المقالات

راهنية محمد عزيز لحبابي

 

إن الكتابة اليوم عن مشروع الفيلسوف المغربي محمد عزيزي لحبابي، لا تدخل في باب البدخ الفكري. إنها ضرورة يفرضها السياق الحالي أكثر من أي وقت مضى. فالاهتمام بفلسفة لحبابي أو ببعض عناصرها الأساسية، يساعدنا على إعادة صياغة بعض الأسئلة الأساسية، منها ما هو تاريخي، ومنها ما يتعلق بتاريخ الأفكار، ومنها ما هو ديني وفلسفي، ومنها ما يتعلق بالعلاقة مع الغرب. وهو ما من شأنه أن يساعد الجيل الشاب على تكوين صورة جديدة عن كل تلك القضايا التي ما تزال شديدة الراهنية. فمساهمة لحبابي في صياغة تلك الأسئلة، تظل مركزية، رغم الصمت الأيديولوجي الذي ضرب حولها.

سيتوجه لحبابي، بعد خروجه من السجن في عهد الاستعمار الفرنسي للمغرب، لمتابعة دراسته في فرنسا. سيطرح هذا اللقاء بالغرب عليه أسئلة محرجة، تتعلق بهويته ووضعه في العالم المعاصر، كانسان عربي مسلم قادم من العالم الثالث. وسيقدم له التيار الشخصاني الفرنسي القالب الذي سيطرح فيه هذه الأسئلة، إذ سيبحث في رسالته الأولى للدكتوراه في شروط، حقول وإمكانيات التشخصن، وهي التي ستصدر تحت عنوان معبر: “من الكائن إلى الشخص: نحو شخصانية واقعية” سنة 1954.

وعلى الرغم من المنهجية الفلسفية للكتاب، إلا أن نتيجته كانت حوارية بامتياز. إذ أن لحبابي سيؤكد بأن على المسيحية والاسلام أن يدخلا في حوار دون أن ينغلقا فيه عن رؤى العالم المختلفة الأخرى، ويرى أن شرط الحوار أن ندخله كأشخاص يتمتعون بالكرامة الإنسانية.  إن كل الأديان، يرى لحبابي، وكل الفلسفات، ومنها الماركسية، تهدف إلى تسليح الانسان بوسائل تسمح له بتجاوز نفسه وتجاوز عالم الضرورة، أي أنها تضع نصب عينها تحقيق تلك الكرامة الانسانية.

وسيعقب هذا الكتاب، كتاب آخر، يحمل عنوانا معبرا: “من الحرية إلى التحرر“. وسيصدر في العام نفسه الذي حصل فيه بلده المغرب على الاستقلال.  إن لحبابي يعترض هنا على الحرية المجثتة، تلك المتعلقة بالفرد فقط، أو تلك الحرية التي كتب عنها أدورنو في “الجدل السلبي” بأنها لا تتحقق إلا بشكل مجرد، وينادي بحرية تشمل مجموع مجالات الحياة الانسانية. وفي الصفحات الأخيرة لكتابه، يكتب لحبابي بأن الشخصانية الاسلامية هي نتاج لثقافة مزدوجة: غربية وإسلامية، ونتاج أيضا لقلق مزدوج. إنه يعني بذلك الرغبة في بعث الحياة في الروح الواقعية داخل العالم الاسلامي وتحقيق قفزة باتجاه “النحن” لكن دون التضحية بالشخص. يكتب لحبابي بأنه عبر لقاءه بالآخر، عبر التواصل، سيعرف نفسه.

يرى ماركوس كنير، لاهوتي ألماني متخصص في فكر لحبابي، أن لحبابي لم يكن في علاقة قلقة مع ثقافتين مختلفتين فقط، بل طور نقدا مزدوجا للمركزية الغربية وفي الآن نفسه للمغلق الإسلامي.  إنه يؤكد حرية الشخص، ولكنها حرية لا يجب أن تفهم كحرية مطلقة، بل كحرية أعيشها في ظل جماعة معينة.  وفي سياق هذا النقد المزدوج أيضا كما يصفه اللاهوتي الألماني، ينخرط كتابه “من المغلق إلى المنفتح“، والذي يمثل أيضا سيرة فكرية لصاحبه ولجهوده الفلسفية ولقاءاته المتعددة في الغرب والشرق.  سيصدر لحبابي عام 1964 كتابه “الشخصانية الإسلامية“، الذي يمثل، حسب ماركوس كنير،  حصيلة تفكيره في الحوار الإسلامي ـ المسيحي. وهو كتاب سيظهر في السنة نفسها للمجمع الكنسي الثاني، الذي كان لحبابي واعيا ومتابعا لأهم ما بلوره من أفكار بشأن الحوار، وخصوصا بشأن الاسلام.  إن لحبابي يرى أن الحوار يجب أن يشترط وجود أنظمة فكرية تملك كلها الحق في التعبير والحياة وفي أن تكون لها حياتها الخاصة.  ويرى أن الاعتقاد بحقيقة دينية واحدة لا يقل خطرا عن التوتاليتارية الحديثة. سيقوم لحبابي بسبر الأسس الإسلامية للشخص الانساني، وسيترجم تلك الأسس إلى لغة فلسفية، ويفتحها على تقاليد دينية أخرى، سيرا على منوال كبار الفلاسفة المسيحيين واليهود في القرن العشرين، ولكن في استقلال عنهم أيضا.

القراءة الشخصانية التي يقدمها لحبابي للمصادر الدينية تمثل بداية حقبة جديدة بالنسبة للهيرمونوطيقا الاسلامية.  سيقوم لحبابي بعمل كبير حول المفاهيم الفلسفية، وخصوصا مفهوم الشخص ومفهوم الشهادة، الذي وجد فيه لحبابي عنوانا للحرية والفردية الانسانية. إذ أن هناك علاقة صميمية في نظر لحبابي بين الحرية الانسانية، وبين فعل الشهادة الذي هو تعبير فردي عن الوعي الانساني. إن الحرية في نظر لحبابي هي دائما في علاقة بالآخرين، إنها جواب على سؤال يأتيني من الآخر، ولها فإن مفهومه عن الحرية يتناقض مع المفهوم السارتري عنها وعن الآخر.  بالنسبة  للحبابي فإن الآخر يظل مكونا مركزيا للأنا. ولهذا محق هو ماركوس كنير في تأكيده في مقدمته للطبعة الأخيرة من كتاب “الشخصانية الإسلامية” على قرب مفهوم لحبابي عن الحرية من مفهوم ليفيناس، وإن كان يظل أقل راديكالية. لكن المثير في فلسفة لحبابي هو أن ألأنثروبولجيا الإسلامية لا تشمل فقط المؤمن ولكن غير المؤمن أيضا.  فكلاهما يعتبران شخصا، لأنهما اتخذا موقفا من قضية الإله.

وستدفع، من جهة أخرى، الهيرمونيطيقا الشخصانية لمصادر الدين الإسلامي، لحبابي إلى انتقاد العديد من الأوضاع السائدة داخل المجتمعات الإسلامية والتي يتم في الغالب الأعم تبريرها دينيا، مثل وضعية المرأة أو وضع الأقليات، وهو ما سيدفعه لانتقاد التيار السلفي مثلا أو بعض المستشرقين الغربيين.  أمام هذه المسيرة الخصبة من الانتاج والتفكير لا يسع القارئ إلا أن يندهش من الحكم الذي أطلقته الكاتبة اليسارية المعروفة زكية داوود على فكر لحبابي، معتبرة أنه يدافع عن نوع من  “الإنسية الفولكلورية”.

يتكون الكتاب المزمع إعداده من أربعة محاور أساسية، تغطي أهم الجوانب لفلسفة لحبابي، فهي تبحث من جهة في الجذور الفلسفية والدينية لهذه الفلسفة، وتعرج على السياق الفلسفي الذي ظهرت فيه، والذي طبعه سؤال الحرية، وتنتهي للحديث عن مكانة هذه الفلسفة في الفكر العربي المعاصر وراهنيتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى