المقالات

في وداع الشيخ يوسف القرضاوي : الإنسان والفقيه والمثقف

 

                                                                             ( 1)

ودع العالم الإسلامي الشيخ يوسف القرضاوي(1926-2022)، بكثير من الحزن، من طرف تلامذته ومحبيه، على طول العالم الإسلامي، بل وفي مختلف مناطق العالم. فقد تحدث عن دوره الفقهي والفكري والثقافي والتواصلي رموز من مختلف العقائد والمذاهب والطوائف والتيارات. فقد عرف الرجل بانفتاحه عليها جميعا من دون حواجز ومن دون تحفظات نفسية أو فكرية. وتحمل الأذى الكثير من الطوائف الإسلامية بسبب مسلكياته الحوارية تلك. وفي المقابل شمت في موته قلة معزولة من خصومه من المسلمين ومن غيرهم، بما يحشرهم في زوايا غير أخلاقية، وبما سيحرجهم مع أنفسهم ومع ضمائرهم أولا، خصوصا من المسلمين، ممن كانوا يوما ما من تلامذته أومن أقرانه أومن أصدقائه على السواء. إذ لاشماته في الموت، وهو خلق إنساني مشترك. وسيظل طيف الشيخ القرضاوي، اتفقوا معه سرا وخالفوه جهرا، أو خالفوه سرا وجهرا، سيظل يطاردهم ويزعجهم في ذاكرتهم، وفي مكتباتهم، وفي منتدياتهم. وبئس الطيف الذي يذكرك، وأنت في عزلتك مع نفسك، بانفصاميتك، وبتناقضاتك، فكرا وسلوكا، وباندحارك الأخلاقي، في لحظة سمو إنساني، أكبر من كل خلاف أيديولوجي وفكري وسياسي ، بغض النظر عن قيمة المتوفى وعن مكانته.

وتكتنف الكتابة عن الشيخ القرضاوي، رحمه الله، صعوبات جمة، من حيث طبيعة الشخص، وطبيعة العلاقة معه، ومن حيث متنه الفقهي والفكري والثقافي الواسع والمتشعب، ومن حيث تجربته المركبة في حياتنا الثقافية منذ منتصف القرن الماضي إلى اليوم، من دون تعب ولاكلل ولاتوقف، ولا من حيث علاقاته مع الآخرين ، حوارا وسجالا ومناظرة وخصومة، من داخل دائرة الفكر الإسلامي المعاصر، وكذا من خارجه. فقد كان حاضرا بشكل استثنائي في جل اللحظات الحاسمة في تاريخ الفكر الإسلامي المعاصر ، لحظات التحولات، تألقا وتجديدا واجتهادا ، و كان حاضرا كذلك في لحظات انكسار هذا الفكر، وعايش أزماته وانسداداته. وكان في كل المحطات مساندا ومخلصا ومخرجا لذلك الفكر من الأنفاق المظلمة التي يتدحرج إليها بين الفينة والأخرى في سياقات واقعية مؤلمة سياسيا واجتماعيا، في هذا البلد الإسلامي أو ذاك. ومارس أدواره مدافعا عمايراه صحيحا، وناقدا شديدا لمايراه مسلكيات خاطئة، ومخاصما لمن يراه لايستحق إلا المخاصمة. وكان في كل اللحظات مستقلا وصريحا في رأيه وفي اجتهاده، وصادما لتلامذته وأقرانه، قبل خصومه.

إن الكتابة عن الشيخ يوسف القرضاوي، رحمه الله، هي، بالنسبة لي، كتابة في الذات وفي الموضوع معا. فهي ليست كتابة في تحولات الفكر الإسلامي المعاصر وحسب، بل في تحولات الذات الكاتبة نفسها، على الأقل بالنسبة لجيلي من الشباب المتدين الذي فتح صفحة تجربته في القراءة الفكرية على كتب الشيخ في ثمانينيات القرن الماضي. وكانت الذات الكاتبة تتحول بتحولات مكتوبات الشيخ، وهو كان شديد التحول الفقهي والفكري، بما تشهد عليه كتبه ومحاضراته ومشاركاته الغزيرة جدا في سياقات متنوعة جدا. وكم أشعر بحالة انفعالية شديدة الحميمية وأنا أفتتح كتابتي عن الشيخ بعلاقتي به. فقد التقيت به أكثر من مرة، في أكثر من بلد. واستقبلني في بيته العامر في الدوحة. وغمرني بأخلاقه العالية، ترحيبا وإنصاتا وإهداء لمجموعة من كتبه. وقد فوجئت في إحدى زيارتي له بمتابعته لحركة فكرية شبابية في المغرب، نشأت بعد مغادرة التنظيم، وكانت ذات نفس نقدي. وكأنها تعيد سيرة الشيخ وعلاقته بتنظيم الإخوان اتصالا وانفصالا. كما كان متابعا للفكر المغربي ومعجبا برموزه وبتميزهم على الصعيد العربي، اتفق معهم أو اختلف معهم. ولا أخال لقاء جمعني به لم يذكر فيه الجابري وطه والعروي.

إن الكتابة عن الشيخ القرضاوي، رحمه الله، في الأول كتابة عن حالة إنسانية وأخلاقية راقية. إنها كتابة عن شخصية منسجمة مع ذاتها، عارفة بقيمتها في تواضع غير محدود، ومقدرة لخلافاتها مع خصومها، ومتحملة لكل الأثمنة الباهضة من أجل التعبير الحر عن الموقف الحر. لذلك فالكتابة عن الشيخ، رحمه الله، محفوفة بمخاطر الذاتية والموضوعية، وبكل المخاطر، الناعمة والصلبة، الصديقة والعدوة ، التي كانت تحيط بالشيخ في حياته كلها، لكنه واجهها بشجاعة ورباطة جأش إلى أن لقي الله بابتسامته التي لم تفارقه.

                                                                             (2)

ولد الشيخ القرضاوي، رحمه الله، (1926)بعد سنتين من حدث كبير، وهو إطاحة مصطفى كمال أتاتورك بأبرز علامة سياسية لرابطة المسلمين في العصر الحديث، وهي (الخلافة العثمانية)(1924). وولد الشيخ قبل سنتين من حدث كبير مواز، أشبه بالاستجابة لإثارة سقوط (الخلافة العثمانية). والحدث هو تأسيس الأستاذ حسن البنا لتنظيم (الإخوان المسلمون)(1928). وكأن وجود مولد الشيخ بين حدثين كبيرين من الأقدار والصدف، والصدف مكر التاريخ! إذ لم يخف القرضاوي يوما انخراطه في مشروع البنا لاستعادة الخلافة التي أسقطها أتاتورك، وبناء صرح الأمة. أكيد بمفاهيم، ومناهج، ورؤى، تختلف قليلا أو كثيرا عن منطق تفكير البنا، وعن السياقات الخاصة التي أنتج فيها خطاباته ودروسه وتوجيهاته وبرامجه. فالشيخ القرضاوي تجاوز بكثير الأطروحات التنظيمية للبنا، بل تجاوز تنظيم الإخوان بالكامل، لكنه ظل مشدودا إلى جاذبية وسحر شخصية البنا، وإلى أفكاره الطولى في الاستناد على التربية والأخلاق في بناء الشباب، وفي البحث عن الروابط بين المسلمين في العالم. وفي المقابل ظل المجهود الفكري والثقافي للشيخ القرضاوي جوابا على لحظة العلمنة التي أسسها أتاتورك سنة1924. وأكاد أزعم أن أكثر الشخصيات المحفزة للشيخ القرضاوي لإنجاز متن فكري واسع هما حسن البنا وكمال أتاتورك.

ولم يخف الشيخ القرضاوي يوما تعلقه بحسن البنا مذ كان طفلا في السنة الأولى ابتدائي، لما حضر دروسه ومواعظه؛ وكان يحفظها عن ظهر قلب. وظل يفتخر بالتلمذة عليه وهو في مرحلة متقدمة من عمره. وهي حالة وفاء وارتباط عاطفي بين معلم وتلميذ، تعبر عن خلق إنساني راق، قد لايتحمل بعض الناس اليوم تبعاته، أي تبعات الوفاء والاعتراف بالجميل لأساتذة الأمس، لأسباب ومصالح عديدة. لذلك كتب الشيخ القرضاوي بيان ولاء شجاع لحسن البنا وقال: ” لقد تعلق فؤادي بحسن البنا، تعلق المريد بالشيخ، والتلميذ بالأستاذ، والجندي بالقائد.” فكان الشيخ القرضاوي إذن وفيا للبنا، وتحمل من أجل ذلك الوفاء اتهامات ثقيلة، وتهديدات لاتنتهي. في وقت قلب آخرون ظهر المجن للبنا في أولى اختبارات التلمذة والصداقة والوفاء، بغض النظر عن قيمة أفكاره، وكذا مشروعه، والموقف من التنظيم الذي أسسه، وكذا الموقف من كسبه السياسي والاجتماعي في الواقع منذ تأسيسه إلى اليوم، وكذا البقاء في التنظيم أو مغادرته.

وكان الشيخ القرضاوي يلقب حسن البنا بالإمام الشهيد. وكان يرى فيه علامات الموهبة المتعددة: في التربية والدعوة والقيادة… وكان،بنظره، صاحب البصيرة المنيرة، والقلب الكبير، والعقل المفتح، والوجه البشوش… صاحب الخبرة الفنية والاجتماعية… كان يلتقي به الشيخ القرضاوي عندما يزور الإمام مدينة طنطا. ولم يكتب له أن يحضر أحد دروسه المشهورة (حديث الثلاثاء)، في المركز العام للإخوان بالقاهرة. وكان الدرس الأول الذي تلقفه الشيخ القرضاوي من فم حسن البنا مباشرة حول الهجرة. الهجرة التي ستتحول إلى مفهوم إشكالي ومتوتر وذي حمولات متناقضة وعنيفة في أذهان فئة مندفعة من الشباب المتدين في مصر في لحظة الصراع السياسي على السلطة بعد انقلاب الضباط الأحرار على الملكية بقيادة جمال عبد الناصر، رحمه الله. أول حمولة لهذا المفهوم تلقاها الشيخ القرضاوي من درس حسن البنا هي أن الهجرة حد فاصل بين عهدين، عهد تكوين الفرد في مكة، وعهد إقامة المجتمع في المدينة. يقول الشيخ القرضاوي عن هذا الدرس: ” كنت منذ وعيت أستمع إلى حديث الهجرة كل عام من علماء قريتنا، وهو حديث مكرور، لايعدو الحديث عن قصة العنكبوت والحمام، وما يجري مجرى ذلك، أما هذه الليلة فقد سمعت حديثا جديدا أصيلا، لاعهد لي بمثله. ولقد وعيته وهضمته، وأكاد أحفظ كلامه، كله لشدة وضوحه وتركيزه وبلاغته. ” فلم تكن خطابات حسن البنا التي يتلقاها الطفل يوسف القرضاوي مجرد دروس تربوية باردة مغرقة في جزيئات الأخبار والروايات، بل كانت مشحونة بطاقة عالية من التكوين المتوتر والشحن الحضاري والإعداد لمهام كبرى، ربما لم يتحمل الطفل يوسف عناء فهمها يومذاك. فإذا كان درس الهجرة هو الدرس الأول في البعد الاجتماعي والسياسي لرسالة الإسلام الذي سيتعلمه الطفل يوسف، وسيكرس له قسطا كبير من حياته ونضاله ومناظراته وكتبه، فإن درس (الإسراء والمعراج) الذي سيتلقاه من الإمام البنا في طنطا أيضا، سيكون محورا آخر من نضال الشيخ القرضاوي في مساره، وهو المتعلق بالقضية الفلسطينية. فدرس البنا لم يكن حول الروايات والأخبار وتأويلات المفسرين والمحدثين والحكواتيين لحدث الإسراء والمعراج، بل اختصر حسن البنا الطريق واعتبره محطة ارتكاز وبناء الوعي من أجل فلسطين والمسجد الأقصى ومواجهة استباقية للمشروع الصهيوني القادم إلى المنطقة يومذاك. ويحكي الشيخ القرضاوي أنه ألقى بين يدي درس حسن البنا قصيدة مدحه فيها، وتفاعل معه الإمام البنا وقال للحضور:إن هذا شاعر فحل.

إن البحث في المرجعيات الفكرية الأولى للشيخ القرضاوي أمر أحسبه مهما لبناء خارطة أفكاره وجغرافيتها وكذا تاريخ أفكاره، لفهم نموجه المعرفي والفكري في سياق تشكل عناصره الأولى، ووحداته الفكرية الجنينية.

                                                                  (3)

لقد كان حسن البنا أكثر من ألهم الشيخ القرضاوي، سواء في النظر الجديد إلى الدين، أو في دوره في الحركة الاجتماعية، أو في قدرته على تحريك الناس وتحريضهم، للعمل الجماعي، بثقة في النفس، وبطموح غير محدود لإنجاز المهمات الكبرى، في تحرير الوطن وفي تنمية الإنسان. كما ألهمه في الحركة والتجوال داعيا ومؤطرا ومحفزا. فقد كان البنا، بتعبير الشيخ القرضاوي، “فهكذا هو أبدا، حل وارتحال، وحركة وانتقال”. ومن يقرأ مذكرات الأستاذ حسن البنا (مذكرات الدعوة والداعية/أكثر من 400صفحة ) ومذكرات الشيخ القرضاوي (ابن القرية والكتاب: سيرة ومسيرة/خمسة أجزاء)، سيلحظ الكثير من عناصر التشابه في الحكي عن المسيرة وفي شرح بعض تفاصيل المسار، وفي تبرير بعض المواقف والأفكار.

لم يكن حسن البنا هو وحده من أثر في شخصية الشيخ القرضاوي، بل آخرون كثر، ولكن البنا كان أكثرهم إلهاما. وآخرون كان الشيخ معجبا بهم، وبتضحياتهم، ولكن كان البنا من مرشدي الإخوان الذين ارتبط بهم عاطفيا وحسب، على بعد مسافة العمر والجغرافيا بين الرجلين. وفي المقابل لم يكن بالحماس نفسه والتأثر نفسه مع مرشدين آخرين للجماعة على قربه منهم عمرا وجغرافيا، وعلى علاقاته بهم، مثل : حسن الهضيبي (1949-1973) ،وعمر التلمساني (1973-1986)، ومحمد حامد أبوالنصر(1986-1996) ، ومصطفى مشهور (1996-2002)، ومحمد مأمون الهضيبي (2002 – 2004) ، ومحمد بديع(2010 -…) ،ومحمود عزت (2013-2020)،القائم بأعمال المرشد. ويبدو من خلال حكايات الشيخ عن مرشدي الجماعة بعد اغتيال المرشد المؤسس حسن البنا، أنه قد افتقد فيهم روح البنا وحيويته وكثافة شخصيته وجاذبيتها. فإذا أخذنا نموذجا للمرشد الثاني للجماعة حسن الهضيبي، فقد تولى المهمة ليحسم الصراع على موقع المرشد بين قيادات الصف الأول، وجاء من خارج هذه الدائرة المتنافسة وربما المتباغضة! وجاء هو من سلك القضاء، بما يوحي بمحدودية الخبرة الاجتماعية والسياسية للمرشد الجديد في مرحلة دقيقة من تاريخ الإخوان المسلمين. كما أنه تولى مهمة استعادة الثقة بين الجماعة والملك فاروق، وقد زاره في قصره بعد توليه، ثم دخل في صراع مع التنظيم الخاص، وعزل بعض قادته، وتصدى لكثير من تمرداته، وتصرفاته العنيفة، ورفض مطالبتهم باستقالته، بعد أن احتلوا بيته وحاصروه! لم يستسلم لهم مع أنهم مدعومون ، كما يحكي الشيخ القرضاوي، من بعض كبار الإخوان، مثل: صالح العشماوي، ومحمد الغزالي، وسيد سابق الذي اختاروه مرشدا بدل الهضيبي، وآخرون. كما كان على المرشد الجديد حسن الهضيبي أن يدبر العلاقة مع انقلابيي الضباط الأحرار، والتنسيق معهم لإسقاط الملكية في مصر، وهي الخطيئة السياسية الكبرى الأولى للإخوان، في مسارهم، أي التواطؤ مع العسكر للوثب إلى السلطة من فوق دبابة، وقد أعطى الشيخ القرضاوي بعض التبريرات لذلك في علاقته بسياق مصر يومذاك. وأتصور بأنه تراجع عن ذلك في أخريات حياته، مما سيأتي ذكره لاحقا في هذا الوداع للشيخ. وبعد الانقلاب ستسوء العلاقة بين الانقلابيين ضباطا وإخوانا، وسينفرد عبد الناصر بالحكم، وسيبدأ في سياسة الانتقام والإبعاد لخصومه السياسيين، من يسار وإسلاميين على الخصوص، وستبدأ رحلة الإخوان مع السجون والمعتقلات، وسيعتقل المرشد حسن الهضيبي نفسه. بذلك سيرث المرشدون الآخرون تنظيما منهكا بالمحن، ومشتتا داخليا، وسيصبح كل مرشد مطالبا بتدبير تركة تنظيمية معقدة، وسيضمر دوره الفكري والدعوي الذي كان العلامة المميزة للمرشد الأول حسن البنا، والتي جعلت الشيخ القرضاوي يرتبط به عاطفيا ووجدانيا من دون الآخرين، مع أنه قضى فترة من السجن إلى جوار المرشد الهضيبي، وكلفه بمهمات تنظيمية ودعوية كثيرة، داخل مصر وخارجها. ولكن شخصية الهضيبي ظلت مختلفة عن شخصية البنا. ففي شخصية الهضيبي كان يختفي القاضي الذي يسمع كثيرا ويتكلم قليلا، وكان كلامه حادا كأنه أحكام تلزم بالإذعان لاغير، ويفتقد لمهارات الخطابة والتأثير، وهو مايجذب الشيخ القرضاوي ويؤثر فيه عادة . وكانت شخصية الهضيبي ذات مسحة قانونية، بحكم مهنته كقاضي، وكان أرستقراطيا، بحكم درجته الإدارية والمالية. وكان قريبا من أبناء طبقته الاجتماعية، وكان محدودا في علاقاته، عكس المرشد الأول، بقدر اته الخطابية، وبشعبويته، وبحماسته، وبأصوله الاجتماعية. ويذكر الشيخ القرضاوي أن هذه الأبعاد المذكورة في شخصية المرشد حسن الهضيبي أوشكت أن تحدث فرزا طبقيا وسط الإخوان، ولذلك كون بعضهم صورة عن المرشد بأنه متكبر ومتعال على غيره! مع أن الهضيبي أوصى بدفنه في مقبرة للفقراء والغرباء تسمى (مقابر الصدقة)! وزاد من حدة هذا التوتر الداخلي، بنظر الشيخ القرضاوي، حملة الشيخ الغزالي على المرشد حسن الهضيبي بعد فصله من التنظيم. وكتب الغزالي مقالات ناقدة وغاضبة وقاسية ضد المرشد، تراجع عن بعضها، وأبقى على بعضها، على كونه تصالح مع المرشد وزاره بعد خروجه من السجن. ولكن الشيخ الغزالي ظل مقتنعا بأن التنظيم تحول إلى هيئة كبيرة مليئة بشتى النزعات والأهواء.

ويلحظ المتأمل في تشكل شخصية الشيخ القرضاوي أنه لم تعد تستهويه شخصية أي مرشد، بل رفض أن يصبح مرشدا مرتين. فقد أصبح المنصب وظيفة بيروقراطية لإدارة الأزمات التنظيمية التي لاتنتهي. وكأن قدر تنظيم الإخوان أن يفقد ماءه وحيويته وجذره التربوي أو قل روحه في خضم تحولاته ، مرشدا ومريدين، قيادة وتنظيما. وكان الشيخ القرضاوي واعيا بهذا المصير الدراماتيكي المروع الذي تقلب فيه التنظيم وسار فيه وانتهى إليه، وتحوله إلى ماكينة استقطابية وتحريضية تدور في فراغ بلاروح وبلا أفق. لذلك بدأ الشيخ القرضاوي يحدد المسافة الموضوعية مع التنظيم الجديد، بعد اغتيال المرشد الأول، ومع القادة الفكريين والأيديولوجيين الجدد للتنظيم وفي مقدمتهم سيد قطب، رحمه الله.

 

 

محمد همام

أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن زهر بأكادير. له أكثر من عشرة كتب في اللغة والفكر واللسانيات القانونية. مشارك في مؤتمرات علمية داخل المغرب وخارجه. له عشرات الدراسات والأوراق العلمية في مجلات مغربية ودولية. منسق ماستر الصياغة القانونية وتقنيات التشريع بالمغرب، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ٱيت ملول. عضو مختبر التخصصات البينية في العلوم الاجتماعية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير. تتركز اهتماماته البحثية حول نظرية تكامل العلوم، والأبحاث البينية، والمقاربات عبر المنهاجية، والدراسات الثقافية والنقدية، ودراسات مابعد الاستعمار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى