المقالات

العالم المسلم ” أبو الريحان البيروني” وتأسيس علم الأنثروبولجيا

 (الباحث سعيد أيت الحاج: باحث متخصص في الأدب الإنجليزي)

 

مصدر المقالة الأصلية[1]

الكاتب: أكبر صلاح الدين أحمد[2]

ترجمة: سعيد ايت الحاج و حسن إدحم

أثناء اشتغالي في الغرب، تدريسا و بحثا، وجدت أن بعض الأسماء الكبيرة في التاريخ الإسلامي ليست معروفة في الأوساط الأكاديمية و نادرا ما يتم تدريسها في الجامعات. من بين هذه الأسماء الكبيرة نجد كل من “نظام المُلك” و”ابن بطوطة” و “البيروني”، هذا الأخير الذي له صلة كبيرة بميدان الأنثروبولجيا الذي يعتبر مجال اشتغالي. لقد كتبت عن البيروني أول مرة في مجلة RAIN،  التي تنشرها الجمعية الأنثروبولجية الملكية في بريطانيا و أيرلندا، وذلك في أوائل الثمانينيات وقد أسميته آنذاك أول عالم أنثروبولوجي.

ومن خلال أعمالي العلمية فقد عرّجت مرات كثيرة على البيروني. بالنسبة لي كأنثروبولوجي، فإن عمله جدير بالدراسة والاهتمام. فأثناء دراستي لهذا المجال في الغرب كنت أعتقد دوما بأن الأنثروبولوجيا هي غربية المنشأ، و لها ارتباط وطيد بالاستعمار الذي تَشكل في بداية القرن التاسع عشر. الأنثروبولوجيا كما هو متعارف عليه هي الملاحظة بالمعايشة الممتدة في الزمن للمجموعة المراد دراستها، عن طريق ملاحظة طقوس هذه المجموعة بشكل دقيق والبحث في تراثهم المكتوب وتعلم لغتهم. وعند عرض النتائج المتوصل إليها يشترط التزام الموضوعية والحياد قدر الإمكان، مع توخي الحذر عند مقارنة ثقافة المجموعة المدروسة مع الثقافات الأخرى.

كل هذه الخصائص موجودة في عمل البيروني، ويظهر أن تطور الأنثربولوجيا  في في الغرب، لم يكن على يد الغربيين دائما، فقد شاركهم المسلمون في ذلك؛ الذين كان لديهم اشتغال على ما نسميه في هذا العصر بالأنثربولوجيا. وقد كان المقال الذي نشرته سابقا حول هذا الموضوع حافزا للأكاديميين للنقاش بخصوص ماهية الانثربلوجيا، حيث زعمت بأن  بدايات هذه الأخيرة كانت في العالم الاسلامي، وهذا كان جزءا من الرؤية الإسلامية للبحث عن المعرفة و فهم الثقافات والمجتمعات المختلفة.

العالم المنتمي إلى وسط آسيا أبو الريحان البيروني (1048/973) كان عبقريا من كل الجوانب، في بيئة أنتجت الكثير من أمثاله. هذا العصر الذي سُمي بـ العصر الفردوسي (940/1020)، ضم كلا من ابن سينا (980/ 1073) و ابن الهيثم (965/1040)، الذين مثلوا منارة الثقافة الإسلامية وأسهموا في ازدهار إنجازاتها العلمية. وكان الوقت لازال بعيدا وطويلا عن الدمار الذي أحدثه المغول في بلاد الاسلام.  في هذا العصر الفردوسي عاش البيروني في بلاط محمود الغزنوي[3] ( أفغانستان) – الذي اختلف معه في مجموعة من الأمور – و كتب عن الهندوس في الهند. اشتق اسم البيروني من “البَراني” و تعني الدخيل أو الأجنبي، واسمه يوحي بوجود خلفيات ثقافية متعددة في شخصية البيروني مما زاد من حدة إدراكه لمجتمعه وللمجتمعات الأخرى.

براعة البيروني غير محصورة فقد كان عالم دين، ورياضي، وفلكي ومؤرخ. بحيث يمكن اعتباره بجدارة أول عالم أنثروبولوجي، ويعد أيضا “أبو الجوديسيا ” أي علم قياس الأرض.

كتابه المشهور حول الهند كان معروفا بكتاب الهند. فاستعمال كلمة “تحقيق” في العنوان الأصلي “تحقيق ما للهند من مقولة[4]، يعكس موقفه العلمي. ألف هذا الكتاب بعد ثلاثة عشر سنة من البحث بين 1017 و1031، و ترجم إلى الألمانية من طرف المستشرق الألماني الدكتور ” إدوارد ساشو[5] Dr. B. Sachau ” سنة 1884، وإلى الإنجليزية في العام الذي تلاه بعنوان ” هند البيروني“، ولا يزال مصدرا رئيسيا لمعرفتنا بالمجتمع الهندوسي مند ألف عام.

ونجد للاهتمامات الأنثروبولجية الحديثة  حضورا في مؤلف البيروني حول الهند، إذ يظهر ذلك في عناوين بعض الفصول منها: “عن بعض الطوائف، التي تسمى الألوان أو فارنا[6] وعلى طبقات أدنى منها”، و ” عن الطقوس و العادات التي تمارسها الطوائف الأخرى كالبراهمة أثناء حياتهم”. ويتم التطرق أيضا إلى قضايا المرأة من خلال فصل بعنوان “قضية الزواج، دورات الطمت، والأجنة وكذا حالات الولادة”.

منهجية البيروني صارمة، كما كتب “ساشو” في مقدمته للترجمة الألمانية، ” إن منهجية مؤلفنا تقتضي ألا يتكلم بنفسه بل يسمح للهندوس بالتحدث… يقدم صورة للحضارة الهندية كما رسمها الهندوس أنفسهم”. يميل البيروني بشكل كبير إلى الإحالة على المصادر الهندوسية، فهو تعلم اللغة السنسكريتية لهذا الغرض و يكتب بها جيدا. فنجده يقول: “لا تعترضني أية صعوبة في جمع الكتب السنسكريتية من الأماكن التي يفترض أن تكون موجودة  فيها”.

ربما كان البيروني أول مسلم يدرس “البورانا”[7] (النصوص الهندية الكلاسيكية). اعتمد أيضا على مراجع أخرى كترجمات بعض العلماء العرب والفرس. تنقل البيروني كثيرا بين ربوع الهند وتعايش مع الهندوس و خاصة البراهمة و اليوغيس. و يؤكد أن ” الإشاعات لا تساوي شهود العيان“. تكمن مهمة الأنثروبولوجي في نظره في” الوصف والتفسير ببساطة دون الانتقاد“، فالبيروني تجنب بشكل كبير إصدار أحكام القيمة على عادات وثقافات الأخرين.

كان البيروني فظا مع العرب (خصوصا عندما يعلق على عاداتهم قبل السلام) ونفس الشيء سيعيد تكراره عند حديثه عن بعض الطباع الهندوسية مثل “العجرفة”. قد يبدو وصف الهندوس بالمتعرفين كأنه حكم قيمة، لكن البيروني لاحظ بأن الهندوس يرون بلدهم، وعاداتهم ، وأكلهم ، وما إلى ذلك كأنها الأفضل في العالم. كان الافتخار بالخوف من الأجنبي لدى الهندوس بمثابة نظام دفاعي ثقافي ضد الهجومات المتكررة للمسلمين أثناء وبعد حكم محمود الغزنوي.

يستحضر البيروني أمثلة متعددة من أجل المقارنة بين أديان ومجتمعات مختلفة، كاليهود، والمسيحيين، والفرس وقدماء اليونان، ولا يجد حرجا في الثناء عليهم. ويتجلى تعاطفه مع الروحانية الكونية في  المقارنة التي يعقدها بين الصوفية الهندوسية والروحانية المسيحية.

تعليق البيروني النزيه يقاس بأعلى المعايير العلمية المعاصرة في العلوم الاجتماعية. كما كتب العالم الأسترالي “ أرثر جيفري Arthur Jeffery ” عن البيروني،” من النادر حتى العصر الحديث إيجاد وجهات نظر غير متحيزة و عادلة للأديان الأخرى، كانت محاولة  (البيروني) جادة لدراسة هذه الأديان في أفضل المصادر، و إيلائها مثل هذه العناية من أجل إيجاد طريقة مناسبة لمقاربة هذا الجانب بطريقة موضوعية جادة”، بل الأكثر من هذا نجد العالم الباكستاني” حكيم محمد سعيد” كتب عن البيروني في مجلد تذكاري:”كان لديه عقل كوني منفتح ورغبة جامحة في البحث عن الحقيقة مهما كان مصدرها“.

البيروني هو تجسيد للوصية القرآنية لطلب المعرفة والعلم، فالرسول حث المسلمين على اكتساب المعرفة و لو تطلب ذلك الذهاب إلى الصين. عندما يعود البيروني للقرآن الكريم لإيجاد سند لأقواله ( وتجدر الإشارة هنا إلى كون البيروني معتزا بكونه مسلما ) يؤكد على كونية الإنسان، فالله عند البيروني هو مُوجد كل شيء و خالق جميع البشر. لم يكن الإسلام عائقا أمام مشروع عالمنا و لم يتأثر إسلامه بذلك. عندما كتب البيروني، فالإسلام كان في أوج الإزدهار عالميا، و مع ذلك فلا التعصب و لا الكراهية عاقته عن ممارسة عمله.

و هكذا فإن الاعتراف بالبيروني كأول عالم أنثروبولوجي في الإسلام يفتح الأبواب النظرية، والمنهجية أمام الباحثين المسلمين في العلوم الاجتماعية لمزيد من البحث. البيروني درس بشكل شامل و اقترح منهجية عامة لدراسة الطوائف وعلاقات القرابة في الهند قبل أكثر من ألف عام تقريبا، حتى قبل أن يتطرق لها بعد ذلك بعض الهنود الأوروبيين ك”لويس ديمونت Louis Dumont ” و ” أدريان ماير Adrian Mayer “.

في عملي تتبعت منهجية البيروني، و أعني هنا السفر بكثرة و تسجيل ملاحظات و استجواب الناس لأخذ الحقائق منهم، فدراساتي الأربع الأخيرة حول علاقة الاسلام بالغرب الصادرة في مجلد بعنوان ” الرحلة نحو أوروبا: الإسلام، الهجرة والهوية” (Journey into Europe: Islam, Immigration, and Identity) حاولت فيه استلهام روح منهجية البيروني.

في زمن الأزمة والاضطراب التي تهيمن على العالم الاسلامي وسيادة التوتر، و الصراع،  والجهل و سوء التفاهم بين الثقافات والأديان، لا يزال لدى البيروني الكثير ليعلمنا إياه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  المقالة الأصلية نشرت في مجلة   CARVAN الإلكترونية بتاريخ 22 دجنبر 2018م، وعنوانها :

Great muslim philosopher Al beruni was world’s first anthropologist ” .

[2]   الدكتور السفير أكبر صلاح الدين أحمد (و1943…) أكاديمي أمريكي باكستاني، كاتب  وشاعر. يشغل حاليا كرسي ابن خلدون للدراسات الإسلامية  في الجامعة الأمريكية بواشنطن.

 محمود الغزنوي (971ــ1030) هو حاكم الدولة الغزنوية في الفترة الممتدة  بين (998- 1030). [3]

 العنوان الكامل لكتاب البيروني المشهور هو ” تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة”.[4]

[5] – إدوارد ساشو” (1845ـ1930) مستشرق ألماني  أنشأ المدرسة  الشرقية ببرلين، و يعتبر أول من ترجم عمل البيروني للألمانية.

 “الفارنا” هي كلمة سنسكريتية و تعني اللون أو الطبقة  الاجتماعية ،أو العرق  أو النوع. [6]

 البورنا” وتعني القديم، ويقصد بها معظم النصوص والأساطير الهندية القديمة على شكل الإلياذة والأوديسة  عند الإغريق. [7]

حسن إد حمو

باحث مغربي، متخصص في الفلسفة ومهتم بالسوسلوجيا وقضاياها. له العديد من الأبحاث والمشاركات العلمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى