الدراسات

ابن رشد و فاعلية الإنسان بالإرادة و الاختيار

 

تقديـــــم 

يعتبر الإنسان كائنا حيا و موجودا من موجودات الطبيعة فهو تتحكم فيه قوى و تفاعلات و يخضع للضرورة الطبيعية، و مع ذلك فهو أرقى الكائنات لأن ما يميزه هو أنه كائن يشعر و يرغب و يريد يرفض ويقبل و يفكر ويتأمل و يعمل وينتج و ينسج علاقات شغل وصراع، علاقات تعاون وتواصل مع الآخرين. إذن فالخاصية التي تحدد هوية الإنسان وتميزه عن باقي الموجودات و الكائنات هي التفكير بامتلاكه القوة الناطقة و ما تنتجه من صور ذهنية و إدراكات »  فالناطق إنما انفصل عن الجمادات بالإدراكات و الظنون المحدودة « [1] .

و إذا كان الإدراك و التعقل و التفكير و الشعور و الإرادة هو ما يجعل الإنسان ينفصل عن باقي الكائنات والموجودات بفعل تميزه بالقوة الناطقة، فكيف يتأتى له أن يكون فاعلا ؟ و ما الذي يميز فعله عن فعل باقي الموجودات و الكائنات الطبيعية الأخرى التي تخضع للضرورة الطبيعية ؟.

القوة الناطقة وطبيعة النزوع والفعل الإنساني

إن تميز الإنسان ككائن حي بالقوة الناطقة، يمكنه من أن يتعقل الأشياء و يصدر أحكاما فيميز و يختار ما يريده ويرغب فيه وما يحقق منفعته، فيعمل على التأثير في محيطه و تحويل الطبيعة و تسخيرها لتحقيق حاجياته وإنسانيته و استمرار كينونته. و حين يتحرك و يفعل الإنسان يؤثر في الطبيعة بتحويلها و تسخيرها لصالحه ولما يشبع حاجاته و ما يحافظ على استمراريته ووجوده و يحقق إنسانيته، فلأن النزوع[2] عنده يعتمد على التفكير و الوعي أي على القوة الناطقة و ليس على الإحساس و التخيل كما هو الشأن عند الحيوان . » فالإنسان ليس يمكن وجوده بهاتين القوتين فقط [ الحس و التخيل ] ؛ بل بأن تكون له قوة يدرك بها المعاني” [3]، و هذه القوة هي القوة الناطقة التي تمكنه من تعقل الموجودات والتمييز بين الأشياء و الأفعال و وفق ما هو أفضل و يحقق له المنفعة و الكمال. كما تمكنه هذه القوة من استنباط المعاني و إصدار الأحكام و إدراك التضاد و التغاير أو التشابه و التطابق والانسجام بين الأشياء و الأفعال . كما تمكنه القوة الناطقة من معرفة طبيعة الفعل الذي يقوم به الإنسان و تأثيراته و انعكاساته على أهدافه و وجوده وإنسانيته .

و يصنف ابن رشد الوجود الكلي و المعاني المدركة إلى صنفين: مدركات مشخصة و مدركات كلية، » و أن هذين المعنيين في غاية التباين، و ذلك أن الكلي هو إدراك المعنى العام مجردا من الهيولى و إدراك الشخص هو إدراك المعنى في الهيولى « [4].ولا يستطيع الإنسان إدراك هذين المعنيين المشخص والكلي إلا بالقوة الناطقة؛ لأن قوتي الحس و التخيل لا تمكنانه إلا من إدراك المشخصات أي المعاني الحسية المرتبطة بالمادة . أما القوة الناطقة فهي في معرفة الموجودات و إدراك حقيقتها تقوم بأفعال ثلاثة هي التجرد و التركيب و الحكم » إن فعل هذه القوة ليس هو أن تدرك المعنى مجردا من الهيولى فقط ، بل و أن تركب بعضها إلى بعض و تحكم لبعض على بعض«  [5].

و يرى ابن رشد أن عملية التركيب هذه التي تقوم بها القوة الناطقة تسمى فعل تصور، و عملية الحكم تسمى فعل تصديق [6] .

و يؤكد ابن رشد أن الوجود الكلي باعتباره خاصية تميز الإنسان، ليس وجودا مفارقا وإنما هو إدراكات و صور ذهنية عن الأشياء و الموجودات المادية و فهم لجوهرها و حقيقتها و تأسيس لمعرفة حقيقية عن هذا الوجود المادي عبر علاقة واقعية .»إن معقولات الأشياء هي مفهمات جواهر الأشياء، و ليس هي جواهر الأشياء «[7].

و هذه المعقولات التي يستطيع العقل الإنساني أن يتملكها و تحضر بالذهن كمعاني كلية، هي صور ينتزعها من المادة بعد أن يعقل جواهر هذه الأخيرة على حقيقتها.

فالإنسان عبر عملية الإدراك كفعل إنساني، يستطيع أن يمتلك مقولات و يؤسس معرفة عن الأشياء، و ما يميز هذه المعرفة هو التغير و الإغناء و التراكم، فهي ليست معطاة أو جاهزة و إنما هي فعل يحصل و يتم عبر حلقات ثلاث هي التجربة و الإحساس ثم التخيل ثم التجريد و بناء المقولات و الكليات. و ما يطبع هذه المقولات هو أنها ليست خارجة عن النفس أو مفارقة و إنما هي نتاج فعالية القوة الناطقة  و مرتبطة بالذات الإنسانية و ما تعرفه من تغيرات، أي أنها مرتبطة بالتجربة و الإحساس. فـ » جل المعقولات الحاصلة لنا منها تحصل بالتجربة « [8].

إذن فهذه المعقولات ليست مفارقة و لا جاهزة و لا معطاة و إنما هي فعل إنساني يرتبط بفعل الذات وانفعالها فتحصل محاكاة الأشياء المادية في العقل الإنساني. يقول ابن رشد : » و لما كانت الحدود […] إنما تتألف من جنس و فصل ، و كان قد تبين مما قد تقدم أنها من حيث هي كليات ليست لها وجود خارج الذهن ، و لا هي بوجه من الوجوه أسباب للمحدودات، فتبين أن الجنس ليس شيئا أكثر من محاكي الصور العامة للمحدود التي تجري مجرى الهيولى والصورة العامة  « [9]. و إذا كان ذلك كذلك، فكيف يتم تحصيل المعقولات و كيف تتم عملية التعقل و الإدراك ؟

كيفية التعقل و الإدراك

يؤكد ابن رشد أن تحصيل المعقولات يرتبط بالتجربة و الإحساس و التخيل و بعد عملية  تجريد الأشياء المادية من الصور الحسية، تأخذ هذه الموجودات المادية معانيها و مفاهيمها الكلية في القوة الناطقة عبر عملية المحاكاة. »إن جل المعقولات الحاصلة منها، إنما تحصل بالتجربة، و التجريب إنما يكون بالإحساس أولا و التخيل ثانيا، و إذا كان ذلك كذلك فهذه المعقولات إذن مضطرة في وجودها إلى الحس و التخيل فهي ضرورة حادثة بحدوثها و فاسدة بفساد التخيل « [10].

و في عملية تصور الأشياء المادية و تجريدها من الصور الحسية لابد من حضور قوة الحفظ و تكرار الإحساس مرات عديدة حتى ينقدح المعقول الكلي في الذهن [11].

إذن فعملية إدراك و تعقل الموجودات المادية هي نتاج فعالية إنسانية و علاقة التفاعل من تراكم للتجارب و الخبرات و المعارف و فهم لحقيقة الموجودات المادية و أسبابها وما سيطبعها من تغير و تطور.» إن الصنائع العملية والعلمية ليس يقدر أحد على استنباطها في أكثر الأمر وإنما تتم بمعاونة السالف فيها الخالف، فلولا السالفلم يكن الخالف«[12].

و بفعل إغناء الذات الإنسانية الفاعلة لمعارفها و ما تحققه من تراكم، تستطيع أن تبدع أشكالا من الفعل ووسائل أنجع للممارسة، و أنظمة من المعقولات و الإدراكات تمكن الإنسان من أن يستشرف ما يحقق إنسانيته و كماله ويجعله يدرك كنه الأشياء و يتحكم في الطبيعة و يسخرها لصالحه إشباعا لحاجاته و دفعا لمختلف التهديدات والضرورات .

وإن الإنسان حين يفعل مسترشدا و مطبقا لما راكمه من معقولات وما تملكه من معرفة في فهم الأشياء، فإن فعله هذا يتم بإرادته و اختياره و يستكمل به وجوده و إنسانيته، “فالمعقول كمال العاقل و صورته، فمتى أنزلنا واحدا منها يعقل غيره. فإنما يعقله على أن يستكمل به، فذلك الغير متقدم عليه و سبب في وجوده [13] .

تحولات العقل الهيولاني في علاقته بالعقل الفعال

و يرى ابن رشد أن العقل الهيولاني[14] و بحكم ماديته و كونه يوجد أولا بالقوة، فهو يحتاج إلى من يحركه و يخرجه من هذه الحالة إلى أن يوجد بالفعل، ولن تكون هذه القوة المحركة والفاعلة إلا عقلا يوجد بالفعل؛ لأنه إذا كان » المحرك إنما يعطي المتحرك شبه ما في جوهره، وجب أن يكون هذا المحرك عقلا و أن يكون مع ذلك غير هيولاني أصلا « [15] . إذن فالعقل الفعال هو من يمكنه إخراج العقل الهيولاني من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، و إذا كان هذا كذلك، فأيهما يتحرك و يتصل بالآخر، و كيف يتمكن العقل الهيولاني من تحصيل معقولاته و إدراكاته و صوره، هل يعمل على انتزاعها أم أنها هبة من العقل الفعال؟

يرى ابن رشد أن العقل الهيولاني و انسجاما مع طبيعته باعتباره غير مفارق للذات الإنسانية و لا يوجد خارجها، و إنما هو في ارتباط بها و بالعقل الفعال و بالأشياء المادية، هو الذي يتحرك من أجل أن يصير عقلا بالفعل فينتزع الصور من الموضوع ، فهو يتحرك و لا يحرك ، أي أنه يحصل له الاستعداد لأن يقبل الصور والمعقولات . يقول ابن رشد :  »من طبيعته انتزاع الصورة من الموضوع ، و كان ينتزع الصورة غير المفارقة، فهو أحرى أن ينتزع هذه الصورة المفارقة[…]فهذا التصور هو الكمال الأخير للإنسان و الغاية المقصودة  « [16].

أما العقل الفعال فهو ليس عقلا قابلا و لا واهبا للصور كما يعتقد ابن سينا، و إنما هو محرك بالفعل للعقل الهيولاني، و هو الذي يؤلف بين الصورة و الهيولى، و يخرج         الإدراكات و الصور و المعقولات التي استقبلها العقل بالملكة إلى الوجود بالفعل، »  فالعقل الفعال من جهة ما هو مفارق و مبدأ لنا قد يجب أن يحركنا على جهة ما يحرك العاشق المعشوق « [17] .

إذن فالعقل الفعال هو الذي يحدث المعقولات و ينزغ عنها ما يحول دونها و التأثير في العقل الهيولاني، فيخرجها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. كما يحررها من الطابع المادي و يحولها إلى معقولات كلية.  و لذلك ففعل العقل الفعال »  ليس هو بث الماهية و لا الاستعداد للتحول إلى الماهية، بل هو أن ينزع عن الماهية الفردية الموجودة بالقوة في الخيالات ما يعوقها عن التأثير في العقل الهيولاني و المتمثل في الصفات الثلاث المترابطة القوة و الفردية المادية، لتصبح فاعلة و كلية و مجردة « [18].

فاعلية الإنسان استكمال لإنسانيته و كماله

إذا كانت معرفة الإنسان تتأسس على ما يتعقله من صور ذهنية و على ما راكمه من فهم للأشياء وعلاقاتها وأسبابها و صيرورتها، فكيف يمكن لهذه المعرفة أن تكون سببا في فاعلية الإنسان و سعيه من أجل أن يستكمل وجوده و إنسانيته وكماله ؟

يرتبط الإنسان بواقع معين يؤثر فيه و يتأثر بشروطه و تناقضاته و يتفاعل معه انطلاقا من وجوده الداخلي و ما يزخر به من مشاعر و أحاسيس و أفكار و مواقف. في إطار هذه العلاقة يعمل الإنسان على استكمال ذاته ووجوده و إنسانيته و لا يكون ذلك إلا إذا تمكن من تجاوز فعله الفطري و نزوعه الغريزي إلى فعل واع وإنساني أخلاقي يتأسس على ما راكمه من مدركات و معقولات و فهم لأسباب و صيرورة الموجودات .

وهنا لايخفى ما لقوى النفس الداخلية من قوة الحس والتخيل والناطقة وصورها و معقولاتها، من دور في تحريك لقوة النزوع . » و ليس هاتان القوتان [ الحس ، التخيل ] تتقدم هذه القوة فقط، و ذلك أنا قد ننزع عن التصور الذي يكون بالعقل و قد ننزع أيضا عن الصورة المتخيلة بالفكر و الروية و ذلك في الأمور العملية« [19].

فالقوة النزوعية هي السبب الأساسي لفعل الإنسان و نشاطه و حركته ، يقول ابن رشد :

» إن أخص أسباب هذه الحركة هي هذه القوة أعني قوة النزوع « [20]. و يختلف فعل الإنسان كنزوع بحسب باعثه ، فهو » إن كان [ النزوع ] إلى الملذ سمي شوقا ، و إن كان إلى الانتقام سمي غضبا ، و إن كان عن روية سمي اختيارا و إرادة « [21].

إذن ففعل الإنسان هو فعل مرتبط بالعقل و الروية و إدراك للموجودات وعلاقة بعضها ببعض و فهم لأسباب تكونها و صيرورتها. » فالعقل الذي بالفعل هنا ليس شيئا أكثر من تصور الترتيب و النظام الموجود في هذا العالم في جزء منه و معرفة شيء مما فيه بأسبابه البعيدة و القريبة حتى العالم بأسره « [22]. وهو ما يمكن الإنسان، باعتباره من القوى الفاعلة بالشوق و الاختيار، من أن يختار النافع و يبتعد عن المؤذي و الضار فيسعى إلى إشباع حاجاته اعتمادا على إمكانياته و قدراته و ما راكمه من معرفة للأشياء . أي أن فعل و اختيار الإنسان كفعل مفكر فيه، هو فعل تحكم فيه شروط و أسباب تحكم الموجودات وعلاقة الإنسان بها، وهو ما يعني أن فعل الإنسان ليس فعلا اعتباطيا و لا إراديا و لا وحيا أو هبة، و إنما هو فعل تحكمه الضرورة الطبيعية و إمكانيات الذات الإنسانية و ما تعرفه هي كذلك من إشراطات فطرية و بيولوجية و نفسية.

و حين ينزع الإنسان إلى فعل يختاره و يسعى إلى تحقيق ذاته و إنسانيته و كماله، فهو في نزوعه و فعله يتحرك حركة شوقية » كما تحرك صورة المعشوق العاشق « [23]. هذا لأن الكمال الذي ينزع الإنسان إلى تحقيقه يبقى مجرد شوق ما لم يتم الفعل و التحرك لتحقيقه . لأن الإنسان قد يحس » و قد يتخيل الشيء و ينزع إليه من غير أن يتحرك «[24]. و لأن هذه الحركة لا تتم إلا إذا بلغ النزوع و التشوق و الصورة المتخيلة ما يسميه ابن رشد حالة “الإجماع” التي تحول النزوع و الاختيار إلى حركة و فعل واع  و مفكر فيه .

سببية المعرفة في فاعلية الإنسان

يرى ابن رشد أن الإدراكات الحسية هي كمال أول للإنسان، فهي تعتبر انفعالا و استجابة للذات في علاقتها بالموجودات المادية، و بالواقع و تناقضاته. و هذه الإدراكات ليست مفارقة و لا إلهاما  و إنما هي فهم و محاكاة للوجود المادي المحسوس.

و إذا كان ابن رشد يعتبر الإدراكات الحسية كمالا أولا للنفس الإنسانية، فلأن الصور الخيالية و الإدراكات العقلية استكمالات أخرى. فإذا كانت » المحسوسات هي المحركة للحواس و المخرجة لها من القوة إلى الفعل « [25]، فتكون بذلك الإدراكات الحسية هي القوة التي تصير صورا خيالية، فإن هذه الأخيرة هي كذلك قوة للصور العقلية التي تعتبر تجريدا للمعقولات الكلية من العناصر المادية  و المحسوسة [26].

و يرى ابن رشد أن مختلف الادراكات و الصور و المعقولات هي لحظة من لحظات الفعل الإنساني و هو يعتمد التجربة و العقل في فهم و إدراك الوجود المادي. و عليه، فإن هذه المعقولات تمكن الإنسان من استكمال ذاته و كينونته، بما تمنحه له من مبادئ و تصورات يسترشد بها في ممارسته وعمله  ونظره وفهمه وحكمه وتمييزه بين الأشياء والأفعال، و في اختياره وحريته وتحويله للواقع وفق ما يخدم وجوده واستمراريته وكماله. » إن المعقول كمال العاقل و صورته ، فمتى أنزلنا واحدا منها يعقل غيره ، فإنما يعقله على أنه يستكمل به . فذلك الغير يتقدم عليه و سبب في وجوده «[27].

و لكن هذا الكمال و اختيار الإنسان و حريته و ما يمكن أن يراكمه من إدراكات و معارف وكذا إشباع حاجاته، لا يتأتى له بمفرده و بعيدا عن الآخرين، و إنما لابد له من أن يدخل في علاقات عمل وتعاون وصراع و تواصل مع أفراد من بني جنسه. » فالناس لا يتم وجودهم إلا بالاجتماع ، والاجتماع لا يمكن إلا بالفضيلة ، فأخذهم بالفضائل أمر ضروري لجميعهم « [28] .

فالإنسان يستحيل أن يعيش بمفرده، و لا يمكنه أن يكتسب المعارف و الفضائل إلا في إطار نسجه لعلاقات اجتماعية مع الآخرين. » إنه لا يمكن لإنسان واحد أن يحصل من هذه الفضائل ، على الفضيلة الخاصة التي ينفرد بها من غير أن يعاونه في ذلك أناس آخرون . أعني أن الإنسان يحتاج في حصوله على فضيلته إلى أناس غيره و لذلك قيل بحق عن الإنسان ، إنه مدني بالطبع ، و ليس يحتاج إلى هذا التعاون في الكمالات الإنسانية وحدها ، بل أيضا في جميع الأشياء الضرورية لحياة الإنسان « [29].

و هذا الكمال لا يمكن تحقيقه إلا إذا استطاع الإنسان بفعله و وعيه تجاوز طبيعته الحيوانية  و حكم العقل في قيادة قوى النفس و تحقيق العدل و الإنصاف اللذان يطبعان النفس الإنسانية ، يقول ابن رشد : »  و العدل و الإنصاف اللذان في نفس الفرد إنما هما ، كما هو الحال في المدينة ، أن يفعل كل واحد من أجزائها ما ينبغي فعله ، حتى يصير الجزء العاقل هو الآمر ، إذا كان حكيما و تعضده النفس بأسرها ، و يكون الجزء الغضبي مطيعا منقادا ، يثور غاضبا لمحاربة غيره [ القوة الشهوانية ] ، […] فالرجل الحكيم ، هو الذي يكون الجزء العاقل منه دوما هو الآمر لسائر الأجزاء « [30] كما أن هذا الكمال لا يمكن تحقيقه إلا إذا عمل الإنسان كذلك على إدراك و تمثل الخير المطلق في حركته التي هي حركة شوقية على منوال حركة العاشق الذي تحركه حركة المعشوق[31].

إن حركته التي هي من أجل أن يستكمل وجوده، تجعله يتصور المحرك الذي لا يتحرك كغاية عملية و نظرية و هو » الذي إليه يتحرك المستكمل به ليتم وجوده بالاستكمال « [32]. وعليه فالإنسان حين يتحرك و يفعل، فهو يسعى إلى غاية وهي استكمال وجوده وإنسانيته وتحقيق اختياره، الذي هو نتاج لانقياد عقله وإدراكاته وليس فطريا ولا وحيا ولا عطاء ولا منة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]   ابن رشد ، تفسير ما بعد الطبيعة ، تحقيق، بويج موريس ، الطبعة الثالثة ، 1990 ، ص . 396 .

[2]   يوضح ابن رشد ما يميز النزوع عند الحيوان و طبيعة فعل القوة النزوعية عنده و عند الإنسان فيقول :»  و النزوع ليس أكثر من تشوق حضور الصور المحسوسة من جهة ما  نتخيلها «رسالة النفس ، ص . 109 ؛ كما يقول : »إن هذه القوة [ القوة النزوعية ] هي القوة التي بها نزع الحيوان إلى الملائم و ينفر عن المؤذي ، و ذلك من أمرها بين بنفسه  وهذا النزوع إن كان إلى الملذ سمي شوقا ، و إن كان إلى الانتقام سمي غضبا و إن كان عن روية سمي اختيارا و إرادة «. رسالة النفس ، ص. 106 .

[3]   ابن رشد ، رسالة النفس ، ص . 84 .

[4]  ابن رشد ،رسالة النفس، ص. 83 .

[5]   ابن رشد، رسالة النفس، ص. 84  .

[6]    ابن رشد، رسالة النفس، ص. 84. حيث  يقول :» و الفعل الأول من أفعال هذه القوة  يسمى تصورا و الثاني تصديقا «

[7]    ابن رشد ، تفسير ما لعد الطبيعة ، ص . 150 .

[8]       ابن رشد ، رسالة النفس ، ص . 85 .

[9]   ابن ، رشد ، جوامع ما بعد الطبيعة ، ص . 60 – 61 .

[10]  ابن رشد ،رسالة النفس ، ص.  85.

[11]  في توضيحه لهذه الفكرة ، يقول ابن رشد:» إنا مضطرون في حصولها [ المعقولات ] لنا أن نحس أولا ثم نتخيل ، حينئذ يمكن أخذ الكلي . و لذلك    من فاتته حاسة ما من الحواس فإنه معقول ما . فإن الأكمه ليس يدرك معقول اللون أبدا ولا يمكن فيه إدراكه ، و أيضا فإن من لم يحس أشخاص نوع ما لم يكن عنده معقوله ، […] و ليس هنا فقط ، بل يحتاج مع هاتين القوتين إلى قوة الحفظ و تكرر ذلك الإحساس مرة بعد مرة حتى ينقدح لنا الكلي ، و لهذا صارت هذه المعقولات إنما تحصل لنا في زمان «رسالة النفس، ص . 94 .

[12]  ابن رشد ،  تفسير ما بعد الطبيعة ، ص. 10 .

[13]  ابن رشد ، جوامع ما بعد الطبيعة ، ص. 142 .

[14]  في تحديده للعقل الهيولاني و انه ليس ازليا و انما هو حادث و عبارة عن صفحة بيضاء و ليس فيه شيء من الافكار ، يقول :» انه مجرد استعداد   وهو من حيث كونه  استعدادالابد ان يكون في موضوع ، و الموضوع هنا ليس الجسم و انما هو النفس و ليس يظهر ههنا اقرب الى ان يكون الموضوع لهذه المعقولات من بين قوى النفس  سوى الصورالخيالية ، اذا كان   قد تبين انها انما توجد مرتبطة بها ، و انها توجد بوجودها وتعدم بعدمها «رسالة النفس ،ص87.

[15]   ابن رشد ،رسالة النفس ، ص . 103 .             

[16]  ابن رشد ، رسالة النفس ، ص. 104 .

[17] ابن رشد ،تفسير ما بعد الطبيعة ، ص . 1612 .

[18] المصباحي محمد ، إشكالية العقل عند ابن رشد ، ص . 128 .

[19]  ابن رشد ،رسالة النفس ، ص. 105 .

[20]  ابن رشد  ، رسالة النفس ، ص . 106 .

[21]  ابن رشد ، رسالة النفس ، ص . 106 .

[22]   ابن رشد ، جوامع ما بعد الطبيعة ، ص . 144 .

[23]    ابن رشد ، تلخيص ما بعد الطبيعة ، ص . 136 . كما يقول كذلك في مكان اخر ، أن الكائنات العاقلة  » إذا تصورت الخير الذي كما لها في تصوره تشوقت أن تتشبه به في الكمال ، و ذلك أن تحصل في وجودها على أفضل الأحوال التي هي ممكنة فيها «. جوامع ما بعد الطبيعة ،ص. 137 . و كذلك تفسير ما بعد الطبيعة ، ص . 1592 ، 1606 ، 1611 ، 1644 .

[24]  ابن رشد ،  رسالة النفس ، ص . 109 .

[25]   ابن رشد  ،رسالة النفس ، ص . 49 .

[26]  يميز ابن رشد بين الصور الخيالية و العقلية فيقول : » إن المتخيلات إنما نتصورها من حيث هي شخصية و هيولانية […] أما التصور العقلي فهو تجريد المعنى الكلي من الهيولى «. رسالة النفس ، ص . 77 .

[27]  ابن رشد ،جوامع ما بعد الطبيعة ، ص. 142 .

[28]  ا بن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة ، ص . 43 .

[29]  ابن رشد، الضروري في السياسة ، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون ، بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، الطبعة 1 ، 1998 [ سلسلة التراث الفلسفي العربي ، مؤلفات ابن رشد-4- نقله عن العبرية ، شحلان أحمد ] ، ص . 74 – 75 .

[30]  ابن رشد ،الضروري في السياسة ، ص . 122 .

[31]  ابن رشد ،جوامع ما بعد الطبيعة ، ص . 136 .

[32] ابن رشد ،تفسير ما بعد الطبيعة ، ص .186 . 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع المعتمدة 

  • ابن رشد،  تفسير ما بعد الطبيعة ، تح ، بويج موريس ، بيروت ، دار المشرق ، ط3، 1990.
  • ابن رشد ، تلخيص ما بعد الطبيعة ، تحقيق وتقديم ، عثمان أمين ، القاهرة، 1980.
  • ابن رشد، رسالة ما بعد الطبيعة،، [ضمن سلسلة رسائل ابن رشد الفلسفية، ضبط وتعليق، رفيق العجم وجهامي جيرار]. بيروت، دار الفكر اللبناني، ط،1، 1994.
  • ابن رشد، رسالة النفس، [ضمن سلسلة رسائل ابن رشد الفلسفية، ضبط وتعليق، رفيق العجم وجهامي جيرار].بيروت: دار الفكر اللبناني، ط،1، 1994.
  • ابن رشد، الضروري في السياسة ، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون ، [ سلسلة التراث الفلسفي العربي ، مؤلفات ابن رشد-4- نقله عن العبرية ، شحلان أحمد ] بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، الطبعة 1 ، 1998 .
  • المصباحي محمد ، إشكالية العقل عند ابن رشد ، بيروت ، المركز الثقافي العربي ط1، 1988 .

عبدالمالك بنعثو

باحث مغربي، واستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة القاضي عياض بمراكش، من مؤلفاته: نظرية الفعل عند صدر الدين الشيرازي. منشورات الجمل. 2016.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى