المقالات

ردًّا لاعتراضات الشيخ مولود السريري على مشروعية علم المقاصد وإمكان تاسيسها فلسفيا

جُـزْء -1-

————–

نُشِـر، قبل نحو ثَـلَـاثة أَسابيعَ تقريبًا، لِلْفقيه ٱلْـأُصُوليّ “مولود السريري” فيديو يُعبِّـر فيه عن شيءٍ عَـدَّه ٱعْتراضًا على عُنْوان «سُؤال ٱلْمشْـرُوعيّة: هل عِـلْم ٱلْمَقاصِد عِـلْمٌ مشْـرُوعٌ؟» ٱلذي وَضَعه ٱلْـفيلسوفُ “طه عبد الرحمن” لِمَدْخل كتابه «ٱلتّأسيس ٱلِـﭑئْتمانيّ لعِلْم ٱلْمَقاصِد» [2023]. فهل يَتعلَّق ٱلْـأَمرُ بـﭑعْـتراضٍ مُوَجَّهٍ على هذا ٱلْعُنْوان وعلى ٱلْفِقْرة ٱلْـأُولى من ٱلْمَدْخل [ص. 13]؟

يقول ٱلشّيخُ: «[…]. يجب أن يُعْلَم أن ٱلتقويم ٱلْـأُصوليّ، إذَا سُلِّط على ٱلْمشاريع ٱلثّقافيّة ٱلْمُعاصرة ٱلْمُتعلِّقة بـﭑلْـأُمور ٱلدِّينية، سيَقْضي ببُطْـلَـان أغلب مضامينها. وهذا ٱلْكتاب قد يجري فيه هذا ٱلْحُكم أيضًا، وإنْ كان هذا ٱلْكتاب له ٱلْمَرْتَبة ٱلْعُليا بين هذه ٱلْكُتب ٱلتي تَرُوج ٱلْيوم في هذا ٱلشّأن؛ وكان صاحبُه أيضًا أعْلَى كَعْبًا من جميع أُولئكـ ٱلذين أَثْمَـرت أنظارُهم هذه ٱلْمَعارف ٱلتي تُسمّى بهذه ٱلْمَشاريع. وهذا ٱلذي ذُكِـر من أنّ تسليطَ ٱلنّظَر ٱلْـأُصوليّ، سواء بشِقّه ٱلْـكـلَـاميّ أو بشِقّه ٱلذي في أُصُول ٱلْفقه، سيَقْضي بهذا ٱلذي ذَكَرْناه، لَـا يُمْكِـن أن يَتحقّقَ بيانُه إِلَّـا بـﭑلنَّظَـر في ٱلْجُزْئيّات، ٱلْجُزئيّات ٱلتي تَضمّنتها هذه ٱلْمَشاريع لِـأَنّ هذا هو ٱلذي سيُبيِّن ٱلْحقيقةَ على ٱلْوجه ٱلْمطلُوب. ولمّا كان هذا هو ٱلْحالَ ٱلذي قام بهذا ٱلشّأْن، فإنّنا سنَنْظُر في هذا ٱلْكتاب – ٱلذي سأَلْتَ عنه– بهذه ٱلطّريقة، ٱلنّظَـر في ٱلْجُزْئيّات. ونَبْدأ بما بدأ به ٱلْمُؤلِّفُ في كتابه هذا مُبيِّنين أنّ مَضامينَ ٱلْكتاب كلَها تَلْحَقُها ٱلْـإِيرادات وتَرِد عليها ٱلنُّقُود. وهذا سنَبْدأ في بيانه بذِكْر بعض هذه ٱلْجُزْئيّات ٱلتي يُمْكِن أن تُـذْكَر في هذه ٱلْمَقالة. أوّلُ شيءٍ نَبْدأ به هو، كما سَبَق ذِكْرُ ذلكـ، هو ما بدأ به ٱلْمُؤلِّف (حَفِظه ٱللَّـه)؛ قال: [“سؤال ٱلْمشرُوعيّة، هل عِلْم ٱلْمَقاصِد علمٌ مشروع؟”، ثم ٱسْترسل في ٱلْحديث فقال: لوْ ٱعْتبرنا مَدى ٱتِّساع ٱلِـﭑشْتغال بمَجال ٱلْمَقاصِد ٱلشَّرْعيّة، لَبَدَا ٱلسُّؤالُ: هل عِلْم ٱلْمَقاصد عِلْمٌ مشرُوعٌ؟ سُؤالًـا غريبًا،”]؛ أَوَّلًـا هذا ٱلسُّؤال إيرادُه فاسدٌ من وَجْهَيْن، ٱلْوجه ٱلْـأَوّل أَنّ ٱلذي وَرَد في ٱلْمَقام هنا هو “هل ما يُسمّى بـﭑلْمَقاصد عِـلْمٌ له كَيْنُونةٌ حقيقيَّةٌ؟”، “هل ما يُسمّى بـﭑلْمَقاصِد ٱلشَّرعيّة عِلْمٌ له كَيْنُونةٌ صار بها فنًا وعِلْمًا كسائِـر ٱلْعُـلُوم؟”، هذا هو ٱلسُّؤال؛ وٱلذي قضى بهذا ٱلسُّؤال هو ٱلْواقع، فإنّ ٱلنُّظَّارَ في عِلْم ٱلشَّريعة لَـا يَظْهَر لهُم أَنَّ هذا عِلْمٌ لِمَا يَعْتَوِره من خصائص أُخْرى قد تَجُرُّه إلى تصنيفٍ آخَر سيَظْهَـر فيما بعد؛ لِذلكـ فطَرْحُ هذا ٱلسُّؤال بهذه ٱلصِّيغة لَـا يُوافِـق ٱلْواقع وليس هو ٱلسُّؤال ٱلذي ورَد في هذا ٱلْمَحَـلّ؛ هذا أوَّلًـا. ٱلْوجه ٱلثاني ٱلذي أَسْقط هذا ٱلسُّؤالَ هو أنّ ٱلْعُلُوم لَـا تُوصَف بـﭑلْمشرُوعيّة، إنّما تُوصف بـﭑلْوُجود وٱلْعَدَم فقط. ولفظُ “ٱلْمشرُوع” عند ٱلْمُخاطَبين يَنْصرف عندهم ٱلْحُكُم به على ٱلْـأَفْعال. لَـا يُوصَف ٱلْعِلْم بـﭑلْمشرُوعيّة نهائيًا، حتّى لوْ وَجَدْتَ أنّ سُؤالًـا ما قد وَرَد على عِلْمٍ من هذا ٱلْباب، فإنّ ٱلذي سُئِل عنه هو ٱلْفِعْل. فـﭑلْفعل هو ٱلذي يُوصَف بـﭑلْمشرُوعيّة؛ حتّى لوْ قِيل، مثلًـا، هل ٱلسِّحْر مشرُوعٌ، فإنّهم يُريِدون بذلكـ صَرْفَ هذا إلى ٱلْفِعْل، هل تَعَلُّم ٱلسِّحْر مشرُوعٌ، هل ٱلْعِلَـاج بـﭑلسِّحْر مشرُوعٌ، وما جَرَى مجْرى ذلكـ. إذن، فوصفُ ٱلْعِلْم بـﭑلْمشروع هنا وجَعْلُه مَحْمُولًـا عليه، هذا عند ٱلنُّظَّار من عُلَماء ٱلشّريعة خطأٌ؛ هذا أوَّلًـا. إذن، فهذا ٱلسُّؤال فاسدٌ من هذَيْن ٱلْوَجْهين. ثُمّ…، هذا بـﭑخْتصار، لَـا نُريد أنْ نُطِـيلَ في كُلّ مَحلٍّ، لِـأَنَّ هذا مِمّا لَـا يُمَكِّـنُنا من ٱلْوُقُوف على أُمُورٍ أُخْرى. ثُمّ قال: [“لَـا سيّما وأنّ بعضَهم يَرى أنّ ٱلْـأمرَ قد قُضِيَ، إذْ، في نظرهم، ٱسْتوى هذا ٱلْعِلْمُ عِلْمًا مُسْتقِلًّـا ومُسْتغنِيًا بنفسه؛ فلَهُ، كما لسائِـر ٱلْعُلُوم، موضوعٌ مُحَدَّدٌ، وهو “مَقاصِد ٱلشّارع”، ومَنْهَج مقرَّر، وهو “ٱلِـﭑسْتقراء ٱلْمعنويّ”[،] ومَسائل قَطْعيّةٌ، وهي “ٱلْكُلِّيَّات ٱلْمَصْلَحيّة”؛]. [ويُعقِّب ٱلشّيخ على كلام “طه” فيقول]: ٱلذي نعرف أنّه ٱنْتهى به نَظرُ عُلماء ٱلشّريعة أنّ مِثْلَ هذا لَـا يُكَوِّن ٱلْعِلْم. وُجودُ هذه ٱلْـأشياء لَـا تَـدُّل على أنّ ٱلشّيءَ [عِـلْمٌ]، إذْ ما من أصْلٍ إِلَّـا ويُمْكِن أَنْ نَجْعلَه عِلْمًا إذَا أَخَذْنا بهذا ٱلذي ذُكِـر هنا. مثلًـا، إذَا أَخَذَنا بسدِّ ٱلذَّرِيعة، فما تُسَدّ به ٱلذَّرِيعة مُتعدِّدٌ؛ فَلْنستخرج من هذا ٱلْـأَصل مثل هذا، ثُمّ نَجْعله عُنْوانًا فنقول ٱلطُّرُق ٱلتي تُؤدِّي إلى سدِّ ٱلذَّريعة، ثُمّ نقول قد ثَبَت مُراعاة هذا في ٱلشّرْع بـﭑلِـﭑسْتقراء؛ وإنْ كان في ٱلْحقيقة سيأتي ٱلْكَـلَـامُ على ٱلِـﭑسْتقراء هو يقول بأنّه ليس حُجّةً. ثُمّ [ٱلْكُلِّيات] ٱلْمَصْلَحيّة، سوف نَقُول كُلّ ذريعةٍ أدَّت إلى ٱلْحرام فهي حرامٌ، كُلّ ذريعةٍ أدَّت إلى ٱلْواجب فهي واجب، كلّ ذريعةٍ أدَّت إلى مَكْرُوهٍ فهي مَكْرُوهٍ؛ وهكذا، إذن سنستخرج ٱلْكُلِّيَّات، ونُسمِّيها ٱلْكُلِّيَات ٱلذَّرائعيّة. ونفعل ذلكـ في جميع ٱلْـأُصول ٱلْـأُخْرى مثل ٱلِـﭑسْتصحاب مثل ٱلِـﭑسْتحسان عند من يقول بمعنى مقبُول. إذن فكُلُّ هذه ٱلْـأُصُول سنَجْعلُها عُلُومًا. وهذا ٱلذي ٱدّعى أنّ ٱلْـأَمْرَ قد قُضِيَ كذا كذا كان عليه أنْ يأتي بمَبادِئ هذا ٱلْعِلْم، ٱلْمَبادئ ٱلْعَشرة، أنْ يَذْكُرَها فيُقال حدُّه كذا، غايتُه كذا، ثَـمَرتُه كذا؛ هَـبْ أنّنا لَـا نحتاج لكُلّ هذه ٱلثّمَـرة، نَحْتاج إلى ٱلْحدّ، فما هو حَدُّه. قد ٱنْبرى بعضُهم هنا وكَتَب له تعريفًا وأَقْصى ما يُمْكن أن يُقال فيه ٱلْعِلْم بـﭑلْمَقاصِد ٱلشَّرْعيّة؛ لكنْ أين هي ٱلْحَيْثيّة ٱلتي بها تتميَّز ٱلْعُلُوم؟ ٱلْعِلْم بـﭑلْمَقاصِد ٱلشَّرْعيّة من حيث ماذا؟ من حيث إِنّنا نُثْبِتُ بها ٱلْـأَحْكامَ؟ من حيث معرفةُ أقسامها؟ من حيث ماذا؟ ٱلْحَيْثيّةُ شرْطٌ في ٱلتّميُّز، إِذْ لَـا تَتميَّز ٱلْعُلُومُ إلَّـا بهذه ٱلْحَيْثيّة؛ فإنْ أَتى أحدٌ وقال بأنّ ٱلْحَيْثيَّةَ ٱلِـﭑعْتباريَّةَ لَـا يُحتاج إلى ذِكْـرها، نعم لَـا يُحتاج إلى ذِكْـرها إذَا كانت معلُومةً؛ ٱلْحَيْثيَّةُ تُحْذَف في ٱلْحُدُود. وهذا شيءٌ معرُوفٌ مُقَـرَّرٌ عند عُلماء ٱلشّريعة بـﭑسْتفاضةٍ. ومنهم من يُنْكِـر ٱلسُّكُوت عنه. أَمّا إذَا قُـلْت، مثلًـا، ٱلطِّب موضُوعه ٱلْـإنسان؛ لكنْ من حيث ماذا؟ من حيث ما يَعْـرِض له من صِحّةٍ ومَـرَضٍ إلى آخِره. وإذَا قُـلْت بأنّ علم ٱلنّفس موضُوعه ٱلْـإنْسان، من حيث ماذا؟ من حيث ما يَعْرِض لنفسه من ٱضْطراب وأمْراض إلى آخِـره؛ ٱلْـإنسان محلّ ٱلدِّراسة ٱلِـﭑجْتماعيّة، من حيث ماذَا؟ من حيث ما يَعْرِض له من ٱعتبارات عند ٱلتّجمُّع إلى آخِره. ٱلْحَيْثيّة هي ٱلتي تُبيِّن ٱلْعُلُوم. فأَيْن هي ٱلْحَيْثيّة هنا؟ وهبْ أَنّنا سلَّمْنا ٱلْحَيْثيّة، فقُلْنا من حيث أنه تُثْبَت به ٱلْـأَحْكام ٱلشَّرعيّة، فهذا سيُلْحِقها بـﭑلْعِـلَل، سيَجْعلُها من ٱلْعِلَل؛ ولَـا يُمْكِن حينئذٍ أَنْ تَسْتقلَّ بـﭑلْعِـلْم، لِـأنّ أحدًا آخَر سيأتي لكـ بأنواع ٱلشّبه ويقول بأنّه تتعلّق به ٱلْـأحكامُ ٱلشّرعيّةُ، وحينئذٍ تصيرُ مُفْـرَدةُ ٱلشّبه ومُفْـرَدةُ ٱلطّرْد ومُفْرَدة إلى آخِره [كذا!] تصير كُلُّها عُلُومًا. إذن، فدَعْـوى هذا ٱلشَّخْص أنّ هذا ٱلْـأمرَ قد قُضيَ كان عليه إذَا قُضِيَ أن يَسْتدلّ؛ فنحن لَسْنا في عُلُوم ٱلشّريعة على إِلْفٍ بمثل هذه ٱلتَّصرُّفات في بِـناء ٱلشّريعة؛ ٱلْمعهود عندنا في علم ٱلشّريعة أنّ ٱلْمُتكلِّمَ إذَا تَكلَّم يقول “وٱلدّليل على ذلكـ كذا، وٱلدّليل عليه كذا، وٱلدّليل عليه كذا”، ثُمّ يَقُول “فإِنْ قُلتَ كذا، قُـلْتُ لكـ كذا”، “ورُبَّ قائلٍ يقُول كذا، فنَقُول له كذَا”؛ لَـا بُدَّ من ٱلْـبَـراهين. وهبْ أنَّكـ أنت قام بذِهْـنكـ هذا ٱلْـأمرُ، فرُبَّما إذَا عَـرَضْتَه على ٱلنُظّار، ثُمّ صُـرِفتْ إليه ٱلْـأَنْظارُ، رُبَّما تجد هذا ٱلذي تَعَقَّـلْته ليس إِلَّـا وَهْمًا. إذن، في عِلْم ٱلشّريعة لَسْنا مُتعوِّدين على هذا ٱلضَّرْب من ٱلتَّصَرُّف؛ ٱلْموضُوع إذَا كان مفقُودًا، فكيف يُمْكِن بعد ذلكـ أن نَتكلَّمَ عنه. إذن، هذا ليس عِـلْـمًا؛ لِـأنّ ٱلْعِلْم لَـا بُدَّ فيه من ٱلْحَيْثيَّة، وٱلْحَيْثيّة إذَا ما ظَهَرت سوف تُصنِّفُه؛ هكذا، نعم، سوف تُصنِّـفُه. إذَا عَرَفْتَ هذا، عَـرَفْتَ أنّ هذا ٱلذي يُذْكَـر هنا (من أنّ هذا ٱلْعِلْمَ قد قُضيَ ووُجِدَ) ما هو إِلَّـا وَهْمٌ. ثُـمّ ذَكَـر بعد ذلكـ أنّ هذا ٱلْعِلْمَ إذَا سلَّمنا أنّ له حقيقةً، فإنّه لَـا يُمْكِـنُ أنْ نُسَلِّم بأنّه مُكْتمل. أنا أقُول فقط مضامين كَـلَـامه. ٱلِـاكتمال إنّما يُطْلَب في شيءٍ له وُجُود. أمّا ٱلشيء ٱلذي ليس له ذاتٌ في ٱلْخارج، فكيف نقول إنّه ٱكْـتمَل أَمْ لم يَكْتملْ؟! رُبّما إذَا دَقَّـقتَ في ٱلشّيء، سيَرُدُّكـ إلى حقيقة هذا ٱلْموضوع، فتجد بأنّ ٱلْمَسْلَكَـ ٱلذي تَسْلُكه في هذا ٱلْـأَمر ليس هو هذا ٱلطّريق ٱلذي تَسْلكُه فيه. نعم، إذن فقد تَـبيَّن أنّ عِلْمَ ٱلْمَقاصد…، أنّ هذا ٱلْمشرُوعَ ليس صفةً؛ رُبّما يقول لكـ أحد: لَـا، ٱلْمشرُوع عنده هو ٱلْمَقْـبُـول. هبْ أنّه ٱلْمقبُول؛ ٱلْعِـلْم لَـا يُوصَف بأنه مَقْبُول أو غير مَقْبُول؛ إمّا أنّه موجُود وإمّا أنه معدُوم. ثُمّ إذَا نَظَرْنا إلى هذا ٱلذي ذَكَـره هذا ٱلذي قال بأنّ ٱلْعِلْم قد ٱسْتقلّ وأصبح قائمًا على ساقه، فأيْن هو ٱلتّعريف ٱلْحقيقيّ ٱلذي سيُظْهِـر لنا هذه ٱلْحقيقة، لِـأنّ ٱلْحَيْثيّةَ هي ٱلتي ستكشف ٱلْحقيقة. ثُمّ إذَا قُـلْنا بأنّ هذا ٱلْعِلْم لَـا وُجُود له، فما معنى أن نتحدَّث عن ٱكْتماله أو عدم ٱكْتماله؟!» (هذا تقريبا تفريغٌ لمُحْـتوى نِصْف ٱلْـفيديو [إلى حُدود ٱلدّقيقة 14])؛

يُمْكِنُني أَنْ أُبْـدِيَ، على كَـلَـام ٱلشّيْخ ذاكـ، ٱلْمُلَـاحَظات ٱلتَّالية (بِصَرْف ٱلنَّظَـر عن كوْنه كَـلَـامًا شفويًّا مُـرْتَجَلًـا لَـا يَخْلُو من ٱلرّكاكة وٱلتّكْرار وٱلِـاسْتطراد، ومن دون أَيِّ إرادة منّي لِـﭑسْتقصاء مُحْـتواه بما فيه من سِماتٍ وحركات مُصاحِبة لِلْـكَـلَـام، بل سأَقْتصر على ما قاله عن فساد «سُؤال مشرُوعيّة عِلْم ٱلْمَقاصِد» وٱعْتراضه على تعريف “عِلْم ٱلْمَقاصِد”):

1. يَجْدُر، ٱبْتداءً، تأكيدُ ما ذَكَـره ٱلشّيخ “السريري” من تنْويهٍ بكتاب “طه” وبفِكْره عُمومًا («وإنْ كان هذا ٱلْكتابُ له ٱلْمَرْتبةُ ٱلْعُليا بين هذه ٱلْكُتُب ٱلتي تَرُوج ٱلْيوم في هذا ٱلشّأن؛ وكان صاحبُه أيضًا أعْلَى كَعْبًا من جميع أُولئكـ ٱلذين أَثْمَرت أَنْظارُهم هذه ٱلْمَعارِف […]»). لكنْ من ٱلْمُؤسِف جِدًّا أنّه لم يَعْـمَلْ منهجيًّا بمُقْتضى ذلكـ، إذْ كان يَنْبغي أن يُقَـدِّمَ إظهارَ أهمّ ما جعله يُشِيدُ بـﭑلْكتاب وأَلَّـا ينتقل إلى إيراد ٱعْتراضاته إِلَّـا بعد ٱلْـفراغ من هذا. ومن هُنا، فإسْراعُه إلى رَدّ مضمُون ٱلْكتاب وإرْسال ٱلْـكَـلَـام عنه ليس مُناسِبًا، فكأنَّه أَبَى إِلَّـا أن يَكْشِفَ تَـهافُتَ ٱعْتراضاته مُنذ ٱلْبداية وهو يَجْمَع بين أَمْرَيْن مُتناقِضَيْن (ٱلتّنْويه بِـٱلْكتاب وصاحِبه وٱلْمُبادَرة إلى ٱلِـانْتقاص من مَضامِينه مُنْـذ ٱلْجُملَة ٱلْـأُولى طَلَبًا لِـإِبْطاله بِرُمَّته)!

2. قوْلُه «[…]. يجب أَنْ يُعْلَم أنّ ٱلتّقْويم ٱلْـأُصُوليّ، إذَا سُلِّط على ٱلْمَشاريع ٱلثّقافيَّة ٱلْمُعاصرة ٱلْمُتعلِّقة بـﭑلْـأُمُور ٱلدِّينيّة، سيَقْضي بِـبُطْـلَـان أَغْلب مَضامينها.» يُعَدّ دَعْـوى كُبرى يُنْتظَـر منه أن يُفصِّلَ في تَبْيِينها وٱلتّدْليل عليها حتّى يُرى مدى صِحّة ما يَزْعُمه من إمكان إبْطال أغلب مَضامين هذا ٱلذي سَمّاه «ٱلْمَشاريع ٱلثّقافيَّة ٱلْمُعاصرة ٱلْمُتعلِّقة بـﭑلْـأُمُور ٱلدِّينيّة»؛

3. يُـلَـاحَظ أنّ ٱلشّيْخَ، في كَـلَـامه ٱلطَّويل، قد رَكَّز على أَمْـرَيْـن: أوّلُهما نَفْـيُه أن تَكُون صفةُ “مَشْرُوع” قابلةً لِـأن تُسْنَدَ إلى “ٱلْعِلْم”، وثانيهما نَـفْـيُه أن يَكُون في ٱلْواقع شيءٌ مثل “عِلْم ٱلْمَقاصد” ٱلذي ليس في نظره عِلْمًا مُسْتقلًّـا بذاته عن “عِلْم أُصُول ٱلْفقه”. ولِذا، فلَـا بُدّ من ٱلْوُقُوف عند ٱلْمُسْتنَد ٱلْمُمَكِّـن لهذَيْن ٱلنَّـفْيَـيْن في كَـلَـام “طه”، ثُمّ تَـبيُّن أَدِلّة ٱلشّيخ “السريري” عليهما. ولَـا سبيل إلى هذا كُـلِّه من دون ٱستحضار نصّ ٱلْـفِقْرة موضُوع ٱلتَّعْليق وهي: «لَـوِ ٱعْـتبرنا مدى ٱتِّساع ٱلِـاشْتغال بمَجال ٱلْمقاصد ٱلشّرعيّة، لَـبَـدا ٱلسُؤالُ: هل عِـلْم ٱلْمَقاصِد عِـلْمٌ مَشْـرُوعٌ؟ سُؤالًـا غريبًا، لَـا سيَّما وأنّ بعضَهم يرى أنّ ٱلْـأمرَ قَـدْ قُضِيَ، إذْ، في نَـظَـرهم، ٱسْتوى هذا ٱلْعِلْمُ عِـلْمًا مُسْتقلًّـا ومُسْتَغْنِيًا بنفسه؛ فلَهُ، كما لسائِـر ٱلْعُلُوم، موضوعٌ مُحدَّدٌ، وهو “مَقاصد ٱلشّارع”، ومنهجٌ مُقرَّرٌ، وهو “ٱلِـاستقراء ٱلْمعنويّ”[،] ومَسائِـلُ قَطْعيّةٌ، وهي “ٱلْكُلِّيَّات ٱلْمَصْلَحيَّة”؛ وٱلْواقع أنّ هذا ٱلسُّؤالَ لَـا يَزْداد إِلَّـا إِلْحاحًا في حالة ٱلِـاعتقاد بـﭑكْتمال “عِلْم ٱلْمَقاصد”، تحديدًا لموضُوعه وتَـقْـرِيرًا لمنهجه وتَـفْرِيعًا لِمَسائِله، بل إنّ هذا ٱلْـإِلْحاحَ يَبْلُغ غايتَه لَـوْ أنّ “عِلْم ٱلْمَقاصد” حصَّل، بـﭑلْفِعْل، ٱكْتمالَه، ولم يـقْتصرْ على مُجرَّد ٱعْتقاد هذا ٱلِـاكْتمال.» («ٱلتّأسيس ٱلِـﭑئْتمانيّ لعِلْم ٱلْمَقاصِد»، 2023، ص. 13)؛

4. مَـنْ قَـرَأَ بِتَمعُّنٍ عُنْوانَ مَدْخَل كتاب “طه” («ٱلْمدخل. سُؤال ٱلْمشْـرُوعيّة: هل عِـلْم ٱلْمَقاصِد عِـلْمٌ مشْرُوعٌ؟»)، فلَنْ يَلْبَثَ أَنْ يُدْرِكَـ أنّه يُقرِّرُ موضُوعَه (سُؤال ٱلْمشرُوعيّة) ويَصُوغ ٱلسُّؤالَ («هل عِـلْـم ٱلْمَقاصد علْـمٌ مشرُوعٌ؟»)، كما سيُدْرِكُـ أنّ شَرْطَ كوْن هذا ٱلسُّؤالَ يبدو غريبًا هو ٱعْتبار واقعٍ مَشْهُودٍ يَتعيَّنُ في «مَـدى ٱتِّساع ٱلِـاشتغال بمَجال ٱلْمقاصد ٱلشّرْعيّة» وفي «وُجُود بعضَ ٱلنّاس ٱلذين يَـرَوْن أنّ أَمْرَ عِـلْم ٱلْمَقاصِد قدْ قُضِيَ» من حيث إِنَ “عِـلْم ٱلْمَقاصد” يُعَـدُّ، في نَظَرهم، عِلْمًا مُسْتَقِلًّـا ومُسْتَغْنِيًا بنفسه على ٱلنّحْو ٱلذي يَجعلُه عندهم، مثلَ سائِـر ٱلْعُلُوم، ذا موضُوعٍ مُحدَّدٍ (مَقاصِد ٱلشّارع) ومَنْهجٍ مُقَـرَّرٍ (ٱلِـاسْتقراء ٱلْمَعْـنَويّ) ومَسائِـلَ قَطْعيَّة (ٱلْكُلِّيَّات ٱلْـمَصْلحيَّة). وحسْبُ ٱلشّيخ “السريري” من ٱلْخطإ أن يَكُون قد أَغْـفلَ ذاكـ ٱلْواقع ٱلْمذْكُور («مَـدى ٱتِّساع ٱلِـاشتغال بمَجال ٱلْمَقاصد ٱلشّرْعيّة») كأَنّه مَعْدُومٌ تمامًا، وأنّه لم يَـتردَّدْ في جعل ما حَكاه “طه” بعِبارته ٱلْخاصّة عن بعض ٱلْمُشْتغِلين بِـ«مَجال ٱلْمَقاصِـد ٱلشّرْعيّة» («وُجُود بعضَ ٱلنّاس ٱلذين يَـرَوْن أَنّ أَمْرَ عِـلْم ٱلْمَقاصِد قَـدْ قُضِيَ») فنَسَـبَـه إليه كأنّه مذهبُه ٱلذي يجب أن يُسْأَل عنه بحَذافيره. ولَـا يَقِفُ ٱلْـأمرُ عند كوْن ٱلشّيخ لم يَكَـدْ يَلْتفِـتْ إلى أنّ “طه” يَنْسُب ذاكـ ٱلْموقف من “علم ٱلْمَقاصد” إلى “بَعْـضِهم”، بل نجده يَغْفُلُ أيضًا عن قَوْلَيْن مُؤكِّدَيْن لِما سَلَف: أوَّلُهما «وٱلْواقع أنّ هذا ٱلسُّؤال لَـا يَزْدادُ إِلَّـا إِلْحاحًا في حالة ٱلِـاعتقاد بـﭑكْتمال “عِلْم ٱلْمَقاصد”»، وثانيهما «بل إنّ هذا ٱلْـإِلْحاح يَبْلُغ غايتَه لَـوْ أنّ “عِلْم ٱلْمَقاصد” حصَّل، بـﭑلْفِعْل، ٱكْتمالَه، ولم يَقْـتَصِـرْ [أو يُقْتصَرْ] على مُجرَّد ٱعْتقاد هذا ٱلِـاكْتمال.»؛ فكأنّ قارئَ هذَيْـن ٱلْقولَيْن لَـا يُمْكِـنُه بَتاتًا أن يَفْهمَ منهما أنّ «حالة ٱلِـاعتقاد بـﭑكْتمال “عِلْم ٱلْمَقاصد”» شيءٌ يَنْسُبُه ٱلْمُؤلِّـفُ إلى غيْرِه ولَـا يَـتبنَّاه شَخْصيًّا وأَنَّ هذه ٱلْحالةَ – سواءٌ أَطابقتِ ٱلْواقعَ أَمْ كانت ٱدِّعاءً مَحْضًا– لَـا تَـزِيدُ «سُؤال ٱلْمَشْـرُوعيّة» إِلَّـا إِلْحاحًا. وأشدّ من هذا أنّنا نجد ٱلشَّيْخَ – ٱلذي يَزْعُم أنّه حريصٌ جِدًّا على ٱلنَّظَـر في ٱلْجُزْئيَّات– يَغْـفُـلُ أَيَّما غَـفْلةٍ عن كُلِّ ذلكـ كما يَغْـفُلُ عن كوْن “طه” أَوْرَدَ أَداةَ ٱلشَّـرْط ٱلِـامْتناعيّ “لَـوْ” («لَـوْ ٱعْـتبرنا…») في بداية ٱلْفِـقْـرة” وفي نهايتها («لَـوْ أنّ عِلْم ٱلْمَقاصِد…») بـﭑلشَّكْل ٱلذي يُـؤكِّـد أنّه لَـا يَذْهَبُ إلى حَـدِّ مُشارَكة ٱلْمُشْتغِلين بِـ”مجال ٱلْمَقاصِـد” ٱعْتقادَهم بـﭑكْـتماله في صُورة عِـلْـمٍ مُسْتقلٍّ ومُسْتَغْـنٍ بنفسه، وإِنّما يَفْتَـرِض هذا لِـيَـبْـنيَ عليه فَلْسَفيًّا «سُؤال ٱلْمَشْـرُوعيّة». وإذَا ٱتّضح من خِـلَـال ذلكـ أنّ ٱلشّيخَ “السريري” يَـتناوَلُ نَـصَّ “طه” فيُسيءُ فَهْمَه بشكْلٍ مُضاعَفٍ، فلَـنْ تَعُـودَ ثَـمَّـةَ حاجةٌ مُؤَكَّدةٌ إلى ٱلْـمَـزِيد لِـإثْـبات أنّ كَـلَـامَه كُـلَّه غيْـرُ ذِي موضُوعٍ؛ ممّا يَجْعلُه أقربَ إلى ٱلتَّشْغيب ٱلذي يُـؤْتى به، عادةً، كيفما ٱتَّـفق لبُلُوغ أَيِّ غرَضٍ مُـراد. تُـرى، من ثَـبَت إِخْـفاقُه في فَهْم جُملةٍ واحدةٍ مُـرَكَّبة في فِـقْـرة من عشْرة أَسْـطُر، كيف سيَكُون حالُه مع كِتابٍ من نَحْوِ 500 صفحة شديد ٱلْـإِحْكام؟!

5. يقول ٱلشّيخ: «أوّل شيءٍ نَبْدأ به هو […] ما بدأ به ٱلْمُؤلِّف (حَفِظه ٱللَّـه)؛ قال: [“سؤال ٱلمشرُوعيّة، هل عِلْم ٱلْمَقاصِد علمٌ مشروع؟”، ثم ٱسْترسل في ٱلحديث فقال: لو ٱعْتبرنا مدى ٱتِّساع ٱلِـﭑشْتغال بمَجال ٱلْمَقاصد ٱلشَّرْعيّة، لَبَدَا ٱلسُّؤال: هل عِلْم ٱلْمَقاصد عِلْمٌ مشرُوعٌ؟ سُؤالًـا غريبًا،”]؛ أوَّلًا هذا ٱلسُّؤال إيرادُه فاسدٌ من وَجْهَيْن، ٱلْوجه ٱلْـأوّل أنّ ٱلذي ورد في ٱلْمَقام هنا هو “هل ما يُسمّى بالْمَقاصد عِـلْمٌ له كَيْنُونة حقيقيَّة؟”، “هل ما يُسمّى بالمَقاصد ٱلشَّرعيّة عِلْمٌ له كَيْنُونةٌ صار بها فنًّا وعِلْمًا كسائِر ٱلْعُـلُوم؟”، هذا هو ٱلسُّؤال؛ وٱلذي قضى بهذا ٱلسُّؤال هو ٱلْواقع، فإنّ ٱلنُّظَّارَ في عِلْم ٱلشَّريعة لَـا يَظْهَر لهُم أنَّ هذا عِلْمٌ لِمَا يَعْتَوِره من خصائص أُخْرى قد تَجُرُّه إلى تصنيفٍ آخَر سيَظْهَـر فيما بعد؛ لذلكـ فطَرْحُ هذا ٱلسُّؤال بهذه ٱلصِّيغة لَـا يُوافِـق ٱلْواقعَ وليس هو ٱلسُّؤال ٱلذي ورَد في هذا ٱلْمحلّ […]»؛

6. يُلَـاحَظ في كَـلَـام الشيخ (فِـقْـرة 5) أنّه يَتناوَل ٱلصِّيغة ٱلتي أوْرد بها “طه” ما سمّاه «سُؤال ٱلْمشرُوعيّة» فيَحْكُم عليها بأنّها فاسدةٌ من وَجْهَيْن: أوّلهما أنّ ٱلسُّؤالَ كان ينبغي – في ظَنّه– أن يأتي بصيغة «هل ما يُسمّى بـﭑلْمَقاصد عِـلْمٌ له كَيْنُونةٌ حقيقيَّةٌ؟» أو بصيغة «هل ما يُسمّى بـﭑلْمَقاصد ٱلشَّـرعيّة عِلْمٌ له كَيْنُونةٌ صار بها فنًا وعِلْمًا كسائِـر ٱلْعُـلُوم؟»؛ ويزْعُم أنّ ٱلذي قضى بـٱلِـانْتقال إلى هذه ٱلصِّيغة هو ٱلْواقع كما يُمثِّلُه كوْنُ «ٱلنُّظَّار في عِلْم ٱلشَّـريعة لَـا يَظْهَر لهُم أنَّ هذا عِلْمٌ لِمَا يَعْتَوِره من خصائص أُخْرى قد تَجُرُّه إلى تصنيفٍ آخَر». ويُـلَـاحَظ، هنا، أنّ ٱلشّيْخ يُسْرِعُ إلى إيراد ما يَـراه صِيغةً لِلسُّؤال («هلْ ما يُسمّى بـٱلْمَقاصد عِـلْمٌ له كَيْنُونةٌ حقيقيَّةٌ؟» أو «هلْ ما يُسمّى بـٱلْمَقاصد ٱلشَّرْعيّة عِلْمٌ له كَيْنُونةٌ صار بها فنًّا وعِلْمًا كسائِر ٱلْعُـلُوم؟») كفيلةً بتقويم فساد صِيغة سُؤال “طه”، وذلكـ قبْل أن يُبَيِّـن هذا ٱلْفساد ٱلْمُشار إليه فيجعل – من ثمّ– صيغتَه ٱلْمُقْـترَحة لتقويم ٱلسُّؤال مُترتِّبةً على وَجْهَيْ ٱلْفساد ٱلْمَذْكُورَيْن؛ ثُمّ إنّ زَعْمَه بأنّ سببَ فساد سؤال “طه” يَرْجِـعُ إلى أنّ هناكـ واقعًا قضى بـٱلِـانْتقال إلى تلكـ ٱلصِّيغة ليس تقريرًا لشيءٍ خارجيّ ثابِتٍ بشكلٍ موضُوعيٍّ، وإنّما هو قولٌ له («ٱلنُّظَّار في عِلْم ٱلشَّريعة لَـا يَظْهَر لهُم أنَّ هذا عِلْمٌ لِمَا يَعْتَوِره من خصائص أُخْرى قد تَجُرُّه إلى تصنيفٍ آخَر») مُحْـتواه يُفيد فقط أنّه يَزْعُم ثُـبُوتَه، ولم يأْتِ بأيِّ شيءٍ يُـبيِّـن أنّ «ٱلنُّظَّار في عِلْم ٱلشَّريعة» – كُلَّهم أو جُلَّهم– قد قَـرَأُوا كِتابَ “طه” وعَرَضُوا على ٱلنّاس ما يُؤكِّـدُ أنّهم يُوافِـقُون ٱلشّيخَ على ما وَرَد إلى ذِهْـنه أو ما هو مُسْتقِـرٌّ في نفسه (ولَـا شيء يُـثْـبِت أنه هكذا لدى غيْـره). أَمّا أن يَكُون هؤلَـاء ٱلنُّظّار قد ٱتّخذُوا مِمّا يَخْطُر ببال “السريري” ويَـنْطق به لسانُه أو يَجْري به قلمُه تَمامَ رأْيهم ومُنْتهى ٱجْتهادهم، فهذا ليس من ٱلْـواقع ٱلْملْمُوس في شيء. وحتّى لَـوْ سلَّمْنا بثُـبُوت هذا ٱلْـواقِـع ٱلْمَـزْعُوم، فلَـنْ يَكُون كافيًا لِلْحُكْم على «سُؤال ٱلْمشْـرُوعيّة» لدى “طه” بـﭑلْـفساد لِـأنّ ٱلسُّؤالَ حُكْـمٌ عقْليٌّ تتعلَّق صِحَّـتُه بمدى ٱتِّساقه ٱلْفِكْريّ وليس بما يُحِـيلُ عليه في ٱلْخارج، وهو ما يجعل ٱلسُّؤالَ ٱسْتنطاقًا دائما لِلْـواقع بحيث لَـا يَقْـبَل أن يُخْـتزَلَ فقط في تقريره حتّى يَسْلَم من أيِّ فسادٍ مُمْكِـنٍ، بل إنّ ٱلْواقَع نفسَه قد لَـا يَـثْبُت إِلَّـا بما هو عيْن ٱلْفساد على ٱلنّحْـو ٱلذي يُوجِب إخْضاعَـه لمَـزِيد من ٱلْمُساءلة. فلَـا وَجْـه لِلْفساد، إذنْ، من تلكـ ٱلنّاحية في سُؤال “طه”؛

7. قولُه بأنّ ٱلْوجهَ ٱلثّاني من ٱلْفساد يَتمثّلُ في أنّ صفةَ “مشْـرُوع” لَـا يُوصَف بها “ٱلْعِـلْم” يُعَـدُّ قوْلًـا تُكذِّبه ٱللُّغةُ أَوَّلًـا، لِـأنّ كوْنَ هذه ٱلصِّفة مأْخُوذةً من فِعْـل “شَـرَع” ٱلْمُتعدِّي (بمعنى “فَـتَح” أو “مَـدَّ” أو “رَفَع” أو “سَـنَّ/وَضَع”) يجعلُ دلَـالتَها تَـقْبَـل أن تَـنْطَـبِـقَ على “ٱلْعِـلْم” بوصفه “مفتُوحًا” أو “مَمْدُودًا” أو “مرْفُوعًا” أو “مَوْضُوعًا”؛ كما يُـكَـذِّبه ٱلِـﭑصْطِـلَـاح ثانيًا، لِـأنّ صفة “ٱلْـمشْـرُوع” (بمعنى “ٱلْمقْبُول” شرعا أو واقعًا، وهو بخِـلَـاف “ٱلْمَـرْدُود” أو “ٱلْمرْفُوض”) يَصِحُّ إِسْـنادُها إلى “ٱلْعِـلْم” أَيْضًا. لكنَّ ما يبدو أنَّه قد غاب عن ٱلشّيْخ هو كوْن مفهوم “ٱلْمَـشْـرُوعيّة” في ٱسْتعماله ٱلْـمُعاصِـر (منذ “ماكس فيبر” و”كارل شميث”) يَـتجاوَز تمامًا ٱلتَّصوُّرَ ٱلْقديم وٱلْبسيط ٱلذي ٱسْتند إليه “ٱلسريري” لِلْحُكْـم على فساد «سُؤال ٱلْمَشْـرُوعيّة»، وهو ما سيَتّضِح في ٱلْـفقرات ٱلتّالية؛

8. قول ٱلشّيخ إنّ صفة “مَشْـرُوع” تُسْـنَـد فقط إلى “ٱلْـفِـعْـل” ليس سوى تَحَـكُّمٍ منه، إذْ يكفي ٱلرُّجُـوعُ إلى مُعْجَـم “لَـالُنْـد” لِـإِدْراكـ أنّها صفةٌ تُسْنَـد إلى “ٱلْفِعْـل” و”ٱلْمَوْقِـف” و”ٱلشُّعُور” و”ٱلْـكَـلَـام” (يَقُول “”لَـالُنْـد” في تعريف “مَشْـرُوع” [légitime]: «معنًى عامٌّ. يُقال على كُلّ فِعْـلٍ، كلّ موقفٍ، كلّ شُعورٍ، كلّ كلام يُعْتبَر فاعلُه، كأنّه من هذه الجهة، على حقّه القويم […]» (تُنْظَـر “موسوعة لَـالَـاند الفلسفية”، ترجمة “خليل أحمد خليل”، منشورات عويدات، بيروت-باريس، ط 2، 2001، ص. 724). وأشدّ من هذا، فهي صفةٌ تُطْـلَق على “ٱلنُّـظُم” و”ٱلْـمُؤسَّسات” كما هو معرُوف منذ “ماكس فــيبر” في تمييزه بين ثَـلَـاثة أنْواع من “ٱلْـمَـشْـرُوعيّة” أو “ٱلسُّـلْطة” (مشروعيّة/سُلْطة تقليديّة، مشروعيّة/سُلْطة كاريزميّة، مَشْـرُوعيّة/سُلطة عَـقْليّة)، بل تُسْـنَـد إلى “ٱلْعَصْـر” بكامله كما يُـرَى في كتاب “هانْـس ٱبْـلُومنْبِـرْﮔ” ٱلذي عُـنْـوانه «مَـشْـرُوعيّة ٱلْعصر ٱلْحديث [أو ٱلْـأَزْمنة ٱلْحديثة”]» (1966، نحو 700 صفحة). ومن وَقَـف على هذا، فلَـنْ يُطْلِـقَ حُـكْـمًا يَمْـنَع وَصْفَ “ٱلْعِـلْـم” بِـ”ٱلْمُشْـرُوع” لِـأنَّه سيُدْرِكـ حينئذٍ أنّ ٱلْـأمرَ يَـتعلَّق بصفةٍ تُستعمَـل عامّةً وخاصّةً، وأنّ كوْن “ٱلْعِـلْم” فِـعْـلًـا من ٱلْـأَفْـعال (أو جُمْـلة من ٱلْـأَفعال) يُجِـيز إسنادَها إليه. وفضْـلًـا عن كوْن “ٱلْعِـلْم” جُـزْءًا من مُكْـتسَبات “ٱلْعصر ٱلْحديث” ٱلذي أَثْـبَت “مشروعيّتَه” ٱلْخاصّة بـﭑلنِّسبة إلى “ٱلْعصر ٱلْوسيط” و”ٱلْعصر ٱلْقديم” كِلَيْهما، فإنّ كوْنَه أيضًا مُؤسَّـسةً أو سُـلْطةً لهُـوَ أشدُّ ما يُـبرِّر وصفَه بِـتلكـ ٱلصِّفة. ولِـذَا، فإِذَا كانت صفةُ “مَشْـرُوع” لَـا تُسْـنَد إِلَّـا إلى “ٱلْـفِعْـل” كما يَظُـنّ ٱلشّيخُ، وكان “ٱلْعِـلْم” ليس في حقيقته أكثر من فِعْـلٍ من ٱلْـأَفْـعال (أو، بـٱلْـأَحرى، جُمْـلةٍ من ٱلْـأَفعال وٱلْـمَـواقف وٱلْـأَقْـوال)، فلَيْـس هُناكـ أيُّ مانِعٍ من أن تُسْنَدَ إليه صفةُ “مَـشْـرُوع”؛

9. من ٱلْـأَسانيد ٱلدَّالَّـة على جَواز وَصْف “ٱلْعِلْم” بِـ”ٱلْمشْـرُوعيّة” أنْ نجدَ أَعْمالًـا لكُـتّاب وباحثين غَـرْبيِّـين يَـرِدُ فيها ٱلْجمعُ بين مُصْطلَحي “ٱلْـعِـلْم” و”ٱلْمشرُوعيّة” (legitimacy/légitimité) أو “ٱلشَّـرْعَـنة” (legitimation/légitimation). ويُمْكِـنُ أن يُذْكَـر، هُنا، على سبيل ٱلْمِـثال وُجُود مَقالٍ بعُنْـوان «ٱلْمشرُوعيّة وعُـلُوم ٱلتَّـدبير: ٱلْوَضْـع ٱلْـقائم وٱلْـآفاق» [2008] لصاحبته “ماري-لُـور بُوِيسُّـون” [1]، وكتاب بعُـنْوان «نجاعةُ ٱلْعُلُوم ٱلتّطبيقيّة ومشرُوعيَّـتُها: نُصُوص ﮔـاليلي في إثْـر ﭘـول فَـيِـرَابْـند» [2011] للباحث ٱلْـأَرْجُـنتينيّ “فرناندو تُـولَـا مُولينا” [2]، وكتاب بعُـنْـوان «مشرُوعيّة ٱلْعِـلْم السِّياسيّ: بِـناء مَسْـلَكـ [تَخصُّصيّ]، بعيدًا عن ٱلِـﭑنْـزياحات» أَشْـرَف عليه ثَـلَـاثةُ باحثين بلجيكيِّـين [3]، ومَـقال بعُـنوان «ٱلْمشرُوعيّة وحقل ٱلْعِـلْم وٱلدِّين» [2020] لصاحِبه “ﭘـيتر ن. جُـوردان” [4]. ولو أراد ٱلْـمَـرْءُ أنْ يَـتتبَّع كُـلَّ ٱلْـمَـواضِع حيث وُصِـف “ٱلْـعِـلْـم” بِـ”ٱلْمَشْـرُوع” أو قُـرِن بِـ”ٱلْمشْـرُوعيّة”، لما وَسِعَه أنْ يَسْتَـقْصِيَها إِلَّـا بكَـأْدٍ شديدٍ جدًّا؛

10.  لَـوْ صحّ أنّ “ٱلْعِـلْمَ” لَـا يُوصَف إِلَّـا بِـ”ٱلْـوُجُود” كما يـزْعُم ٱلشّيْخ، لَـلَـزِم أنَّ كُـلَّ موجُـودٍ قائمٍ في ٱلْواقع يُعَـدُّ “مَـشْـرُوعًا” بحيث يكفي وُجُودُ عِـلْمٍ ما (أو أيِّ شيءٍ آخَـر) ليجعله “مَشْـرُوعًا” تمامًا. وٱلْحال أنّه من ٱلثَّابت وُجُـود عشرات ٱلْكُـتُـب وٱلْمَـقالَـات ٱلتي تَـتحدَّث عن “عِـلْم ٱلْمَـقاصِـد” في ٱلْعَـربيَّة وحدها. ولِـأنّ ٱلشّيخَ أَبَى إِلَّـا أَنْ يَعْترِض على ٱلدِّراسات ٱلتي تَتناوَل “ٱلْمَقاصِـَد” من جهة كونها لَـا تستوفي في ظنّه شُـرُوطَ “ٱلْعِـلْم” بما يُعْطِـيها ٱلِـاسْـتقلَـال، فهذا لَـا يُسْـقِـط فقط زَعْـمَه بأنّ “ٱلْعِـلْمَ” يُوصَفُ حَصْـرًا بِـ”ٱلْـوُجُود”، بل يُـوقِـعُـه – من حيث لَـا يَشْـعُـر– في نطاق مُنازَعة مشْـرُوعيَّة ما يَعُـدُّه غيْـرُه عِـلْمًا ويَـرى هو أنّه لَـا يَـرْقى إلى مُسْتوَى “ٱلْعِـلْم”. وبهذا، فـكُـلُّ كَـلَـام ٱلشَّيْـخ “السريري” – بما هو كذلكـ– إِمَّا يُـثْـبِـتُ وجاهةَ طَـرْح «سُؤال ٱلْمَـشْـرُوعيَّة» على «عِـلْم ٱلْـمَـقاصِـد»، وإمّا أنّه يأتي مُحاوَلةً منه لتَـفادِيه خشْية أن يَتطوَّر ليَصِـيرَ سُؤالًـا عن «مَـشْـرُوعيَّة عِـلْـم أُصُـول ٱلْـفقه»!

11. يبدو أنّ ٱلشّيخَ لم يَـغْـفُلْ فقط عن كون مُقْتضى كَـلَـام “طه” يُمَثِّـل ٱعْـتراضًا على ٱدِّعاء ٱكْـتمال “عِـلْم ٱلْمَقاصد”، بل غَفَـل أيضًا عن كوْن تأكيده لهذا ٱلِـﭑدِّعاء في مَوْضِعَـيْـن هو ٱلذي يُجِيـزُ ٱلتّساؤُل عن ٱلْمشْـروعيّة ٱلْـمزعُومة لِلْعِـلْـم ٱلْمَعْـنيّ!

12.  من أشدّ ما يدعو إلى ٱلِـﭑستغراب كوْنُ ٱلشّيخ “ٱلسّريري” يُـرَى مُطْبِـقًا على نفي وصف “ٱلْـقَـبُول” عن “ٱلْعِـلْم”، على ٱلرّغم من أنّه لَـا شيء أَجْـدر به من هذا ٱلْوَصْف لِـأَنَّه ليس سوى مَسائِـل تُعْرَض على أَنْظار ٱلْمُخْتصِّين وتَحتملُ ٱلرَّدَّ أو ٱلْـقَـبُول. وإِلَّـا، فوَصْفُ “ٱلْـوُجُود” ليس مُحدِّدًا  لِـ”ٱلْعِـلْم” في ذاته. وإِلَّـا، لصار كلُّ موجُـودٍ من ٱلْموْجُودات عِـلْـمًا! وإنّما يَكُون وُجودُ “ٱلْعِـلْم” مُحدِّدًا له في ٱلْـمَـدى ٱلذي يَحْصُل قَـبُـولُه بين أهْله فيَفْـرِض نفسَه بصفة ما هو “مُـلْـزِم”، ممّا يُفيد أنّ تقديرَ كوْنه “موْجُودًا” فقط لَـا يجعله “مُـلْزِمًا” بـﭑلضَّـرُورة. ولِـذَا، فَــلَـا شيء في “ٱلْعِـلْم” يُمْكِـن أن يُعَـدَّ “مُلْـزِمًا” إِلَّـا على أساس تَمَـتُّعه بِـ”ٱلْـقَـبُول” بـٱعتبار أنّ ما تَـقُود إليه ٱلْمُقدِّماتُ من نتائج تبدو مُلْزِمةً لَـا يَكُون إلَّـا بسَبْـق قَـبُول هذه ٱلْـمُقدِّمات أو بعض مَـبادِئها. وإذاَ ٱتَّضحَ أنّ “ٱلْـقَـبُولَ” قائمٌ في أصْل “ٱلْعِـلْـم”، فسيَـثْـبُت أنّه مَجالٌ لِـ”ٱلِـاتِّـفاق” على نَحْـوٍ مَـرْحَليّ ومُؤقَّـت كما هو ٱلْحال في كلِّ عِـلْمٍ وَضْعيّ (أَيْ من حيث يَضَعُه ٱلْـبَشَـرُ ٱتِّـفاقًا بيْنهم)، ويَبْـعُـدُ أن يَكُـون هذا “ٱلِـاتِّـفاقُ” على نحوٍ دائمٍ وأبَـديّ كما لو كان وُجُودًا ثابتًا وحالًـا لَـازِمًا؛

13.  رفْضُ أن يَكُون “ٱلْعِـلمُ” موْصُولًـا بِـ”ٱلْـقَـبُول” يُشيرُ إلى غَـفْلةٍ بالغةٍ ليس فقط عن واقع مُمارَسة “ٱلْعِـلْم” بـﭑلـأَخصّ في عصرنا، بل أيْضًا عن كوْن ٱلْـمُشْتغلِين به يجدون أنفسَهم مَحلَّ تأثيرٍ ظاهِـرٍ وخفيٍّ من جرّاء ما يخضعون له من تنشئةٍ وتعليمٍ في مُجْـتمَعهم بثقافته وأَعْـرافه ٱلْخاصّة. وإذَا كان “ٱلْعِـلْمُ” يَتحوَّلُ في ٱلْـواقع إلى سُلْـطةٍ تَـفْرِض نفسَها على ٱلْـمُشْـتغِـلين به (و، من ثَـمّ، على عُـمُوم ٱلنّاس)، فَـلَـا يُتصوَّر أنّ هناكـ سُلْـطةً يُمْـكِـنُها أن تَسْتمرّ فقط على أساس “ٱلْـإِكْـراه” و”ٱلْقَهْـر” سواء أَكان مادِّيَّا أَمْ معنوِيًّا. ومن هنا، يَـلْـزَم طَـرْحُ «سُـؤال ٱلْمشْـرُوعيّة» ٱلذي يَـتناوَل حقيقةَ “ٱلْمَقْـبُوليّة” في قيامها على ٱلْـإِرادة وٱلْـعقل. وإذَا ظَـهَـر ذلكـ، فلَـنْ يَعُـودَ “ٱلْعِـلْـمُ” في ٱلْعُـمْـق إِلَّـا ٱشْتغالًـا بِنَوْع خاصٍّ من “ٱلْمَـقْـبُوليّة” يَـقُوم على إِعْـمال كُلّ ٱلْـإِجْـراءات ٱلْـموضُوعيّة ٱلْكفيلة بِـ”ٱلتَّعْـليل” و”ٱلتَّـدْليل” بحيث يصير “ٱلْعِـلْم” نَـوْعًا من أَنْـواع «ٱلْمَعْـقُوليّة ٱلتَّـشْـرِيعيَّة»؛

14.  قد يُعْـترَض على أنّ «مَشْـرُوعيّةَ ٱلْعِـلْم» (legitimacy of science/la légitimité de la science) تدُلّ، بـﭑلْـأَساس، على ما تَحْـظى به “ٱلْـمعرفةُ ٱلْعلميَّةُ” و”ٱلْجماعةُ ٱلْعِـلْميَّةُ” من قَـبُولٍ وٱعْـترافٍ عُمُـوميَّـيْـن قد يَتجلَّيَّان في صُورة “حُـظْـوة” أو “سُـلْطة”، وتَشْمَلُ ٱلِـﭑعْـتقادَ بأنّ “ٱلْعِـلْم” له من ٱلْمِصْـداقيَّة ما يُعْطِـيه ٱلْحَـقَّ في ٱلْـإِتْـيان بـﭑلْمُكْـتسَبات ٱلتي تُخْـبِـرُنا عمّا في هذا ٱلْعالم وٱلتي يُمْكِـنُها أن تُـوَجِّـه تَصوُّراتِـنا ومَـواقفَنا وقَـراراتِـنا في ٱلْـحياة. و«مَشْـرُوعيّة ٱلْعِـلْم» بهذا ٱلْمعنى تُـبايِـن «شَــرْعيَّـة ٱلْعِـلْم» (legality of science/la légalité de la science) ٱلتي تَـتعلَّـق بمجموع ٱلشُّـرُوط وٱلْمُقْـتضَيات ٱلتي تُـقَـوِّم “ٱلْعِـلْـميَّة” (scientificity/la scientificité) بما هي ٱتِّساقٌ داخليٌّ لِمَـجال ٱلْبحث وكَيْفيَّات ٱلِـﭑشْتغال ٱلْمنهجيَّة (وهو ما قد يُحِيل إلى ما صار يُسمَّى، تبعًا لِـ”طُوماس كُون”، «ٱلْـﭘرْدايْـم/ٱلْـﭘرادِيـﮔـم» أو “ٱلنُّـمْـذُوج”). لكنْ إذَا كانت «مَشْـرُوعيّةُ ٱلْعِـلْم» تختلف بحسب ٱلزَّمان وٱلْمَكان على ٱلنَّحْـو ٱلذي يَجعلُها موضُوعًا لِلْمُنازَعة وٱلْـمُساءَلة، فإنّ «شَــرْعيَّـة ٱلْعِـلْم» ليست بأقلّ تَـغيُّـرًا منها حتّى لو كان ٱلْـأَمْـرُ فيها يَـهُـمُّ تحديدًا “ٱلْجماعة ٱلْعِـلْـميَّة”. وعُموما، فَـ«سُـؤال ٱلْـمَـشْـرُوعيَّة» في تَعلُّقه بِـ”ٱلْمقبُوليَّة” يَـتناوَلُ كَـيْـفيَّةَ ٱلتَّأْسيس ٱلْفلسفيّ وٱلْـأَخْـلَـاقيّ لِـ”ٱلْـعِـلْم”، وهو موضُوعٌ يَبْـقى مَفْـتُوحًا؛

15. ما أَبْـداه ٱلشّيخ من حِـرْص على نفي إمكان أن تُوصَف ٱلْعُـلُوم بِـ”ٱلْـمَـشْـرُوعيّة” قد لَـا يَظْـهَـر مَغْـزاه ٱلْـأَبْـعد إِلَّـا إذَا ٱسْتحضرنا أنَّ كوْن “ٱلْمشْـرُوعيّة” تَـقُوم على “ٱلْـقَـبُول” يَـفْـرِض طرْحَ «سُـؤال ٱلْـمَـشْـرُوعيَّة» عن “ٱلْعِـلْـم” من جهة كَـوْنه يَـتعيَّـن في ٱلْـواقع كسُلْـطة أو كمُؤسَّـسة ذات نُـفُـوذ فِكْـريّ وٱجتماعيّ. ولِـذَا، فـ”ٱلْمشْـرُوعيَّةُ” تَتجاوَز “ٱلشَّـرْعيّة” وتَـنْعَـكِـس عليها (يَـتردَّد، مثَـلًـا، عند “هابرماس” تركيبُ «مَـشْـرُوعيَّة ٱلشَّـرْعيَّة» في كِـتابه «ٱلْحُـقُـوق وٱلْـأَخْـلَـاق» [1992، 1997])، إذْ لَـا يكفي ٱلْـوُقُوفُ عند ظاهِـر “ٱلشَّـرْعيّة” لِـلتَّحقُّـق بِـ”ٱلْمَـشْـرُوعيَّة” (وهو ما أكدّه “طه” في مدخل كتابه حيث ذَكَـر أنّ وُجُـودَ “ٱلْمَـشْـرُوعيَّة” سابقٌ على وُجود “ٱلشَّـرْعيّة”). وإذَا كان جَـدَلُ “ٱلشَّـرْعيّة” و”ٱلْمَـشْـرُوعيَّة” لَـا يخفى على من يَعْـرِفُ فكرَ “ماكس فيبر” (1921) و”كارل شميت” (1933)، فإنّ ٱلْـأَمْـرَ سيزداد تعقُّـدًا لو ذَهَـبْـنا مع “بُـورديو” إلى تعريف “ٱلْمَـشْـرُوعيَّة” على أَساس أنّ ما يَـرْتبط بها من “ٱلِـﭑعْـتراف (la reconnaissance) يَـقْتضي أيضًا “ٱلتّجاهُـلَ” (la méconnaissance) بحيث يُعَـدُّ «مَـشْـرُوعًا […] ما يَكُون مُسَيْـطِـرًا ومُتجاهَـلًـا بما هو كذلكـ، أَيْ ما يَكُون مُعْـترَفًـا به ضِمْـنيًا.» (بورديو، 1984، ص. 110). ومن شأْن ٱعْـتماد هذا ٱلتَّـعْـريف لِـ”ٱلْمَـشْـرُوعيَّة” أنْ يَكْـشِـفَ أنّ إرادةَ تأسيسها ٱلْـعقليّ ينبغي أَلَّـا تُـغْـفِـلَ كوْنَها لَـا تَـنْـفَـكُّـ عمّا هو ٱجْـتماعيّ وتَـداوُليّ؛

هوامش:

————

[1] Marie-Laure Buisson, « Légitimité et sciences de gestion : état des lieux et perspectives », Humanisme et Entreprise, vol. 289, 2008, Iss. 4, 2008/4 (n° 289), pp. 29-57.

[2] Fernando Tula Molina, Eficacia Y Legitimidad En Las Prácticas Científicas: los textos galileanos tras la Huella de Paul Feyerabend, Buenos Aires : Eudeba, 2011.

[3] Benoît Rihoux, Virginie Van Ingelgom, Samuel Defacqz (dir.), La légitimité de la science politique: Construire une discipline, au-delà des clivages, Presses Universitaires de Louvain-UCL, 2015, 328p.

[4] Peter N. Jordan, « LEGITIMACY AND THE FIELD OF SCIENCE AND RELIGION », Zygon, Journal of Science and religion, Volume 55, Iss 3, 09, 2020.

عبد الجليل الـﮕـور

عبد الجليل الـﮕـور، كاتب مغربي، مترجم ومُدرِّس للفلسفة، من مواليد 1968؛ صدرت له عدة كتب: منها ترجمة كتاب "أسئلة علم الاجتماع: في علم الاجتماع الانعكاسي" (الدار البيضاء-دار توبقال: 1997) و"تساؤلات التفلسف وتضليلات اللَّغْـوَى" (إربد-عالم الكتب الحديث: 2013) و"مفهوم الفطرة في فلسفة طه عبد الرحمن" (بيروت-المؤسسة العربية للفكر والإبداع: 2017) و"التفلسف تحطيما لأصنام التضليل" (بيروت-المؤسسة العربية للفكر والإبداع: 2020).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى