المقالات

الدين والمقدس

يلتقي الدينُ بالمقدّس، لكنهما لا يتطابقان مفهومًا، ولا يتحدان مصداقًا دائمًا، إذ تتقدّس أشياءُ خارجَ الدين، كما أن هناك أشياءَ في الدين ليست مقدّسة. المقدّسُ والدين أحيانا تتحد وظيفتُهما، ويلتقيان ببعض مصاديقهما، وأحيانا تتنوع وظيفتُهما، ويختلف كلٌّ منهما عن الآخر في مصاديقَ أخرى.

ليس كلُّ مقدّس دينًا، وليس كلُّ ما في الدين مقدّسًا. في كلِّ دينٍ ما هو مقدّسٌ وما هو غيرُ مقدّس. حضورُ المقدّس الحقيقي محدودٌ جدًا في الأديان أو نادرٌ لحظةَ نشأتها، لكن المقدّسَ يتوالد بالتدريج بمرور الأيام، تبعًا لتضخّمِ المخيلة، وتوسع الميثولوجيا لدى أتباع الدين. كلما اتسع فضاءُ الميثولوجيا في الدين اتسع فضاءُ المقدّس، وكلما غاص الدينُ في باطنيةٍ غائمة تنامى فيه حضورُ المقدّس، لذلك نرى لدى الفرق الباطنية في الأديان تضخمًا للمقدّس وابهامًا والتباسًا في الرؤية، إلى الحدِّ الذي يصل أحيانًا إلى أن يبتلعَ المقدّسُ الدينَ كلَّه، فلا نجد شيئًا في الدين الباطني إلا مقدّسًا.

عندما نعودُ إلى التاريخ ونتفحصُ لحظةَ ظهور الأديان السماوية، خاصة الإسلام، وهو الدينُ الذي لم يتأخر تدوينُ السيرة والسنة فيه كثيرًا عن البعثة النبوية، في تلك اللحظة لا نعثر بوضوحٍ على غزارة في حضور صور المقدّس وأشكاله. مَنْ يبحث عن المقدّس لا يرى له حضورًا لافتًا له في إسلام عصر البعثة. كان الصحابةُ يتعاملون مع النبي محمد “ص” بشكل عفوي، بوصفه بشرًا مثلهم، بلا كُلفةٍ أو خوفٍ أو رهبة. يعيشُ النبي الكريم كما يعيشون، يأكلُ كما يأكلون، يلبسُ كما يلبسون، ويتحدّثُ كما يتحدثون. يتعاملُ معهم كأحدهم، ويرفضُ التعاملَ معه مثلما يتعامل الأتباع مع ملوكهم. لم يجدوا في تعامله بروتوكولًا، ولم يروا من حوله حاجبًا أو حارسًا أو حاشية أو بلاطًا، مثلما كان يفعل الملوكُ والسلاطينُ والزعماء في زمانه وفي أزمنة أخرى. ومن التبس عليه الأمرُ وتخيّل أن النبي الكريم “ص” ليس بشرًا نبهّهُ القرآنُ الكريم بقوله: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ”، الكهف، 110. “قلْ لا أقولُ لكم عندي خزائِنُ الله ولا أعلمُ الغيبَ ولا أقولُ لكم إنِّي مَلَكٌ إن أتَّبِعُ إلاَّ ما يُوحى إليَّ”، الأنعام، 50. “قلْ لا أملكُ لنفسي نَفعاً ولا ضرَّاً إلاَّ ما شاءَ الله ولو كنتُ أعلمُ الغيبَ لاستكثرتُ من الخيرِ وما مسَّنيَ السُّوءُ إن أنا إلاَّ نذيرٌ وبشيرٌ لقومٍ يؤمنون”، الأعراف، 180. شدّد القرآنُ على بشرية النبي، مع إشارته إلى اختصاصه بالوحي من دونهم. متخيّلُ المسلمين بعد عصر البعثة ظلّ يطمح لتضييق حدود بشرية النبي باستمرار، بنحوٍ انتهى بعضُ المسلمين بعد عدة قرون إلى تضخيم البعد الغيبي في شخصيته، إلى الحدّ الذي تلاشت معه حدودُ بشريته، وتحوّلت صورته إلى ميتافيزيقية، انطمست فيها بشريتُه.

لحظةَ ظهور أكثر الأديان في آسيا، كالبوذية والكونفوشيوسية وغيرها، لا نرى فيها ما هو مقدّس، كان مؤسّسوها حكماء، لم يقولوا أنهم يتصلون بالغيب، تعاليمُهم أقرب لحكمة الثقافة منها إلى روح الدين. لم يكن أشخاصُ المؤسّسين مقدّسين: بوذا أو كونفوشيوس، ولا كتبُهم، ولا إرشاداتُهم ووصاياهُم وتعاليمُهم، ولا رفاقُهم، ولا أيُّ شيءٍ ينتسب إليهم. إلا أن ذلك لم يستمر طويلا، فكلّما ابتعد الدينُ عن لحظة التأسيس لم يعد الواقعُ كافيًا لإشباع مخيلة الأتباع، لأنهم يرون الواقعَ ضحلًا واضحا لا يبوح بسرّ، ولا لغز فيه، والإنسانُ الديني مولعٌ بالأسرار، وبما هو ساحرٌ ملغز، ينجذب لما ينطوي على غموضٍ وحيرةٍ وابهام.

المقدَّسُ سرّ، المقدَّسُ مبهم، كنهُهُ مجهول. للمقدَّسِ سحرٌ وهالةٌ يشعرُ معها الإنسانُ الذي يعتقدُ به بهيبةٍ وسطوة، وصمتٍ ودهشة وذهول أحيانًا. المقدَّسُ قريبٌ بعيد، المقدَّسُ قريبٌ يشعرُ معه الإنسانُ كأنه حاضرٌ، المقدَّسُ بعيدٌ لا يمكن أن يقبضَ عليه الإنسانُ أو يراه أو يتلمس وجودَه حسيًا، لا يتجلّى المقدَّسُ إلا عبرَ آثاره.

المقدَّسُ يشعرُ القلبُ بهيبته ورهبته وقوته، ويتلذّذُ مَنْ يعتقد به بالتواصل معه وتحسّس حضورَه. المقدَّسُ تجاوزيٌ، عابرٌ للزمان والمكان. وإن كان العقلُ يجهلُ ماهيةَ المقدَّس، غير أنه يكتشفُ تجلياتِه وتمثلاتِه، وشيئًا من فاعلياته في إثارة عواطف الناس، وطاقته المثيرة بتأجيج مشاعرهم وإيقادها.

مَنْ يعتقد بمقدّسٍ معيّن يراه متجاوزًا للمادة، ولكلٍّ حدودها وأبعادها وكيفياتها وأشكالها وأحوالها. فضاءُ المقدّس رحبٌ لا يخضع لشيءٍ من قيود ومضايق المحسوس. المقدَّسُ عابرٌ للمتناهي والمحدود والحّسي.

يتقدّسُ: الإنسانُ، والمكان، والزمان، والحيوان، والنبات، وكائنات أخرى، بل يمكن أن يتقدّسَ أيُّ شيء في الأرض والسماء. مَنْ يعتقد بمقدّس يفتّشُ عن ماهيته خارج حدود المكان، خارج حدود الزمان، خارج حدود الواقع المحسوس، خارج حدود التاريخ. يحتفظ المقدّس بقداسته الأبدية، ويظلّ مبهمًا عصيًا على الفهم. المقدّس متلفّع بالغموض، كأنه سرٌّ أبدي، يتغلب على الهشاشة والفناء.

ربما لا يستغني عن المقدَّسِ إنسانٌ، حتى الملحد أحيانًا لديه مقدّساتُه الخاصة، أحيانًا يراه في شخصيات استثنائية، يعتقدُ أنها خارقةٌ تتجاوز تناهي الكائنِ البشري وقدراتِه المحدودة، ويتخيّلُ أنها عابرةٌ لحدود الطاقة البشرية. يتخيّلُ رموزًا وأشياء متنوعة يحسب فيها تمثّلاتٍ للمقدّس، وإن كان يُعلِن عن تنكّره لذلك.

يمكن أن يتقدّسَ الإنسانُ والحيوانُ والنباتُ والمكانُ والزمان وكلُّ شيء، ‏وكثيرًا ما يغدو رجلُ الدين مقدسًا في أديان سماوية وأرضية، وأوضحُ مثال على ذلك ما نراه في الأديان الهندية، وأديان متنوعة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وغيرها في مجتمعات مختلفة.

أكثرُ الملوك والأباطرة والزعماء في التاريخ خلقوا لأنفسهم هالةً مقدّسة، إذ صوّروا أنفسَهم وهم يقفون بمحاذاة الآلهة، فمثلًا نرى حمورابي ملك بابل “1792 ق.م – 1750ق.م” يقف بمحاذاة إله الشمس “شمش” الجالس، ليتسلم منه الشرائع المدونة على المسلة المعروفة باسمه، والمشهورة بأنها أقدم وأوسع وأثرى شريعة مدونة ذلك العصر في تاريخ الحضارات البشرية.

لم تتبدّد هالةُ الملوك والأباطرة والزعماء التي يصنعونها لأنفسهم حتى اليوم، فما زال بعضُ الناس يشعرُ بهالة ورهبة وسطوة زعماء سياسيين، مثل: لينين، وماو تسي تونغ، وهتلر، وغيرهم، ويشعر كثيرٌ من أتباع الزعماء الروحيين في الأديان السماوية والأرضية بأن هؤلاء الزعماء شخصياتٌ استثنائية مقدّسة.

يزحف المقدَّسُ على ما هو دنيوي، فتتقدّسُ أشياءٌ وأيامٌ وأماكنُ وكائناتُ غيرُ مقدّسة بمرور الأيام، ويطمسُ المقدَّسُ الزائف ما هو أخلاقي في الدين، وتنضبُ منابعُ إلهام الروح فيه. لحظتها ينامُ العقل، وتتفشّى ظاهرةُ تقديس أشخاص لا يمتلكون الحدَّ الأدنى من طهارةِ الروح، وسلامةِ القلب، وصحوةِ الضميرِ الأخلاقي.

إذا غابت العقلانيةُ النقديةُ تقدَّس غيرُ المقدَّس وتملّكَ مشاعرَ الناس، واستحوذَ على عواطفِهم، واستعبدَ عقولَهم. وتزامن مع ذلك تفشي الجهلِ في المجتمع، وانهيارُ أنظمة التربية والتعليم، وتجفيفُ روافد العلم والمعرفة. تضخّمُ المقدَّس وتغوّله، وتمدّدُه أُفقيًا ورأسيًا، يفرضُ سطوتَه بضراوة على الحياة، بنحوٍ يسقطُ كلُّ شيء في قبضة المقدَّس، ويستحوذ عليه مَنْ ينطق باسم المقدَّس. يستنزف تقديسُ غير المقدَّس طاقاتِ الفرد والمجتمع، ويستعبدُ العقلَ، ويعطّلُ قدراتِ الابداع، والتفكيرَ الخلّاق، ويطفئ جذوةَ الروح، ويستلبُ الضمير.

لا يقع المقدّس موضوعًا للعقل النقدي، أو موضوعًا للعلم، لأن المقدَّسَ خارج حدود العلم وأدوات كشفه، ولا يخضع لـ “معيار قابلية التكذيب”. كلُّ فكرةٍ لا تقبل الدحضَ والإبطالَ والتكذيبَ لا ينطبق عليها عنوانُ العلم، على وفق “منطق الكشف العلمي” لكارل بوبر.

عبدالجبار الرفاعي

د. عبدالجبار الرفاعي مفكر عراقي، ‏متخصص في الفلسفة وعلوم الدين. من مؤسسي علم الكلام الجديد في المجال العربي. منذ ثلاثين عامًا يكرّس منجزه لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة، منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم. أصدر أكثر من 50 كتابًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى