الدراسات

في جدلية العقل الحِجاجي.. من إيديولوجيا الثبات إلى الزمانية التاريخية

في جدلية العقل الحِجاجي

من إيديولوجيا الثبات إلى الزمانية التاريخية 

تأليف: شاييم بيرلمان

ترجمة: أنـــــــــــــوار طاهـــر

«إن البلاغة بوصفها منطق لأحكام القيمة،  لا يركز على قيمة الصدق، وإنما على قيمة ما هو مفضَّل، حيث لا يكون تأييد الأنسان هو مجرد تسليم وإذعان، بل هو قرار والتزام، فإن ذلك من شأنه أن يستحدث عنصراً جديداً في نظرية المعرفة، ولن يقصر النقاش على القبول الكامل بنزعة عقلانية مستوحاة من قواعد علمية أو على رفضها التام»

ش. بيرلمان

تقديم المترجمة:

في مقدمة كتابه «العدالة والعقل» والذي صدر في سنة 1963، أشار الفيلسوف بيرلمان إلى أن مجموعة الدراسات والأبحاث في هذا الكتاب تأتي مكملة لتلك التي ظهرت في كتابه المشترك مع زميلته السوسيولوجية لوسي اولبرخت-تيتكا، وكان بعنوان: «البلاغة والفلسفة … من أجل نظرية حِجاجية في الفلسفة» والذي صدر في سنة 11952. وقد عرض الفيلسوف البلجيكي أوربان دونت لكتاب «العدالة والعقل»، في العدد الرابع والثمانين من المجلة الفلسفية لجامعة لوفان في سنة 1966، حيث ذكر أنه:

«جمع في هذا المجلد، العديد من الدراسات المتعلقة بمشكلة العقل العملي، أو بالعلاقة بين الفعل والعقل. وبالضد من النزعة العقلانية ومن الوضعية المنطقية، يدافع البروفيسور بيرلمان عن كفاءة الفلسفة في التعاطي مع مسألة التبرير للفعل. في دراسته الأولى والمهمة للغاية، يأتي على معالجة مفهوم العدالة، ومن خلال تحليله لهذا المفهوم الغامض، يستخلص، من ناحية، تلك البنية الشكلية التجريدية التي ينبغي اعتبارها ثابتة في جميع التطبيقات المادية الملموسة والذاتية، ومن ناحية أخرى، أن القواعد الأساسية لأي نظام معياري ليست قابلة للتبرير لأن القيمة نفسها التي تشيّد النظام اعتباطية بسبب طبيعتها العاطفية الانفعالية. من هنا، يجب أن يتأسس العقل على القضاء على أي شكل من أشكال الاعتباطية، وان يكون مدركاً لكل نقص أو عيب قد يوجد في أي نظام ملموس للعدالة. هذا التصور الجديد للعقل العملي تم عرضه وتطويره في الدراسات اللاحقة من الكتاب. إن البروفيسور بيرلمان يدافع عن فلسفة عقلانية (البحث العلمي باستخدام المنهج التحليلي) لا تنخرط في إعادة إنتاج أحكام القيمة ذاتها، وإنما تهدف إلى توسيع نطاق مفهوم العقل الإلزامي، وهو لا يريد قصر العقلانية على مفهوم البداهة، وإنما يريد إعادة الاعتبار إلى مفهوم الرأي والمنهج الجدلي من أجل التوصل إلى نظرية الحِجاج المكملة لنظرية البرهان»2.

وفي طليعة تلك الدراسات، تأتي هذه الدراسة المترجمة للمرة الأولى إلى العربية، بعنوان: «العقل الأبدي، العقل التاريخي»3، والتي كانت المرجع الأول الذي أفتتح به الفيلسوف بيرلمان الصفحة الأولى من مقدمة كتابه العمدة «رسالة في الحِجاج…البلاغة الجديدة» في سنة 1958، وتحديداً مع عبارته القائلة: «إن إصدار رسالة مكرسة للحِجاج وارتباطه بالبلاغة والجدل الإغريقيين، يمثل قطيعة مع مفهوم العقل والاستدلال المنحدر عن ديكارت، هذا المفهوم الذي ترك بصمته على الفلسفة الغربية طوال القرون الثلاثة الماضية»4.   

في جدلية العقل الحِجاجي

من إيديولوجيا الثبات إلى الزمانية التاريخية

إن فكرة العقل «raison» [وهي كلمة تشتق من الجذر اللاتيني ratio، وتشتمل على ملكة التمييز؛ ومعرفة العدّ والحساب والتقييم؛ والتنظيم أو وضع الأشياء بالترتيب ووفق نظام محدد، أي القدرة على إبداء الرأي والحكم والتصرف حسب مبادئ معينة. أما في اللغة الفلسفية فهي تحيل إلى logos اللوغوس الإغريقي  الذي يدل على الكلام المعقول، والخطاب المتسق منطقياً، والقابل للفهم من الجميع والمقبول بشكل عُمُومي، والمرجع لأي لغة من اللغات]–  بوصفها، مَلَكَة للإنسان تمكنه من معرفة الحقيقة، هي تقنية، يقع على عاتق الفلسفة، مهمة تأطيرها ومسؤولية تكوينها. وأي إنسان يمكنه القول أنه عندما يتداول؛ ويتناقش؛ ويتحاجج؛ ويبرهن ويتفكَّر ويقيّم ويتدبَّر، فهو بتأديته لهذه الأفعال، يقوم بفعل «raisonner» أي أنه يتعقَّل ويستدل من خلال ربطه للمفاهيم في سلسلة من العلاقات والعبارات المتتابعة ضمن خطاب مقنع يتيح له النقاش وإصدار الأحكام، ولكن، إذا لم يكن فيلسوفاً، فسيكون من الصعب عليه للغاية، وصف تلك المَلَكَة التي تمكّنه من التفكير والأستدلال، وأن يوضح كيف يتشابه عقله مع عقول الأخرين وبماذا يختلف عنهم، وما هي ملامحه الثابتة الدائمة وما هي عناصره المتغيرة، وما هي قدراته وما هي حدودها. إن الإجابة عن كل هذه الأسئلة، والتي تقتضي وضع نظرية في العقل، يمكن أن تمثل السمة المميزة لمعظم النُظُم الفلسفية، بل حتى التقليد الفلسفي الغربي نفسه يمكن أن يكون متمركزاً على إشكالية العقل. في الواقع، إن مشروع تأسيس مفهوم للعقل هو جزء لا تتجزأ من كل صرح فلسفي، ويشكل أحد أعمدته الرئيسية.

في ضوء التقليد الديكارتي، يعتبر العقل هو المَلَكَة المميِزة للنوع البشري، والذي بفضل بداهة الأفكار الواضحة والمتميزة، يفرض على الجميع التسليم بالحقائق التي يكشف عنها لأي واحد منهم. وعلم الهندسة هو الذي أمدَّ الفيلسوف ديكارت بنموذج هذه الأفكار الواضحة المتميزة، وبهذه العبارات/أو تعبيرات الأحكام propositions الصحيحة للأبد، التي تفرض بداهتها نفسها على كل كائن عاقل. ونظراً لأن الوجود الإلهي، وهو الوجود الكامل بصورة لا متناهية، تكون بالنسبة له جميع الأفكار واضحة ومتميزة، وكل العبارات/أو تعبيرات الأحكام بديهية في حقيقتها أو في بطلانها، فلنا الحقّ في أن ننظر إلى العلوم الرياضية، حيث يتلاقى العقل البشري مع العقل الألوهي، كنموذج يضمن لنا تقليده أن نحقق الإستخدام السليم للعقل. لذلك، يجب أن نحاول تدريجياً الاستعاضة عن النظريات الفلسفية، التي هي ليست سوى نسيج من الآراء، بعِلم يبدأ من مجموعة من البديهيات، وينتقل من يقين إلى يقين من دون توقف. فالمداولة والنقاش ليست سوى مظهر لعدم اليقين الذي ينجم عن معرفة ناقصة، غير أنه من الممكن تجنب هذا النقص، بشرط إتباع قواعد المنهج الديكارتي، من خلال القضاء على تأثير الخيال والعواطف والأهواء والظُنُون والأحكام المسبقة؛ وتأثير التربية السيئة وضعف التعليم والأستعمال غير الصالح للغة، وكذلك، بقهر مواطن الضعف والقصور في ذاكرتنا. إن التغلب على هذه العقبات، كما يمكننا أن نأمل، إنما يتم بفضل المنهج السليم في قيادة وتوجيه عقلنا من أجل التقدم على طريق المعرفة الحقّة، يسير فيه على خطى الفكر المتعالي.

لا شك، أن رغبة العديد من مفكري التقليد الديكارتي أمثال باسكال وليبنتز، في إفساح المجال لفكرة المتخيَّل الميتافيزيقي المسيحي، جعلتهم يصرون على ضعف العقل البشري ومحدودية قدراته، لكن، تبقى حقيقة أنه، منذ الفيلسوف ديكارت، تم اعتبار العقل أداة يشترك فيها جميع البشر، ولها القدرة على جعلهم يتشاركون في التسليم adhésion* بحقائق أبدية واحدة، فأصبح تمجيد مَلَكَة العقل هذه وتوقيرها يستلزم رفض ونبذ كل ما يمكن أن يقف عائقاً في طريق تشكيل العقل الثابت غير القابل للتبدل ولا للتغير، وعلى ازدراء كل ما هو  خاص مميز واستثنائي؛ عرضي ومتغير ، ولكل ما له طابع فردي وللتاريخ أيضا. وفيما بعد، سوف تعمل النزعة العقلانية للقرون اللاحقة على الربط بين فكرة العقل وفكرة الضرورة nécessité، وستقلص من نطاق المنطق تدريجياً وتختزله في دراسة أدلة الإثبات التحليلية preuves analytiques. وإذا كان الفيلسوف كانط قد حدَّ من مزاعم امتلاك المعرفة العقلانية، فذلك لإن الإستخدام المشروع للعقل المحض يرتبط، بالنسبة له أيضاً، بالاستدلالات الضرورية اللازمة raisonnements nécessaires التي تتعلق فقط بالجانب الشكلي التجريدي من المعرفة. كما أن تحليل الأستدلال الأستنباطي déductif الذي شرع فيه المناطقة منذ قرن من الزمان، أفضى، هو الأخر، بجميع الفلاسفة الذين يستندون إلى دروس المنطق الشكلاني/الصُّوري وأحكامه، إلى إختزال ما هو عقلاني على ما هو شكلي تجريدي، والى النظر إلى أي طريقة لاستخدام العقل تختلف عن القالب أو الشكل العقلاني/المنطقي المفروض السائد، باعتبارها غير مشروعة.    

  لتحميل نسخة Pdf من الترجمة يرجى النقر هنا 

أنوار طاهر

باحثة ومترجمة عراقية-متخصصة في الدراسات الفلسفية والحِجاجية. حاصلة على الماجستير في الفلسفة-كلية الآداب-جامعة بغداد. لها مجموعة من المقالات والأبحاث المنشورة في مجلات عربية اكاديمية محكَّمة. حاصلة على جائزة العلوم في الفلسفة-العراق في عام 1999. صدر لها مؤخرا، الكتاب الموسوم بـ (فلسفة الحِجاج البلاغي) مراجعة وتقديم البروفيسور أبو بكر العزاوي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى