([3]) تجدر الإشارة هنا إلى أن الكاتب وغيره من أتباع نظرية الكتل الدلالية يستعينون بما توفره الأبجدية اللاتينية من حروف تاجية Capital letters عند استعمال مختصرات من قبيل PT وDC وCONN، وقد استعضنا عن ذلك بكتابة المختصرات العربية المقابلة لها بخط غامق مع التسطير. [المترجم]

([4]) النفي الميتالغوي في تصور التيار الرئيسي للدلاليات الحجاجية، كما يتبناه أوزفالد ديكرو، هو كل نفي يمثل نقضًا لإثبات سابق وقع التلفظ به حقا. ويعادل ابتداء قولنا: “ليس من حقك أن تقول…”، ويمكنه، عند الاقتضاء، إما الحفاظ على القيمة الحجاجية أو قلبها. [المترجم].

 ([5]) DUMAS, Les Trois Mousquetaires, «Le vin d’Anjou».

 ([6]) DUMAS, Les Trois Mousquetaires, «Ce qui se passait à Portsmouth le 23 août 1628».

([7]) البيوريتانية حركة مسيحية بروتستانتية إنجليزية ظهرت في القرن 16م لتطهير الكنيسة الإنجليزية، وتجمع خليطًا من الأفكار الاجتماعية، السياسية، اللاهوتية، والأخلاقية، ونادت بإلغاء الأزياء والرتب الكهنوتية. وتستعمل لفظة البيوريتاني أيضا بشكل غير دقيق لوصف الإنسان بالتعصب الشديد أو ضيق الفكر. [المترجم].

([8]) DUMAS, La Reine Margot, «La chapelle».

 ([9]) DUMAS, Le Chevalier de Maison-Rouge, «Le billet».

لتحميل نسخة PDF من الترجمة أنقر هنا 

إبراهيم أمغار

أستاذ جامعي بكلية اللغة العربية، جامعة القاضي عياض بمراكش، حاصل على الدكتوراه في الدراسات اللغوية، تخصص: الدلالة والتداولية (2015)، من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، ظهر المهراز، فاس. له العديد من الدراسات والترجمات والأبحاث العلمية المنشورة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى