المقالات

التأسيس للاستغراب ونقد الرؤية الغربية للعالم من الداخل

الرحلة التفكيكية لـ د.عبد الوهاب المسيري ود.إدوارد سعيد أنموذجا

إن شراسة انتقاد كل من الدكتور عبد الوهاب مسيري[1] وإدوارد سعيد للغرب يدفعنا للتركيز على خلفيتهما العلمية ودوافع انتقادهما له، علما أنهما درسا الغرب في المؤسسات الغربية، وتمكنا من استيعاب المناهج الغربية المختلفة ليوظفا كل تلك الآليات والمعارف في تفكيك البنية المعرفية الغربية؛ بكل ما تتضمنه من أفكار وأيديولوجيات ومواقف ورؤى تجاه الشرق. وهذا أمر مثير ومحفز منهما، مما يفتح لنا أفق إدراك خطواتهما الرصينة لجعل الغرب موضوعا للبحث والمعرفة، خصوصا أنهما عكسا الرحلة العلمية -الاستشراقية- بدل أن تكون شمالا جهة الجنوب تصبح جنوبا والوجهة هي الشمال برؤية جديدة محمولها العلمي هو “الاستغراب” وبما يستتبعه ذلك من خلفية معرفية وسياسية، هذا إذا اعتبرنا أننا نحدد الغرب بهذه المحددات الجغرافية وهي الرؤية السائدة لدى الباحثين في كتاباتهم الفكرية. إننا نميل لتحديد معنى الغرب بناء على مشاركة المجتمعات في الإبداع المعرفي، ومدى عمق التحولات التاريخية داخل بنيتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحقوقية أي التحول من البنية التقليدية إلى بنية قادرة على الانسجام مع روح الحداثة دون تناقضات كبيرة.

إن مجهودات هذين الفذين قد كانت نتيجة مراكمة مريرة للتجربة العلمية في الأوساط العلمية الغربية كل بحسب ظروفه الذاتية ودوافعه المبدئية. ومما لابد من ملاحظته أنهما تميزا في نتاجهما المعرفي وما قدماه من مفاهيم ومشاريع، وقد كان ولا يزال لهما أكبر أثر إيجابي في تاريخ المعرفة العربية المعاصرة بعد امتداد فترات الاستشراق لسنوات وسيادة بعض المستشرقين المتحيزيين للتفوق الغربي على غيره من الطوائف والشعوب والثقافات.

                                       

يبدو أن باب الاستغراب ينفتح ببطئ ولكن بثقة مع الباحثين الذين انبروا لدراسة  الغرب لا دهشة ولا استيلابا بالغرب ولكن بدافع المعرفة المحضة، ووفق آخر المناهج  العلمية المؤسسة وتحت مظلة مراكز بحثية تتصف بالموضوعية والتجرد. وكانت الخلاصات مذهلة إذ توصل المسيري رحمه الله إلى استنباط نموذج تفسيري للظاهرة الغربية وتتبع تفاصيل تطورها التاريخي والفلسفي والقيمي بشكل صارم، ليطور وعيه بالغرب وكذا أبحاثه التي اشتملت على الكثير من الموضوعات والإشكالات كانت إلى زمن قريب  تبدو مبهمة في سياقنا المعرفي، وبعضها الآخر استوطن الفكر العربي المعاصر وانشغلت به النخبة المؤطرة بالايدولوجيا؛ ولم تقدم رغم جهدها المبذول أي تفسير مُستَوعِب لكثير من المفاهيم الوافدة، بل قامت بتبيئتها بعدما زيفت مضامينها وشوهت دلالاتها الأصلية. إن إدراك المسيري وادوارد للبنى المعرفية التي تأسس عليها الغرب لم يكن نتيجة تجربة بسيطة أو سطحية خاضاها أو نتيجة صدفة، إنما كان عن سابق  وعي وممارسة ومعاناة، أسفرت بالإضافة إلى مشاريعهما المعروفة عن كتابة سيرتهما الذاتية التي تلخص الكثير من ذلك الإدراك وتلك التجربة بأسلوب أدبي أنيق، ومضامين مكتنزة للتجربة والأفكار والعواطف والقيم والتوجيهات والملاحظات الدقيقة التي يجب أن ينتبه إليها الباحث النبيه لأنها صالحة للتوظيف والبحث العميق، وكل ذلك  بالنسبة لهما إنما كان في سياق استكمال مشاريعهما المتميزة.

إن الإنسان لا يدرك شيئا مما حوله بشكل مباشر، إلا من خلال “نموذج معرفي” يتم تكوينه تدريجيا- أحيانا بشكل واع وغالبا بشكل غير واع- حتى يصبح جزءا من وجدانه وسليقته وإدراكه، بذلك يصبح النموذج المعرفي هو المنظار الذي ينظر من خلاله إلى الواقع، أما الإدراك المباشر للواقع بتفاصيله المتناثر فهو تلق سطحي للأمور [ كعدسة الكاميرا] لا يؤدي إلى أي فهم حقيقي.[2] ويضرب المسيري مثالا طريفا لدور النموذج المعرفي على المستوى الشخصي، فيروي لنا كيف أن عددا من السيدات في الولايات المتحدة أخبرنه [في مناسبات وظروف مختلفة] أن رائحته جميلة للغاية Dr.Messiri,you smell so nice ، وبدأت تساوره الأوهام بأن سحره لا يقاوم، حتى أخبرته زوجة صديقه المؤرخ كافلين رايلي أن عطر [نوعه: أولد سبايس] الذي اشتراه مع زوجها كان هو الوحيد تقريبا المتاح في الستينات، ولابد أن آباء هؤلاء النسوة كانوا يستعملونه، ومن ثم فهو يذكرهن بطفولتهن، حينئذ تغيرت تمام رؤية د.المسيري للموقف بعد معرفة السبب[ أي معرفة النموذج المعرفي الكامن وراء الموقف] : اختلفت فورا صورة “دون جوان” الخطير وحلت محلها صورة الأب الوقور الحنون، وتبين هذه الحادثة، كيف يصبح واقعنا تفاصيل متناثرة وأوهاما لم نفهم النموذج المعرفي الحاكم وراءه.[3] هذا الإدراك لخلفية التفكير وإصدار المواقف من الناس في الغرب يؤسس لفهم سليم ليس فقط لتلك المواقف ولكن كذلك للمفاهيم والفلسفات التي تأسس ضمن صيرورة تاريخية في تلك الثقافة. ويؤكد الدكتور إدوارد سعيد هذا المبدأ الذي يتقاطع مع رؤية المسيري في التروي في الفهم ولا يمكن الاعتماد على ما تقرره الكتب والأسفار. فمن الخطأ بحسب الدكتور إدوارد افتراض إمكان تفهم الفوضى التي يعيش فيها البشر، استنادا لما تقوله الكتب، أو النصوص، أي إن التطبيق الحرفي لما يتعلمه الإنسان من كتاب ما على الواقع يعرضه لخطر ارتكاب الحماقة أو الدمار[4]. وفهم المسيري للغرب بعقلية شرقية كانت ستؤدي بطبيعة الحال إلى أوهام كثيرة ودمار للعلاقات التي كان سيبنيها مع زملائه وزميلاته لولا أن تدارك سوء فهمه -اللطيف- بتفسير من صديقه ليرفع كل إبهام عن سبب إعجاب النساء به. وفي موقف مختلف تماما مُنع الطالب إدوار سعيد من تقديم خطاب في آخر السنة الدراسية لسبب بسيط أنه: أجنبي وعربي وأكثر من ذلك فلسطيني، مما أشعره بالارتباك وعدم الرضا وقد عبر عن تجربته تلك بقوله:” شعرت بأني الذي يستحق هذا التكريم عند التخرج وقد حُرِمتُه ولكني كُنت أعرف بطريقة غريبة ولكنها صحيحة،أني لا يجوز أن أُعْطَاه. فتألمت عاجزا عن قبول المظلمة، وعن الاحتجاج عليها أو عن فهم ما قد يكون، في نهاية المطاف، قرارا له ما يبرره ضدي. فخلافا لفيشر[ صديقه]، لم أكن قائدا ولا مواطنا صالحا ولا تقيا ولا حتى مقبولا بشكل عام. فأدركت أنه قد حُكم عَليَّ أن أبقى اللامنتمي، مهما فعلتُ”.[5] هذا الميز والإبعاد وربما الحقد الذي تعرض له سعيد نبهه لكثير من التفاصيل التي لم يدركها قبلا، والتي فتحت أعينه على مشروعه في نقد الاستشراق الذي جعل الغرب هدفا له، وقد يصنف كتابه ذاك ضمن مقدمات في علم الاستغراب. فصورة العربي في ذهنية المجتمع الأمريكي والغربي عموما لم تتغير منذ قرون لسبب بسيط هو كون الاستشراق قد بت في تفاصيل الحضارة الشرقية والرجل الشرقي، وأخذت القنوات التلفزية المنحازة للرؤية الاستشراقية مشعل ذلك المشروع واستمرت في بث نفس الصور النمطية. وإدوارد عندما اكتشف ذلك لم يهدأ له بال إلا عندما نقض تلك الأوهام وكثير من المعطيات المزيفة، وقدم صورة معكوسة بمنهجية نقدية مجردة، ليكشف تهافت الفكر الاستشراقي ويخضعه للانتقاد ويدفعه لمراجعة مقولاته بل يعريه أمام سنادنته.

ويستمر ادوارد ذلك  الطالب المجد في سرد معطيات مؤثرة عن حياته الطلابية التي تكشف مزيد إصراره على نحت مساره العلمي انطلاقا من هواجسه وتجربته الذاتية مع / في الغرب، قائلا:” فخلال دراستي في ماونت هيرمون، لم أعين مرة خفير طابق أو رئيس مائدة أو عضوا في مجلس الطلبة أو الأول، أو حتى الثاني، في الصف، مع أني كنت جديرا بذلك، لأسباب لم أعرفها قط. فسرعان ما اكتشفت ضرورة الاحتراس من السلطة وحاجتي إلى بلورة آلية ما أو اندفاع معين حتى لا أفقد الأمل بسبب ما اعتبرته جهودا مبذولة لإسكاتي أو حرفي عن أن أكون من أنا لأصير من يريدونني أن أكون. وأثناء ذلك؛ بدأت نضالا سوف يستمر طوال حياتي لفضح الانحياز والخبث الكامنين في السلطة التي تعتمد في مصادر قوتها اعتمادا مطلقا على صورتها الأيديولوجية عن ذاتها بوصفها فاعلا أخلاقيا يتصرف بقصد شريف وبنوايا لا يرقى إليها الشك.[6] إن مبعث التحيز المعرفي الغربي يرجع أساسا إلى القوة والهيمنة الثقافية والتقنية والعسكرية التي بنتها القوى الغربية في لحظات غفلة العقل المسلم. فبعض  المدارس الغربية التي تنتمي للفترة الكونيالية أنتجت ولا تزال تنتج خطابا يضخم من مجهود بعض البعثات الثقافية والباحثين المنضوين تحتها، وقد أُرسلت تلك البعثات قبل بدء حركة الاستعمار أو كانت أثناءه، وحققت نتائج  مهمة كالتنقيب عن الآثار أو تحقيق المخطوطات وإخراجها للتداول أو الكشف عن اللغات والتاريخ القديم الشرقي،  فهذه الكشوفات العلمية المهمة تعد أفضالا غربية على الشرق، لأن هذه المهمة فيها استعادة للذاكرة وإحياء للتراث وقفز على فترات ضمور الحضارة العربية والشرقية لما كان قبلها من حضارات أو لحظات صعود وعطاء. ثم عملوا على تقديم تأويلات تخدم الأغراض الاستعمارية لأغلب الكشوفات مع توجيه الأذهان والوعي الجمعي إلى كون الشرق إنما هو أسطورة قد انتهت وبقي فقط إعداده ليكون جسدا للتشريح وموضعا للبحث. فالاستشراق كما المستشرق الحديث بحسب الدكتور إدوارد يرى نفسه بطلا ينقذ الشرق من العتمة والاغتراب والغرابة، ويرى أنه الذي نجح في إدراك ذلك، فبحوثه أعادت تكوين ما فقد من لغات الشرق، ومن أخلاقه وطرائقه تفكيره، مثلما أعاد شامبوليون تكوين الحروف الهيروغليفية من حجر رشيد.[7] ومن هنا يأتي تنبيه بعض الدارسين إلى خطورة الاستماع لكل التفسيرات التي تقدمها المدرسة الاستشراقية دون امتلاك قدرة على نقدها أو كشف زيفها أو امتلاك نظيرها من المنهاج والعلوم. ويقول الدكتور أيمن المصري في هذا السياق  في رسالة له موجهة للباحثين والمراكز البحثية قائلا:”عليكم أن تكونوا على حذر شديد من تسويق ثقافات وقيم تنطوي تحتها هذه العناوين، حيث لا تخدم إلا أعداء الإنسانيّة وأعدائكم. ومن هذا المنطلق يرجى منكم أن تعيدوا قراءة تراثكم الفكري الفلسفي الإسلامي لا عن طريق نظارة المستشرقين من الغرب والسطحيين من الشرق، بل على أيدي متخصّصين لتتعرّفوا بشكل واقعي على تلك الكنوز العظيمة التي ترفع من قيمة الإنسان”.[8] ويأمل الدكتور أيمن من هذه المراكز أن تراجع حساباتها في طبيعة تعاطيها مع المنهج العقلي، وأن تتخلى عن نظرتها السطحية والسلبية للمنطق العقلي، منطق الفطرة الإنسانيّة. كما يدعو إلى أن تقف هذه المراكز وقفة جدية لتقييم مسيرتها الفكرية التي قامت على أساس المنهج الحسي طيلة قرون، وما استتبع ذلك من فوضى معرفية ومشاكل ومفاسد أخلاقية واجتماعية وسياسية”.[9] ومن بين تلك المفاسد العظيمة، عدم القدرة العلمية لمواجهة تحديات الاستشراق وبناء بديل عنه أو على الأقل ببعث المدارس الإسلامية العقلية والمنهاج النقدية التي اغتنت بها بعض العلوم الإسلامية والعربية في لحظات تاريخية مجيدة أو محاولة مواجهة الغرب بمثل أسلحته العلمية ولو كانت المحاولة متأخرة،  كتأسيس “علم استغراب” يوازي في القدرة المعرفية والمنهجية وما يحققه من نتائج ما للاستشراق حتى لا يبقى وحده هو المتحدث عن الشرق ويبقى هذا الأخير صامتا غافلا مذهولا. وقد نبه الدكتور إدوارد سعيد لهذه المزالق التي جعلت من المعرفة الشرقية معرفة صامتة خاضعة للوافد من الغرب، فيقول:” فلننظر إذن في ضوء هذا كله، إلى نابليون ودي ليسبس: إن كل شيء عرفناه عن الشرق تقريبا كان مستقى من كتب كتبت في إطار تقاليد الاستشراق ، ووضعت في مكتبة الأعراف أو الأفكار المقبولة.وكانا يريان أن الشرق[مثل الأسد الشرس] شيء يمكنهما مواجهته والتعامل معه إلى حد ما لأن النصوص خلقت ذلك الشرق، لكنه كان شرقا صامتا، ومتاحا لتحقيق المشروعات الأوربية التي يشارك فيها السكان المحليون دون أن يشرفوا عليها اشرافا مباشرا.[10]

ومن النتائج المهمة والخطيرة التي زرعتها المدارس الاستشراقية، والتي عمقت الجراح وأكدت على نشوء صراع متوهم  بين الشرق والغرب بحسب الدكتور ادوارد هي أن الدراسيين الأوربيين قاموا بوصف الشرقيين بأنهم غير عقلانيين وضعفاء ومخنثين، على عكس الشخصية الأوروبية العقلانية والقوية والرجولية. ويعزي هذا التباين إلى الحاجة إلى خلق اختلاف بين الشرق والغرب بذلك لا يمكن تغيير جوهر الشرق [11] ،هذه الصورة النمطية التي خلقت وضخمت وتم الحفاظ عليها في الذهنية الغربية  إلى الآن تدفع بمزيد سوء فهم وتنامي موجة المواجهة غير المتكافئة بين الشرق والغرب، ويساهم ذاك في إذكاء الصراع والدفع بالثقافة الشرقية لتتموقع في جبهة تطرف ومواجهة غير مسبوقة، للدفاع عن نفسها مادامت الأخرى في موقف الهجوم والهيمنة وإرادة الاستعمار. وهذا يزيد من الشرخ توسعا والتوتر تصاعدا، ويخلق لدى الشرق هواجس تتغول حول ما وراء نوايا الغرب الحقيقية تجاهه، خصوصا عندما يتحدث عن مفاهيم حداثية كالمدنية والديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية ودولة المؤسسات.

إن إدورد سعيد كشف عن هذا التوتر الذهني والعاطفي الذي يحدث بين مواطني هاتين الثقافتين فيحكي لنا أنه أثناء مقامه بأمريكا وهو طالب عاش تجربة مضطربة وهواجس كثيرة بسبب أصوله الشرقية فيقول: وهكذا فمنذ إقامتي الأمريكية، صممت أن أعيش وكأنني نفس بسيطة شفافة، فلا آتي على ذكر عائلتي أو أصلي إلا حسب الأحوال وباقتضاب شديد. بعبارة أخرى، قررت أن أكون مثل الآخرين، مجهولا قدر المستطاع، فتعاظم الانشقاق بين ” ادوارد” [أو سعيد كما سوف أُسمى قريبا] أي بين شخصي البراني العمومي، وبين التحولات المتسيبة والمضربة والمسكونة بالاستيهامات لحياتي الذاتية الجوانية.[12] فكأن الثقافة الغربية تطالب كل لاجئ إليها أو مستوطن فيها من أصول مشرقية بأن ينكفئ على نفسه وينسى الحديث عن كل تاريخه وماضيه، وأن يسعد بانتمائه للحضارة الجديدة وتاريخها المتسم بالحداثة والسمو والتقدم، وهي تعلي من أيديولوجيا القطيعة مع الكينونات والهويات. حيث يبقى غيرها من الثقافات بدائية خطيرة مشكوكا فيها، وقد تكون العقليات المنتمية لها متخلفة لا يعرف أصحابها بما ينطقون أو كيف يحللون، لتنفي عنهم  الفهم والإدراك . وقد أورد الدكتور المسيري بدوره مقتطفا من قصصه اللطيفة في هذا السياق التي تظهر استعلاء المثقف الغربي بمناهجه وتصوره للشرقيين بأن عقولهم أقل إدراكا وفهما ووعيا، وهو بصدد سرد قصته مع البروفسور إيان جاك أستاذ الأدب الرومانتيكي الانجليزي في جامعة كمبردج بموقف المسيري من التعميم في التعامل مع الأدب عكس البروفسور الذي يهتم بالجزئيات، فيقول المسيري:” لم تكن المناقشة ودية على الإطلاق، ولعله كان يتوقع من طالب دراسات عليا مثلي(من إفريقيا) أن يذعن تماما لآرائه، ولكنه فوجئ بموقفي هذا. وبطبيعة الحال رفض الدكتور جاك أن يساعدني على الالتحاق بجامعة كمبردج، ولذا سافرت إلى الولايات المتحدة، إلى جامعة كولومبيا في نيويورك.[13] وأتم المسيري قصته بكون نفس البروفسور اختار أحد زملائه ليلحقه بكمبردج ولكنه قام “بتسويته” تماما هنالك و”تبطيطه”، إذ طلب منه أن يقرأ في كل شيء تقريبا. ويكتب أطروحته عن شاعر فكتوري مغمور، مما جعل الباحث يناقش أطروحته ولم يكتب بعدها كلمة طيلة حياته، بعد حصوله على الدكتوراه، تأثرا بأستاذه الذي لا يحب التعميم.[14] والمستفاد من ذلك أن بعض المثقفين والباحثين الذين يعودون من الغرب،-ولأنهم لم يمتلكوا مشروعا ولا رؤية ولا إدراكا لهدفهم ولتأثرهم بالمشرفين عليهم من المستشرقين وغيرهم ورجعوا بخفي حنين-، لم يقدموا لأمتهم بعدها أي جديد أو أنهم تورطوا في مشاريع أيدلوجية تكمل عملية التغريب وتوسع دائرة الاستشراق ولكن بأيد عربية أصيلة، عكس البعض الآخر من الباحثين الذين امتلكوا منذ البداية رؤية ومشروعا وقدموا خدمات علمية لثقافتهم بعد استكمالهم لدراساتهم بالغرب. رغم التحديات والعوائق المادية والثقافية التي واجهتهم، وإدوارد سعيد وعبد الوهاب المسيري -رحمهما الله- هما من النماذج القلائل الذين وظفوا معرفتهم من أجل تحرير الوعي الشرقي من هيمنة الانبهار بالغرب، ونعتقد أنهما أسسا بمشاريعهم المختلفة مقدمة لـ”علم الاستغراب” والتي يجب الانتباه إليها والاعتكاف على دراستها. ولأننا نتحدث عن المصاعب التي تواجه الباحثين الجادين خصوصا إذا تعلق الأمر بإشكالية صناعة حضارة أمة ونحت هويتها، نستدعي هنا قصة تبين بعض تلك التحديات والمعيقات التي واجهت الدكتور المسيري،  فيحكي في هذا الصدد –رحمه الله-عن الصراع الذي دار بينه وبين لجنة مناقشة أطروحته لنيل الدكتوراه خصوصا موقف الاختلاف بينه بين البروفسور جورج أحد مناقشيه، إذ حذر المسيري المشرف على أطروحته البروفسور وايمر من ذاك الأستاذ، قائلا له إن الهوة الفكرية التي تفصل بينه وبين جورج ضخمة، وبالتالي سيكون من الصعب عليه مناقشة رسالته، باعتبار جورج من أنصار نهاية التاريخ والمسيري من أنصار المذهب الإنساني، ليرد المشرف وايمر ممازحا إياه:” أنت ديكتاتور وسلطان شرقي لا تفهم الديمقراطية الأمريكية وروح الليبرالية” ليرد المسيري:” أنا أفهم جيدا حدود الديمقراطية والليبرالية؛ هناك خطوط حمراء إن عبرتها قضي علي، وقد عبرت هذه الخطوط في رسالتي للدكتوراه: طالب من العالم الثالث يتحدى الرؤى الغربية السائدة، بل يتعامل مع الحضارة الأمريكية بطريقة أنثروبولوجية محايدة، تماما كما يتعامل أي أنثروبولوجي غربي مع إحدى القبائل الافريقية”.[15] وفي الأخير صعق المشرف وايمر بحكم أن البروفسور جورج قد أعاد رسالة الدكتوراه بعد ساعتين من تسلمه لها، وزعم أنه فعل ذلك بسبب وجود خطأ في علامات الترقيم في الصفحة الثانية ! فصعق الأستاذ المشرف وأخبر المسيري -ممازحا له- بأن ما قاله عن حدود الديمقراطية -سابقا- على ما يبدو صحيح.[16] هذا الموقف يكشف عن مدى بعد رؤية المسيري وفهمه لما يدور حوله من خلفيات وحساسيات ثقافية وسياسية تنتمي لمدارس غربية بصم الاستشراق السالب رؤيته  فيها عن أهل الشرق، ويكشف لنا قدرة المسيري على الدفاع عن مواقفه وترجيحاته العلمية وعمق إدراكه للمناهج الغربية المختلفة بل قدرته على المحاججة بها، وكذا تمكنه من توظيفها في مشاريعه البحثية بموضوعية وحيادية وبكل ثقة وبلا خوف، ليفسر بها الظواهر الإنسانية وتحولاتها التاريخية والمعرفية، ونفس الكفاءة والشجاعة العلمية والمنهجية اتسم بها المفكر الدكتور ادوارد سعيد في كثير من مواقفه السياسية والثقافية وكتاباته والتي منها؛ كتابه:”الاستشراق” وأفكاره حول السلام والديمقراطية وما بعد الاستعمار والنقد الأدبي والموسيقي.

خاتمة:

إن مساهمة كل من الدكتور إدوار سعيد والدكتور عبد الوهاب المسيري في بناء نموذج معرفي في الثقافة العربية يدفعنا إلى عقد الآمال على المشاريع الطموحة والجادة والمتسلحة بمنهجية حديثة، والاستفادة من نتاجهما المعرفي، وتوظيفه في سياق تفكيك ما تشكل من خلفيات فلسفية ومعرفية وامبريالية في السياق المعرفي الغربي وإعادة ترتيب المقولات الاستشراقية، وعرضها على مناهج بحثية صارمة. وعملية بناء النموذج المعرفي تقتضي منا بحسب الدكتور عبد الله ادالكوس تجاوز عملية اسقراء جزئيات الواقع والظواهر إلى الكشف عن تشكلاتها وبنيتها في إطار نسق عام.[17] هذا الكشف هو ما تحمَّلَهُ مشروع كل من الدكتور إدوارد والمسيري، وما على الباحثين إلا إعادة استقرائها لاستنباط منهجية مستوعبة تصدق بالمضامين والرؤى وتهيمن على النتائج بمزيد بحث وحفر، دون التوقف عند بداية عتباتهما، فالرجلان تمكنا من اكتشاف نافذة للإطلالة على الفكر الغربي ورؤيته على حقيقته، ونزع كل طلاسمه العلمية التي أذهلتنا، فغيبت قدراتنا وشتت انتباهنا وأربكت إدراكنا، ثم إحتواء آليات الفكر الغربي التي يباشر بها السياسيون الغزو ويمارسون بها هيمنتهم على المستضعفين من الأمم. إن تجربة الرحلة كذلك عند كليهما بغض النظر عن مضامين مشاريعهما الأخرى تكشف عن إشراقات، يمكن أن تجمع لتكون بحوثا علمية، تبدأ كمقدمات منهجية في دراسة الغرب أو ما يمكن أن نسميه بالمقدمات التأسيسية لـ”علم الاستغراب”، ونحن نأمل بأن يكون هذا المولود مفعما بالحياة والثورة والثقة والبصيرة، ولعله يحلق بعيدا عن الأيدلوجية المغلقة والنكدة، ويحقق وجودنا الرمزي والحضاري، ويعيد وضع القطار المعرفي العربي والإسلامي على سكته الصحيحة، ويساهم بذلك في إذكاء فاعلية العقل في نسقنا الثقافي ليبلور نظريات ومفاهيم ومشاريع تؤطر عملية تحرر الوعي والعقل والإنسان، لنرفع المظلومية التاريخية ونكتشف مجددا وبكل ثقة قدراتنا على الفعل والإبداع والعطاء والمساهمة في الحضارة الإنسانية بالخير، بدل الاكتفاء بالصمت والانتظار خارج التاريخ والحضارة، بذهنية مثقلة مستمتعة حينا بالأمجاد القديمة الماضية وحينا متألمة من الجروح التي أصابتها، وكل آمالنا هو الحفاظ على ما بقي من نرجسيتنا من الضياع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الدكتور عبد الوهاب المسيري، مفكر وعالم اجتماع مصري، توفي 2008م. له عدة مساهمات في شتى الحقول المعرفية أهمها: موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية، ونهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني، واشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، وموسوعة تاريخ الصهيونية..
والدكتور ادوارد سعيد: منظر أدبي فلسطيني عاش أغلب حايته في المهجر، ت2003م، له مؤلفات كثيرة أهمها: كتاب الاستشراق، مسألة فلسطين، تغطية الاسلام: كيف تحدد وسائل الاعلام والخبراء الطريقة التي نرى فيها العالم، وسيرة ذاتية : خارج المكان…

[2] – عمرو شريف، ثمار رحلة عبد الوهاب المسيري الفكرية قراءة في فكره وسيرته،فرست بورك للنشر والتوزيع،القاهرة، الطبعة 3، سنة 2014م ص09.

[3] – عمرو شريف، ثمار رحلة عبد الوهاب المسيري، ص10.مرجع سابق.

[4] -.د.إدوارد سعيد، الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، طبعة  رؤية للنشر والتوزيع ، سنة 2006م، ص169

[5] – د.ادوار سعيد، خارج المكان، مرجع سابق، ص305-306

[6] -د. ادوارد سعيد، خارج المكان،مرجع سابق، ص:285.

 

[7] – د.ادوارد سعيد، الاستشراق،مرجع سابق، ص:209

[8] -أيمن المصري، كيف نبدأ مسيرتنا للخروج من محنتنا؟ سلسلة اصدارات أكاديمية الحكمة العقلية 14،الناشر أكاديمية الحكمة العقلية،طبعة 1 سنة 2014م، ص62

[9] -أيمن المصري، مرجع سابق، ص59.بتصرف.

[10] – ادوارد سعيد، الاستشراق،مرجع سابق، ص171-172

[11] – إدوارد سعيد، الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، طبعة  رؤية للنشر والتوزيع ، سنة 2006م، ص336.

[12] -ادوارد سعيد،خارج المكان،مرجع سابق، ص178 .

[13] – عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، سيرة غير ذاتية غير موضوعية، دار الشروق، القاهرة سنة 200م، ص105-106.بتصرف.

[14] -د.عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، سيرة غير ذاتية غير موضوعية، دار الشروق، القاهرة سنة 200م، ص106.

[15] -المسيري،مرجع سابق، ص233.

[16] د.عمر شريف، ثمار رحلة عبد الوهاب المسيري الفكرية قراءة في فكره وسيرته،فرست بورك للنشر والتوزيع،القاهرة، الطبعة 3، سنة 2014م،ص239.بتصرف.

[17] -د.عبد الله ادالكوس، في نقد الخطاب الحداثي، عبد الوهاب المسيري ومنهجية النماذج، المركز الثقافي العربي المغرب، ومؤسسة مومنون بلا حدود، ط1-2014م،ص33.

يوسف محمد بناصر

باحث مغربي، متخصص في الحوار الديني والحضاري وقضايا التجديد في الثقافة الإسلامية، متحصل على درجة الدكتوراه من كلية الآداب ببني ملال جامعة السلطان مولاي سليمان- المغرب، له عدة مشاركات علمية في ندوات وطنية ودولية، كما ساهم بمقالات ودراسات وأبحاث عدة في مجلات وجرائد ومواقع عربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى