المقالات

غياب دراسة المتخيَّل في كتابات الإسلاميين

قدّمتُ ورقةً بعنوان: “الوحي عند ابن عربي وتعدد القراءات، أو الخطاب على قدر فهم السامع” في: المؤتمر اللاهوتي السادس، الذي بحث: “النص القرآني والنص الكتابي: التشكل والحقيقة”، المنعقد بكلية العلوم اللاهوتية والدراسات الرعائية في الجامعة الأنطونية “بيروت”، بتاريخ 24-25/6/2011. أشرتُ في ورقتي إلى الخيال في التراث عند الفلاسفة والعرفاء المسلمين، والمتخيَّل في الدراسات الحديثة، فعقّب أحدُ المشاركين في المؤتمر، ممن يُحذّرون من توظيف مناهج وأدوات الفلسفة والعلوم الإنسانية في دراسة وتمحيص التراث الديني، ويظن أن كلَّ شيء مستودَع في تراثنا، ونحن كسالى لم نكتشفه. اعترض بكلامٍ ملخصه: الخيال موجود في تراثنا، فلماذا نستعير العلومَ الإنسانية الغربية الغريبة عن تراثنا ومجتمعاتنا وهويتنا. فقلتُ له: المتخيَّل غير الخيال بمدلوله الميتافيزيقي المعروف في التراث عند الفارابي والفلاسفة ومحيي الدين بن عربي والعرفاء. المتخيَّل الديني الذي أتحدث عنه يعنى دراسةَ تمثّلات الدين من منظور سوسيولوجي وأنثروبولوجي وسيكولوجي وسردي وتاريخي، في ضوء ما أنجزته المعرفة العلمية من مكاسب ثمينة في هذا الحقل.

 مناسبةُ هذا الحديث هي غيابُ دراسة المتخيَّل في تفكير الإسلاميين وكتاباتهم بالمعنى المتداول في علوم الإنسان والمجتمع. معجم المتخيَّل بدلالاته ومجالاته ومباحثه الحديثة غريبٌ على العقل التراثي، لم يألفه هذا العقل، ولم يتجذّر في اللاشعور إلا بمعناه التراثي. ‏لم يدرس الإسلاميون حتى اليوم المتخيل الديني في معاهد التعليم الديني التقليدية، ولم يكتشفوا فاعلياته المتنوعة في إنتاج النسخ البديلة للدين بعد عصر صاحب الرسالة، ولم يعالجوا إضافات المتخيل المتراكمة في كل زمان، وما ينتج عنها من آثار تطمس المبادئ القيمية الروحية والأخلاقية والجمالية الكونية في القرآن الكريم، وكيفية محو كل واحدة من هذه النسخ البديلة لتجلٍ من التجليات المضيئة للرسالة. ولم أقرأ عند الكتّاب الأزهريين والحوزويين ومَن تعلّموا في هذه المعاهد، ولا غيرهم من الكتّاب الإسلاميين خارجها، دراساتٍ للمتخيَّل الديني وآثاره المختلفة في مجالات الحياة الفردية والمجتمعية. وكيفية تشكّل المتخيَّل المتشدِّد والعنيف والمتوحش، وكيف نتحرر من هذا النوعَ من هذا المتخيَّل المخيف الذي أنهك مجتمعاتنا، واستنزف طاقاتها، وورط شبابها في متاهات مظلمة، غرقت فيها قلوبُهم في كراهية سوداء، وتخبطت عقولُهم في ليل دامس، وضاعت أحلامُهم واضمحلت نهائيًا.

  حاولت الكتابةَ عن هذا الموضوع البالغ الأهمية منذ سنوات في كتاباتي المتواصلة عن الدين وتمثلاته المتنوعة في حياة الفرد والمجتمع. وتحدّثتُ عن أهمية المتخيّل الديني بتفصيلٍ أكثر في كتاب: “مقدمة في علم الكلام الجديد”، وشدّدتُ على ضرورة دراسته بوصفه أحدَ المنابع الأساسية المؤسسة لعلم الكلام القديم، وضرورة عبورها لمن يتطلع لبناء كلامٍ جديد، يهتم بدراسة وتحليل المتخيل، ويتعرف على الوسائل اللازمة والمنابع الضرورية لتشكيل متخيّل آخر يواكب الواقع. ففي الحديث عن الركن الثامن من الأركان التسعة لإشادة الكلام الجديد كتبت: “دراسة المتخيّل الديني وتحليل كيفية تشكله وروافد تغذيته ومديات حضوره في انتاج مقولات علم الكلام القديم. المتخيّل الديني منبع كبيرٌ للبنية الأساسية لعلم الكلام القديم. علم الكلام الجديد يجب أن يهتم بالكيفية التي يتشكل فيها المتخيل ويتوالد، ووسائل اعادة بنائه بالشكل الذي يجعله منبعًا للمعنى الديني الروحي والأخلاقي والجمالي الذي يتناغم ومتطلبات المسلم في عالم تتسارع فيه كل يوم وتيرة التغير والتجدد بنحو مهول”[1]. وتحدّثتُ في الفقرة الأخيرة من الفصل الأول من الكتاب الجديد: “مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث”، تحت عنوان: “في المتخيَّل تولد الأديانُ ولادةً ثانية”، في سياق الحديث عن ضعف حضور دراسة المتخيَّل الديني في الجامعات العراقية، مايلي: “ألحقنا هذه الفقرة بهذا الفصل، لتنبيه الباحثين في علوم الدين في وطننا العراق إلى ضرورةِ الاهتمام بدراسةِ المتخيَّل الديني، وأثرِه وفاعلياتِه الواسعة في تشكّلِ السرديات الدينية وقراءةِ النصوص، وولادةِ الأديان ولادةً ثانية، وكيفيةِ نشأة الفرق والجماعات، والكشفِ عن أن كثيرا من النزاعات والحروب الدينية تعود للاستحواذِ على مصادر إنتاج المتخيَّل الديني، فمَن يمتلك تلك المصادر يمتلك حاضرَ أتباع الدين ومصائرهم”[2].

 وأخيرًا بدأتُ أنشر سلسلةَ مقالات في جريدة الصباح البغدادية منذ 17-1-2024، حول الولادة الثانية للدين في المتخيّل[3]، لأن تجاهلَ دراسة أثر المتخيَّل في فهم الدين وتفسير وظيفته أحدُ أبرز الثغرات عند الكتّاب الذين مازالوا يفكرون في السياق المغلق للعقل التراثي هذا العصر. اكتشافُ جغرافيا المتخيَّل وفاعلياتِه ضروريةٌ للكشف عن نشأةِ وتطور الأديان، وأثرِ مخيّلة الجماعة في إنتاج المعنى الديني، وكيفيةِ ولادة وتضخّم مخيلتها في سياق: رغباتها، وأمنياتها، وأشواقها، وأحلامها، وأوهامها، ومسعاها للتعويض عن كلِّ ما تعجز عن إنجازه في عالمها الأرضي، بنحوٍ يمسي ذلك المتخيَّلُ شديدَ التأثير في حياة الفرد والجماعة، وربما يطغى تأثيرُه، فيتسلط عليها ويأسر حاضرَها ومصائرَها.

 المتخيَّل الديني متجذّرٌ في اللاشعور الجمعي والفردي، مَن يفكّر بتديّن عقلاني أخلاقي جمالي يظلّ عاجزًا عن إعادة إنتاجه في ضوء رؤيته، لافتقاره إلى الوسائل اللازمة لإنتاجه وتشكّله. المؤسساتُ الدينية والسياسية والمجتمعية هي مَن يمتلك تلك الوسائل، ولا يمتلكها إنسانٌ فرد خارج مجالها. المتخيَّل المغلق ينمو ويزدهر في مناخات التدين الشعبي، الذي لا يألف صرامةَ العقل البرهاني، وتتكدس وتنشط في هذا المتخيَّل فاعليةُ الذاكرة الشعبية والفلكلور والقيم الموروثة. روافد تشكّل هذا المتخيَّل لا تخضع للعقل ولا تستفتي حججَه، ولا تحتاج أدواتِ استدلاته بالضرورة. تهرب من العقل، وتعمل على تحصينِ نفسها بوسائلها الخاصة لئلا يفكّكها ويقوّضها، وهي محصنةٌ منه على الدوام، إذ تحتضنها مشاعرُ يختفي العقلُ فيها وراءَ العواطف والانفعالات والهواجس والمخاوف.

 تجاهلُ دراسة المتخيّل، وعدم إدراك الحاجة لإعادة بنائه، يجهضُ المساعي الجدية للتجديد. لا ينجز التجديدُ شيئًا من وعوده من دون ذلك، دراسةُ المتخيّل الديني وتحليلُ كيفية تشكله، وروافد تغذيته، ومديات حضوره في إنتاج المعنى الديني، ضرورةٌ تفرضها عمليةُ التجديد. المتخيَّل المغلق عقبةٌ تجهض كلَّ المساعي الجدّية لإيقاظ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في الدين. بالإمكان إعادةُ إنتاجِ المتخيَّل، ولا يتعذر تشكّلُ المجتمع المتخيَّل بالذهن في آفاق رؤيةٍ تجديدية طموحة للدين، مواكبةٍ للوقع ومتطلباته وإيقاعه السريع والشديد التغيير. وأيضًا لا يتعذّر العملُ بجدية على تمكين هذا المتخيَّل وحضوره في الواقع المجتمعي، وإن كانت شروطُ إنتاجه تتطلب جهودًا مجتمعية هائلة تخرج عن قدرة الفرد.

كي ينجز التجديدُ شيئًا من وعوده لا خيارَ إلا بدراسة المتخيَّل في ضوء المعطيات الجديدة للعلوم والمعارف، والتعرف على مجالاته وحدوده وآثاره، وتعبيراته الباهضة في الدولة والسياسة والسلطات المتعددة، والقيم والثقافة والعلاقات الاجتماعية، والعمل على بناء متخيَّلٍ رحب، لا يخشى العقلانية النقدية، وتترسخ فيه القيم الروحية والأخلاقية والجمالية، ويحتفي بالكرامة بوصفها جوهر إنسانية الدين. وهي مهمةٌ لا أظن العقلَ الذي هو مرجعية التجديد يتقنها بمهارة إلا بعد محاولات وجهود مكثفة تتواصل سنوات طويلة.

  ما هو متراكم وغاطس في البنية اللاشعورية للمجتمعات في العصور المختلفة لا يمكن التحرّرُ من أسره تمامًا. في ضوء ذلك يظل العملُ على بناء متخيَّلٍ رحب في مجتمعاتنا حلمًا صعب المنال جدًا، لأنه يتطلب وعيًا عميقًا بضرورة النهوض بهذه المهمة العظمى، وتضامنًا واسعًا للمؤسسات المتنوعة في المجتمع، وتوظيفًا محترفًا للثقافة والآداب والفنون ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وتعاونًا وجهودًا مشتركة للسلطات المتعددة في مجتمعاتنا، وبالذات السلطتين السياسية والروحية.

       في الكتابة عن هذا الموضوع وغيره أقترح إجابات، لم أراهن يومًا على أنها جزمية أو نهائية. القارئ الذكي يتنبه إلى أن كتابتي تحاول إثارةَ الأسئلة، أكثر من تقديم الإجابات الجاهزة. هذه الأسئلة أسئلتي الشخصية، فقد كنت ومازلت مشغولًا بأسئلة الوجود، وأسئلة المعنى. في أسئلتي أفكّر عدة سنوات، وألاحق كلَّ كتاب ومعلومة حولها، وأقرأ كلَّ شيء أظفر به يتناولها، وأسعى لاكتشاف الطرق المتنوعة لتفسيرها والجواب عنها، وأحاول أخيرًا تقديم تفسيري وجوابي. من يراقب سيرتي الفكرية يرى كيف عبرَ عقلي عدةَ محطات ولم يتوقف، بفضل تلك الأسئلة. ليست هذه الرحلة الشيقة عبر المحطات إلا سلسلة دحض للأجوبة الخاطئة عن أسئلة الوجود والمعنى في حياتي.


[1] الرفاعي، عبد الجبار، مقدمة في علم الكلام الجديد، ص 137-140، ط 3، 2022، دار الرافدين ببيروت، ومركز دراسات فلسفة الدين ببغداد.

[2] الرفاعي، عبد الجبار، مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث، ص 110، ط 1، 2024، دار تكوين في الكويت، ودار الرافدين ببيروت.            

[3] نشرت حتى اليوم 7 حلقات متسلسلة في هذا الموضوع الشديد الأهمية.

عبدالجبار الرفاعي

د. عبدالجبار الرفاعي مفكر عراقي، ‏متخصص في الفلسفة وعلوم الدين. من مؤسسي علم الكلام الجديد في المجال العربي. منذ ثلاثين عامًا يكرّس منجزه لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة، منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم. أصدر أكثر من 50 كتابًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى