المقالات

إشكالية الكتابة الفلسفية وسؤال المثقف العضوي: بحث في اركيولوجيا الهيمنة الفلسفية

ملخص

نسعى في هذه الورقة، الى كشف وبيان فيصل التفرقة بين الفلسفة والسيطرة والايديولوجيا والهيمنة في واقعية الدرس الفلسفي،وهذا من خلال البحث في بنية وتمفصلات الكتابة عند مدني صالح.وقد خلص البحث الى انها كانت كتابة تشتغل في أسلوبها بطريقة معكوسة، بمعنى انها كتابة ضد كل كتابة تتحول فيما بعد الى مشروع للهيمنة الدائم، عوضا عن ان تكون الكتابة مشروع للسلام الدائم، طبعا ليس على طريقة الفيلسوف الألماني (كانت) التي تشرط الوجود بأنظمة ومعايير عقلانية قبلية ومطلقة، وانما على طريقة الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، التي مثلت الكتابة عنده بحث دائم في اركيولوجيا الهيمنة في السلطة والثقافة والوجود التاريخي والاجتماعي.    

             إشكالية الكتابة الفلسفية وسؤال المثقف العضوي

بحث في اركيولوجيا الهيمنة الفلسفية

ربما كان أخطر ما واجهته عملية الكتابة عن الفيلسوف الراحل مدني صالح، انهاكانت كتابة من اجل الكتابة فقط. بمعنى انها كانت تبقى كتابة مرتهنة بالتمثيلات الفلسفية الثابتة والمؤكدة، عوضا من ان تكون هذه الكتابة ممارسة فلسفية مع الراهن وضد الراهن.

فمن يطالع بتمعن في ادبيات صالح، سيلاحظ كيف ان مفهوم”الكتابة” انفصل تماما عن مفاهيم الفلسفة وتاريخها وانظمتها المعيارية والعقلانية، هذه الأنظمة المنفصلة بدورها هي أيضا عن مفهوم الثقافة والنقد الاجتماعي والسوسيولساني لبنية الفلسفة من جهة، ولجميع اشكال العلاقات السوسيوسياسةوالسوسيوثقافية من جهة أخرى. وبالتالي، فأن مفهوم الكتابة عند صالح، لا يمكن التعاطى معه وفق نظرة أحادية الجانب تعرّف الكتابة عنده انها ممارسة تهكمية مجردة، دون ان تأخذ بعين الاعتبار انها ممارسة فلسفية ضد مجمل اشكال الكتابة الفلسفية المسيطرة والسائدة بالضرورة.

من هنا، فأننا في الواقع لسنا امام كاتب يمارس السخرية بدافع السخرية فحسب، او يمارس السخرية للسخرية ذاتها، بل على العكس من ذلك تماما، ان إعادة العلاقة بين الكتابة وبين السخرية عند الراحل مدني صالح، هي في الحقيقة إعادة الصلة الإشكالية المعقدة بين الفلسفة والسلطة من جهة، وبين نقد المعرفة واطرها الشكلية المتعالية من جهة أخرى. وبطبيعة الحال ان جينالوجيا هذه العلاقة ظلت مسيطرة على انشغالات وتفكير صالحبدء من اطروحته (في الوجود) انتهاء بمؤلفه (بعد خراب الفلسفة). فمن خلال هذا التاريخ الطويل للراحل، نلحظ كيف ان الكتابة عنده كانت تعمل دائما بالضد من نفسها وكينونتها، بمعنى، انها غير قابلة للتمأسس ببساطة مع الأبنية الهرمية والاشكال السلطوية وعلاقات القوة والسيطرة الراكدة في بنية الخطاب الفلسفي وتاريخه. ان مفهوم الكتابة عند صالح، في الحقيقة،هو شبيهبمفهوم “البراكسيس” عند غرامشي الذي لا يقتصر على نقد جينالوجيا الفلسفات المثالية والكتابة المتعالية على الوجود والعالم والثقافة والتاريخ فحسب، بل ويمتد الى طرح الإشكالية التالية: كيف تم استبدال الفاعلية الإنسانية في بنية التاريخالى فاعلية أيديولوجية تزيّف الوجود والتاريخ والفلسفة ؟

ربما كان هذا هو الهاجس الذي غلب على معظم طروحات ومؤلفات الراحل مدني صالح، فغياب هذه الفاعلية في الفلسفة يتساوى لديهمع ميتافيزيقيا الحضور الدائري لإعادة تشكيل كل من: السلطة؛ السيطرة والهيمنة.

الهيمنة الفلسفية: من المادية التاريخية الى انطولوجيا السيطرة/الهيمنة

وهنا لابد من لفت الانتباه الى مسألة في غاية الأهمية، وهي ان مفهوم الكتابة عند صالح في مؤلفه(بعد خراب الفلسفة) لم يمت بأي صلة الى الادبيات الماركسية التي تجلت في مشروع الكتابة الفلسفية عند الفيلسوف حسام الدين الالوسي.ذلك لأن مفهوم الكتابة المدني –نسبة الى مدني صالح–يمكن تصنيفه انه “ما بعد التاريخية المادية” التقليدية.من هنا، فأننا نجد ان مفاهيم الفلسفة والانطولوجيا والابستمولوجيا والاستيطيقا عند الراحل مدني صالح، لا تخضع الى نظرية الانعكاس الميكانيكية التي تزعم ان جميع الاشكال الثقافية والاجتماعية والقانونية تمثل في مجملها بنية فوقية تنعكس بطريقة حتمية من قبل البنية التحتية – الاقتصادوية الضيقة–. بل على العكس من ذلك تماما، ان الكتابة المدنية هي انعكاس حتمي للهيمنة والسيطرة المتفق عليها بطرق عفوية ورضائية واخلاقية، والقابلة للتكرار الحتمي والوظيفي واليقيني المؤكد سلفا بالضرورة.

لهذا السبب، يمكن ان يشير مفهوم “بعد خراب الفلسفة” في أحد معانيه، الى ان الفلسفة لم تعد فن انتاج المفاهيم – حسب دولوز–وانما هي فن لإنتاج الخراب/ وإعادة انتاج الخراب بذاته ولذاته. وطالما بقيت الفلسفة محددة في علاقات السيطرة والقوة الهرمية /الهيراركية والطبقية، فهي لا تنتج مفاهيم بقدر ما تنتج اشكال لامتناهية من صور الهيمنة والايديولوجيا المسيطرة.

الهيمنة : جدلية المثقف الفلسفي العضوي والتقليدي

من هنا، يمكننا القول ان الكتابة عند مدني صالح، تقابل مفهوم”المثقف الفلسفي العضوي”عند غرامشي.فلهذا المثقف القدرة على خرق الأيديولوجيا الكلية وكليانيةالأيديولوجيا، ويعيد،في الوقت نفسه، تفكيك منطقها المتعالي، ويفضح كل علاقات القوة /والسيطرة الكامنة فيها. زد على ذلك، انه يمكن لمفهوم المثقف الفلسفي / العضوي عند الراحل مدني صالح، ان يمثل مثقف “ما بعد المادية التاريخية” قبل ان يكون مثقف ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة وما بعد العقلانية. ذلك، لان عمل هذا المثقف سوف يتجاوز أيديولوجيا القوانين المادية الكلية والحتمية لتطور الثقافة والكيانات الاجتماعية والاثنية. وبالتالي، فأن عمله لا يمكن له ان يكون انعكاساً طبيعياً لنظرية او لأشكال معينة من المبادئ الكلية السابقة على كينونة/ ووجود الخطاب، بل انه يتحرك على تخوم الخطاب وانماطه السلطوية ونقاط السيطرة الكامنة فيه.

وهنا لا بد لنا ان نتساءل، هل يمكننا ان نعتبر ان المثقف الفلسفي / العضوي هو البديل التاريخي لمثقف ابن طفيل في قصة حي بن يقظان؟ وهل تجاوز مدني صالح في كتابه (بعد خراب الفلسفة) المثقف الارسطي / الافلاطوني الذي لا عمل له الا رسم وتحديد خرائط المبادئ المطلقة التي تعمل على مأسسة الوجود والمجتمع والسياسة بأسوار من قيّم منطقية مجردة ومتعالية، تارة نطلق عليه اسم القيّم، وتارة أخرى، تأخذ اسم الاخلاق المطلقة، لتشكل ممارساتنا العقلانية واللسانية وجميع اطر تواصلنا مع العالم والذات والاشياء؟

يبدو ان المثقف الفلسفي / العضوي، تجاوز ابن طفيل وبنية التخييل التاريخي للوجود والعالم، ليعيد تشكيل معمار سردي مختلف مغاير عن ذلك المثقف المنعزل /الناسك، الذي لا يجيد الا لغة التأمل والانقطاع عن الخلائق والعلائق. وبكلمة أخرى، ان إشكالية المثقف عند مدني صالح ، يمكن تقسيمها الى مرحلتين : المرحلة المبكرة المتمثلة بسرديات حي اين يقظان لابن طفيل، والمرحلة المتأخرة المتمثلة بمؤلفه (بعد خراب الفلسفة) الذي قطع فيه صالح، او شكل ما يعرف بالقطيعة الابستمولوجية مع الفلسفة الطبيعية ومناهجها الوضعية – غير التاريخية–. وبالتالي، فهو يكون قد قطع مع “أيديولوجيا المادية التاريخية” ليعيد اكتشاف “نمط انتاج الخراب الفلسفي” الذي لا يتكون من خلال القوانين الوضعية الكلية المطلقة، لأنه صار هو بالأصل مجموعة تشكيلات هرمية وسلطوية تشتغل في بنية السيطرة واشكالها العلاقاتية المتشعبة، وداخل الأنماط القيمية والاخلاقوية الضيقة للهيمنة التي تقوم على تفوق طبقة على حساب طبقة او كيان اجتماعي آخر.

 وبطبيعة الحال ان عمل الهيمنة هنا لا ينحسر او يتحدد بأشكال قبلية سابقة او قوانين تاريخانية ثابتة، وانما يتأسس بطريقة قبلية من خلال استعمالات لغة الاخلاق اليومية، التي أصبحت تختار طوعا السلطة الآمرة، وتخضع لها برغبتها وارادتها الكاملتين من خلال تقنيات انتاج الاحكام القيمية ذاتها عن طريق ممارسة عمليات العقلنة الحِجاجية البرهانية التي تبقى محكومة بمجموعة من الاستعارات الشكلية التي تمأسس بنية القول الأخلاقي من جهة، وبنية الفعل من جهة أخرى.

 لهذا، نجد أن هذه اللغة هي، في واقع الامر، لا يملكها المتكلم لأنها ليست ملكه هو ولا من صنعه أيضا. بل على العكس تماما، ان حاملها يشعر بالاغتراب الدائم بينه وبين الوحدات الصوتية و المستوىالفونيمي للكلمات التي يتلفظ بها. ان المتكلم، في نهاية المطاف، لا يملك شيئا من لغته الا الكيانات المؤجل حضورها في العالم. هذه الكيانات تتشكل داخل دهاليز الهيمنة والمسيطرين عليها وعلى تشريعها وتشريع منظومة عملها في المؤسسة الاجتماعية المتخيلة والمنفصلة عن انتاج الفعل. من هنا، نجد سيادة “للغة الشعاراتية” في بنية هذه المؤسسة واشتغالها على انتاج دلالات رمزية للغة لا تحيل إلا على مركزيتها ومركزية منتجيها، انها لعبة العنف الرمزي – حسب بورديو– التي يخترعها الكبار وتستثمرها الذئاب.

  على ما يبدو، ان الراحل كان يدرك جيدا، ان البقاء على استعمال “لغة الفلسفة الطهرانية” كما ظهرت وتشكلت في كينونة حي بن يقظان، سوف لن تنقل الفلسفة الى افق الوجود وتقويض منطقه السلطوي/ والايديولوجي. ربما هذا ما جعله يعيد مساءلة الأشياء بلغة جديدة وكتابة مبتكرة، لم تألفها الفلسفة من قبل، انها كتابة بلاغية بامتياز، تسعى الى نقد “الاستعارات الشائعة”. انه تصور ساذج ذلك الذي يجزم ان فلسفة التهكم عند مدني هي مجرد خروج عن السائد والمألوف، انها كتابة في درجة الصفر الفلسفي والنسيان الانطولوجي للفلسفة والوجود وللكتابة نفسها، انها كتابة تصرخ في وجه كل شيء. انها كتابة ضد كل كتابة تهمش فعل الكتابة وتستعبده بأسم المنطق والدقة والوضوح العقلاني والحقيقة المطلقة.  

 

 

 

حيدر علي سلامة

باحث عراقي – متخصص في فلسفة الدراسات الثقافية/وما بعدها. حاصل على البكالوريوس في الفلسفة من كلية الآداب-جامعة بغداد في سنة 2002. حاصل على الماجستير في الفلسفة من كلية الآداب-جامعة بغداد في سنة 2004 عن الأطروحة الموسومة بعنوان: (إشكالية المثقف عند الفيلسوف غرامشي). عضو هيئة تحرير مجلة (سيميائيات) الأكاديمية المحكمة التي تصدر عن مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات بجامعة وهران-الجزائر. صدر له عدة مقالات ودراسات وبحوث في مجلات عربية أكاديمية محكمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى