المقالات

التديّن الشعبي والتديّن الشعبوي

التديّن الشعبي تديّنٌ عفويّ برئ، يتوارثه الناسُ جيلًا بعد جيل منذ عصر الرسالة. وهذا التديّنُ متصالحٌ مع طرائقِ عيشهم وطبيعةِ حياتهم، ولا يجدون تناشزًا فيه مع فنونِهم الشعبية وفلكلورِهم، ولا يشكّل عبئًا على علاقاتهم بمحيطهم، ولا يفرض عليهم سلوكًا متشدّدًا في علاقاتهم الاجتماعية بالمُختلِف في الدين أو المذهب أو الهوية أو الثقافة. لا تحضر في التديّن الشعبي التدقيقاتُ الفقهيةُ التفصيلية، وفتاوى الاحتياط بالجمع بين الحكم الترخيصي والأصلي، مثل الجمع بين القصر والتمام والصوم والقضاء في السفر.إنه تديّنٌ لا يعرف التشدّدَ والمبالغةَ في الاحتياط، يؤدي المتديّنُ فيه الصلاةَ والصومَ والفرائضَ المتفاعلةَ مع الثقافة المحلية. حدودُ التسامحِ،في هذا النمطِ من التديّن، ليست ضيقةً في التعامل مع المُختلِف في الدين والمعتقد والمذهب.

لكن التديّنَ الشعبيّ طالما وقع ضحيةً للجهل، وافترسته الخرافة،لأن الأميةَ والفقرَ والمرضَ لا تغادر مواطنَ الجماعاتِ الشعبية في القرى والأرياف والأحياء الفقيرة وأحزمة البؤس في المدن، وهذه العوامل تمثّل بيئةً خصبةً لظهور الخرافات والمعتقدات الغرائبية. وعلى الرغم من نفحاتِ الروح الرحيمة في هذا التديّن وحضورِ الأخلاقيات، لكن يلتبس أحيانًا في هذا التديّن ما هو أخلاقيّ بما هو شكليّ، ويصعب على الناس التمييزُ بين الدينيّ والدنيويّ والمقدّس وغيرِه، لذلك تتسع دائرةُ المقدّس باستمرار، لتستوعبَ غيرَ المقدّس وتدمجه في فضائها.
وتمثّل هذه الجماعاتُ بيئةً ملائمةً لولادةِ شكلٍ آخر من التديّن وتغلغلِه في مجالات حياتها المختلفة، وهو ما نعبّر عنه بـ “التديّن الشعبويّ”، والذي هو نمطُ تديّنٍ شكلي ذرائعيّ، يظهرُ في مختلفِ الأديان، لكنه ينشط كلّما تبلّد العقلُ أكثر، واشتدَّ تزييفُ الوعي، بعد أن يحدث انزياحٌ للتديّن عن مجاله، وترحيلٌ لوظيفتِه، فبدلًا من توظيف الدين في بناءِ الحياة الروحية، وإيقاظِ الضمير الأخلاقي، تصبح الشعائرُ المُفتعَلةُ، لأغراضٍ لا صلةَ لها بوظيفة الدين الروحية والأخلاقية، هي محورُ التديّن، ويحدث تطابقٌ بين مفهومِ التديّن ومصاديقِ هذا النوع من الشعائر المُفتعَلةُ، ويفتقدُ هذا التديّنُ الحسَّ الأخلاقي، وتنضبُ فيه الطاقةُ الروحية. وعادة ما يتحوّل التديّنُ الشعبوي إلى سلعةٍ يتداولها الأفرادُ لامتلاكِ رصيدٍ يُعلي من مكانةِ ودورِ الفرد في الجماعة، وترسّخ بواسطته المؤسّساتُ حضورَها المجتمعي، لذلك يدخل سوقَ مزايدات مبتذلة أحيانًا. التديّنُ بهذا النمط يعني أن الشخصَ الذي يبحث عن دورٍ ومكانةٍ في الجماعة لابدّ أن ينخرطَ في مهرجانات الشعائر، فكلّما كان حضورُه فيها أكثرَ صار أكثرَ تديّنًا، على وفق معايير السوق الدينية لهذا التديّنِ، واكتسب بذلك مكانةً استثنائيةً عند الجمهور، ووجاهةً اجتماعيةً مرموقة، ومقامًا دينيًا رفيعًا.

تبرعُ أكثرُ السلطات السياسية وبعضُ المؤسّسات الدينية في تكريسِ التديّن الشعبويّ، واستغلالِه لأغراضٍ على الضدِّ من وظيفة الدين الحقيقية، فيُتخَذُ التديّنُ وسيلةً للاستحواذ على السلطة والثروة. إنه ضربٌ من تنويم العقل وتفشي الجهل الذي يتخذ من الدين غطاء، لذلك تتشوّه فيه براءةُ الروح، ولا تتجلّى فيه عفويةُ وطهارةُ النمط الفطريّ للتديّن الشعبيّ. وعادةً لا يخلو التديّنُ الشعبويّ من افتعالٍ يتولاه دجالون يضلّلون الناسَ لغايات غيرِ سامية، يمتلكون وسائلَ بارعة في تجييشِ مشاعر الناس، وإذكاءِ انفعالاتهم النفسية، والإفراطِ في استغلالِ المقدّس لتغذيةِ هذه الانفعالات وتفجيرِها متى شاؤوا. يسرف من يضلّلون الناسَ لغايات غيرِ سامية في إنتاجِ شعائر لم ترد في النصوص الدينية المعروفة، ولم يعرفها الناس من قبل، ويوظفون لترويجها مختلفَ وسائل التأثير على الرأي العام،ويختلقون من أجل زجِّ الناس فيها شائعاتٍ تثير الرغبةَ والشغفَ للانخراط فيها، تتناغم وأذواقَ عامة الناس، وتوقد مشاعرَهم، وتثير حساسياتِهم النفسية، وتفجّر ذاكرتَهم الطائفيةَ الجريحة.

في هذا النمط من التديّن يلتبس مفهومُ المقدّس، فيجري تقديسُ غيرِ المقدّس، ويُنسى المقدّسُ. إنه تديّنٌ تفترسه الوثنيةُ والخرافة، وهو أشبه بالشعوذة منه بالتديّن. ويستهلك في هذا النمط من التديّن ما هو شكليّ كلَّ ما هو أخلاقي، وتنضب منابعُ إلهام الروح فيه. في هذا التديّن يزحف المقدّسُ على ما هو دنيويّ فتتقدّس أشياءُ وأيامُ وأماكنُ غيرُ مقدّسةٍ بمرور الزمان، وتتفشّى ظاهرةُ تقديس أشخاصٍ لا يمتلكون الحدَّ الأدنى من طهارةِ الروح وسلامةِ القلب وصحوةِ الضميرِ الأخلاقي. ويجهض هذا النوعُ من التديّن محاولاتِ إحياء الحياة الروحية، والتربيةَ على القيم الأصيلة، وبناءَ التفكير العقلاني.التديّنُ الشعبويّ يصيّر العقلَ رميمًا، ولا يضع المقدّسَ في حدوده إلّا العقلُ. إذا لم يضع العقلُ حدودًا للمقدّس يمسي كثيرٌ من الأشياء غيرِ المقدّسة أوثانًا، بل يمسي المقدّس وثنًا. وكلّما اتسع تقديسُ غير المقدّس انحطت مكانةُ الإنسان،وأُهدرت كرامتُه، وانطفأ ضميرُه الأخلاقي، وتشوهّت حياتُه الروحية، وتبلّدت حاستُه الجمالية، ودخلَ عقلُه حالةَ سبات.

وهناك نمطٌ آخر من التديّن وهو التديّن السياسي، ظهر منذ تأسيس الأخوان المسلمين سنة 1928،وتعزّز حضورُه لدى الجماعات الدينية التي نشأت بعد ذلك،وهو تديّنٌ مسكونٌ بالسياسة،لذلك يقترنُ بالسعي للاستحواذِ على الدولة والسلطة والثروة.وهو ضربٌ من التديّنِ استبدت الغايةُ السياسيةُ للدينِ في أدبياتِاته وثقافته وما تنشده أحلامُه،فحجبت المنخرطين فيه عن تبصّرِ أيّ أفق روحي وأخلاقي وجمالي للمعنى الديني خارجَ هذه الغاية.لذلك لا يعبأ هذا التديّن كثيرًا بالقيم والحياة الروحية، ويحرص على الشكل، ولا يهتمُّ بمضمونِ الشريعة ومقاصدِها.

لقد تفشّى هذا الشكلُ من التديّن لدى الجماعاتِ الدينيةِ في نصفِ القرن الأخير، بعد أن غادروا المرحلةَ السريّةَ في عهد الأنظمةِ القمعيةِ، وتخلّصوا من بطش الحكّام المستبدّين، وتفاقمَ بشكل مخيف بعد وصول هذه الجماعات للسلطة.وينكشف ما هو مُضمَرٌ في هذا التديّن لحظةَ تستحوذُ هذه الجماعاتُ على السلطة، إذ يفتقرُ تديّنُ بعض رجال السلطة من أتباعها إلى الأخلاق، ويتراجع حضورُ الحسِّ الدينيّ لدى أكثر من يحتل موقعًا في السلطة، بالشكل الذي يمنعه من تجاوز الحدود التي يسمح بها القانونُ والأخلاقُ والشريعةُ.

وبغيةَ الاحتفاظ برصيده الديني في الجماعة التي ينتمي إليها يحرص رجلُ السلطةِ على تبرير سلوكه ومواقفه من خلال اللجوء إلى الحيلِ الفقهية، وفتاوى “مجهول المالك”، وكلِّ ما يسوّغ له الاستحواذَ على المال العام، فيتخذها قناعًا يختفي سلوكُه اللامشروعُ خلفَه.

تحرص الجماعاتُ الدينيةُ في تربية أفرادها على التمسّك الحرفيّ بالأحكام الفقهية، لأنها لا ترى حدودًا للإسلام خارجَ المدونة الفقهية، وتشدّد في أدبياتها على ما يخصّ الفكر السياسي، والتكييفَ الفقهي للسياسة والإدارة والاقتصاد والمصارف والمؤسسات المتنوعة في الدولة.

وينتج عن اقترانِ التربية في هذا التديّن بالتخويف، حالاتُ حذرٍ وتوجّسٍ وسوءِ ظن بالآخر، لذلك تضمحلّ فيه منابعُ محبةِ الناس والعفو والغفران والرحمةِ في التعامل معهم، بل يتحول أحيانًا إلى بيئةٍ لنموّ نزعاتِ الكراهية.

حدودُ التسامحِ ضيقةٌ في هذا النمطِ من التديّن، فهو غالبًا لا يعرف حقَّ الإنسان في الخطأ، ولم يتكرّس في تقاليد التربية في هذا التديّن الحقُّ في الاختلاف،لذلك لا يستطيع أغلب الأشخاص الذين يتمسكون بهذا النوع من التديّن تحمّلَ أصحاب المعتقدات الأخرى، ويتعذّر على كثيرٍ منهم العملُ مع من يختلف معه في رؤيته للعالم، ويصعب عليهم قبولُ التفكير الذي لا يتطابق مع تفكيرهم، لذلك نجدهم عندما يتحدثون عن المُختلِف يسود لغتَهم تخويفٌ منه، وتحذيرٌ من دسائسه ومكائده ومؤمراته. يعيشُ الشبابُ المنخرطون في هذا التديّن حالةَ توجسٍ من المختلف، بنحوٍ يصابُ فيه بعضُهم بالشلل النفسي في إدارة علاقاته خارج جماعته. وأحيانًا تصلُ الحالةُ عند بعض أفراده إلى أن يتحولَ هجاءُ المُختلِف واتهامُه إلى مهنته الأبدية، بل ربما يشعرُ أن استمرارَ حضوره في العالَم يقترنُ بهجاءِ المُختلِف والانشغالِ به، من دون أن ينشغلَ هو بنفسِه وإصلاحِ أحواله. وتشيع بين أفراده كتاباتٌ تضع  المسلمَ في مواجهة أبدية مع العالم[1]، ونتيجةً لانتشارِ هذه الكتابات وتأثيرِها الشديد يولد موقفٌ عدائيّ من كلِّ ما ينتمي للغرب الحديث، ويمتدّ ليشمل مختلفَ العلوم والفنون والآداب وكلَّ ما يمثّل معارفَ الحداثة وقيمَها ومكاسبَها. ومن الطريف أن بعضَ أشدِّ الكتاب مناهضةً لقيم الحداثة ومعارفها يقيمون في الغرب، ويحملون جنسياتِه منذ سنوات طويلة، ويتشبّثون بكلِّ الحقوق والحريات التي منحتها لهم الحداثةُ السياسيةُ والأنظمةُ الديمقراطية في الدول الغربية.

في تقاليد هذا التديّن يعجزُ أكثرُ الأفراد عن بناء الذات، لأنهم يستهلكون كلَّ طاقتهم بمعارك أكثرُها مُفتعَلٌ مع المُختلِف، وتبعًا لذلك يعجزون عن بناءِ العقول والأرواح والضمائر والأوطان.

وهناك نمطٌ آخر للتديّن يتمحور حول الفتاوى الواردةِ في المدونة الفقهية، ويهتمُّ بتطبيق الفتاوى حرفيًا على كلِّ واقعة في الحياة الشخصية والاجتماعية، تُختزَل في هذا التديّن الشريعةُ بالفقه،ولا يكترثُ كثيرًا بتربية الروحِ، وترسيخ الضميرِ الأخلاقي، وتنميةِ الذوقِ الفنيّ، وإلهامِ الحسِّ الجمالي، مادام المتديّنُ مُلتزِمًا بتطبيق الفتوى على الواقعة الحياتية.نجد أحيانًا في هذا النمطِ من التديّن ما هو أخلاقي، لكن طالما صار هذا التديّنُ غطاءً للتديّن الشكلي.

لا يشدّدُ هذا التصنيفُ للتديّن على أن كلَّ نمطٍ من أنماطه المذكورة مستقلٌ بذاته ولا يلتبسُ بغيره، فالتديّن الشعبي يتداخل أحيانًا بما هو شعبوي، والتديّنُ الشعبوي أوضحُ مثال للتديّنِ الشكلي، وأحيانًا يكونُ التديّنُ السياسي مثالًا للتديّن الشكلي.

كما يشير تصنيفُنا لأنماط التديّن إلى أن الدينَ يتخذُ شكلَ المحيط المجتمعي الذي يحلُّ فيه، ويصطبغُ بنوع الشخصية البشرية وطبيعةِ العمران ومختلف الظروف التي يعيشها الناس.الدينُ مثلما يؤثّرُ في حياة الناس يتأثرُ بثقافاتِهم وتقاليدِهم وطرائقِ عيشهم. وهذا يعني أن حضورَ الدين بالشكل الذي يكون معه فاعلًا إيجابيًا في البناء والتنمية يتوقفُ على نمطِ تديّنٍ مُلهِمٍ للروح والضمير الأخلاقي والحسّ الجمالي، ويرتبطُ ذلك عضويًا بإعادةِ بناءِ أنظمة التربية والتعليم في ضوء مكاسب العلوم والمعارف الحديثة، والاهتمامِ بالقيم الكونية المشتركة بين البشر، وخلقِ وعي جديدٍ مواكبٍ للتحولات الكبرى في العالم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  مثل: ” قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله” لجلال العالم ، وعشرات العنوانات غيره. كان الدعاةُ السلفيون يوزعون هذا الكتيب بكثافة في مدارس الخليج والسعودية. وهو كتيب يعتمد إثارة الشباب واستفزاز غيرتهم الدينية، من خلال نقل معلومات تخويفية، كثير منها ليس دقيقًا ومضلل.

عبدالجبار الرفاعي

د. عبدالجبار الرفاعي مفكر عراقي، ‏متخصص في الفلسفة وعلوم الدين. من مؤسسي علم الكلام الجديد في المجال العربي. منذ ثلاثين عامًا يكرّس منجزه لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة، منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم. أصدر أكثر من 50 كتابًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى