المقالات

ما بعد الكولونيالية في الفكر الإسلامي المعاصر والتجاوز لما بعد بعد الكولونيالية

يتكون مصطلح “ما بعد الكولونيالية” من لفظين؛ اللفظ الأساسي هو “الكولونيالية” ويقصد به النزعة الاستعمارية الوصائية التي تقود إلى الاستخراب لا إلى الإعمار، أما اللفظ الثاني فهو “المابعد”، أي ما بعد الهيمنة الكولونيالية المباشرة. وتدلّ ما بعد الكولونيالية على القطيعة المعرفية بين ما قبل الاحتلال وما بعده، مع فهم فترة الاحتلال ذاتها.

سنتعرض في هذه الورقة إلى نماذج ثلاثة من الفكر الإسلامي المابعد كولونيالي: مالك بن نبي وعلي شريعتي ومنير شفيق. ثم سنعرض النقد الموجه لما بعد الكولونيالية لنصل إلى حلّ ما بعد بعد كولونيالي.

النمزذج الأول: مالك بن نبي صاحب نظرية البناء الحضاري القائم على التراب والزمان والإنسان. يركز بن نبي على مقولة اشتهرت عنه وهي “القابلية للاستعمار”، ولكنه مع ذلك يعترف بوجود مُعاملين (Coefficients): مُعامل استعماري ومُعامل “القابلية للاستعمار”. المعامل الأول يستنزف التراب ويتحكم في الإنسان ساجنا إياه في زمان ما قبل التمدن والحضارة والكرامة. أما المعامل الثاني فهو ساكن في الإنسان المستعمَر المنهزم من الداخل. وهذا هو الداء العضال الذي يجب القضاء عليه لإمكان التحرر والنهضة.

النموذج الثاني: علي شريعتي الذي اعتبر أن الاستعمار جاء محصلة لمقدمات كامنة في أسس الحضارة الغربية الحديثة، التي لم تبد وفاء للمبادئ التحررية والمساواتية التي قامت عليها، بل انتهجت سبيل الهيمنة وعملت على استغلال المجتمعات الأخرى، سياسيا واقتصاديا، وإلحاقها ثقافيا. لم تنج المجتمعات الإسلامية من محاولات الهيمنة هذه، بل وجد من المنتمين إليها من ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تسهيل هذه المهمة، وبالأخص رجال الدين الذين كانوا جزءا من عملية استبدال هوية المجتمع الإسلامي (في إيران الشيعية) التي هي في جوهرها مستبطنة للأنفة ورافضة للهيمنة والاستغلال، بنسخة ساكنة قائمة على قوالب عقائدية ومظاهر طقوسية لا يتجاوز تأثيرها الحياة الفردية الخاصة. وهذا ما يتجسد في التشيع الصفوي المطيل لأمد معاناة الاقتصادية للجماهير والتبعية السياسية للأمة إزاء الاستكبار العالمي. أما الحل التحرري فيكمن في استعادة البعد الإيديولوجي للإسلام ليكون إسلاما ثوريا (التشيع العلوي) تتخذه الجماهير قاعدة للهوية الاجتماعية التي تقاوم بها الإلحاق الثقافي الاستعماري وتنفصل بها عن المسارات التي ترسمها القوى الاستغلالية.

فنلاحظ هنا تطابقا عجيبا في الفكر المابعد كولونيالي لدى كل من علي شريعتي ومالك بن نبي. فقضية الجمود الديني الذي ينتقده لدى شريعتي يسميها بن نبي الأفكار الميتة.  وفكرة الإلحاق الثقافي لدى الأول يسميها الثاني الأفكار المُميتة. فهما إذن يبصران نور الوعي الصادر من مشكاة واحدة، لا فرق في ذلك بين سني مالكي وشيعي علوي.   

النموذج الثالث: منير شفيق الذي يطرح تصوره على مستويين؛ مستوى العوامل الداخلية فقط، ومستوى العوامل الداخلية مع الخارجية. في المستوى الأول، أي مستوى الذات والداخل العربي، والذي يشمل عللاً كثيرة؛ مثل: الجهل والأمية، غياب الوعي، ضعف البنية الاجتماعية أو تفككها، انتشار التغريب والدعوة للحداثة، سيطرة القبلية والطائفية.. في هذا المستوى يعطي منير شفيق لعامل “التجزئة العربية والدولة القُطرية” أولويةً، من جهة السلبية الأشد التي تعاني منها الأمة. أما في المستوى الثاني، أي حين نتوسع في بحث العوامل المختلفة إلى جانب العوامل الداخلية؛ فإنه يضع “العامل الخارجي” في موقع منافس من حيث الأولوية ولذلك فهو يدعو إلى مقاومته بقوة. وهو بذلك يختلف بعض الشيء عن طرح مالك بن نبي الذي يعطي الأولوية لمُعامل القابلية للاستعمار. وربما يعود هذا الاختلاف إلى الحالة الفلسطينية التي يعاينها ويعانيها منير شفيق تحت الاحتلال الصهيوني.

الاستنتاج: أنتج المفكرون الثلاثة فكرا ما بعد كولونياليا قوامه أن النهضة العربية تعيقها عوامل داخلية وأخرى خارجية تتمثل في دور القوى الاستعمارية المهيمنة على كل القطاعات والعناصر الحيوية للأمة. وأنه لا سبيل للنهضة إلا بتقوية المناعة الحضارية ورص الصفوف في مواجهة العدو الخارجي.

نقد النقد المابعد كولونيالي:

ثمة ظاهرة ثقافية- سياسية حركية تبدو غريبة عن النقد الكولونيالي الذي مارسه المفكرون الإسلاميون الثلاثة السابق ذكرهم إضافة إلى مفكرين عرب آخرين من خارج التيار الإسلامي سنيا كان أو شيعيا، أمثال إدوارد سعيد ووائل حلاق وجوزيف مسعد وطلال الأسد، فضلا عن النقاد المابعد كولونياليين الرواد غير العرب أمثال فرانتس فانون (مؤلف “معذبو الأرض” و”بشرة سوداء وأقنعة بيضاء”) وألبار ميمي التونسي (مؤلف “صورة المستعمر” سنة 1957) والكاتب الكاريبي جورج لامينغ (مؤلف “مُتَع المنفى” سنة  1960 والذي يكشف فيه عن البعد الكولونيالي في مسرحية «العاصفة» لويليام شكسبير). ووجه الغرابة يتمثل في أن صانعي تلك الظاهرة الناقدة للنقد المابعد كولونيالي هم أصحاب إيديولوجيات من المفترض أن تكون ثورية ومناهضة للاستعمار وثقافته. ولكنهم مع ذلك يتماهون مع جانب بارز في تلك الثقافة. أقصد بهم “تيار الإسلام الحركي الديمقراطي” و”تيار اليسار الليبرالي”.

وائل حلاق مثلا حاول في كتابه “الدولة المستحيلة”، البرهنة على استحالة تحقيق طموح التيار الإسلامي الحركي بإنشاء دولة إسلامية على هياكل ومبادئ الدولة المدنية الحديثة (العلمنة- الديمقراطية – حقوق الإنسان- المساواة بين الرجل والمرأة..الخ)، وأن هذا السعي إنما يتعارض مع أخلاقية الرؤية الإسلامية للوجود والمجتمع الإنساني نفسه. وقد تصدى مفكرون مناصرون للإسلام السياسي الديمقراطي لهذه المدرسة النقدية التي يمكن إدراجها في الفكر المابعد كولونيالي، أي الناقد للنموذج الثقافي والقيمي والسياسي الغربي، ومن بين هؤلاء المفكرين أبو يعرب المرزوقي ومحمد المختار الشنقيطي الذين انبروا بشدة للدفاع عن رؤية هذا التيار الذي يخوض معركة الملاءمة بين الإسلام والديمقراطية والقيم المدنية الحديثة بوجه عام.

تيار اليسار الليبرالي أو التيار الليبرالي عمومًا لا يقبل هو الآخر بالنقد المابعد كولونيالي بحكم تبنيه الكامل للنموذج الثقافي والسياسي الغربي الحديث ويطرح نفسه بديلا عن الأنظمة الدكتاتورية وعن الإسلام السياسي، ويرى نفسه الأجدر بتبني  قيم العالم الغربي الحديث من ديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وسواها، وهذا بالذات ما جعله عرضة للنقد كونه يمثل حالة استشراقية كاملة المواصفات على حد وصف «جوزيف مسعد» في إحدى المقابلات الصحفية. لم يقتصر هجوم مسعد على هذا التيار على البعد الفكري، إنما هاجم أيضا بشدة المنظومة الأداتية التي يعمل من خلالها وهي منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني التي تمولها بكرم بالغ جهات غربية إمبريالية، واعتبر هذه المنظمات جزءًا مهمًا وأساسيًا من المشروع الكوني لهذه الجهات ليس فقط للسيطرة الاقتصادية والسياسية وإنما للسيطرة الثقافية والقيمية.

يستمد كثير من نقد المدرسة المابعد كولونيالية قوته من نقد المناهج المابعد حداثية التي بنى نفسه عليها. أي أن كثيرا من النقد الموجه لما بعد الكولونيالية هو نقد موجه بالأساس لفوكو ودريدا وسواهما. في سياقنا العربي يوجه لها نقد بأنها منفصلة بشكل كامل عن هموم الواقع السياسي والفكري، وأن أبرز رموزها ينتقدون من على منصاتهم الجامعية في الغرب تحت ظل أنظمة ديمقراطية وليبرالية، سعي الحراك المحلي للوصول إلى هذه الديمقراطية وهذه الليبرالية. بل امتد النقد إلى سياق الفلسفة الأخلاقية ومنظرها الأبرز «طه عبد الرحمن» باعتبارها فلسفة لا تقدم حلولا عملية أو مداخل حركية قابلة للتطبيق. أي أن ما بعد الكولونيالية تخلق مأزقا أخلاقيا لا تقدر على حله ولا تسمح لأحد بتجاوزه

نجد أنفسنا هنا إزاء مشكل ثنائية مضاعفة: ثنائية الإسلام والحداثة وثنائية التحرر والتبعية.

في التصور التقليدي يرتسم الإسلام نصيرا للتحرر وتبني الحداثة دليل على التبعية. فإذا بالإسلام الحركي يقول إن الإسلام ليس نصيرا للتحرر فقط بل نصير للحرية أيضا أي الديمقراطية، وأنه لا تحرر من دون حرية. لا يمكن لأنظمة قمعية أن تكون إلا حليفة للاستعمار ومطبعة مع الصهيونية. وعليه، فإنه كما نستورد أسلحة متطورة قد يصنعها العدو لنحاربه بها، يمكن أن نستورد سلاحيا سياسيا مدنيا من العدو هو الديمقراطية نحارب بها عملاءه ونقرر بها التحرر من وصايته.

اليسار له حجته أيضا. فالحداثة وقيمها قيم كونية وليست قيما جزئية وعليه فيحق للعرب اعتناقها وليس من فكر أقرب لتشرب روحها من الفكر اليساري العلماني.

أعود هنا لحل الإشكال إلى خطاطة مالك بن نبي عن الأفكار الميتة والأفكار الميتة: مقابل الأفكار الميتة توجد الأفكار الحية التي يصنعها التجديد والاجتهاد والإبداع، ومقابل الأفكار المميتة التي هي نفايات الثقافة الغربية توجد الأفكار الباعثة للحياة أو المغذية للحياة وللاندفاع الحيوي الخلاق. الأخذ عن الآخر لا يكون بالضرورة استيرادا لنفاياته وإنما قد يكون استفادة من إبداعاته مما ينفع الناس في الأرض. والحالة الأكمل هي الحالة التعارفية التي نوه بها القرآن الكريم، التي يكون فيها معرفة بالآخر وتعارف معه واعتراف به شريكا لنا في الهوية الأرضية والجماعة الإنسانية. لكن قبل ذلك علينا فرض شروط التعارفية بخوض معارك الحرية والتحرر. وبهذا يصعب القول بوجود حدود حاسمة بين الكولونيالية والمابعد كولونيالية وهو ما يعني القبول بالجدل الكولونيالي- المابعد كولونيالي من أجل خلق حالة تعارفية كونية لا تكون إلا بحيازة شروط القوة والمعرفة والحرية والسيادة. ولذا فقد انطلقنا من الكولونيالية والمابعد الكولوني

مصدق الجليدي

دكتور في علوم التربية، ومتحصّل على شهادة التّأهيل الجامعي في الحضارة الإسلاميّة، أستاذ محاضر، رئيس فريق بحث بمركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة بسوسة. له عديد الإصدارات في مجالات التربية والحضارة منشورة في عدّة بلدان عربية، ينحو فيها جميعا منحى تجديديا حداثيا أصيلا. من بينها: - الإسلام والحداثة السياسية، مجد للنشر، بيروت، 2010. - أنوار حداثية أصيلة، الدار المتوسطية للنشر، تونس، 2014. - تربية المستقبل، الدار المتوسطية للنشر، تونس، 2014. - المجالات التربوية من منظور الأصالة المبدعة، دار كلمة للنشر، القاهرة، ،2016. - المشروع الإصلاحي في فكر الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، 2019. النظم التربوية في البلدان المغاربية، مُجمَّع الأطرش للكتاب المختص، تونس، 2020.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى