المقالات

الوعي البيئي في المنظور القرآني

المقدّمة

        لا مراء في أنّ الإنسان هو سبب المشكل البيئي. ولذلك اهتمّ القرآن بشكل مباشر بصلاح النّفس البشريّة وإصلاحها. والمهمّ أنّ فهم مكوّنات البيئة وسبر أغوار العلاقات القائمة بيْن أجزائها هو المعبر الجوهري للحفاظ على المحيط باعتباره مجالا حيويّا. فلا مناص من اخضرار العلوم وتعميقها. وقد ظهر علم النّفس البيئي والاقتصاد البيئي والتّاريخ البيئي، وكذلك اللّاهوت البيئي وغير ذلك من الاختصاصات العلميّة الحاملة لهموم الفضاء الإيكولوجي.

إنّ اللّافت في العصر الحديث هو عدم التّوازي بين سرعة التّطور في المجالات العلميّة وبطء العناية بالمحيط المتضمّن للإنسان والحاوي لحياته حيث تعمّق البوْن بين الذّات والموضوع، وبيْن الإنسان والبيئة، وعوملت الطّبيعة على أنّها عدوّ يجب تسخيره واستعباده، والسّيطرة عليه كما عمل الفكر الغربي على تكريسه. وهذا مجال واسع للنّقد الّذي يخوّل صناعة حضارة تنشد التّآلف والتّكامل بين المخلوقات جميعا: إنسانا وطبيعة بما فيها من مكوّنات حيوانيّة ونباتيّة، حيث التّرابط المستمرّ بيْن كل ضروب البقاء  الخاصة بكلّ مخلوق في علاقة منسجمة، بين الأرض وكافة الأجرام والمجرّات. وقد احتفى القرآن، بشكل واضح، بالطّبيعة ومكوّناتها وحرص على التّوازن بينها، بالقدر الّذي اعتنى فيه بالأرض وما عليها من كائنات حيّة ما يؤكّد تضمّن القرآن الكريم فلسفة بيئيّة متكاملة الجوانب والعناصر، عمادها مجانبة التّبذير في الاستهلاك وعدم غلّ اليد إلى العنق. وفرضيّة هذا البحث تنهض على أنّ القرآن الكريم يتضمّن وعيا بيئيّا حادّا يروم تعمير الأرض بما ينفع الحرث والنّسل والبلاد والعباد. ويرسم علاقة الفرد بالطّبيعة من أجل تنفيذ المقاصد الأساسيّة من الوحي النّازل من السّماء لتنظيم الحياة الإنسانيّة بكلّ جزئياتها حتّى ينمو التّاريخ في حركة ذات اتّجاه تصاعدي. وذلك شرط النّجاة الجالب للسّعادة والازدهار. قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ”.[1] وسيجنح هذا البحث إلى توخّي المنهج التّفكيكي البنائي لبلورة العمليّة التّحليليّة الخاصة بمظاهر هذا الوعي في المصحف الشّريف وآثار فقدان هذا الوعي في المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

1 البيئة في الفضاء القرآني

يغلب الظّن لدى البعض أنّ المذهب البيئي له مستقر ضارب في الحداثة، ولا سيّما في العصور المتأخرة. ولكن المحافظة على البيئة ظاهرة ضاربة بجذورها في القدم، قدم الوجود الإنساني. وقد عمل الوحي عبر التّاريخ على تقوية الوعي إزاء المحيط الطّبيعي، باعتباره معطى مخلوقا لصالح الإنسان خليفة الله على أرضه. وهو ما استوجب أخلاقا بيئيّة تحترم النّواميس الكونيّة، وتستفيد منها. فالطّبيعة ببيئتها المتوازنة أهدت الإنسان إلى اكتشاف النّار قال تعالى:” الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا”.[2] والطّيور بما هي عنصر بيئي فعّال أهدى الإنسانيّة إلى الضّرب في الأرض سعيّا وهجرة. وربّما علّمته الدّفن المتعلّق بالموتى. وكلّ ذلك خطوات حضاريّة عملاقة حوّلت الإنسان من مرحلة إلى أخرى ما يؤكّد على السّياسات القائمة المزيد من العناية بالبيئة عبر وضع برامج ملائمة لذلك، لكبح التّلوث وحفظ الموارد البيئيّة.

 وإزاء كلّ هذه العطايا أُمر الإنسان بالبرّ عامّة إزاء الوالديْن والآخرين والطّبيعة. ومن ثمّ توجّب على المدارس والمؤسّسات التّربويّة إشاعة الثّقافة البارة بالمحيط والبيئة، إذْ أنّ شخصيّة المرء تتطوّر في سياق الاستجابات للأطر الفكريّة السّائدة. وهي الّتي تضطلع بتوفير الانسجام معها. فالحضارة اللّاماديّة وحدها هي الّتي تدافع عن الطّبيعة وما فيها من خيرات. والملاحظ أنّه كلّما صفت البيئة من ضروب التّلوث، أضحت هذه الخيرات أكثر صحّة وأكثر إفادة للإنسان.

إنّ القرآن في تبغيضه للتّبذير طبقا لقوله:” وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا(26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ”.[3] وفي تحريمه للإسراف كقوله تعالى”: “أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ”.[4] يلفت الانتباه إلى ضرورة الاعتدال في الاستهلاك وضبط الحدود المعقولة للتّصرّفات، وهوما يستوجب مسؤوليّة إضافيّة على المنظومة الثّقافيّة السّائدة، إزاء البيئة والمحيط.

إنّ القرآن، إذْ يشجّع على الفضائل، فإنّ البرّ بالطّبيعة هو أهم الفضائل الّتي تعترف بحقّ الوجود في أجلّ مظاهره، عبر تجاوز المصلحة الذّاتيّة الضّيّقة، إذ البيئة هي الإطار العام الحاوي للمصالح المشتركة. فالمرء المسلم الورع ينظر إلى الطّبيعة كشيء  مخلوق من اللهّ. فالكون بأسره خلقه الله وإليه يعود. وعليه، فإنّ توقير الطّبيعة وتحييدها عن النّزوات والرّغبات الجامحة الضّيقة هو الّذي يحيل على استنباط طريقة في العيش مع بيئة كانت قبل الإنسان وبعده. ومن ثمّ وجب عليه إبداء تواضع لائق بهذا المحيط المسخّر للإنسانيّة جمعاء، بشكل يعبّر عن الرّحمة الإلهيّة الفائقة. ويزداد هذا التّواضع تعمّقا عند شعور المرء أنّه بدوره مخلوق كالطّبيعة تماما.

  إنّ الّدين يقتضي الحياة طبقا للطّبيعة على حدّ عبارة ت س اليوت. فالحياة ضمن الطّبيعة، وما وراء الطّبيعة، طريق واحدة موصلة إلى الخالق. وهذا التّصوّر يقضي بصورة قاطعة على مقولات استغلال الطّبيعة والهيمنة عليها والصّراع معها. وفي حقيقة الأمر هذا التّعامل هو عبارة عن الإثم إزاء الطّبيعة. والإثم هو نقيض البرّ.

إنّ الطّبيعة كائن مقدّر من الخالق ومصداق ذلك قوله تعالى:” إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ”.[5] وقد سخّرها الله للإنسان. ومقولة الإخضاع لهذه الطّبيعة تكشف مظاهر التّعدّي على البيئة كما تعني شنّ الحرب بصورة غير لائقة ولا معقولة.[6] وهذه العلاقة المتوتّرة تنمّ عن عقوق للطبيّعة. وهو دليل على عقليّة ماديّة تفضي إلى تعامل ضار مع الطّبيعة، يتجلّى في قطع  الأشجار وإبادة الغابات عبر تفجير المناجم.

إنّ الخطاب القرآني شديد الوضوح في الحثّ على المحافظة على البيئة باعتبارها واجبا دينيّا وأخلاقيّا، وما ذلك إلاّ حفاظ على خيرات الطّبيعة. وقد قال الله تعالى بشكل واضح في كتابه العزيز: “كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ”.[7] فالدّقة المذهلة الّتي أودعها الله تعالى في الكتاب التّكويني تعود بالنّفع العميم على الإنسان، إذا سبح وفق القوانين الإلهيّة الّتي أودعها الله في الكون. وأمّا إذا عارضها فإنّ نظام الحياة هو الّذي يختلّ. وعندئذ يعود الويل على الفرد الّذي عاكس السّنن. ولا أدلّ على هذه الدّقة الفائقة من قول اللّه تعالى:” وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ”.[8] ففائدة الإنسان تتحقّق عند الاهتداء بالسّنن الإلهيّة والنّواميس الّتي تتحكم في الظّواهر. وانظر إلى اكتمال الخلق فيما أبدعه الله أحسن الخالقين قال تعالى:” الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ”.[9]

وأي عدوان أكبر من طمس معالم الطّبيعة الّتي جعلها الله عطاء موفورا؟ والدّليل على ذلك قوله تعالى: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ”.[10]  ففي الفضاء البيئي يتمّ الأكل والشرب والغرس والحرث والبناء وسلك الطّرق البريّة والبحريّة والجويّة لتذليل المسافات وبلوغ الحاجات مهما تباعدت الأقطار والبلدان. فالمطلوب، حينئذ، هو إنشاء العمران وإفشاء السّلام وتعميم الصّلاح، تقول الآية: “وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ”.[11] وليس خافيّا أنّ الله قد توعّد بوضوح الّذين يخربون الطّبيعة ويفسدون قوانين البيئة. تقول الآية:” سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ”.[12] ولا غرو في ذلك فالله قد اصطفى آدم ونفخ فيه من روحه وفضّله على الكائنات كلّها وعلّمه الأسماء.

 وليس خافيّا، أنّ في القرآن إشارة بالغة الأهميّة تتعلّق  بالإنسان الّذي يتحمّل المسؤوليّة في إفساد الجمال الطّبيعي والفضاء البيئي عن طريق التّلوث. وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى:” ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.”[13]  فالمطلوب حينئذ هو المحافظة على التّوازن المناخي. ولعلّ من أهمّ المشاكل المنجرّة عن اختلال هذا التّوازن هو الانحباس الحراري. وما في ذلك من مخلّفات سلبيّة على الزّراعة والتّنميّة الاقتصاديّة بصفة عامة.

إنّ الله قد خلق الأرض وجعل لها أغلفة من قبيل القشرة والوشاح واللب والغلاف الهوائي والغلاف المائي والغلاف الحيوي. وجعل فيها جاذبيّة قال تعالى: “أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وأَمواتًا”.[14] كما جعلها مهادا وقرارا وفراشا وبساطا كما قال تعالى: “وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ”.[15] وكذلك الآية:” أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا “.[16] وجعل فوقها السّماء سقفا محفوظا وبناه تعالى بدقة عجيبة بما فيها من أجرام ونجوم قال تعالى: “هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ « .[17] كما قال أيضا: “وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”.[18] 

إنّ النّصّ القرآني مفعم بفلسفة إنسانيّة شديدة الانسجام مع المحيط البيئي، تفيض على الطّبيعة بالرّحمة. فالجبال تسبّح  مع النّبي داوُد ومصداق ذلك قوله تعالى:” وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ”.[19] وفي آية أخرى: “إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ”.[20]

ومعنى ذلك أنّ الطّبيعة محكومة بالقانون الإلهي الّذي أودعه فيها. فالعلاقة الرّابطة بين الإنسان والطّبيعة علاقة حميميّة تشهد بتوحيد اللّه وتُسبّح بحمده. إنّ الأخلاق القرآنيّة البيئيّة تنبع من جوهر الإيمان. وتتجلّى في العمل الصّالح. وقد ربط القرآن الكريم ربطا متينا  بين الإيمان والعمل الصّالح، وهو إجراء ينقض المنطق الحضاري الّذي كان سائدا فيما سبق من الحضارات القديمة، حيث كان العمل يمثّل مهانة وهوانا. ولذلك أُسند إلى العبيد الّذين يُعتبرون جنسا من نوع متدنّ. واقتصر النّبلاء والفلاسفة على الأعمال النّظريّة والمحترمة.

لقد كرّر الخطاب القرآني إحدى وخمسين مرّة الآيات الّتي تربط بين الجوانب الإيمانية والجوانب العمليّة. وهذا العمل الصّالح يشمل العناية بالعناصر الطّبيعيّة كلّها من قبيل النّبات والحيوان والأشجار والكلاب والخيول والحمير والبغال والأنعام واللّحم الطّري في البحر وكلّ المنظومات البيئيّة. يقول تعالى: “ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ”.[21]

إنّ هدف هذه الرّؤية البيئيّة القرآنيّة هوّ بناء الذّات المنسجمة مع نفسها ومع بقيّة المخلوقات باعتبارها شاهدة على العظمة الإلهيّة إذ الله سبحانه هوّ الخالق البارئ المصوّر. ومن ثمّ ينبع العمل على إزالة الألم عن كلّ مخلوق لأنّ إحداث الألم شرّ وإثم يعرّضان مرتكبهما لغضب الله وعذابه. وحتّى عمليّة الذّبح محفوفة بمحدّدات كمضاء الشّفرة والسّرعة في جرّ المُدية لإراحة المذبوح. وما ذلك إلاّ احترام للحياة القائمة في الحيوان. ومثل ذلك يكون التّعامل مع النّباتات باعتبارها كائنات طبيعيّة ذات قيمة أصليّة واعتباريّة.

إنّ الاستهجان الخُلقي عمل منبوذ في المنظور القرآني، لذلك نجد توكيده على الصّلاح والإصلاح، كأن لا تُقطع الأشجار أو أن تُحرق أو أن تُعذب الحيوانات. وهي شمائل يتحلّى بها المؤمن إعلاء للمثل البيئيّة الدّالة على سلامة المعتقد ونبل الأخلاق وإحكام السّلوك.

إنّ الأخلاق الدّينيّة تحتوي على منظومات فرعيّة متفاعلة فيما بينها، في مجالات السّلوك الاجتماعي والبيئي. وهذه الأخلاق القرآنيّة ضاربة في الفطرة السّليمة، فالمؤمن لا يفعل بالطّبيعة ما يشاء. وإنّما يفعل ما ينبغي انسجاما مع النّواميس الطّبيعيّة نفسها. وهي الأخلاق البيئيّة العليّا الّتي تعتبر ركنا ركينا في مجال الاستخلاف.

وعلى خلاف المنظور القرآني، يجد الدّارس أنّ الفلسفة الليبراليّة تعتبر أنّ المرء قادر على أن يفعل ما يشاء بشرط أن لا يُؤذي الآخرين وأن لا يؤذي نفسه على نحو يتعذّر تداركه. [22] 

إنّ الجدير بالملاحظة، هو أنّ احترام الطبيعة في الفضاء القرآني يدلّ على التّوازن المراد تحقيقه في إطار أخلاقي استخلافي كقيمة أساسيّة وحيويّة لأنّ الإطار البيئي الملائم يُساهم في إحياء الإنسان كقوله تعالى:” مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ”.[23]

 ولمّا كانت الحياة درجات، فإنّ خير أنواع الحياة وأفضل أشكالها أن تتركّز حيويّا في إطار بيئي مناسب للنّمو بشكل سليم وصحّي. والخيريّة الّتي يغرسها القرآن الكريم في النّفوس تجعل الحياة حلقات مترابطة من الأعمال الصّالحة إزاء الحيوان وكل الأنواع الحيّة، فخير النّاس هو أنفعهم لغيره، قال تعالى:” وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”.[24] ومن مظاهر الصّلاح أيضا  تجنّب الأفعال الّتي تؤذي الأشجار كالتّحطيم بالجرّافات والإحراق بالنّار. وهكذا يتمّ إعاقة النّمو الطّبيعي للغابات الّتي تهب الثّمار والاخضرار والهواء الصّالح للتّنفس. ومن ثمّ يتمّ بتر عضو مهم في الطّبيعة من شأنه أن يعود بالخيرات على الطّيور والحيوانات والإنسان والتّربة.

إنّ المؤمن الّذي يتبنّى الأخلاق البيئيّة ويحترم الطّبيعة، يُوطّد الوعد الخُلقي على نفسه اعتبارا أنّ هذه القيم إلزاميّة نابعة من إيمانه. وينظر إليها كأشكال مشخّصة للعمل الصّالح والسّلوك السّوي إزاء الطّبيعة.[25]

إنّ الرّؤيّة القرآنيّة إزاء الطّبيعة تقوم على احترامها والاستفادة المشروعة منها. فالنّظام الّذي تحتكم إليه الطّبيعة وتسير وفقه نظام متوازن وفيه تتحقق الوظائف البيولوجيّة لكلّ كائن[26]. ولمّا كانت الدّنيا مزرعة للآخرة، فإنّها تمثّل، إلى جانب ذلك، المجال الّذي يُختبر فيه النّاس في المسألة الايكولوجيّة إثباتا للمفاضلة الأخلاقيّة في هذا المجال، ولا  سيّما أن الكثافة السّكانيّة الّتي شهدتها الأرض والطّفرات العلميّة الّتي جاءت بالمحرّكات والآلات. فالمرء يجد نفسه أمام نفعيّة الاقتصاد من جهة، وإزاء الوصايا الدّينيّة المتعلّقة بتغليب المصلحة العامة من جهة أخرى. وهذه الوصايا تقتضي الاعتماد على أخلاق الأرض باعتبار أنّ الأرض كوكب أشبه بالسّفينة الّتي تُقلّ ركابا، إذا غرقت، فإنّ البلوى تعمّ الجميع.

لقد احتاجت الإنسانيّة قرونا طويلة للانتباه إلى التحديّات البيئيّة، إن في المستوى النّظري أو في المستوى العملي، حتّى تتوصّلت إلى بلورة منظومة أخلاقيّة تعرف بأخلاق الأرض. وقد انتبه الفلاسفة في العصر الحديث إلى مركزيّة الحياة الايكولوجيّة. كما انتبهت إلى ذلك مراكز البحث العلميّ العديدة. وتبنّت منظمة الأمم المتحدّة ضرورة الحفاظ على البيئة السّليمة. فكثرت التّحذيرات على الكرة الأرضيّة نظرا لتدخّل الإنسان في خلخلة التّوازن البيئي. فالحاجات البشريّة المتزاحمة، وانفجار الثّورات الصناعيّة وتشعّب الحياة الاقتصاديّة جعل مقوّمات الحياة تحت وطأة التّهديد بتحويل الطّبيعة إلى مجال غير صالح للعيش. وأمام هذا الخطر الدّاهم تهاطلت التّشريعات من أجل المحافظة على النّظام البيئي.[27] وهو ما دعا إلى إحداث الثّورة البيئيّة حيث تمّ الانتقال من المركزيّة البشريّة إلى المركزيّة الايكولوجيّة.[28]

وفي إطار هذه الثّورة وقعت مراجعة العلاقة مع الطّبيعة. فما عاد للكبرياء البشري القائم على الاستغلال المكانة الأولى، وإنّما وجب أن يحلّ محلّه الاشتراك مع الطّبيعة، والتّفاعل معها إيجابيّا من أجل تفادي الكوارث البيئيّة الّتي تكون ضحاياها بالجملة. وقد ذهب  ج. تايلر ميلر،  في هذا الإطار، إلى اعتبار أنّ” الثّورة البيئيّة ستكون الثّورة الأكثر شمولا في تاريخ الجنس البشري. إنّها تتضمّن تشكيكا في وتحويلا إلى كلّ منظوماتنا أو قواعدنا الأخلاقيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والنّفسيّة والتّقنيّة”.[29] وذلك ما يدعو إلى تسليط الضّوء على المخلّفات البيئيّة في حياة الإنسان.

2 الآثار البيئيّة

        تتعدّد الآثار الّتي تخلّفها العناصر البيئيّة في الحياة الإنسانيّة في جميع مستوياتها. وهذه الآثار تتمتّع بخطورة بارزة سواء كانت البيئة سليمة أو ملوّثة. ولعلّ من أهمّ هذه الآثار ما يظهر في المجاليْن الاقتصادي والاجتماعي:

*المستوى الاقتصادي

إنّ الاقتصاد، مرتبط شديد الارتباط بسلامة المحيط البيئي. فالغاية الّتي أولاها القرآن إلى عدم السّعي بالخراب في الأرض تهدف إلى إفادة الحرث والنّسل، ومصداق ذلك قول الله تعالى:” وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ”.[30]  وفي الحالة الّتي يمتثل فيها الإنسان إلى المقاصد القرآنيّة تكون الغابات سليمة. والمراعي لا تعاني من الجوْر. والسّواقي والجداول والأنهار جارية بالمياه المتدفقة فيها. وعندئذ تهب الأرض خيراتها المتسببّة في الرخاء ووفرة النّعيم الّذي يصاحب سلامة الماء والهواء.

 إنّ النّفع المنوط بالفرد المسلم يقتضي تنظيف البيئة كتجميع مخلّفات الزّجاجات والمعلّبات من أجل تدويرها تجنّبا للمواد الخطرة والسّامة.[31]

وإذ شهد العالم في الفترة الأخيرة ارتفاعا حراريّا، فإنّ مستوى سطح البحر قد ارتفع ما يناهز خمسة عشر سنتمتر. والمهمّ أنّ ذلك كان مدعاة للتّغيّرات الخطيرة، في المجال الاجتماعي والاقتصادي كانتشار خطوط العرض المناخيّة للأرض، وتزايد انحسار التّربة، وتآكلها وارتفاع درجات التّسحّر وتآكل الشواطئ. وهكذا تتقلّص المنتوجات، علما بأنّ ارتفاع درجات الحرارة يسبّب انتشار الأمراض المختلفة. ففساد الهواء يؤدّي إلى فساد الحرث والنسل ويلحق الآثار السالبة بثروات البرّ والبحر والفضاء. وقد صدق الله حين قال:” وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ”.[32]

إنّ القرآن يشير، في كثير من المواضع، إلى أنّ الله أرسل الرياح وأجرى السّحاب وأنزل الماء العذب الزلال، وأنزل الرّزق من السّماء وخلق من كلّ نوع زوجيْن، وجعلها للأنام جميعا.

إنّ الدّين يحذّر الإنسان من أن يحيد عن الصّراط المستقيم الّذي هو جملة القيم الإنسانيّة العليّا حتّى لا تتحوّل هذه النّعم إلى سموم وغازات قاتلة. ولا غرو في ذلك ، فحرب النّجوم والأقمار الصناعيّة الموظّفة للجوسسة الحربيّة هي أبرز علامة دالة على هذا الحيْد. وعليه فإنّ الإنسانيّة تذوق الويْلات، يوما بعد يوم، ضريبة تخزين النفايات النّوويّة، وتسرّب الغازات الكيمياوية ضدّ الخصوم والمعارضين.

إنّ المحافظة على البيئة ومواردها فصل مهمّ من تحملّ الإنسان للأمانة في تعمير الأرض والاستفادة من ثرواتها. والأجيال، في مختلف الأزمنة، مطالبون بتثمير هذه المعادن والموادّ الأوليّة، وكل عناصر الثّروة الباطنية والمائيّة من أجل توفير الرّخاء للأجيال المستقبليّة. فالتّنميّة المستدامة توجد بدائل ملائمة لضمان فضيلة التّعامل السّلمي مع البيئة. وذلك يتمّ عبر تركيز الدّراسات المختصّة والمعمّقة.

إنّ التّغيّر المناخي إذا لم يرصد ويُدرك بطريقة علميّة، يتسبّب في ضياع الثّروات ويجعل بعض الأنواع تنقرض. وتنجرف التّربة الصّالحة للزراعة. والمهمّ أنّ الحفاظ على الطّبيعة ينبع من الفضاء المقدّس لصون التّنوع الحيوي. فثمّة واجبات أساسيّة ومسؤوليّات تتمثّل في عدم الإضرار بالخليقة، لأنّ ذلك شرط وفرة الإنتاج وسلامة المنتوج.

إنّ المشكل البيئي، حينئذ يظلّ هو المشكل الأصلي لسلامة المجتمع في كلّ المستويّات الاقتصاديّة والصّحيّة والسياحية والثّقافيّة والأخلاقيّة. وهذا الرصيد المعنوي من الواجب تعميقه لدى أقطاب الصناعة والسّوق الحرّة. وهم المتسبّبون في الغالب في عمليّة التّلوث. وما من شكّ في أنّ الضّوابط المقاومة لهذا الدّاء الضار بالمحيط من واجب الحكومات الوطنيّة الّتي تخصّص ميزانيّة كافية لتنفيذ البرامج اللّازمة في أرض الواقع المعيش. فالعودة إلى الطّبيعة حاجة إنسانيّة ماسة من أجل التّجدّد الرّوحي والإبلال من ضغوط الحداثة  وحمّى الحياة المدنيّة[33].

إنّ عددا مهولا من الشّركات قادر على تجريد كوكب الأرض من الحياة ومن القدرات الحيويّة الصّالحة للاستمرار بمفعول تدهور بعض المنظومات الصّحيّة والمناخيّة والسّعي الرّديء في الحياة كالاستهلاك الخاطئ أو التّبذير المضاد للسلامة الإيكولوجية[34] المتسبّب في التّدهور البيئي.

وعلى هذه الشّاكلة تبدو المسألة البيئيّة مرتبطة بالوعي الإنساني بما يمكن أن تُلحقه الصناعة بالمحيط. فالأخلاق هي الملاذ  الآمن لتوفير التّنميّة المستدامة عبر المنظومات الخضراء إنْ في المستوى الصناعي أو البيولوجي. ومن ثمّ يتمّ خلق عالم متطوّر يوظّف كلّ طاقاته لحماية الإنسانيّة عبر حماية البيئة بالصناعات النّظيفة والجميلة، فالطّاقة البديلة والاستفادة من حرارة الشّمس يريح البشريّة من عديد الكوارث المحقّقة.

ولقد سعى القرآن إلى ترسيخ الإطار الأخلاقي والقيمي الّذي إذا تمّ تركيزه ضمِن سلامة المنظومة البيئيّة. وهذه القيم، وحدها، تحول دون تدمير الطّبيعة والإنسانيّة. وبالإعراض عن هذه القيم يلاحظ المرء التّعارض بين النّظام الدّوري للطّبيعة والنّظام الخطّي للصّناعات. وهذه الخطّية تبدو في البدء من تناول المواد الأوليّة ثمّ تحويلها ثمّ طرح النّفايات. ولو تمّت محاكاة النّظام الدّوري للطّبيعي، عبر رسكلة الفضلات وتدويرها، لنقصت الأخطار البيولوجيّة[35]. ولو رُسّخت منظومات الإنتاج الذّكيّة لتسنّى للحماية البيئيّة أن تتطوّر وتنمو بشكلّ طبيعي فضلا عن التّفكير الجاد في إحداث برامج للحفاظ على البيئة مثل “العلب الّتي تتحول إلى فضلات متحلّلة أكثر نفعا بما لا يُقاس، من النّاحيّة البيولوجيّة، من العلب الّتي تحول إلى مقاعد بلاستيكيّة في الحدائق. ومهما يكن ذلك بدعا، فإنّ التّصميم من أجل التّحلّل والتّعفن، وليس إعادة التّدوير، هو أسلوب العالم الطّبيعي من حولنا”[36].

        لقد اهتمّ القرآن الكريم بعنصر الماء اهتماما بالغا باعتباره سرّ الحياة. وهو الّذي يُحيي الإنسان والنّبات والحيوان. ولذلك يلفي الدّارس في الحالة المضادة أنّ الماء الملوّث يقتل مئات أضعاف ما تقتله أشكال التّلوث الأخرى مجتمعة. وضحايا التّغذيّة غير السّليمة أكثر من أن يُعدّوا، علما بأنّ الأموال الكثيرة تنفق على صناعة الأفلام أو السّيارات أو الطّائرات، ولا توظّف في المشاريع البيئيّة الّتي تعود بالمنافع المستدامة لصالح الفقراء والأجيال القادمة. وشبيه بذلك يلاحظ المرء تلوث التّربة وفساد المياه بالكيماويات وتعكّر الهواء وضرر طبقة الأوزون وانقراض أنواع حيوانية كثيرة وإزالة الغابات الشّاسعة لصالح زحف العمران. والمذهل، في كلّ ذلك، أنّ الحلول المقترحة من مراكز علميّة عديدة لإنقاذ البيئة عادة ما تواجه بالتّهميش واللامبالاة تحت وطأة السّياسات الليبراليّة والرأسماليّة. ولعلّ اللّيبراليّة الاجتماعيّة هي المؤهلة أكثر من غيرها للعناية بالحقوق البيئيّة عبر إرساء سياسات عامة في الاتّجاه الايكولوجي. وإذا كان جوهر النّظام الليبرالي هو احترام الحقوق، فإنّ للإنسان حقّا وللحيوانات حقّا وللنّبات حقّا في سلامة الماء والهواء والتّراب. فالمجتمع العادل هو الّذي يصون الحقوق وينهج مسارا سياسيّا متوازنا لا تدمّر فيها البيئة ولا تحطّم فيها الحياة.

        إنّ الاقتصاد العالمي المعولم القائم على التّراكم يُساهم في  المزيد من التّفقير وتعميق الأزمة البيئيّة، فالأزمة المصاحبة للعولمة الاقتصاديّة تساهم في انتشار البطالة بالقدر الّذي تُحطّم فيه البيئة. وتوسّع من أزماتها. والنّتيجة أنّه لا عدالة اقتصاديّة ولا اجتماعيّة ولا بيئيّة.

*المستوى الاجتماعي

        إنّ البيئة مجال ذو أوجه عديدة مثل البيئة الزّراعيّة والصّناعيّة والصّحيّة والسياسيّة والثّقافيّة. ونروم الإشارة في هذا المجال إلى البيئة الاجتماعيّة وما للمحيط البيئي المعيش من آثار في المناخات الحياتيّة الاجتماعيّة ومجالاتها. إنّ الإنسان كائن متحيّز في المكان والزّمان اللّذيْن يعيش في إطاريْهما. والمقصود بالمكان في هذه الحالة هو الأرض. فلا بدّ له أن يوجد في فضاء سليم. ويجب على المرء أن يحافظ عليه ليضمن سعادته وصحته.

 وإذا كانت البيئة الطّبيعيّة تتكوّن من نظم مترابطة شديدة التّرابط. وهي الغلاف الجوي والغلاف المائي واليابسة والمحيط الجوي بما في ذلك من هواء وتربة ومعادن ونبات وحيوان، فإنّها بمثابة الموارد الأساسيّة الّتي خلقها اللّه تعالى للإنسان ليستفيد منها كلّ الاستفادة: الدّفء في المأوى، وفي الكساء. والتّغذية في منافع الأكل والشّرب وتناول الدّواء. وبذلك تستقيم الحياة بدءا من الجوانب البيولوجيّة وصولا إلى مستوى الانتظام الاجتماعي في بيئة متآلفة البُنى. وعندئذ يمكن الحديث عن تعمير الأرض وبناء بيئي اجتماعي وفق نظام محدّد. ومن ثمّ يتحقّق الإنجاز الحضاري، إنْ مادّيّا وإنْ معنويّا.

وإذا كانت البيئة على هذه الأهميّة، فإنّ الإنسان فردا كان أو جماعة مدعوّ إلى الحفاظ على هذه البيئة لأنّ الكائنات الحيّة إذا تلّوثت اختلّ النّظام البيئي وانعكس ذلك على حياة الفرد والجماعة، كتسرّب الجراثيم في الأوساط الاجتماعيّة، فتنتشر الأمراض عبر الفيروسات الفتّاكة المنطلقة في أسسها من انعدام النّظافة والحال أنّ القرآن داع بقوّة إلى الطّهارة الماديّة والأخلاقيّة ومصداق ذلك قول الله تعالى:” إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ”[37]. ولو تطهّرت الضمائر لدى النّاس، لما هُدّد النّظام البيئي بانتشار الغازات والسّموم والأسمدة والمواد الكيماويّة ما يُؤدي إلى انقراض السلاسل الغذائيّة. لقد ظنّ الإنسان أنّه يستطيع استبدال العلاقات الطّبيعيّة القائمة بين العوامل البيئيّة بعوامل اصطناعيّة، فتصادم هذا  الإجراء مع القوانين المنظّمة للطّبيعة، فتكلّس العطاء من الأرض وتعطّلت الأغذيّة البيولوجيّة، وحلّت محلّها الأغذية الكيميائيّة الفتّاكة بصحة الإنسان.

        إنّ الفضاء بدوره لم ينجُ من المركّبات العضويّة والغازات. ولم يكن حاله بأحسن من حال التّربة. فلم يعدّ الهواء نقيّا. ولا ظلّ الماء صافيّا. فعاد كلّ ذلك بالنّتائج السّلبيّة والوخيمة على الحياة الاجتماعيّة. فتزايدت الأمراض وارتفعت نسبة الوفيات. ولعلّ أهم الحلول تكمن في الإدارة الرّشيدة للغابات والمراعي والأراضي الطّبيعيّة والزّراعيّة من أجلّ مكافحة التّلوث البيئي عبر تأسيس مراكز علميّة مختصّة الّتي من شأنها إنجاز الدّراسات المعمّقة في الغرض. وهكذا ينمو الوعي البيئي وتتجذّر الأخلاق الدّاعمة للمحيط. وهذا الهدف من أكبر المقاصد القرآنيّة الرّاميّة إلى بناء مجتمع سويّ تكون فيه كلمة الله هي العليا حيث تكون الصّحة البشريّة فوق كلّ اعتبار لأنّ حماية حقّ الإنسان في الحياة حقّ مقدّس حرّم القيل القرآني القضاء عليه مرتيْن[38]. وما ذلك إلاّ إعلاء لقيمة النّفس البشريّة الّتي من أجلها خلق الله الطّبيعة بأسرها.

الخاتمة                                     

        لقد حاول هذا البحث الوقوف على مكوّنات الرّؤية القرآنيّة إزاء البيئة باعتبارها الإطار الّذي هيّأه الله تعالى مجالا واسعا تستقيم ضمنه الحياة الّتي أرادها الله تعالى لمخلوقاته. وقد هيّأ سبحانه العالم بأسره حسب قوانين دقيقة ومضبوطة. وهو القائل:” إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر”[39]. وأودع في الإنسان ملكة العقل. وفضّله بها وأمره أن يعدل في الحكم بين الأشياء. وأن يحسن في كلّ أعماله إزاء نفسه وغيره والمحيط الّذي يعيش في إطاره.

        لقد جعل الله حدّا مع الرّسالة الخاتمة للإعجاز المادّي لأنّ مصداقيّة هذا النّوع من الإعجاز ظرفيّة محدودة بحدود الزّمان والمكان. ولكنّ المعجزة الخاتمة كانت في شكل لغوي لما للغة من قوّة قولية وطاقة دلاليّة مفتوحتيْن على الزمان تأويلا وإعادة تأويل. وقد أشار القرآن بوضوح إلى أنّه حاو لكلّ ما ينفع النّاس في دنياهم وآخرتهم، وذلك في الآية الكريمة: “وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم  مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ  ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ”[40]. ومن ضمن القضايا الّتي لم يفرّط في ذكرها نجد المسألة البيئيّة. وقد أولاها نصيبا مهمّا من الذّكر. وقد وردت في شكل إشادة بالعناصر الطّبيعيّة من قبيل الأرض والماء والحيوانات والنّباتات والأشجار والشّمس والقمر والرّيح والجبال والأنعام والدّواب بأنواعها المختلفة. وكلّ ذلك يشحذ الذّهن ويشدّ العقول إلى التّدبّر والتّمعن في خفايا القول الإلهي.

        لقد ربط القرآن العناية بالمحيط الطّبيعي بالصّلاح في العمل والسّلامة في الإيمان. فأكثر النّاس تعميرا للأرض بالحرث والزّرع والبناء لضمان النّفع لعباد الله هو الأكثر صلاحا وفاعليّة في هذه الحياة. وعلى خلاف ذلك نجد أنّ كلّ من يسعى في الأرض تخريبا وقطعا وإماتة وإبادة، إنّما هو كمن قتل النّاس جميعا بارتكاب الموبقات والآثار والشّرور.

        إنّ الأرض منها يبدأ الخلق وإليها يعود. ومنها يُبعث من جديد، فمن باب أولى وأحرى الإحسان إلى هذه الأمّ الرّؤوم.

———————————————————————————

قائمة المصادر والمراجع

1 المصادر

-القرآن الكريم

2 المراجع

*باللّغة العربيّة

– ابن علي أبو إسلام أحمد، الشّجرة الطّيبة في القرآن والسنة، كتاب إلكتروني، تاريخ الإنشاء 25 ديسمبر2019، تحت الرّابط التّالي: https://www.noor-book.com

-مفهوم الشّجر في القرآن الكريم، مقال إلكتروني، تاريخ الإنشاء 11 أكتوبر 2021، تحت الرابط التالي: https://maa-allah.com

– عبد الله حسوني جدوع و خضير صبا رياض، البيئة: بيئة الحيوان والنّبات والأحياء المجهريّة، اشراف سامي حسن، دار دجلة ناشرون وموزّعون، الأردن، ط1، سنة 2015.

– زيمرمان مايكل

 الفلسفة البيئيّة: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذريّة،ج2، تعريب معين شفيق روميّة، سلسلة عالم المعرفة، عدد 333، سنة 2006.

 الفلسفة البيئيّة: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذريّة، ج1، تعريب معين شفيق رومية، سلسلة عالم المعرفة، مطابع المجموعة الدوليّة، الكويت، عدد 332، أكتوبر سنة 2006.

 

– ري بليز جون، الحفاظية التّقليّديّة والأخلاق البيئيّة، مقال ضمن الفلسفة البيئيّة: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذريّة.

– هوكين بول، إعلان عن الاستدامة، مقال ضمن الفلسفة البيئيّة: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذريّة.

*باللّغة الأجنبيّة

-WEAVER, visions of order : The cultural crisis of our time, intercollegiate studies institue, wilmington, delawrae, 1995.

W Barkley Paul, William Seckler David , Economic Growth and Environmental Decay: The Solution Becomes the Problem , ED.Harcourt Brace Jovanovich, l’Université du Michigan, 1972.

-R.V.ROUTLEY. AGAINST THE INEVITABILITY OF HUMAN CHAUVINISM IN M.E. GOOD PASTER AND K.M. SAYRE, EDS, ETHICS AND PROPLEMS OF THE 2INT CENTURY(NOTRE DAME, UNIVERSITY OF NOTRE DAME PRESS, 1979(.

Tyler Miller George , Replenish the Earth: A Primer in Human Ecology , Wadsworth Publishing Company, l’Université de Californie, 1972.

 ——————————————————————————————–

[1]  سورة الانشقاق 84، الآية 6.

[2]  سورة يس 36، الآية 80.

[3]  سورة الإسراء17، الآيتان 26-27.

[4]  سورة غافر 40، الآية 43.

[5]  سورة القمر 54، الآية 49.

[6] WEAVER, visions of order : The cultural crisis of our time, intercollegiate studies institue, wilmington, delawrae, 1995, pp 121-123.

[7]  سورة البقرة 2، الآية 60.

[8]  سورة النمل 27، الآية 88.

[9]  سورة السجدة 32، الآية 7.

[10]  سورة الملك 67، الآية 15.

[11]  سورة الأعراف7، الآية 56.

[12]  سورة البقرة2، الآية 211.

[13]  سورة الرّوم 30، الآية41.

[14]  سورة المرسلات 77، الآية 25.

[15]  سورة الذاريات 51، الآية 48.

[16]  سورة النبأ 78، الآية 6.

[17]  سورة البقرة 2، الآية 29.

[18]  الجاثية 45، الآية 13.

[19]  سورة السبأ 34، الآية 10.

[20]  سورة ص 38، الآية 18.

[21]  سورة الأنعام 6، الآية 38.

[22]Paul W BarkleyDavid William Seckler, Economic Growth and Environmental Decay: The Solution Becomes the Problem , ED.Harcourt Brace Jovanovich, l’Université du Michigan, 1972, P58.

[23]  سورة المائدة 5، الآية 32.

[24] سورة الحشر 59، الآية 9.

[25]  انظر مايكل زيمرمان، الفلسفة البيئيّة: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذريّة، ج1، م ن، ص 119.

[26]R.V.ROUTLEY. AGAINST THE INEVITABILITY OF HUMAN CHAUVINISM IN M.E. GOOD PASTER AND K.M. SAYRE, EDS, ETHICS AND PROPLEMS OF THE 2INT CENTURY(NOTRE DAME, UNIVERSITY OF NOTRE DAME PRESS, 1979), pp 36-59.

[27]  انظر حسوني جدوع عبد الله وصبا رياض خضير، البيئة: بيئة الحيوان والنّبات والأحياء المجهريّة، اشراف سامي حسن، دار دجلة ناشرون وموزّعون، الأردن، ط1، سنة 2015، ص280.

[28] مايكل زيمرمان، الفلسفة البيئيّة: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذريّة، ج1، م ن، ص237.

[29] George Tyler Miller, Replenish the Earth: A Primer in Human Ecology , Wadsworth Publishing Company, l’Université de Californie, 1972 ,P152.

[30]  سورة البقرة 2، الآية 205.

[31] أنظر مايكل زيمرمان، الفلسفة البيئيّة: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذريّة، ج2، تعريب معين شفيق روميّة، سلسلة عالم المعرفة، عدد 333، سنة ، 2006، ص165.

[32] سورة الأعراف 7، الآية 56.

[33]  انظر جون ري بليز، الحفاظية التّقليّديّة والأخلاق البيئيّة، مقال ضمن الفلسفة البيئيّة: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذريّة، م ن، ص178.

[34]  اشتقّ ارنست هكل المصطلح من الكلمة اليونانيّةoikos   (منزل الأسرة) ونقل دلالتها إلى كوكب الأرض باعتباره منزلنا نحن البشر. والإيكولوجيا هي العلم الّذي يدرس العلاقات المتبادلة بين الكائنات الحية والبيئة الّتي تعيش فيها. نقلا عن مايكل زيمرمان، الفلسفة البيئيّة: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذريّة، ج1،تعريب معين شفيق رومية، سلسلة عالم المعرفة، مطابع المجموعة الدوليّة، الكويت، عدد 332، أكتوبر سنة 2006، ص7.

[35]  انظر بول هوكين، إعلان عن الاستدامة، مقال ضمن الفلسفة البيئيّة: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذريّة، م ن، ص188.

[36]  بول هوكين، إعلان عن الاستدامة، م ن، ص189.

[37]  سورة البقرة 2، الآية 222.

[38]  انظر سورة الأنعام 6، الآية 151.

[39] سورة القمر 54، الآية 49.

[40]  سورة الأنعام 6، الآية 38.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى