المقالات

الرحمةُ ليست بديلًا عن العدالةِ (2)

الحلقة الثانية

يتفوق الكائنُ البشري على غيره من الكائنات بالرحمةِ. الرحمةُ خلاصةُ المشاعر الحميمية الدافئة وجوهرُها النفيس. أما العقلُ فعلى الرغم من أنه كان وما زالَ من أهمّ ما يتميزُ به الإنسانُ، غير أن “الروبوت” صار يقوم ببعض الأعمال الدقيقة والمعقّدة بواسطة عقل إلكتروني. ويعدنا الذكاءُ الصناعي اليومَ بالكثير مما يمكن أن ينجزه هذا العقلُ الإلكتروني غدًا من مهمات، فهو يشارك عقل الإنسان وأحيانًا يكون بديلًا عنه في تنظيم وإنجاز أعمال متنوّعة. لكن “الروبوت” مع امتلاكه لعقلٍ يظل يفتقر للمشاعر الحميمية الدافئة. ومعنى ذلك إن الكائنَ البشري يتفوّقُ على غيره من الكائنات في الأرض بالرحمة، بل لا تتحقّق إنسانيته إلّا بالرحمةِ.

الرحمةُ حالةٌ، وهي أسمى من العدالة، بل تسمو حتى على الإحسان. ولولاها لنضبت الطاقةُ المتدفّقةُ التي تغذّي الشفقةَ والروحَ الخيريةَ وحوافزُ العطاء والبرّ والإنفاق في الحياة، وكلُّ ما يشكّل منبعًا للعواطف المتدفّقة الفياضة في حياة الناس، وما يبني علاقاتِهم الاجتماعيةَ ويرسّخها على ركائز عميقة صادقة.

الرحمةُ أشملُ وأوسعُ من العدالة. العدالةُ تنشد التوازنَ والمساواةَ والإنصافَ في الحكم، وهي مفهومٌ يبتني على القانونِ والحقوقِ والأخلاقِ. أما الرحمةُ فهي “حالةٌ”، و”الحالةُ” هي ما يتلبّس بها الإنسانُ ويعيشُها بوصفها حقيقيةً وجوديةً كما يعيشُ الحبَ والإيمان، الحالةُ تصيرُ مكوّنًا لهويتِه الشخصيّةِ.

العدالةُ ضرورةٌ لحماية حقوقِ الإنسان وحرياتِه، وهي شرطٌ لازمٌ لكلّ عمليةِ بناءٍ مجتمعي سليم، وهي ضمانةٌ للأمنِ والسلمِ الأهلي من كلّ أشكال العنف والتعدّي على حقّ الآخَر في العيش المشترَك، وخلقِ فرصٍ متكافئةٍ للأفراد في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. لذلك لا يمكن أن يقوم مجتمعٌ سليمٌ من دون قوانين تُنظّم الحياةَ الاقتصادية والسياسية وتحقّق الأمنَ والعدالةَ الاجتماعية، وأنظمةِ عقوبات عادلة تُنصِف المظلومَ وتردع الظالم، بنحو تتسم فيه بالانصاف والتوازن، وتحمي مصالحَ الفرد والجماعة، ويتساوى فيها الأفرادُ في حقوقهم وحرياتهم.

لا يمكن الاستغناءُ عن العدالة بالرحمة، الرحمةُ ليست بديلًا عن العدالة في بناء أيّة جماعة بشرية أو في بناء أيّة دولة، لأن الظلمَ مقيمٌ في الأرض، وأن عيشَ الإنسان وتأمينَ متطلباته الحياتية يفرض عليه الكدحَ والتنافسَ والصراع، والعدالةُ تمنع من أن ينتهي تأمينُ الإنسان لمصالحه ومتطلباته إلى نزاعات دموية وحروب عدوانية.

إن افتراضَ بناء مجتمع على الرحمة وحدها افترضٌ غير واقعي، لأن مثلَ هذا المجتمع لا يمكن أن يتحققَ مادام البشرُ بشرًا، لكن تظل الرحمةُ قيمةً إنسانية رفيعة، تسمو بحياة الفرد والجماعة، بوصف الرحمةِ تنفي بعضَ العقوبات عفوًا، أو تخفض من شدّة بعض العقوبات الأخرى القاسية، وبوصفها هدفًا نبيلًا ينشده الدينُ ليوقظ به ضميرَ الإنسان ويسمو به إلى أجمل حالة إنسانية يمكن أن تتحلّى بها شخصيتُه.

الرحمةُ تنتج ما لا تنتجه العدالةُ، من الرحمةِ يتوالدُ الغفرانُ والعفوُ والعطفُ والرفقُ واللينُ والشفقةُ، لذلك يستطيعُ من يمتلك الرحمةَ تحمّلَ الأقوالِ والأفعال المؤذية الصادرة عن الآخر، كما يستطيعُ العفوَ عنها. الرحيمُ يتحملُ ما لا يتحمله غيرُهُ، ويعفو عمَّ لا يعفو عنه سواهُ من البشر. وما أجمل تفسير الشيخ محيي الدين بن عربي لمنطقِ الرحمةِ في القرآن، إذ يكتب في الفصّ الزكرياوي من كتابه “فصوص الحكم”: “والرحمةُ على الحقيقةِ نسبةٌ من الراحمِ، وهي الموجبةُ للحكمِ، وهي الراحمةُ، والذي أوجدها في المرحومِ ما أوجدها ليرحمه بها، وإنما أوجدها ليرحم بها من قامت به”[1]. بمعنى أن الحقَ سبحانه إذا رحمَ إنسانًا أوجدَ فيه الرحمةَ، أي جعلَ الرحمةَ تقومُ به، بحيث يصبح قادرًا على أن يرحمَ غيرَه من المخلوقات، وبذلك يصبح المرحومُ راحمًا. الحقُ لا يوجِدُ الرحمةَ في المرحومِ ليرحمه بها، بل ليكسبه الصفةَ الإلهية التي بها يرحمُ غيرَه[2].

وبموازاة الرحمة حضرت كلمةُ “الْإِحْسَان”، فقد ورد “الْإِحْسَانُ” والكلمات ذات الصلة به بشكل لافت في القرآن، إذ جاءت بحدود 200 مرة[3]. والإحسانُ يعني ما إذا عمِلَ الإنسانُ عملًا يتضمّن خيرًا للغير. وكما يقول الراغب: “الإحسان على وجهين: أحدهما: الإنعام على الغير، يقال: أحسنَ إلى فلان. والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا علّمَ علمًا حسنًا، أو عمِلَ عملًا حسنًا”[4]. وحثَ القرآنُ على الْإِحْسَانِ في الأقول والأفعال، الجدال مثلًا ينبغي أن يكون بالتي هي أحسن، فهو يقول: “وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ”[5]. وعلى الرغم من أن الإحسانَ مفهومٌ أخلاقي ينشد تقديم ما هو أجمل من القول والفعل، وهو يقعُ في مرتبة تفوق العدالة، لكن يمكن تخصيصه في بعض المواقف دون سواها، فلعل المرء يكون مُحسنًا في مقام فيما لا يكون مُحسنًا في مقام آخر. لذلك لا يربو الإحسانُ لمرتبة الرحمةِ، من حيث هي حالة وجودية لمن يتلبّس بها، فلا تُخصّص الرحمة بمواقف معينة، لأن الرحيمَ يكون رحيمًا حيثما كان الموقفُ.

الكائنُ البشري ليس رحيمًا بالطبع، ولعل في ذلك سرَّ تركيزِ القرآن على الرحمةِ وكثافةِ حضورها فيه، ووضعِها إطارًا مرجعيًا وبوصلةً دلاليةً تُرشِد لما تؤشّر إليه مدلولاتُ سورِه وآياتِه. الرحمةُ حالةٌ لا يستوعبها الكائنُ البشري ولا يتّصفُ بها بيسر، ولا يتمثّلها بسهولة، بل لا يطيقها أكثرُ الناس، لأنها شديدةٌ على النفس، وطالما عجز الكائنُ البشري عن التحققِ بها، إذ إن نزعاتِ العدوان التي تترسّب في أعماقِ هذا الكائنِ تمنعه من امتلاكِها.

الإنسانُ كائنٌ طالما تغلّب في شخصيته الشرُّ على الخير، والتوحشُ على الرحمة. ولولا الدينُ لم تكن الحياةُ ممكنة. الأديانُ خفّضت كثيرًا من الطاقة التدميرية للتوحش في الأرض، فأضحت حياةُ الإنسان ممكنة. لا يتأنسنُ الكائنُ البشري إلّا بالرحمةِ، ومن دونها يتساوى هذا الكائنُ وأيَّ وحشٍ مفترس.

الجلّادون الدمويون الذين ظهروا في الأديان في العصور المختلفة كانوا تعبيرًا عن طبع هذا الكائن المتوحّش أكثرَ مما كانوا يعبّرون عن رحمة الأديان. وإلّا فكيف نفسّر ظهورَ شخصياتٍ روحانية مُلهِمةٍ في الأديان، مثل: الحلاج والنفري ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي وايكهارت والأم تريزا، وغيرِهم ممن يمثلون أجملَ النماذج الرحيمة الملهمة، وممن تفوّقوا في تجسيدهم لكيفية تمثّل الكائن البشري لمغزى الأديان وندائِها الروحاني العميق.

الكائنُ البشري ليس خيّرًا بالطبع، إنه مستعدٌ بالقوة أن يكون خيرًا أو أن يكون شريرًا، ونادرًا ما يتخلّص إنسانٌ في نشأتِه من آثار العواملِ التي تكوّن نواةَ السلوك العدواني في شخصيته، ولولا ذلك لكان معظم الناس رحماء. يتطلّب خفضُ تأثيرِ هذه العوامل على سلوكِ الإنسان أن ينشأ في بيئةٍ تربويةٍ صحيةٍ، وتنمو شخصيتُهُ في فضاءِ تربيةٍ أخلاقيةٍ صالحة، وحياةٍ روحيةٍ مُلهِمة، وثقافةٍ حيويةٍ ديناميكية، كي تترسّخ في شخصيته النزعاتُ الخيرية، وتولد في روحه بذرةُ المحبةِ وتنمو وتتجذّر باستمرار، بوصفها طاقةً ملهمةً لأجمل معاني الحياة، ولكلِّ ما يُكرّس الرحمةَ وما يتوالد عنها من قيمِ العفوِ والغفرانِ والشفقةِ على الخلق، وما يحمي الكائنَ البشري من الاغترابِ الوجودي.

وكلُّ ذلك لا ينجزه إلّا فهمٌ بديلٌ للدين، وموقفٌ مختلف لنمطِ الصلةِ بالله، ورؤيةٌ جديدة للعالم، وإرادةٌ جديّةٌ في تبنّي العلومِ والمعارفِ والخبراتِ الإنسانيةِ الجديدة، والخلاصُ من الغرام بعلومِ ومعارفِ الموتى التي نسخت أكثرَها العلومُ والمعارفُ الحديثة، لكن المؤسفَ أن أكثرَ ذلك ما زالت تفتقر إليه مجتمعاتُ عالَم الإسلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] شرح القيصري على الفصوص. ص 237.

[2] الرفاعي، عبدالجبار.الدين والظمأ الأنطولوجي. بيروت:مركزدراساتفلسفةالدينودارالتنوير،ط2،2016،ص170.

[3]ورد “الْإِحْسَانُ “والكلمات ذات الصلة به في القرآن بهذه الصيغ: الْحَسَنَات، الْحَسَنَةَ، الْحُسْنَى، الْحُسْنَيَيْنِ، الْمُحْسِنِينَ، إِحْسَانًا، أَحْسَنَ، أَحْسَنَهُ، أَحْسَنُوا، أَحْسَنتُمْ، بِالْحَسَنَاتِ، بِالْحَسَنَةِ، بِالْحُسْنَى، بِإِحْسَانٍ، بِأَحْسَنَ، بِأَحْسَنِهَا، تُحْسِنُوا، حَسَنًا، حَسَنٍ، حَسَنَاتٍ، حَسَنَةً، حَسُنَتْ، حُسْنُهُنَّ، حِسَانٌ، فَأَحْسَنَ، لَحُسْنَ، لَلْحُسْنَى، لِلْمُحْسِنَاتِ، لِلْمُحْسِنِينَ مُحْسِنٌ، مُحْسِنِينَ، مُحْسِنُونَ، وَالْإِحْسَانِ، وَأَحْسَنَ، وَأَحْسِنُوا، وَحَسُنَ، وَحَسُنَتْ، يُحْسِنُونَ.

[4] الطيبي،شرف الدين الحسين بن محمد. شرح الطيبي على مشكاة المصابيح المسمى الكاشف عن حقائق السنن. بيروت: دارالكتبالعلمية،ج1: ص93.

[5] العنكبوت، 46.

عبدالجبار الرفاعي

د. عبدالجبار الرفاعي مفكر عراقي، ‏متخصص في الفلسفة وعلوم الدين. من مؤسسي علم الكلام الجديد في المجال العربي. منذ ثلاثين عامًا يكرّس منجزه لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة، منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم. أصدر أكثر من 50 كتابًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى