المقالات

معيار الرفاعي لتمييز علم الكلام الجديد

 يبدأ كتاب “مقدمة في علم الكلام الجديد” بالحديث عن نشأة علم الكلام، وأسباب النشأة ودوافعها، إن كانت داخلية أو خارجية. علم الكلام لم ينشأ كنوع من الترف الفكري كما يعتقد البعض، بل نشأ تلبية لحاجات فرضها الواقع الاجتماعي والسياسي والديموغرافي والثقافي والعقدي. يوضح د. الرفاعي في هذا الكتاب المخاوف التي أصابت الفقهاء من هذا العلم الذي يحاول عقلنة أصول الدين وإثباتها بطرق عقلية. عارض كل من الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل هذا العلم، وهذا التعارض يعكس البنية السوسيولوجية والمعرفية التي لم تتهيأ في تلك اللحظة التاريخية لاستيعاب التفكير العقلاني الفلسفي بطريقة شبيهة لمن يرفض العقلانية الحديثة. مثّل علم الكلام في تلك اللحظة قمة الفكر العقلاني في الإسلام بجرأته ومقولاته المتنوعة وأسئلته. يقول الدكتور عبد الجبار الرفاعي: ان تراجع علم الكلام بدأ عندما نُقلت الحوارات الكلامية من دور العلم إلى بلاط السلطان وخضعت للسياسة، كان الاعتزال ضحية هذا الانتقال من التفكير خارج حدود عقلانية السلطة. عندما تأدلج علم الكلام وتوقف التفكير العقلاني فيه دخل مرحلة السبات، وصار ضحية الوثيقة القادرية ( ٤٠٨ هـ ) التي فرضت مذهباً رسمياً واحداً لا يحق لأحد الخروج عليه وهو المذهب الحنبلي، وحرّمت التفكير الاعتزالي، فكانت هذه ضربة موجعة للتفكير الكلامي العقلاني، بعد أن تحول لمقررات ومراسيم وأوامر تفرضها السلطة السياسية. لم يستسلم الفكر الكلامي كليا لهذه التحولات، بل نهض علم الكلام مجدداً بعد زمان على أيدي متكملين كبار كنصير الدين الطوسي وفخر الدين الرازي، وغيرهما، وهو ينهض اليوم مجددا في علم الكلام الجديد.

  كان لنشأة الفكر الكلامي في عالم الإسلام دور هام بتوليد الأسلئة العقلانية التي تبحث قضايا الاعتقاد لتولد منه تساؤلات ومقولات متنوعة. حضور العقل في التفكير الكلامي وعقلنة العقائد الدينية، وبحث كبرى الأسئلة العقلية كالجبر والاختيار والتوحيد والعدل وغير ذلك، تسبب بمحاربة التفكير الكلامي من تيارات رأته يشكل تهديداً لأصول الشريعة. نضج علم الكلام ليشكل الرؤية الكونية في الإسلام، وليشكل نظرية المعرفة في الفكر الإسلامي كما يرى أستاذنا عبد الجبار الرفاعي.كل ذلك كشفه الرفاعي في علم الكلم القديم، فأدرك سطوته على العقل الإسلامي، بل أدرك أنه المنبع العميق لأصول الفقه والآراء والمواقف الفقهية وتفسير القرآن الكريم وشرح الحديث الشريف.

  تحدث الرفاعي عن محاولات التأسيس الحديث لعلم الكلام وتجديده منذ أيام ولي الله الدهلوي مروراً بسيد أحمد خان ومحمد إقبال وفضل الرحمن، وانتقالاً للمدرسة الإيرانية في مشروع القراءة الهيرمونيطيقية عند محمد مجتهد شبستري، إلى القبض والبسط وبسط التجربة النبوية عند عبد الكريم سروش، والعقلانية والمعنوية عند مصطفى ملكيان، ثم المدرسة العربية المتمثلة بالقراءة الألسنية عند نصر حامد ابو زيد، والإسلاميات التطبيقية عند محمد أركون، والتراث والتجديد عند حسن حنفي، وغيرهم. كتابات كثيرة مر عليها أستاذنا الرفاعي واستوعبها استيعاباً نقدياً وناقش أصولوها ومرجعياتها، مما جعلته يضع جهده الأكبر في رسم ملامح علم الكلام الجديد، ووضع مقدمة هذه كي تحاول رسم حدود هذا العلم وموضوعه ومنهجه، محاولاً تمييز الكلام الجديد عن الكلام القديم من جهة، والكشف عن المحاولات الشكلية لتجديد علم الكلام.

يرى الرفاعي أن علم الكلام القديم لبث يفكر في إطار العقلانية القروسطية، وفي ظل منطقها وفلسفتها، وفي ظل نظامها المعرفي، والعلوم الطبيعية السائدة آنذاك. نشأ علم الكلام ليجيب عن أسئلة المسلم في تلك القرون، فمع تطور المنطق والفلسفة ونشوء علوم الإنسان والمجتمع الحديثة، وتطور العلوم الطبيعية لدرجة القطيعة الابستمولوجية مع الطبيعيات القديمة، وتطور أسئلة المسلم المعاصر، نشأت حاجة يفرضها الواقع، لنشوء علم كلام جديد، يستوعب الطفرات الفلسفية الحديثة والعلوم الاجتماعية والمناهج الأبستمولوجية، ليخلق حواراً فكرياً ينطلق من واقع المسلم. وعلى هذا الأساس تسقط بعض الدعوات التي ترى علم الكلام الجديد نوعا من الترف الفكري والادعاءات، فنظرة سريعة لما نحن فيه ندرك فيها الحاجة الماسة التي فرضها الواقع لإنشاء علم الكلام الجديد. لا يمكن مثلاً بناء حياة متصالحة مع العصر للمسلم في ظل مقولات الولاء والبراء والفرقة الناجية وتكفير المسلم المختلف في عقيدته التي ترسخت في علم الكلام القديم.

معيار علم الكلام الجديد عند الرفاعي

 يضع الرفاعي معياراً واضحاً لتمييز الكلام الجديد عن الكلام القديم، والمعيار يتمثل كما يرى في الفهم الجديد للوحي. يرى الدكتور الرفاعي أن كل شيء يحدد فهمه تعريفنا للوحي، إذ يقول: (يبدأ علمُ الكلام الجديد بإعادة تعريف الوحي بنحو لا يكرّر تعريفَه في علم الكلام القديم كما هو. اقترحتُ في هذا الكتاب معيارًا يمكن على أساسه أن نصنِّف مفكرًا بأنه “متكلم جديد”، ويتمثل هذا المعيارُ في كيفية تعريف المتكلم للوحي، فإن كان التعريفُ خارجَ سياق مفهوم الوحي في علم الكلام القديم، يمكن تصنيفُ قوله كلامًا جديدًا، لأن طريقةَ فهم الوحي هي المفهوم المحوري الذي تتفرّعُ عنه مختلفُ المسائلِ الكلامية، ومن أبرزها مسألةُ “الكلام الإلهي” وغيرُها من مقولات كانت موضوعًا أساسيًا لعلم الكلام القديم. إن كيفيةَ تعريف الوحي والنبوة والقرآن يتفرع عنها ويعود إليها كلُّ شيء في الدين، لا يبدأ تجديدُ فهم الدين إلا بإعادة تعريف هذه المفاهيم المحورية الثلاثة، في سياق متطلبات الإنسان اليوم للمعنى الديني، واحتياجه لما يثري حياتَه الروحية والأخلاقية والجمالية. في حدود تعريف الوحي يتحدّد مفهومُ النبوة، ويتحدّد حضورُ الإلهي في القرآن في حدود فهم النبوة، ويتحدّد معنى الكلام الإلهي).

مسألة فهم الوحي أخذت مسارين في الفكر الإسلامي المعاصر، كما يقول الدكتور الرفاعي:

1- مسار يرى الوحي بتعبير د. نصر حامد ابو زيد (منتَج ومنتِج ثقافي) حيث يكون في فترة التكوين مرآة للثقافة، وما بعد التكوين يتحول لموجِّه للثقافة. يعتمد هذا المسار علوم الإنسان والمجتمع والفلسفة في تفسير تمثلات الوحي وأصله، فيقعون في بعض الأحيان في إنكار البعد الغيبي للوحي، ونرى في بعض الأحيان عبارات لهم يعترفون بها بالأصل الغيبي للوحي، وإن كانوا يرون أن الوحي مرآة انعكس فيها واقع عصر البعثة الشريفة ولغة ذلك العصر. ويرى الرفاعي هذا في كتابات: نصر حامد ابو زيد ومحمد اركون وحسن حنفي وعبد المجيد الشرفي.

2- مسار يتعامل مع الوحي بكونه ظاهرة ميتافيزيقية غيبية، ويبحث في أصل ونشأة الوحي أكثر مما يبحث في تمثلاته في الحياة الاجتماعية، ويعتمد هذا التيار آثار العرفاء والفلاسفة في دراسة أصل الوحي، وعلوم الانسان والمجتمع في تفسير تمثلات الوحي في الواقع، ويرى الرفاعي هذا في كتابات: محمد اقبال وفضل الرحمن ومحمد مجتهد شبستري وعبد الكريم سروش.

فهم الرفاعي للوحي

يقول الرفاعي: (الفهم الذي أتبناه للوحي لا يهدرُ البُعدَ الإلهي الغيبي المتعالي على التاريخ الذي ينطقُ به الوحيُ، على الرغم من توظيف هذا الفهم لشـيء من أدواتِ فلسفة الدين وعلمِ الأديان المقارن وعلومِ الإنسان والمجتمع، للكشف عن البُعد البشـري التاريخي في تمثلات الوحي في الواقع. البُعد الإلهي في الوحي لا يقعُ في إطار صيرورة التَّاريخ وسياقاته، البُعد البشـريّ في الوحي يقع في إطار صيرورة التاريخ وسياقاته. كلُّ ما هو تاريخي بشـري وكلُّ ما هو بشـري تاريخي،كلُّ ما هو إلهي بوصفه إلهيًّا خارج التاريخ، وكلُّ ما هو خارج التاريخ لا يخضع لمعادلات دراسة الواقع وأدوات فهمه وتفسيراته). فهم الدكتور الرفاعي للوحي يشدد على مضمونه الميتافيزيقي الغيبي، ولا يتجاهل البُعد البشري في شخصية النبي “صلى الله عليه وسلم”. يفهم الرفاعي الوحي بطريقة ديناميكية وهي تختلف عن الطريقة الميكانيكية التي ترى النبي “صلى الله عليه وسلم” مجرد وعاء مر من خلاله الوحي من دون أي تفاعل منه. الرفاعي يرى أن النبي متفاعل إيجابي مع الوحي. للوحي جانبان كما يرى الرفاعي: إلهي / بشري، بشري / إلهي، الإلهي يتمثل بعقيدة التوحيد والقيم الكبرى التي نطق بها القرآن الكريم الأبدية التي تنطبق على كل إنسان مهما تغيرت الظروف والأحوال والأزمان، والبشري يتمثل بانعكاس حياة النبي الخاصة “صلى الله عليه وسلم” والظروف الخاصة بمجتمعه وواقع عصر البعثة الشريفة على الوحي. وبهذا لا يكون النبي متفاعلا سلبيا مع الوحي، بل يكون متفاعلا إيجابيا تظهر شخصيته وحياته بوضوح في الوحي. في ضوء فهم الرفاعي يتضح أن كل من لا يفهم الوحي فهماً ديناميكياً لا يمكن أن يصنف متكلماً جديداً. ويعلن الدكتور الرفاعي عن فهمه للنبوة وصلة النبي بالغيب، والفرق بين النبي وبين غيره ممن لا صلة له بالغيب، عندما يقول الرفاعي: (النبي ليس شاعرًا، ولا كاهنًا، ولا متنبئًا، ولا متأملًا يقوده تفكيره لمقام النبوة، النبيُّ نبيٌّ وكفى.لا يتمثل الوحيُ بمشاهدة النبي لأحلام في حالة النوم، أو صورٍ ينسجها خيالُ النبي، أو حالة نفسية، أو محصِّلة ارتياض صبور، أو تأمُّلات عقلية. التفسيرات من هذا النوع تهبط بمقام النبي، ولا تتنبه للتكامل الوجودي الذي تسامى إليه النبي وانفرد فيه. الوحيُ حقيقةٌ أصيلة تعكس تكاملًا في وجود مَنْ يتلقاه، وتكشف عن صلة وجودية استثنائية بالله).

   يصنف البعض خطأ بعض الكتابات التي تكتب بلغة جديدة وتنحت مصطلحاتها الخاصة على أنها كلام جديد، لكن هذه الكتابات لا يمكن ان تصنف كلاماً جديداً وفق معيار الدكتور عبد الجبار الرفاعي، لهذا يرفض الرفاعي أن يصنف الدكتور طه عبد الرحمن على أنه متكلم جديد ولا يصنف كتاباته كلاماً جديداً، لأن د. طه وفيٌّ للتراث والمدونة الكلامية ومقولات الاشعري والغزالي وابن تيمية تماماً، وإن نحت معجمه اللغوي الاصطلاحي المبتكر. العقل التراثي عقل مقيد بالتراث لا يجرؤ الخروج على مسلماته. د. طه عبد الرحمن حلقة تأخذك لكل مسارات اللغة والفكر ولكنها تعيدك في نهاية المطاف للتراث. المشكلة أننا لا نجرؤ على نقد التراث، ونقد العقل والمناهج والوسائل التي توالد من خلالها. المشكلة في عدم تحررنا من النظام المعرفي والقيمي الحاكم على المنظومة التراثية، لا نعرف سوى أن نقول تجاه العلوم الحديثة أنها نشأت في ظل نظام معرفي وقيمي معين لكي نرفضها، ثم ننسى أن نطبق هذا على علومنا التي نشأت في ظل نظام معرفي وقيمي قائم على العقلانية الأرسطية والرؤى التراثية. نحن نعي جداً أن هذا النظام المعرفي والقيمي كان حاكماً على كل المعارف الإسلامية، لكننا نرفض أن نفكر في ضوء العقلانية الحديثة ولوائح حقوق الإنسان. تربينا على كراهية عصرنا ومنجزاته، هكذا تعيش أجسادنا في العصر الحديث، لكن فكرنا مازال في القرون الهجرية الأولى، تشكله مقولات الشافعي والأشعري والغزالي وابن تيمية وغيرهم.

 

مناقشة الرؤى الرسولية للدكتور عبد الكريم سروش

يقول د. عبد الكريم سروش في بسط التجربة النبوية (تحدثنا في كتاب القبض والبسط عن بشرية وتاريخية المعرفة الدينية، وفي هذا الكتاب “بسط التجربة النبوية” نتحدث عن بشرية وتاريخية الدين والتجربة الدينية نفسها)، ثم انتقل عبد الكريم سروش في كتابه الأخير ( كلام محمد، رؤى محمد) للحديث عن فهم للوحي بوصفه أحلاما يشاهدها النبي “صلى الله عليه وسلم” في المنام.

في سياق نقده للدكتور سروش ينطلق الدكتور الرفاعي من رؤية يؤسس عليها نقده، إذ يقول: (لكلٍّ من العلم والفن والغيب حقيقةٌ على شاكلته، يمكن التعرّفُ على هذه الحقيقة في فضائها الخاص. للغيبِ حقيقتُه ومظاهرُه وفضاؤه، مثلما للعلم حقيقتُه وفضاؤه وقوانينه، وهكذا للفن حقيقتُه وفضاؤه). مادام لكل شيء حقيقته الخاصة التي يتم التعرف عليها من خلال فضائه الخاص، ومادام لكل من الفن والعلم والغيب حقيقته، ويتم التعرف على هذه الحقيقة من داخلها، لذلك لا يمكن تفسير البعد الغيبي للوحي بمناهج علم النفس، لأنها مناهج تتعاطى مع ما يدور في النفس الإنسانية بمنطق علم النفس الحديث، ولا صلة لها بما يدور في الغيب وما وراء الطبيعة، فأي دراسة للغيب في الوحي تعتمد مناهج علم النفس سترى أن الوحي حالة سيكولوجية يعيشها النبي “صلى الله عليه وسلم” تخطئ الطريق كما يرى الرفاعي، إذ ستبدأ بالإنكار وتنتهي بالإنكار. يمكن دراسة كل ما ينتمي لعالم الطبيعة في الوحي من خلال المناهج العلمية لعلوم الانسان والمجتمع أو العلوم الطبيعية، لكن ما يتعلق بالبعد الغيبي في الوحي فهو بحث يقع خارج الإطار البحثي لعلوم الإنسان والمجتمع أو العلوم الطبيعية، في ضوء هذه الرؤية يناقش الدكتور عبدالجبار الرفاعي نظرية الدكتور عبد الكريم سروش في الرؤى الرسولية، حيث يرى الدكتور سروش أن الوحي عبارة عن رؤى عرضت في المنام للنبي، وللرؤى لغتها الخاصة حيث لا تخضع لقوانين المجاز والكناية، فلغة الأحلام تحتاج لتفاسير الأحلام، وبهذا ربما نحتاج للجوء لتفسير الوحي سيكولوجياً. في سياق نقده لسروش ورفضه لاعتماد مناهج البحث في العلوم الطبيعية والانسانية في تفسير البعد الغيبي للوحي يقول الرفاعي: (يمكن اعتمادُ مناهج البحث العلمي في دراسة كلِّ شيء ينتمي للطبيعةِ في القرآن الكريم، ومن العبثِ تطبيقُ هذه المناهج في اكتشاف ذات الحقائق الميتافيزيقية وما هو خارج الطبيعة، دراسةُ الميتافيزيقا وما بعد الطبيعة أحدُ حقول الفلسفة. الوحي بوصفه حقيقةً غيبية ينتمي إلى ما بعد الطبيعة، لذلك لا يصحّ تطبيقُ مناهجِ وأدوات علمِ النفس وغيرِه من العلوم في الكشفِ عن ذات الغيب وتحليلِ مضمونه ومعرفةِ حقيقته. عندما تحاول نظرياتُ علم النفس أن تفسِّر الوحيَ فإن أولَ ما تبدأ به هو نزعُ مضمونه الغيبي والنظرُ إليه على أنّه حالة سيكولوجية يعيشها النبي. أخفقت محاولاتُ اكتشاف الغيب بوسائل العلوم المعروفة، وأدخلت الإنسانَ في متاهات تبدأ بالإنكار وتنتهي بالإنكار،كمَن يحاول معرفةَ ذاتِ الله وحقيقتَه وكنهَه بأدوات العلوم ومناهجها المعروفة. يمكن التعّرفُ على شيءٍ من ملامحِ الغيبيات وصفاتِها ومظاهرِها وتجلياتِها بما تتحدّث به آياتُ القرآن. الآياتُ تتحدّث عن الغيبيات بلغةٍ رمزية، تستعين أحيانًا بالمحسوسات، بغيةَ تقريب ما لا صورةَ له بصور المادي وخصائصه وصفاته. الصورُ المحسوسة يدركها الإنسانُ عبر الحواس، إلا أنه لا يعرف حقائقَ الغيبيات وذواتَها لأنها لا صورةَ لها، وإن كان يمكن تقريبُها للذهن عبر التمثيل بالأشياء المادية). النبوة عند الدكتور عبد الجبار الرفاعي مقام وجودي يحتاج الإنسان إلى تكامل وجودي واصطفاء إلهي يؤهله لتلقي الوحي، كما تشير الآية: (إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً)، التأهيل لتلقي هذا القول الثقيل لا يمكن أن يكون من خلال الرؤى، النبوة هي الطور الوجودي الذي يكون أكمل طور وجودي ومقام وجودي يرتقي إليه الإنسان كما يرى الرفاعي.

 يؤكد الدكتور عبد الجبار الرفاعي: إن كانت عمليات إعداد قادة العسكر والفكر والسياسة تحتاج لبرامج تعليمية لسنوات طويلة، فكيف يمكن لإنسان يؤهل لمقام تلقي الوحي الذي يصفه القرآن الكريم بـ (القول الثقيل) أن يتحقق من خلال الأحلام. يقول الرفاعي: (إن كان الإنسان لا يبلغ مرتبة النبوة إلا إذا تسامت كينونته الوجودية وتحقق بكمالٍ استثنائي يؤهله لهذا المقام الإلهي الفريد، فلا يمكن أن تكون الرؤى في المنام وسيلةً لتكامله وبناءِ استعداده الوجودي لمقامٍ يؤهله لتحمل الوحي وتلقيه. تنتمي النبوةُ لذلك الميتافيزيقي/ الغيبي الذي لا صورةَ له، ولا يمكنُ فهمُه وإدراكُ حقيقتِه بمناهج وأدواتِ العلم، لأن النبوةَ ذاتُ طابعٍ وحياني. الوحيُ حالةٌ وجودية بالمعنى الأنطولوجي وليس بالمعنى المادي للوجود، تتحقّق هذه الحالةُ الأنطولوجية عندما تتكامل كينونةُ الإنسان، الإنسان المؤهل وجوديًا للنبوة هو الوحيد الذي يتلقَّى الوحي. مَنْ يرى النبيَّ كالشاعر والنبوةَ كالشعر ينفي كونَ النبوة مقامًا وجوديًا يبلغه الإنسان، الشاعرُ إنسانٌ موهوب يتميزُ بقدرته على إبداع الشعر، مرتبةُ الشاعر الوجودية هي مرتبةُ غيره من البشر. النبيُّ مثلُ غيره من الناس في حياته ومعاشه وطبيعته البشرية، إلا أن مرتبتَه الوجودية ارتقت، ولذلك اصطفاه اللهُ للنبوة).

تمييز علم الكلام الجديد عن فلسفة الدين

 يضع أستاذنا الرفاعي معياراً للفصل بين علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، المتكلم الجديد مؤمن بالوحي والنبوة، ويبحث تحت سقفهما، أما فيلسوف الدين فمن الممكن أن يكون مؤمناً أو غير مؤمن ويبحث في كل شيء بحثاً حراً من دون سقف معين. فلسفة الدين فلسفة، الفلسفة حكم العقل لا غير كما يقول الرفاعي: (‏الفلسفة تعني حكم العقل لا غير. الفلسفة مرجعية العقل في كل قضية إثباتًا أو نفيًا). وفي هذا السياق يرفض الرفاعي محاولات “أسلمة الفلسفة” ويراها ضرب من التفلسف ضد الفلسفة، يقول بصراحة: (لا يكون التفكير فلسفيًا إلا أن يقع خارج إطار المعتقدات والأيديولوجيات والهويات المغلقة. كل الأُطر المقيدة للتفكير العقلي تمارس تمويهًا بعناوين مراوغة عبر الأدب والفن، وأخطر أشكال التمويه عندما تتخفى المعتقدات والأيديولوجيات والهويات وتفرض أحكامها وراء قناع الفلسفة والعلم والمعرفة. محاولات “أسلمة الفلسفة” ضرب من التفلسف ضد الفلسفة. كتبت عن ذلك أكثر من مرة في مقالاتي ومؤلفاتي). وهذا تمييز واضح يرفع الالتباس الذي وجد مع الشيخ مصطفى عبد الرازق حيث عد علم الكلام هو الفلسفة في الاسلام، الفلسفة يفترض أن تكون بحثاً عقلياً محايداً، وعلم الكلام ينحاز لجملة من المسلمات الاعتقادية. أي فكرة ترى في الفلسفة خصوصية ستنتهي بأدلجة الفلسفة. العلم ربما ينحاز، لكن لا يمكن للفلسفة أن تنحاز.

 

استعادة المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في الكلام الجديد

غاب الإنسان عن المدونة الكلامية القديمة، وتخصصت هذه المدونة في ذات الله عز وجل وصفاته وما يتفرع عنها، ونست الإنسان الذي كُلف بأعظم مهمة في الوجود وهي الاستخلاف. علم الكلام الجديد يستعيد للإنسان مركزيته في الوجود التي اكتسبها من كونه خليفة الله في الأرض. يرى الرفاعي أنه لا تعارض بين مركزية الإنسان في الكلام الجديد مع مركزية الله عز وجل وهو رب الإنسان كما حصل في بعض الفلسفات المعاصرة، بل يكتسب الإنسان هذه المركزية نتيجة ما وهبه الله: (إني جاعلٌ في الأرض خليفة). لا يدرس الدكتور عبد الجبار الإنسان وحاجاته بمعزل عن الله كما حصل في رؤية حسن حنفي التي وصلت إلى ما أسماه الرفاعي (نسيان الله في تفسير حنفي للقرآن) فنسيان الله ينتهي إلى نسيان الإنسان (نسوا الله فأنساهم أنفسهم).

  يرى الرفاعي ان اخراج الدين من حدوده الأنطولوجية وترحيله لحدود أيديولوجية انتهى إلى نزع المضمون الروحي والأخلاقي والجمالي للدين، وتحويله من وسيلة لإنتاج المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي إلى أداة أيديولوجية يصبح فيها وسيلة للوصول إلى السلطة والثروة. هذا الترحيل من الفضاء الأنطولوجي للفضاء الأيديولوجي رصده علم الكلام الجديد، لذلك يبحث عن سبيل لاستعادة الدين إلى فضائه الأنطولوجي ليكون حسب تعريف د. الرفاعي: “الدين حياة في أفق المعنى، تفرضه حاجةُ الإنسان لإنتاج معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية”. ويشتق الرفاعي “من ‏هذا التعريف كل شيء يكتبه ويقوله عن الدين”. في كتابات الدكتور الرفاعي إنقلاب مضمر مستتر على تيارات فكرية معاصرة، أخرجت الدين من دائرة الأنطولوجي إلى دائرة الأيديولوجي، فأخضعت النصوص القرآنية لمقولاتها الخاصة، وأصبح النص ينطق عندهم بما تتضمنه مقولات مثل “الحاكمية” ، “بناء فوقي وبناء تحتي” ، “ديالكتيك صاعد هابط” والخ، من مقولات إسلامية مختلطة بماركسية أُلبسب على النص، لذلك أخذ الكلام الجديد عنده مهمة إعادة الدين لفضائه الأنطولوجي ليكون منبعا للمعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في الحياة. يشدد الرفاعي على أن “أي معرفة لا يعرف فيها الدين حدوده فهي معرفة غير منتجة”.

العقلية الكلامية القديمة

   لم يستطع أكثر من يكتبون في الدين الخروج على العقلية الكلامية القديمة، والتفكير بآفاق علم الكلام الجديد.كتابتهم تولد فجوة عميقة بين جيل نشأ على كتابات صنعت متخيلهم نحو الحياة والمختلف في المعتقد وبين جيل الشباب المسلم.كتابات تضع الذات في قفص وهاجس “الهوية”، ككتاب (جاهلية القرن العشرين)، تضعهم مقابل الجيل الجديد من أبناء الإسلام، الذي لا يُغذي متخيله هذه الكتابات بل إشتق له طريقاً آخر. لا تفضيل لمتخيل جيل على جيل آخر، فلكل جيل خصوصيته التي أحترمها. شعر جيلٌ كامل بالخيبة، آمن تارةً بحلم الدولة الوطنية، وتارة بشعارات ناصرية قومية، ثم بالخيبة الكبرى بدولة الإسلام السياسي، التي سجنت إيمانه بقفص “الأيديولوجيا” وفشلت ببناء الدولة. غذت متخيله كتابات العقلية الكلامية القديمة بمصطلحات لا وجود واقعي لها: (كالجيل القرآني الفريد، والعزلة الشعورية عن المجتمع، والدولة الإسلامية، والجاهلية، والنظام الإسلامي، والخ). صدمات متتالية وتجارب باءت بالفشل، جعلت كثيرون يرون في نصوص جلال الدين الرومي ملاذاً، حيث لا قفص للإيمان، ولا كراهية للآخر، طريق الإيمان لديه هو طريق الحب. ما الضير في هذا، أيُلام جيل تحمل صدمات الفشل المتكررة التي زعزت كل شيء عنده، ثم لجأ للكنوز الروحية حفاظاً على المعنى الذي يتولد عنده من الإيمان. ينزعج البعض من الاهتمام المعاصر بشخصيات كالتوحيدي والرومي وابن عربي أكثر من الاهتمام بأبي حامد الغزالي وابن تيمية. الاهتمام بالتوحيدي والجاحظ ومسكويه وابن سينا وابن رشد وابن طفيل يفوق الاهتمام بالغزالي وابن تيمية والإمام الشافعي، هذه حقيقة لا يمكن إنكارها. لماذا هذا الانزعاج من تحول الاهتمام بشخصيات معينة إلى شخصيات أخرى؟ العقل الإسلامي تغذى على كتاب تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي ونسوا كتاب تهافت التهافت لفيلسوف قرطبة ابن رشد. لم نقرأ نزعة الأنسنة عند الجاحظ والتوحيدي ومسكويه، حتى قدوم الفيلسوف محمد أركون ليحيي هذه النزعة ويقدمها لنا. إن الاهتمام الحالي في جيلي بالشخصيات المعاصرة كالجابري وأركون ونصر حامد ابو زيد وناصيف نصار ومحمد إقبال وفضل الرحمن وعبدالجبار الرفاعي يفوق الاهتمام بالندوي والمودودي وسيد قطب ومحمد قطب وأبو يعرب المرزوقي وطه عبد الرحمن. ينتمي كل جيل منا لكتّابه الذين يخاطبون عقليته ويعرفون احتياجاته. لن نحاكم ما تقرؤون، ولا تحاكمون ما نقرأ، قد وُلد كلٌ منا لزمان مختلف وتحدياتٍ ورهاناتٍ مختلفة.

وأخيراً هذه جهود مهمة، سيكون لها نتائجها في يوم ما، وعلينا ألا نظلمها ونحملها فوق طاقتها، فما زال الفكر الكلامي الجديد لم يتجاوز المئة وخمسين عاما، ويحتاج إلى وقت للتبلور والنضوج مثله مثل أي علم آخر. شكراً لأستاذنا الدكتور عبد الجبار الرفاعي على هذه الرحلة الممتعة في هذا الكتاب الرائع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى