المقالات

في النقد الجذري … مُجدَدًا

 

دأبَ العربُ “السيّارة” في تاريخهم الطويل على التصدي (العنيف في أغلبه) لمسارات النقد، وإن احتاجت التحولات الكبرى للمجتمعات البشرية إلى شيء منه لتبرير تلك التحولات نفسها. ويأخذ ذلك التصدي أشكالا عدة، لعل أعتاها ذاك الذي يركن إلى المقدس، أو بالأحرى إلى كل “ترصيف” لغوي (خطاب) يضعه أصحاب النفوذ والمصلحة، ويُسبغوا عليه آيات الجلال وهالة الخشية العجائبية، قبل أن يرفعوه لدرجة تتماهى مع التأليه، خدمة لتلك المصالح الشخصية أو الفئوية، سياسية كانت أم اقتصادية اجتماعية أم رمزية نفسية.

وكانت السلطة السياسية ( باعتبارها المحور المــُولّد للقيمة في مجتمعاتنا) طيلة الفترة الإسلامية من تاريخنا هي من يرعى عملية الأسطرة لتلك للممنوعات، ومن يضع سُلّمَها، ويحدد درجة العقوبات المسلطة على من يأتيها، وبالتالي يُنتج المعنى الأخلاقي ويحدد التشريعات المقابلة لها. كما كان الارتكاز إلى الوحي القرآني وإلى شخصية النبي محمد (ص) أخطر الأدوات في بناء تلك الهالة من القداسة على “خطاب المنع” وعلى التشريعات الموازية في آن.

وعلى مرّ التاريخ كان النقد بأنواعه يدخل ضمن دائرة “المرذول” عقلا، “المنبوذ” اجتماعا، و”الممنوع” قانونا، لذلك كانت أغلبية ساحقة من حركات النقد في تاريخنا (بقطع النظر عن الموقف منها) تتحول بسرعة فارقة إلى حركات تمرد مسلح تكون مآلاته المباشرة الغرق في بحور من الدماء. وكان الدين الأداة المُعلَنَة والراية المرفوعة لشرعنة سفك تلك الدماء.

لم يكن ذاك حكرا على الفضاء الإسلامي، لا شك، فكل النزاعات المسلحة (العنيفة) في العالم القديم كانت تقوم باسم الربّ، ولكن المشكلة أن منطقتنا تواصل إلى اليوم تجريم النقد باسم الله، في حين توقفت فضاءات حضارية أخرى للبحث عن سبل مغايرة للتفاهم والبحث عن إدارة مشتركة لحق الحياة.

قلنا سابقا إن النقد درجات، أعلاها وأشملها ما اصطُلح على تسميته بالنقد الجذري، وما يقال في مجال التأريخ للأفكار من أن بعض المفكرين العرب قد بدأ بممارسته مع ستينات القرن الماضي.

ولكن قبل عرض ذلك الادعاء على المساءلة، لا بد أن نسأل عما نعنيه بالنقد الجذري، الذي ارتبط في نشأته في الغرب بفرع الدراسات الفيلولوجية الباحث عن أصل النصوص التأسيسية ومنابعها.

نعني بالنقد الجذري تلك العملية الشاملة التي تختزل الرفض والفهم والتفكيك والتأويل، عملية يقوم بها الإنسان الفرد للتعبير عن موقف أخلاقي حاسم ومسؤول تجاه نفسه وتجاه الكون. عندها يصبح الحديث عن نقد “بنّاء” وآخر “هدّام” من جنس سردية التأثيم التي أشرنا لها أعلاه. النقد الجذري (في أي مستوى من مستوياته) لا يمكن إلا أن يكون هدّامًا بطبيعته، لأنه عقلٌ وليس قانونًا، مقاربةٌ وليس عقيدة. ولكن ذلك لا يعني اعتباره مجرد مِعْولٍ يستعمله الانسان في ساحة حروب التموقع، بل أجد نفسي أمْيَلَ إلى مقاربته كــــــ”استراتيجيّة لخلخلة التّشكّلات الإيديولوجيّة والدّوغمائيّة، الّتي تكبّل الوعي، وتحول بينه وبين الواقع” (كما يذهب إلى ذلك نور الدين آفاية في كتابه: في النقد الفلسفي المعاصر، مصادره الغربية وتجلياته العربية، 2014).

لقد دشن عدد من المفكرين العرب المعاصرين مشاريع اعتبروها منضوية تحت يافطة النقد الجذري، توَجَّهَ به عبد الله العروي إلى الأيديولوجيا، واختار هشام شرابي استعماله في جسم بنية المجتمع البطركي، وذهب محمد أركون إلى أن الأولوية تكمن في تفكيك بنية النص الديني المؤسس للإسلام، وأعمله عابد الجابري في جسم العقل العربي …الخ؛ جميع هؤلاء انطلق من اعتبار المفهوم سليل عقل ما بعد الحداثة الغربية، وهو ما جعلهم يرتكزون في مشاريعهم التفكيكية تلك على فلسفة الدولة الوطنية (يطلق عليها بعضهم بدولة ما بعد الاستعمار) وهياكلها وأدواتها الضاربة. ولكن النتائج كانت – بشكل من الأشكال – هزيلة في تغيير واقع الإنسان العربي نحو أفق أكثر رفاه وتنوير وعدالة. بل يُنظر إلى تلك المشاريع كأدوات في أيدي الأنظمة الاستبدادية وحُماتها من القوى الاستعمارية لمزيد التسلط والهيمنة؛ وهو ما زاد من اتساع الهوّة بين تلك النخب الممارسة للنقد وبين الناس المطلوب الأخذ بأيديهم إلى العوالم المأمولة.

ولعل علي حرب قد أجاد في كتابه الجديد (الجهاد وآخرته: ما بعد الأسلمة، 2018) تحميل المسؤولية لأولئك المثقفين بنفس الدرجة التي يتحملها الطغاة وأصحاب الدعوات التكفيرية والمنظمات الجهادية الإرهابية، لأنهم قد يساهمون في صناعة الظاهرة الإرهابية بأفكارهم أو بطريقتهم في التفكير؛ فالإرهاب بحسب رأيه ينشأ من اعتقاد المرء امتلاك الحقيقة المطلقة والنهائية، التي تؤدي إلى منطق الإقصاء والاستئصال.

كان تأثيم النقد منذ القدم – ولا يزال – يضرب على أوتار امتلاك الحقيقة والمشروعية والحفاظ على البَيْضة. وكانت النخب العربية، ومن بينهم عدد ممن يدّعون الانتساب إلى المدرسة النقدية لما بعد الحداثة، يضعون فخاخا كثيرة لممارسة حق النقد، ما يؤدي حتما إلى شلّ ملكة النقد نفسها، قبل تجريمها. ألم تتحول الدولة الوطنية على سبيل المثال (كشكل من أشكال ممارسة النخبة العقلانية لسلطتها في التمتع بالامتيازات عبر إدارة الجماعة) إلى إله لا يحسن التشكيك فيه، ويُجرّمُ نقده، ويُستأصَلُ من يرفضه ؟ ما الفرق بين تجريم النقد الجذري لـــــــ”مُقدَّسِ الدولة” و “مُقدَّس الدين”؟

النقد الجذري – بحسب فهمنا – حق مطلق للإنسان، اكتسبه من تحمّله لأمانة الإستخلاف؛ ويقوم ذلك الالتزام على قاعدتين رئيسيتين: العلم بالأسماء (العقل الفطري المركّب فيه)، والاختيار الحر. ولا يجوز لفرد أو جماعة انتزاع ذلك الحق منه باسم الدين أو باسم المصلحة أو باسم الدولة أو باسم الجماعة. فالإنسان الفرد إذا تخلى عن ممارسة النقد الجذري في كل لحظة لمعاينة ذلك الالتزام الأول، انزلق في هاوية التقليد وانحرف عن العهد الذي أمضاه مع الله.

عبد الحق الزموري

باحث جامعي ومترجم من تونس. مدير مركز أبعاد للدراسات المستقبلية. له العديد من الكتب والدراسات المنشورة، آخرها مساهمة في كتاب جماعي حول "الحالة الدينية في تونس 2010 - 2015" ، وكتاب " التصوف طريق الإسلام الجوانية" (ترجمة) و"الموت الرحيم للإلحاد المعاصر" (ترجمة)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى