الدراسات

الحِجاج والعنف

جدل البلاغة والسياسة

تقديم المترجمة:

كتب الفيلسوف شاييم بيرلمان ورقة بعنوان «البلاغة والسياسة»1، ساهم فيها ضمن الكتاب الموسوم بـ«اللغة والسياسة» والذي صدر في سنة 1982، بتحرير من الفيلسوف الأنجليزي موريس كرانستون (1920-1993)، وعالم السياسة الأيرلندي بيتر مير (1951-2011). وقد تم إعادة نشر ورقته في سنة 1983، ضمن العدد المكرس عن «الإقناع والعنف» لدورية «قدموس» التي تصدر عن معهد الجامعة الأوروبية في مدينة فلورنسا-إيطاليا. وقد قمنا بترجمتها، هنا، بالاعتماد على طبعتها الثانية المزيّدة والمنقحة. وارتأينا أن نسبقها بترجمة لنصّ مستلّ من كتاب بيرلمان العمدة «رسالة في الحِجاج» في سنة 1958، كان قد خصصه لموضوع «الحِجاج والعنف»2، وذلك لطبيعة التداخل النظري والفلسفي والمنهجي فيما بينهما، ولراهنية كل واحد منهما واستدعائه للأخر، وبالعكس.

=============

الحِجاج والعنف

نعني بالحِجاج هو كل فعل كلاميّ، شفوي أو مكتوب، ينزع دائماً بمفعوله المؤثِر نحو إحداث تعديل في حالة للأشياء موجودة سلفاً. ويصح هذا القول، حتى على خطاب فصاحة البَيَان، ولهذا السبب فهي خطاب حِجاجي بامتياز. ففي حين إننا ننظر عادة للمرء الذي يبادر بالجدال من دون أي مقدمات، كالمتهجّم والمتجاوز للحدود، فإننا نعتبر المرء الذي يسعى من خلال خطابه إلى تعزيز القيّم السائدة، كحارس الوديان التي تخضع باستمرار لخطر هجمات المحيط.

فمن غير الممكن لأي مجتمع محافظ على قيّمه ومتمسك بها، ألا يوجه كل العناية نحو المناسبات التي تسمح بتقديم خطابات فصاحة البَيَان على وتيرة ثابتة، مثل: مراسيم إحياء ذكرى أحداث تاريخية تهمّ البلاد؛ وشعائر دينية؛ وتأبين مفقودين، وغيرها من المظاهر التي تعزز صلة التشارك بين جميع الأفراد. وبالقدر الذي يسعى فيه قادة جماعة معينة إلى التشديد من تأثيرهم وإحكام سيطرتهم على التكوين الفكري لأعضاء جماعتهم وعملية تشكيل آرائهم، فإنهم سوف يوسعون من نطاق عقد الندوات ذات الطابع التربوي، وسيذهب البعض منهم إلى حد اللجوء إلى التهديد وتقييد الحريات في سبيل إجبار المناهضين لسلطتهم على الخضوع لخطاباتهم المتشرّبة بروح قيّم الجماعات المحلية. وفي الوقت الذي يعتبرون فيه أن أي خرق للقيّم المعترف بها بشكل رسمي هو عمل ثوري، فإن هؤلاء القادة أنفسهم سوف يبذلون قصارى مجهودهم سواء من خلال عمل الرقابة ووضع لوائح سوادء،  أو من خلال التحكم بوسائل الأتصال المسؤولة عن تبادل الأفكار والآراء والمعلومات وفرض المراقبة عليها، وبما يجعل من الصعب على خصومهم، إن لم يكن بالمستحيل عليهم، بلوغ السُبل اللازمة في تحقق الممارسة التواصلية الحِجاجية. ولن يكون أمام هؤلاء الأخيرين من خيار بديل سوى الأنجرار إلى استعمال القوة، فيما لو أرادوا مواصلة النضال.

ويمكننا، بالفعل، أن نجرب الحصول على نتيجة مماثلة إما باللجوء إلى العنف أو عن طريق خطاب يهدف إلى كسب تأييد الأذهان. وفي ضوء الأختيار ما بين هذين الأسلوبين الأثنين، سيتم أدراك مدى التعارض القائم، بشكل ملحوظ، بين الحرية الفكرية والأكراه. حيث أن استعمال الحِجاج يقتضي ضمناً التخلي عن اللجوء إلى القوة وحدها؛ وتعليق أهمية كبيرة على تأييد المحاور الذي تم الحصول عليه بالاستعانة بالإقناع الأستدلالي؛ وألا نتعامل مع المحاور كمجرد شيء، وإنما نناشد فيه استئناف حريته في تكوين حكم والتعبير عنه. من هنا، فإن الأستعانة بالحِجاج تفترض التأسيس لروح جماعية تحول دون اللجوء للعنف طوال فترة دوامها في مجتمع معين، بحسب الفيلسوف إريك فايل في كتابه (منطق الفلسفة) الصادر في سنة 1950. أما الموافقة على الدخول في نقاش، فهي تعني القبول بوضع أنفسنا في موضع وجهة نظر المحاور ، وألا نركز سوى على ما يقبل به هذا الأخير من أطروحات أو قضايا أو أفكار أو آراء، وألا نقوَّم حُجّتنا على اعتقاداته الخاصة، إلا بقدر ما يكون هذا الشخص، الذي نسعى لإقناعه، مستعداً فيه لمنحنا موافقته على ذلك. من هنا، فإن «كل مبرر justification هو فعل توفيقي، في جوهره، وخطوة نحو مزيد من التشارك بين مختلف أشكال الوعي»، كما يخبرنا الفيلسوف والسوسيولوجي أوجين دوبريل.

قد يجادل البعض، بالقول، إن الأستعانة بالحِجاج في بعض الأحيان، وربما دائماً، ليست إلا وسيلة لغرض التمويه والخداع. حيث لن يكون هناك غير التظاهر بما يشبه المناقشة الحِجاجية، فإما أن يُرغم المتكلم على الجمهور أن يستمعوا إليه، وإما أن يكتفي هذا الأخير بتصنُّع ذلك زيفاً، وفي كلتا الحالتين الأثنتين، لن يكون الحِجاج سوى ضرب من التضليل المُخادع، وما الأتفاق الذي تم الوصول اليه سوى شكل من أشكال الإكراه المقنَّع أو أشارة لحسن النوايا. مثل هذا الرأي حول طبيعة المناقشة الحِجاجية لا يمكن استبعاده من الوهلة الأولى، لطالما ما زلنا نعزو أسباب التضليل إلى ما تحدثه تقنيات الحِجاج من مفعول مؤثر في مشاعر الجمهور ، خاصة في بعض الحالات التي لا يوجد فيها إقناع حقيقي لا يقبل الطعن ولا الدحض. في الواقع، إن أي جماعة، قومية كانت أم دولية، لا بدّ وأن تتوفر على مؤسسات قانونية؛ وسياسية أو دبلوماسية، تتيح لها تسوية بعض الصراعات دون أن تكون مرغمة على اللجوء إلى العنف. ولكنه من الوهم أن نظن، في الوقت نفسه، أن الشروط الكفيلة بتعزيز صلة التشارك بين مختلف أشكال الوعي للجماعة، هي منقوشة في طبيعة الاشياء. ولعدم أستطاعتهم الرجوع لهذه الأخيرة،  فقد وجد المدافعون عن الفلسفة النقدية، أمثال الفيلسوف الأيطالي غيدو  كالوجيرو، في أرادة فهم الآخر، ومبدأ الحوار وتبادل الآراء، الأسس المطلقة لإقامة أخلاقيات ليبرالية. وقد تصور كالوجيرو  أن واجب الحوار مثلما يعبر عن:

«حريتنا في التعبير عن معتقدنا، وحريتنا في السعي لحثّ الأخرين على تبنيه، فهو يشير كذلك إلى واجب السماح للأخرين بالقيام بنفس الشيء معنا، والأستماع اليهم بنفس النية الحسنة من أجل فهم حقائقهم و جعلها خاصّتنا بمثل ما نطلب منهم القيام به تجاه ما يتعلق بحقائقنا نحن».

إن «واجب الحوار» الذي قدمه كالوجيرو كحلّ توفيقي بين النزعة الأطلاقية الدوغمائية لإفلاطون والنزعة الشكية لبروتاغوراس، هو لا يشكل، بأي حال من الأحوال، حقيقة ضرورية ولا توكيد لحكم واضح بذاته وبديهي. وإنما يشير، هنا، إلى مِثال من المثل العليا التي يتبعها عدد قليل جداً من الأشخاص، اولئك الذين يولون أهمية أكبر للتفكير على الفعل، ولا يزال، من بين هؤلاء، من يرى أن هذا المبدأ صالح فقط للفلاسفة غير الأطلاقيين وغير الدوغمائيين.

في الحقيقة، ليس هناك سوى القليل من الناس الذين يسلّمون بأمكانية أن توضع جميع القضايا في موضع التساؤل والتشكيك. الفيلسوف أرسطو في كتابه (الطوبيقا)، مثلاً، رأى أنه:

«ليس من الضروري، على أي حال، ان يتم النظر في أي أطروحة، وأي مسألة، إلا إذا كانت هناك مشكلة يطرحها علينا أشخاص يبحثون عن الحُجَج، على ألا تكون على غرار: في أي الأحوال يستلزم الأمر توجيه العقاب، أو متى يتطلب الأمر أن نكتفي بإبقاء العينين مفتوحتين. فأولئك الذين يطرحون، على سبيل المثال، السؤال لمعرفة فيما إذا كان ينبغي عليهم أحترام الألهة أو محبة الوالدين، فهم ليسوا في حاجة سوى لتصويب سليم، أما اولئك الذين يتساءلون فيما إذا كان لون الثلج أبيض أم لا، فلا يجب النظر اليهم بعين الأهمية».

وذهب أرسطو إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما نصح قرائه بعدم الدفاع عن أي افتراض لحكم بعيد الأحتمال، أو مخالف للضمير، مثل «كل شيء يتحرك» أو «لا شيء يتحرك»؛ «اللذة هي شيء حَسِن» أو «ارتكاب الظلم أفضل من الخضوع له». بالطبع، انها لم تكن سوى نصائح متوجهة لعالم الجدل آنذاك. لكنها تعكس النزوع العام للحسّ المشترك. فهذا الأخير يسلّم بوجود مجموعة من الحقائق القطعية لا تقبل الشك ولا الجدال، ويسلّم كذلك ان بعض القواعد «غير قابلة للنقاش» وان بعض الأقتراحات «لا تستحق المناقشة». فالواقعة الراسخة، والحقيقة البديهية، والقاعدة المطلقة، تحمل كل منهن توكيد طابعها في عدم قبول اللبس ولا الجدال، مستبعدة، بذلك، امكانية الدفاع عما يكون لصالحها أو ضدها من الحُجَج. وفوق ذلك، فإن الأتفاق بالأجماع حول بعض أفتراضات الأحكام قد يجعل من الصعب للغاية التشكيك فيها. ونحن نتذكر الحكاية الشرقية المعروفة التي تحكي عن الطفل الساذج والبريء الذي تجرأ لوحده، خلافاً للجميع، على التصريح بالقول ان الملك يتجول عارياً تماماً، وبالتالي، على كسر الأجماع الذي نشأ عن الخوف من قول الحقيقة.

عندما يكون للمرء رأي مختلف عن آراء الأخرين، فهذا يعني انه يقطع مع صلة تشاركية أجتماعية متأسسة -كما يجري الأعتقاد عن صواب في معظم الأحيان- على معطيات ذات طابع موضوعي. وقد قدم لنا الألمان والفرنسيون، في القرن الثامن عشر، مثالاً لتجربة، طوباوية بالفعل، لكنها مؤثرة بكل تأكيد، كانت ترمي لتأسيس طابع كاثوليكي للأذهان بناء على نزعة عقلانية دوغمائية، وذلك لضمان تثبيت أسس أجتماعية مستقرة لطبيعة بشرية تتغلغل فيها المبادىء العقلانية. هذه المحاولة التي استطاعوا فيها، بفضل العقل، من حلّ جميع المشاكل الناجمة عن المجال العملي، إذا كانت قد ساهمت في نشر التعليم، فقد فشلت مع الأسف، لأنهم سرعان ما أدركوا ان ذلك الأجماع كان مؤقتاً؛ وهمياً، بل ومن المستحيل لأحد أن يتصوره.

ومع ذلك، تحرص كل المجتمعات على الحفاظ على هذا الأجماع، لأنها تعرف جيداً مدى قيمته وحجم قوته. ولهذا السبب، أصبحت معارضة أي معيار متفق عليه، يمكن أن تفضي بصاحبها الى السجن أو  مستشفى المجانين.

وفي بعض الأحيان، يكون مجرد التشكيك بقرارات معينة، هو من الأمور التي تعرض صاحبها للعقاب. وكان الخطيب والزعيم السياسي اليوناني ديموسثينيس قد أشار، في خطبته الأولى من كتابه (اولينيثيان)، إلى المرسوم الأثيني الذي يحظر، تحت طائلة عقوبة الأعدام، تقديم مشروع قانون يهدف إلى تعديل مخصصات صندوق المدينة الأحتياطي.

وحتى عندما يتم القبول بالمناقشة من حيث المبدأ، فهناك أوقات لم يعد مسموح التمديد فيها بأكثر من اللازم، بسبب ضرورات العمل. من هنا، فإن قواعد تنظيم المناظرة  لا تركز فحسب على مسائل أولية تتعلق بكفاءة وأهلية المتكلمين والمستمعين، أو بتعيين حدود موضوع النقاش، بل وكذلك على المدة التي يستغرقها إلقاء الخطبة؛ ونظام ترتيبها؛ وطريقة عرض الخاتمة، أضافة إلى الشروط التي يمكن بموجبها استئناف المناقشة. والنقطة الأخيرة هذه، تقع على جانب كبير من الأهمية. فالحياة الاجتماعية، في الواقع، تفرض علينا أن نسلّم بسلطة الشيء المقضيّ الحكم فيه chose jugé، والذي لا يقبل ان توضع الحُجَج المنبثق عنها في موضع تساؤل وتشكيك. لكن، من الممكن للنقاش أن يستأنف مرة أخرى. وعادة ما يتم مراعاة السبل اللازمة في أدارة هذا الأستئناف وتنظيمه، بحيث لم يعد من الضروري انتظار قرار معين تنحصر مبادرة اتخاذه في شخص ما، ويقدم لنا النظام التشريعي الثنائي المجلس مثالاً على ذلك.

ان عملية أضفاء الصبغة المؤسساتية وتعميمها في المجتمع هي عملية غير مكتملة على الدوام، فيمكن أن توجد فيها جميع أشكال التباين الدقيقة والمتنوعة. لكن، في معظم الأوقات، لا يحتاج الأمر، أكثر من ظهور احدى القرارات التي تستدعي النقاش فيها، ليحدث استئناف جديد لتلك العملية وبما يمكن آليات نظامها من الأستجابة لحاجات اجتماعية جوهرية. وحتى إذا كان الاستئناف يحتاج لخطوة تمهيدية، وهي من الأمور المحسومة في كثير من الأحيان، فإننا مدعوين إلى أخذ زمام المبادرة فيها من قبل المؤسسات نفسها، ويعد نظام القضاء مع محاكم الأستئناف والنقض هو واحد من الأنظمة المتميزة في هذا الصدد.

لاحظوا، ان حالات منع أستئناف الحكم وإعادة النظر فيه لا تقتصر على النظام القانوني. إذ يمكننا الأستناد لمبدأ سلطة الشيء المقضيّ الحكم فيه، حتى خارج المحاكم نفسها، فقبل أن يتم التثبت من استحالة البرهنة على تربيع الدائرة، بفترة طويلة وتحديداً في سنة 1775، كان البحث فيها بالنسبة للاكاديمية الملكية للعلوم في باريس هو أمر محسوم وغير قابل للمناقشة قطعاً.

وأضف إلى ذلك، انه من النادر في الحياة الأجتماعية أن يكون استئناف النقاش حول موضوع معين هو أمر جائز أو  محظور بشكل قطعي جازم ودون أدنى شك. فهناك منطقة متوسطة بالكامل تقع بين المنع أو الحظر المطلق للأستئناف وبين أجازة الاستئناف غير المشروطة، وهي منطقة محكومة في تنظيمها إلى حدٍ كبير  بالتقاليد والعادات والأعراف المعقدة للغاية. وهذا هو واحد من الجوانب التي لا يستهان بأهميتها في حياة الجماعات المحلية.

إن منع استئناف المناقشات حول بعض الأحكام يمكن أن يكون مظهراً من مظاهر التعصب، شأنه شأن منع وضع بعض المسائل في موضع التشكيك والتساؤل.  لكن، سيبقى هناك ثمة فارق رئيسي كبير، وهو أن حكم المحكمة الصادر، مهما كان، لطالما تم اعتباره كقرار نهائي، فهو غير منفصل كلياً عن جميع الأحكام والأجراءات القانونية التي أدت إليه. أما ما ينخرط في الحياة الأجتماعية لجماعة محلية، منذ ذلك الحين فصاعداً، هو قرار، لكن، ملتحقاً بجميع الحُجَج السابقة عليه.

وهذا الأمر يرتبط بمشكلة نظرية مهمة كثيراً، فلما كان الهدف من الحِجاج هو الحصول على موافقة المحاور  أو الجمهور المخاطَب، يمكن القول ان الحِجاج يسعى لإزالة الشروط اللازمة مسبقاً لكل حِجاج ممكن في المستقبل. لكن، بما ان الأثبات البلاغي ليس قسرياً ولا إلزامياً ابداً، فلا يجب اعتبار الصمت الذي يفرض حضوره بعد المداولة كصمت قطعي ونهائي، لا سيما إذا توفرت، في مكان أخر، الظروف الملائمة التي تساعد على تحقق الحِجاج.

ان للمؤسسات التي تعمل على تنظيم المناقشات وحسمها لأهمية كبيرة، لأن التفكير الحِجاجي هو جزء لا يتجزأ عن الفعل الذي يعده أو يحدده. وبسبب صلته الوثيقة مع الفعل وممارساته العملية، ولأن الحِجاج لا يحدث في الفراغ، وإنما هو يجري داخل مواقف محددة بسياقات أجتماعية وسايكولوجية، فهو حِجاج يستدعي ألتزام المشاركين فيه بشكل عملي.

الــبــــلاغة والسياسة

إن أفول البلاغة والإزدراء الذي وقعت ضحية له، بعد انتصار الفكر البرجوازي في الفلسفة، وكذلك في الأدب لا سيما مع ظهور النزعة الرومنطيقية، يدعوني بالضرورة للأشارة بوضوح، تجنباً لأي سوء فهم، بأنني أعني بالبلاغة هي نظرية التواصل الإقناعي وممارسته العملية. وحسب تصور القدماء، خاصة عند الفيلسوف إفلاطون، كانت تعبر البلاغة عن مفهوم السايكاكوجي [المرتبط ببلاغة جورجياس والسوفسطائيين في الحوار والنقاش حول الشؤون الأنسانية pragma، وتشكيل الآراء العامة doxa ومراجعة مواضع المعرفة والاعتقاد المشتركة، وبما يحول دون ثبات مراتب القيّم الهرمية وحقائقها المطلقة لصالح فئة معينة دون أخرى]، ولهذا السبب كانت هذه البلاغة تمثل الخصم الكبير للفلسفة. أما البلاغة الجديدة، كما قدمتها منذ ما يقرب من الثلاثين عاماً، فهي تشمل حقل الأستدلال غير الصوُّري/أو غير الشكلاني بأكمله، ومن ثمة، فهي تضم جميع أشكال الحِجاج، أي جميع الأستدلالات التي وصفها أرسطو بـ «الجدلية» والمتعارضة مع الأستدلالات التحليلية التي يدرسها المنطق الصوُّري/أو الشكلاني.

وفي ضوء هذا التصور، إذا كان هدف البلاغة يقوم على «دراسة التقنيات الحِجاجية التي من شأنها أن تؤدي الى حثّ أذهان المخاطَبين على التأييد* adhésion وتعزيزه نحو فرضيات؛ أطروحات؛ اعتقادات؛ او آراء نعرضها لهم من اجل الموافقة عليها»، فإن دورها يصبح مركزيّاً في السياسة. وجميع اولئك الذين فضلوا الحياة الفاعلة active؛ على الحياة التأملية contemplative في عصور الحضارات الاغريقو-الرومانية القديمة، لم يترددوا في أن يمنحوها القدر نفسه من الأهمية المعطاة للفلسفة، على أقل تقدير. وبينما سعى مثال الحياة التأملية إلى البحث والتأمل في قيمة ماهو حقيقي/ أو صادق/ أو صائب يتعلق بالموضوع في حد ذاته؛ وبالنظام والطبيعة الخاصة بالأشياء والعالم. وبناءً على مثل تلك المعارف، كان ينبغي على الفيلسوف الحكيم أن يكون قادراً على استنتاج قواعد السلوك العام والخاص معاً؛ والتي يجب أن تتأسس على خبرته الفلسفية في الحكمة والسلوك المعقول؛ وان تنحدر مباشرة من معارفه البدهية التي يستند عليها ويخضع لها بالضرورة. نجد أن مُعلم البلاغة والفصاحة، كان يقوم بتعليم تلاميذه وتهيئتهم للحياة الفاعلة والعملية داخل المدينة، ويستند في ذلك على منهج المنطق الحِجَاجي وتدريس تقنياته البلاغية، من اجل تكوين فرد سياسي مفكِّر متمكِّن من المواجهة والتدخّل بشكل مؤثر وفعّال تماماً في المداولات السياسية وفي الدعاوى القضائية؛ وفرد قادر، حينما يقتضي الأمر، على إستعادة واستنطاق الأنموذج البطولي في الأساطير الإغريقية وتطلعاته التي وجبت أن تكون مصدر الهام وتوجيه أفعال الناس. لهذا السبب، بقيت البلاغة تشغل حيزاً مركزياً في نظام تربية الشباب وتعليمهم حتى نهاية العصور القديمة.

فما الذي أفضى بالبلاغة للوقوع في حالة من الإهمال والتجاهل، بل وللنسيان، في القرن التاسع عشر، وفي النصف الأول من القرن العشرين؟ يبدو لي إنها ناتجة جميعاً عن إختزال البلاغة إلى مجرد نظرية في محسنات الأسلوب واللغة الُمزَخرفة، وهو إختزال صار ممكناً، نظراً لإساءة فهم جنس فصاحة البَيَان* والتي نشأت عن تصور غير صحيح لمفعول الحِجاج المؤثر. وتعد فصاحة البَيَان هي واحدة من بين ثلاثة أجناس خِطابية، كان أرسطو قد ميزَّها في مؤلفه «البلاغة»، إلى جانب الفصاحتين القانونية والتشاورية.

ففي المناقشات السياسية والقانونية، كان الخطباء يدافعون عن أطروحات تتعارض الواحدة منها مع الأخرى، ويسعون، من خلال خطبهم، للحصول على تأييد الجمهور الذي يخاطبونه. وكل واحد منهم كان يعمل جاهداً على إثبات تفوق أطروحته التي يدافع عنها، وإلى تسليط الضوء على نقاط ضعف اطروحة خصمه وعيوبها. لكن، ماذا عن خطاب فصاحة البَيَان، مثل التأبين حيث يعرض الخطيب لإطروحة ويتوسع فيها دون أن يعارضه فيها أحد؟

إن جماهير مثل هكذا خطاب، كما أوضح أرسطو في مؤلفه «البلاغة»، هم ليسوا سوى متفرجين يكتفون بالتصفيق بعد استماعهم للخطيب ليغادروا بعد ذلك، أما إذا أقتضى الأمر  أن يحكموا بشأنه، فهذا يتم، فقط، لغرض تحديد أي خطيب يستحق تاج الفائز، مثلما هو الحال عليه في منافسات الألعاب الأولمبية في المدن الأغريقية. لهذا السبب، كان الخطاب الذي يقوم به خطيب على انفراد، دون ان يظهر على الأغلب أمام العموم، ويتوسع فيه بعرض إطروحة بالكاد تكون مثيرة للجدل، كان خطاباً يحظى بتقدير عالٍ، على النحو الذي نقدر فيه فخامة عروض المراسيم الأحتفالية وروعتها؛ أو أحد أعمال فنان مبدع أو موهوب بارع، حيث يكمن أثره البارز بشكل واضح في إشهار لأسم صاحبه. غير أن علماء البلاغة الرومانيين الذين كانوا يمرِّنون تلاميذهم على أجناس الفصاحتين القانونية والتشاورية واللتين تنبني مقدماتهما الأساسية في تشكيل أحكام القيمة على ممارسة خطاب فصاحة البَيَان، كانوا قد أهملوا هذا الأخير وتخلوا عن مهمة تدريسه للنحو يين ومعلمي صياغة اللغة المُنمَّقة الحسنة. وسرعان ما تم اعتبار فصاحة البَيَان كجنس أدبي بالمعنى الخاطئ للكلمة، وإستبعادها عن نطاق الحِجاج. لكن، في الواقع، إن خطاب فصاحة البَيَان يقع في قلب البلاغة كما نتصورها في نظريتنا الجديدة، وذلك لأن جميع أشكال الحِجاج حول القيّم تعتمد عليه. وإذا، كان يتوقف جنس أي خطاب على الدور الذي يلعبه الجمهور المستمع، حسب رأي أرسطو، أي في الخطابين القانوني والتشاوري، نجد أن الجمهور يفصل بالحكم بين ما هو نافع صالح وما هو صائب عادل، فإن خطاب فصاحة البَيَان، كما تم عرضه في خطاب المديح عند الاغريق او في خطاب التأبين عند اللاتينيين، يركز على الثناء والذم، ويتعين عليه أن يعالج ما هو جميل وقبيح. أي أن خطاب فصاحة البَيَان يتعلق بالأعتراف بقيّم نؤيدها ونتمسك بها بدرجات متفاوتة من الشدة؛ وأن من المهم دائماً تعزيز هذا التأييد، وإعادة ابتكار صلة التشارك communion حول القيمة المقبولة. هذا التشارك، وإن لم يعين خياراً فورياً، فأنه يحدد خيارات افتراضية كامنة بالقوة. إن الصراع الذي ينخرط فيه خطيب فصاحة البَيَان هو بالأحرى صراع ضد اعتراضات مستقبلية، انه مجهود يبذله للحفاظ على مكانة بعض احكام القيمة في التسلسل الهرمي او ربما لمنحها وضعاً شرعياً أفضل. إلا أن غياب مفاهيم حكم القيمة وشدة* التأييد، أدى بالمنظّرين في الخطاب، ما بعد أرسطو ، إلى أن يخلطوا، في الحال، ما بين فكرة الجمال التي هي موضوع تمجيد الخطاب من جهة،  والمتماثلة مع تلك المتعلقة بالخير من جهة أخرى، وبين فكرة القيمة الجمالية للخطاب نفسه، كما قام بذلك رئيس الاساقفة الانجليزي ريتشارد واتلي في مؤلفه «عناصر البلاغة». من هنا، تتأتى، مع الأسف الشديد، حالة اللبس والأرباك بين خطاب يرمي إلى ممارسة مفعول مؤثر في جمهور معين ويحثه على أداء الفعل، وبين خطاب بوصفه عمل فني، وما كان عمل بلاغي أمسى عمل فني ينتمي لما هو شعري.

من المعروف، أن بعد خسارة شيشرون لدعوته التي دافع فيها عن رجل السياسة الروماني ميلون، قام بتعديل نص مرافعته ونشرها. ولأن خطابه لم يعد متوجهاً نحو قضاة، بل لجمهور من الهواة المتنورين القادرين على تقييم وتذوق الطريقة التي تمت بواسطتها بناء وصياغة خطبته الشهيرة بـ «من أجل ميلون»، فهل هذا يعني ان خطاب شيشرون، تبعاً لأرسطو، كان ينبغي أن يكون، هو الآخر، جزءًا من خطاب فصاحة البَيَان بما أن القارئ توقف عن أن يكون قاضياً ليصبح متفرجاً. لكن، يبدو لي أنه من الخطورة بمكان أن يتم الخلط ما بين نوع خطاب معين مع ما أصبح محاكاة أدبية له، وعلى الأخص، ما بين الهدف الذي يسعى لتحقيقه الخطيب في فصاحة البَيَان مع المفعول المؤثر الذي يسعى الفنان لإحداثه من خلال تقليده لهذا الجنس من الخطاب لغرض إبراز مهاراته الفنية.

ولان القدماء لم يتمكنوا من تمييز هدف واضح لخطاب فصاحة البَيَان، فقد كان لديهم نزوعاً لاعتباره كنوع من العرض المشهدي يرمي لإمتاع المتفرجين وعُلوّ مجد الخطيب بتسليط الضوء على البراعة التقنية لأسلوبه. حتى أصبحت هذه الأخيرة، هي الهدف في حد ذاتها. فالشخص الذي يُلقي بخطبة تأبين أمام نعش صديقه المتوفى، ويضع نصب عينيه شيئاً أخر غير المشاركة مع جمع الحاضرين لما يستحضره من ذكريات اثناء خطبته، لا بدَّ وأن يُدان بنزعة حب الظهور والأستعراض. و في كتابه (الطبائع)، كان الاديب جان دو لا برويير  محقاً في السخرية من ذلك الواعظ ورعاياه الذين بعد استماعهم لخطبته: ‹‹تأثروا واهتزَّت قلوبهم لها الى الحدّ الذي أقرّوا فيه من صميم اعماقهم، ان خطبة ثيودور هذه، لعلها جميلة أكثر من أخر مرة وعظ فيها››.

في الحقيقة، إن هدف المتكلم من خطاب فصاحة البَيَان هو تسليط الضوء على قيّم معينة، وإنشاء صلة شراكة روحية حول قيّم موحَدة، سواء كانت قيّم تجريدية مثل الحرية أو العدالة؛ أو كانت قيّم عَيْنِية مادية مثل أثينا أو الجنود الذين سقطوا في ساحة المعركة. وعندما يتعلق الأمر بإلقاء مثل هذا الخطاب، أي بأن يكون كالمربيَّ لمجتمعه، إذا جاز التعبير ، يجب التوفر على بعض الميّزات التي تجعله محل اعتبار مُقَيَّم مُسبَّقاً، وممارسة مهنة أو وظيفة، وله مكانة تجيز للمتكلم بالتحدث في مناسبات رسمية، وبدعم كل ما يراه محل أشادة بالسلطة التي يتمتع بها. وفي حين انه من نافلة القول، أنه من الممكن دائماً في المناقشات القانونية الأستماع لجميع الأطراف أياً كانوا. وأنه من الطبيعي أن كل وجهة نظر يمكن التعبير عنها اثناء المداولة. فإن المسألة عندما تتعلق بخطابات فصاحة البَيَان التي تعزز القيّم المشتركة للجمهور المخاطَب، تصبح المكانة التي يشغلها من سيكون، إذا جاز التعبير، بمثابة المتحدث الرسمي بأسم جماعته، هي أمر ضروري. فدوره سيتمثل في الأعلاء والتمجيد علناً بالقيّم التي تتشكل الجماعة حول محورها وتتواصل عبرها بشكل تفاعلي متبادل. وبدون شعور الولاء العام لمثل هذه القيّم والتفاني من أجلها، لا توجد جماعة سياسية ولا دينية. فهو شعور يوحّد أعضاء مثل هذه الجماعات، ويساعدها في التغلب على أزماتها المؤقتة؛ وعلى خلافاتها الناجمة عن مشاكل ثانوية، وعلى صراعاتها الشخصية التي لا تنفك عن الظهور داخل كل جماعة بشرية يقيم أعضاؤها علاقات متعددة ودائمة بين بعضهم البعض. فلا غرابة، أن يشتهر في تاريخ الفصاحة ويذيع صَّيت بلاغة البَيَان لخُطب رجال سياسة أمثال بريكليس ولينكولن وتشرشل الذين كانوا يسعون لتعزيز قيّم مجتمعاتهم قبل مواجهتهم لمحنة خطيرة.

إن أحد أكثر الأساليب ذات فاعلية مؤثرة في تماسك المجتمع الواحد، ولا سيما في توطيد التحالف بين الجماعات المختلفة، هو وجود عدو مشترك. ومن خلال الرغبة بالقتال والتغلب، وحتى تدمير ما يتم تقديمه بأعتباره عدو مطلق، تنشأ التحالفات الكبيرة حيث يخضع كل شيء فيها لغاية لا منازع فيها، ألا وهي النصر  وبقية الأشياء مجرد تابع له.

لكي يتمكن النظام الديمقراطي من أداء وظيفته، وحتى تتمكن الأقلية من التماشي مع حُجَّة الأغلبية في نهاية المداولة، يجب أن يتم أعتبار القيّم المشتركة بين أفراد المجتمع هي الأكثر جوهرية من أي شيء أخر ينزع نحو إحداث الأنفصال والأنقسام بين بعضهم البعض. وبدون هذه القيّم، وبدون الوحدة الروحية التي يجب على خطاب فصاحة البَيَان تعزيزها، لا توجد أغلبية ولا أقلية، وإنما توجد فقط جماعتين متنازعتين تصطدم أحداهما مع الأخرى حيث تسيطر أقوى هاتين الجماعتين على أضعفها، وحيث لا أعتبار  ولا حساب لشيء أخر غير علاقات القوة القهرية. عندما تعبر الحياة السياسية عن شيء أخر غير اضطهاد الأضعف وقمعه من قبل الأقوى، فهي تفترض مسبّقاً تأييد قيّم مشتركة، والتمسك بتقاليد ومؤسسات مشتركة والأنخراط فيها، والألتزام تجاه مصالح مشتركة، والتي ستكون، في مجملها، بمثابة أنموذج ومقياس ومعيار يساعدنا في إيجاد حلول للنزاعات الخاصة بالمسائل السياسية أو القانونية. في الواقع، عندما يتعلق الأمر بمسائل محل نزاع وجدل، فلا بدَّ لأي حِجاج أن يستعين بهذه القيّم المشتركة بأعتبارها المعيار والأنموذج لكسب تأييد الجمهور المخاطَب ودعمه. وبناء على ذلك، صار من الضروري عدم التشكيك بهذه القيّم، وأن تحظى بولاء دون قيد أو شرط، وألا يتم إهمال أي شيء من شأنه أن يعزز من تأثيرها وإحكام سيطرتها على روح أعضاء الجماعة. وفي نهاية المطاف، سيتم النظر لهذه القيّم، الموضوعة في مرتبة سامية وأستثنائية حصينة، بوصفها قيّم مطلقة؛ ويُضفى عليها طابعاً متعالياً، فلا يمكن المساس بها ولا الجدال فيها. ويصل الحال إلى أقصى درجات الولاء والتعصب والحماس والتبجيل لهذه القيّم، خصوصاً، عندما يراد تقوية تأثيرها العاطفي وتضخيمه، من خلال تمثيلها برموز يكون الفرد مستعداً للعيش من أجلها والموت. فالصليب والعلم، وغيرها العديد من الرموز تتحكم في مشاعر الجماعات الدينية والسياسية. وطقوسها الشعائرية تفرض السلوك الواجب إتباعه إزاءها: في أي وقت ينبغي على المرء فيه الوقوف أو الركوع لها، تقديم التحية لها أو ألقاء النشيد معاً بصوت واحد. ومن غير اللائق أن يتم طرح أسئلة أوإثارة شكوك، أو المطالبة بالمزيد من التفسيرات أو التمرد على تلك الرموز.

ولطالما كانت كل سلطة سياسية هي، في الأصل، على ارتباط بدين سائد لفترة طويلة من الزمن، فإن القيّم الدينية هي التي كانت تضفي مشروعية على ممارسة هذه السلطة. وبعد أحداث الثورة الفرنسية، والشروع في تقليص سلطة المؤسسة الكنسية ومراكزها الدينية والتقليل من تأثيراتها على ممارسات التعليم والطب وتشريعات الأحوال المدنية، وبالأخص بعدما تم فصل سلطة المؤسسة الدينية عن السلطة السياسية، أخذ يتم التبرير لشرعية هذه الأخيرة بأيديولوجيات من مختلف الأنواع، وصار يمكن أستخدام النزعات الرمزية والشعائرية الدينية كأنموذج لنزعات رمزية وشعائرية وطنية. ونحن نعلم بمدى شغف الأنظمة التوتاليتارية بمحاكاة وتقليد فخامة مراسيم الاحتفالات؛ وأبَّهة مواكب الطواف، وترانيم الكنيسة. أما الأنظمة الديمقراطية، ذات الطابع الفرداني حيث الأولوية للفرد أكثر من الجماعة الأجتماعية المنتمي إليها، فقد فضلت إضفاء الشرعية على ممارسة سلطاتها بناء على أعتبارات ذات طابع كمّي، من قبيل أغلبية المنتخَبين؛ والمصلحة العظمى للأكثر عدداً. كل هذه الأيديولوجيات كانت متشابهة، بالقدر الذي تفترض فيه أن مصلحة فرد ما مساوية لمصلحة فرد أخر؛ وأن طريقة تقدير عواقب فعل ما بالكاد تختلف بين فرد وأخر ، وأن مصالح الأفراد لوحدها هي التي يجب أن تؤخذ بالحسبان. وفي المقابل، تم نسيان أن وجود الجماعات المحلية وحده الذي يجعل من الممكن تمييز الأفراد الذين ستؤخذ مصالحهم بعين الأعتبار. يجب أن يكون لدينا، أولاً وقبل كل شيء، إرادة اقامة نظام سياسي يتجاوز ويسمو فوق المصالح الضيقة ونزاعات المنافع الخاصة، فصلة التشارك داخل مؤسسة الكنيسة، بغض النظر عن حجم الأختلافات في تفسير النصوص المقدسة، تفترض الخضوع للقوانين؛ والطاعة للسلطات، واحترام النظام القائم.

لا شكّ أن الدولة لديها القوة المسلحة اللازمة، عند الحاجة، لفرض الطاعة الكاملة لها. لكن هذه الحُجَّة لا تنطبق على التنظيمات التي لا تتمتع بسلطة تنفيذية. ولقد علّمنا التاريخ الحديث، أن الجيش، عندما لا يتم تشكيله من قبل مجموعة من العبيد والمرتزقة المأجورين الذين يهيمن عليهم الخوف والجشع، فهو سيكون عرضة للشعور بالأحباط وضعف المعنويات، وللأنحلال والتفكك على المدى القصير، في ظل غياب المُثُل العليا الموحَدة، والقيّم المشتركة التي يكون على استعداد كامل لتولي مهمة الدفاع عنها. وقد برهنت حرب فيتنام، والثورة في إيران، على أن تفوق الأسلحة لا يسود على المدى الطويل، إذا لم يكن الجنود على يقين تام من أنهم يقاتلون من أجل قضية عادلة.

وفي ضوء وجهة النظر هذه، يبدو لي أنه من البديهي أن ما تضمنته النزعات المادية والوضعية من تصورات تشيع الشك والتهكم والأزدراء بشأن القيّم، قد أسهمت في تدهور أوروبا. فإذا كانت جميع الأيديولوجيات هي مجرد أفخاخ للخداع، واذا تم أختزال كل سلطة في عدد ما تتوفر عليه من فرق مسلحة، فإن التفوق الوحيد الذي سيوضع في الحسبان هو التفوق العسكري، والحُجَج الوحيدة التي لدينا هي الرصاص والقنابل. وبذلك، ستكون حُجَّة الأقوى هي المُفضَّلة على الدوام.

وأنا لأستغرب كيف يمكن للثوار، الذين هم عادة أقل عدداً وقوة، أن يدافعوا عن مثل هذه الحُجَج. فإذا لم يكونوا على أيمان بوجود هدف يستحق التضحية من أجله، فبماذا نفهم حماسهم وضراوة مقاومتهم للنظام القائم؟ لأنه إذا لم يكن هناك قضية عادلة، فلم يعد هناك قضية جائرة، والحياة السياسية، برمتها، سوف تنحصر في صراع دنيء على المصالح.

في الختام، يبدو لي أنه من المستحيل القضاء نهائياً على البلاغة -كما أراها- وإزالتها من الحياة السياسية، إلا إذا أردنا العودة للبربرية. اضافة إلى أن مثل هذا التصور سيؤدي إلى إلغاء أي دور للعقل العملي وللفلسفة في توجيه السلوكيات البشرية.

إذا كانت البلاغة هي أسلوب التواصل الإقناعي وممارسته العملية، فيمكننا أن نميّز  الفلسفة بخاصية استعانتها بحِجاج معقول، بمعنى انها تتوجه بخطابها إلى جميع الناس بمقدار كونهم كائنات عاقلة. لأن القيّم التي ينادي بها الفلاسفة لا تختص بجماعة محددة، بل هي قيّم كونية وموحدة بين البشرية جمعاء. إن البلاغة الفلسفية التي تميّز الفكر الغربي، هي بلاغة تناشد العقل؛ الحقيقة؛ الحرية؛ العدالة، واحترام الكرامة الأنسانية والمبادىء الكونية للقانون والأخلاق.

يتم تقديم الخطابات الفلسفية، غالباً، على أنها خطابات ثورية، لأنها تتخطى حدود الجماعات المحلية التاريخية، لتتوجه نحو البشرية جمعاء. فهي خطابات تتغلغل شيئاً فشيئاً إلى وعي الجماهير، لأنها لا تملك قوة مسلحة لدعم حُجَجها. وإذا كان الأمر كذلك، فهذا من سوء حظها، لأن اهدافهم الكونية سيتم حرفها عن مسارها، وتوضع في خدمة السلطة التي ستوظفها لصالحها بدلاً من أن تخدمها. وهذا هو السبب الذي يجعلني اعارض مِثال الملك-الفيلسوف لإفلاطون والذي يبدو لي انه مثالاً من المثل العليا التي عفا عليها الزمن كمِثال الملك الذي يحدد الدين الرسمي لرعاياه ويفرضه عليهم، لأنه لا توجد فلسفة دون حرية فكر يتعارض مع جميع أشكال الجبر والإكراه. وإذا كان يصح القول، ان خطابات فصاحة البَيَان هي أساسية وضروية في تكوين روح جماعية مشتركة في مجتمع معين، فإن خطابات الفلاسفة تمهد لتشكيل روح جماعية لمجتمع كوني يتجاوز كل أشكال الخصوصيات ورؤيتها المحددة. وحتى لو كان التنظيم السياسي لمثل هذا المجتمع هو ليس سوى حلم أو يوتوبيا، فمن الأهمية بمكان أن تسعى جهود الفلاسفة، دوماً، نحو الأعلاء من العقل، أي من قيمة ما هو كوني، في معالجة الشؤون الأنسانية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1)Chaïm Perelman : Rhétorique et politique, un article publié, d’abord, dans le livre (Langage et Politique), Sous la direction de Maurice Cranston – Peter Mair, Extrait de EUROPEAN UNIVERSITY INSTITUTE, Bruxelles, Bruylant, 1982, pp. 5-10. Réédité dans (Cadmos) Cahiers Trimestriels de l’institut Universitaire d’études Européennes de Genève et du Centre Européen de la Culture d’Amsterdam, N. 22, Été 1983, pp. 71-76.

2) Chaïm Perelman & L. Olbrechts- Tyteca : Traité de L’argumentation … La Nouvelle Rhétorique, § 13. Argumentation et Violence, Tom Premier, 1 édition, PUF, 1958, 72-78.

[] ما بين القوسين يعود للمترجمة.

* رمز النجمة هو رمز مثبت على مفاهيم محددة ضمن متن النص، يُشير إلى إمكانية الاستزادة حولها، بالعودة لقائمة مسرد المصطلحات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مسرد المصطلحات:

-adhésion : مصطلح التأييد [وليس التسليم خضوعاً وإذعاناً كما هو شائع خطأ في اغلب الترجمات والمؤلفات العربية في البلاغة والحِجاج] يشير استعماله غالباً إلى الموافقة المعطاة لمبدأ أو لعقيدة أو لأيديولوجيا مسيطرة. وهذا يعني أن التأييد يستدعي المشاركة والانضواء تحت الطريقة نفسها في النظر والإدراك لمعايير الأخلاقيات المتداولة، لهذا يمكن أن تعد صياغة التأييد هي صياغة لتعددية في الايديولوجيات لها من القوة والتأثير المماثلين لتلك الخاصة بسلطة مشيدة وراسخة لكنه يختلف عنها بكونها قابلة على الدوام للسؤال والنقاش والمراجعة والجدال. بعبارة أخرى، أن التأييد هو مشاركة في صناعة الآراء والاعتقادات doxa لان آثار تأييد وتصديق رأي معين ستضع القيّم المحمولة فيه موضع صيرورة دائمة.  للمزيد، يُنظر:

ADHÉSION dans : La Nouvelle Rhétorique … Traité de L’Argumentation, 2 vol.

ADHÉSION dans : Le Dictionnaire du Littéraire, Sous la direction de Paul Aron & Denis Saint-Jacques & Alain Viala, Paris, P.U.F, 2éd., 2010, p. 6-7.

Épidictique-: يعود اصل هذا المفهوم الى الكلمة اليونانية epideixis [επίδειξης] التي ميز التقليد الفلسفي والبلاغي بها الممارسة الخطابية السفسطائية discursivité sophistique وذلك منذ محاورات افلاطون وحتى حيوات السفسطائيين لفيلوستراطوس. فكلمة epideixis هي ما وصف به افلاطون باستمرار خطاب السفسطائيين امثال بروديكوس وهيباس وجورجياس القادمون عادة من مدينة سيسيليا او اليونان العظمى للقيام بجولات حيث تكون لهم فيها محافل conférences لإلقاء المحاضرات في المدن اليونانية الكبيرة مثل أثينا وسبارطا، من هنا كانت أفضل ترجمة لهذه الكلمة هي القاء محاضرة lecture بالمعنى الانجلوساكسوني للمصطلح.  وبمعنى عام، كلمة epideixis هي الاسم التقليدي لما يطلق عليه بعرض سفسطائي لشخص بمفرده one man show sophistique، ويقع على النقيض من ذلك الحوار القصير القائم على تبادل اسئلة واجوبة، ترمي صعوداً نحو المثل والجواهر العليا، وهو ما ميز الجدل السقراطي.

تنقسم كلمة epideixis الى مقطعين اثنين: deixis فعل القول، acte الإنجاز في القول؛ وهي بذلك تشير الى فن عرض وبَيَان montrer devant قيمة إيجابية او سلبية (مدح او ذم شخص؛ مدينة، او دولة في مناسبات رسمية) امام epi وبحضور جمهور عام، وهي تعتمد على قدرة الخطيب في اظهار مهارته في انتهاز هذه اللحظة الملائمة التي ليس امامه غيرها في الوقت الحاضر. وبذلك فهي تختلف عن كلمة apodeixis التي تعبر عن فن البرهنة انطلاقاً من montrer à partir de   مقدمات أولى تبحث في السبب والعلة المتعلقة بالموضوع المبرهن عليه في علوم المنطق والرياضيات والفلسفة. وهذا هو الخطأ الذي وقعت فيه معظم المؤلفات الغربية في البلاغة والحجاج وذلك بالنظر الى هذا الجنس من الفصاحة باعتباره «جنس برهاني» – وهو الخطأ نفسه الذي ما زال مستمراً في المؤلفات البلاغية والحِجاجية العربية – وذلك لسيادة النزعة الافلاطونية-الارسطية التي تعلي من شأن نظام الفكر المنطقي؛ الوضعي، والعقلاني، وتعمل، في الوقت نفسه، على التقليل من شأن البلاغة والحِجاج والحدّ من حرية الكلام والحوار والتعبير.

باختصار، مع فعالية بَيَان الكلام epideixis يمكننا –حسب الفيلسوفة والمختصة في البلاغة باربارا كاسان–ان نتجاوز انموذج فن البرهنة الافلاطوني/الفينومينولوجي الذي يبحث عن الحقيقة بالخضوع لنظام صُّوري شكلاني تابع لخطاب جواهر ثابتة ودلالات راسخة ذات صلاحية وشرعية ذاتية دائمة autolégitimée [من انطولوجيا الوجود الى إعادة قول الوجود]، لننتقل مع السفسطائيين الى انموذج علم الخطاب logologie أي من الكلام الى مفعوله effet، ان فعالية بَيَان الكلام امام العموم مبهرة لدرجة انها تحول بل وتبدل من مفعول الخطاب والعالم المحيط بنا، من خلال إنتاجها لأشياء جديدة ولقيّم جديدة على حد سواء. فما دشنته الممارسة الخطابية البلاغية السفسطائية مع فعالية بَيَان الكلام المتحققة على المستويات الاستيطيقية/الايتيقية والتداولية والانطولوجية عند المخاطِب والمخاطَب والخطاب في آن واحد–إذا اخذنا تعبير اوستن– هو “فن صناعة الأشياء بالكلمات”.  وفصاحة البَيَان هي فصاحة سياسية/ثقافية، أي انها تمثل القاعدة التي تشتغل على أساسها كل من الفصاحة القانونية judiciaire (التي تخاطب القاضي إما لغرض المقاضاة او الدفاع امام المحكمة) والتشاورية délibératif (التي تتعلق بشؤون الحكم السياسية؛ وغايتها هي تقديم المشورة لأعضاء المجمع السياسي لغرض اتخاذ القرارات التي تعود بالنفع على المدينة)، خصوصا وانها خطاب يشتغل على مفعول الاحكام القيّمية –حسب بيرلمان– وعلى إعادة ابتكار تشاركيات متبادلة وتوافقات مختلفة حول قيّم جديدة يمكن لها ان تؤسس لمقدمات جديدة تخدم الفصاحة القانونية والتشاورية في آن واحد. للمزيد يُنظر:

Epideixis & Apodeixis dans : Vocabulaire Européen des Philosophies, Sous la direction de BARBARA CASSIN, Paris, Le Seuil & Le Robert, 2004, p. 306-307, 916-917, 11-21 & p. 727-741, 1023-1029, 1133-1151.

BARBARA CASSIN,: L’EFFET SOPHISTIQUE, Paris, Édition Gallimard, 1995, Orthodoxie et création des valeurs, p. 195-196, 198-199, 201-202.

Ch. Perelman & L. Olbrechts-Tyteca : La Nouvelle Rhétorique … Traité de L’Argumentation, 2 vols.

Marc Fumaroli : L’âge de L’éloquence, Paris, Albin Michel, 2éd., 1994.

Laurent Pernot : La Rhétorique dans l’Antiquité, Librairie Générale Française, 2000.

La Mis En Scène Des Valeurs … La Rhétorique de L’éloge et du blâme, Sous la direction de Marc Dominicy & Madeleine Frédéric, Suisse, Delachaux et Niestlé, 2001.

Emmanuelle Danblon : L’Homme Rhétorique … Culture, raison, action, Paris, CERF, 2013.

Intensité- : مفهوم الشدة –يؤكد بيرلمان– انه لا يقتصر على تحصيل نتائج على مستوى التفكير فحسب؛ ولا الى الإعلان فقط عن ترجيح رأي؛ فكرة؛ فرضية او أطروحة واحدة أكثر من غيرها، بل وغالبا ما سوف يفضي تعزيزه الى الدفع نحو انتاج الفعل الذي كان ينبغي عليه اثارته من البداية. للمزيد يُنظر:

La Nouvelle Rhétorique … Traité de L’Argumentation, Tome 1 : les cadres de l’argumentation.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة: يمكن تحميل نسخة PDF من الترجمة عبر النقر هنا 

 

أنوار طاهر

باحثة ومترجمة عراقية-متخصصة في الدراسات الفلسفية والحِجاجية. حاصلة على الماجستير في الفلسفة-كلية الآداب-جامعة بغداد. لها مجموعة من المقالات والأبحاث المنشورة في مجلات عربية اكاديمية محكَّمة. حاصلة على جائزة العلوم في الفلسفة-العراق في عام 1999. صدر لها مؤخرا، الكتاب الموسوم بـ (فلسفة الحِجاج البلاغي) مراجعة وتقديم البروفيسور أبو بكر العزاوي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى