الدراسات

مقارنة الأديان الكتابيّة في التراث الإسلامي من وجهة نظر يهودية ابن كمونة ورسالة “التنقيح” (ق. 7ه/13م) أنموذجاً

تَمَخَّضَ عن النقاش الدائر بخصوص الأديان ومقارنتها بعد القرن الحادي عشر الميلادي انبعاث ثلة من المفكرين اليهود الذين حملوا على عاتقهم مهمة إخراج شريعتهم من العراقة المنغلقة وإيجاد الحجج الملائمة لاستثمارها في النقاش الدائر بين أرباب الملل والنحل الأخرى. ساهم اختلاف موازين القوى السياسية وبالتالي الثقافية في العصر الإسلامي الوسيط، في تغيير منزلة اليهود والدفع بهم للبروز كقوة ثقافية حاضرة بحججها. هذا السياق بمعطياته الأكثر غزارة، هو ما ساهم في ظهور أعمال فلسفية وكلامية تهتم أساسا بتخليص جواهر الأفكار الدينية المتعاقبة في الساحة، فرشحت عن ذلك رسالة: “تنقيح الأبحاث للملل الثلاث”[i] سنة 679هـ/1280ملعزّ الدولة-سعد بن منصور هبة الله-ابن كمّونة* البغدادي (1215م/611هـ-1284م/683هـ).

شكل هذا التداخل بين اللاهوت الإسلامي واليهودي والنصراني مُزجَةً متنوعة المكونات في فهم بُنى الديانات التوحيدية الشرقية. يتزامن هذا مع أفول الحكم العباسي على يد المغول، مما فسح المجال أمام قدر من حرية التفكير لدى الأقليات الدينية، وأبرزها اليهود؛ حيث ستُستثمر كأداة ضغط سياسية وأيديولوجية على المجتمع الإسلامي، بتبويئهم مناصب عليا، وتحصين آرائهم من العامة. لكنه، ومع ذلك، سوف تثير رسالة ابن كمونة غضب الجمهور عليه، باختلاف دينهم، ولم يكن ثمة اختلافا في الرد عليه سواء من طرف النصارى أو المسلمين. ولما استفحل الأمر، كان عليه الهرب إلى الحلّة، للعيش فيها ما تبقى من عمره[ii].

بداية، ينبغي أن نعلم بأن الرسالة تقع في مقدمة وأربعة أبواب. فخصص المقدمة لتبيين غاية الكتاب، ومنهج تأليفه، وجعل الباب الأول خاصا بتعريف النبوءة ودرجاتها، وضمّن الباب الثاني ملة اليهود، والمعجزات المنسوبة إلى أنبيائهم، ووصاياهم، والنقود الموجهة إلى ملتهم. أما الباب الثالث فقد تعرض فيه للديانة المسيحية ووقف عند اختلافات أصحابها، وما تعرضت له من نقود. والباب الرابع والأخير خصصه للمسلمين، وتحديدا أدلة النبوة المحمدية التي جعلها في ستة أدلة.

مع ذلك، يمكن القول إنّ ابن كمونة قد أفرد رسالتين صُنِّفتا ضمن الدراسات الدينية المقارنة، وهما: “تنقيح الأبحاث للملل الثلاث”، و”مقالة في الفرق بين الربانيين والقرائيين”[iii]، حسب الدراسة البيبليوغرافية التي أنجزها كل من جاوادي- Pourjavadyوشميدتكه-Schmidtk. ولعل اعتماد رسالة “التنقيح” كنموذج بارز في الدراسة المقارنة عند ابن كمونة، هو اختيار لمُنجَزٍ أخذ على عاتقه جمع ما تراكم من الحجج على مر تاريخ المِلَل، وتلخيصها بشكل دقيق، يسمح بالوقوف عند المسارات الكبرى لها، وكذا عند المواقف والقضايا الهامة التي حصل فيها الاختلاف بين أرباب هذه الملل. يهمنا في هذا السياق أن نثير الأبعاد العقدية والتشريعية التي يعتد بها كل دين انطلاقا من تتاليها الزمني، وتتابعها الموضوعاتي، والترتيب المنهجي الذي لجأ إليه ابن كمونة في تنقيح أبحاثه.

استندت هذه الدراسة في اختيارها لرسالة ابن كمونة، على فرضية تقول: إنّ بداية ما يسمى اليوم بـ “علم الأديان المقارن”، منذ ظهوره في القرن 19م، وقبله بقرن من الزمن “فلسفة الدين”، غرضهما إجراء دراسة في قضايا مشتركة بين عدة منظومات دينية، بغرض إبراز حجج ودلائل، وشعائر و”طقوس”[iv] كل منهم. ولما كان الأمر كذلك، جُوِّز لنا أنْ نعتبر رسالة “التنقيح” تجربة رائدة تنتمي إلى الفكر الديني المقارن في العصر الوسيط.

لقراءة الدراسة كاملة، يمكنك أن تحملها أسفل الصفحة


[i]– يقول كل من جوادي- Pourjavadyوشميدتكه-Schmidtk، متحدثان عما واجهته الرسالة بعد تأليفها:

«في مقابل كتاباته الفلسفية، لم تسترع مقارنة ابن كمونة للأديان الثلاثة، في كتاب “تنقيح الأبحاث”، اهتمام العالم الإسلامي وبقي مجهولا لدى كثير من العلماء، على الرغم مما أثاره العمل من صخب في بغداد بعد انتهائه بأربع سنوات».

Reza Pourjavady & Sabine Schmidtke, A Jewish philosopher of Baghdad: IZZ AL-DAWLA IBN KAMMÙNA and his writings, (Boston: Brill, Leiden , 2006), p. 51.

*– هو سعد بن منصور بن هبة الله بن كمونة البغدادي، ولقبه عزّ الدولة. ولد عام 1215م/611هـ ببغداد، وتولى مهاما في الدولة، وعكف على التأليف والتلخيص والتعليق، حتى بلغت مجموع مصنفاته عشرة، ولم يُعرف منها سوى: “الجديد في الحكمة“، و”شرح التلويحات اللوحية والعرشية“، و”تنقيح الأبحاث للملل الثلاث“. وكانت هذه الرسالة الأخيرة سببا في أنْ يُطارد بسبب ما صرّح به فيها من آراء ونقود وطعون على الأديان، حتى حوصر بيتُه فاضطرّه ذلك للهرب إلى الحلّة، في صندوق مع قافلة، حيث كان يشغل ابنه منصب كاتب بديوانها، ولم يُعرف تاريخ وفاته بالتحديد، لكن الأشهر أنّه عام 1284م/683هـ. راجع:

حاجي خليفة مصطفى بن عبد الله القسطنطيني، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، تحقيق وتعليق: أكمل الدين حسان أوغلي وبشار عواد معروف، (بيروت: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات المخطوطات الإسلامية، 2021م)، المجلّد الأول، ص.ص. 434-435.

كمال الدين بن الفوطي، الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة، تحقيق: مهدي النّجم، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2002م)، ص. 304.

آقا بزرك الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، (بيروت: دار الأضواء، الطبعة الثالثة 1983م)، الجزء 16، ص. 405. والجزء 18، ص. 351.

[ii]– أنظر:

Sabine Schmidtke, «Conférences de Mme Sabine Schmidtke», (École pratique des hautes études, Section des sciences religieuses, Annuaire,Tome 114, 2005-2006), pp. 183-186.

[iii]– أنظر:

Reza Pourjavady & Sabine Schmidtke, Op., Cit., pp. 106-117.

نجد إضافة مكملة لهذه الفكرة وردت عند كل من روجيما وبورتويس وفالكنبيرغ، يقولون فيها:«يكمن الاختلاف التام في مادة موضوع العملين المقارَنين ضمن مؤلفه: “مقالة في الفرق بين الربانيين والقرائيين”، مع عمل هو موضوع هذه الورقة، “تنقيح الأبحاث للملل الثلاث”. […] في حالة كتاب “التنقيح”، أتى ابن كمونة بأسس الدفاعات للملل الإبراهيمية الثلاث».

Barbara Roggema & Marcel Poorthuis & Pim Valkenberg, The three rings: Textual studies in the historical trialogue of Judaism, Christianity, and Islam, (Dudley: Peeters Leuven, 2005), p. 49.

[iv]– أستعمل هذا المفهوم (طقس) بصورة إجرائية آخذاً بعين الاعتبار أنّ توظيفه في سياق دراسة الملل التوحيدية ليس دقيقا كليا؛ إذْ أنّه يدل بشكل أدق على بنية العقائد الوثنية والطبيعية كما جرت عادة استعماله من لدن المشتغلين بالأنثروبولوجيا الدينية.

إبراهيم ونزار

باحث مغربي حاصل على الدكتوراه في الفلسفة، تخصص فلسفة الدين بجامعة الحسن الثاني، يشغل منصب أستاذ زائر للفلسفة بنفس الكلية. من بين منشوراته: " مفهوم الإنسان في الفلسفة الأخلاقية العربية: مسكويه أنموذجا"، و"العنف خاصية إنسانية"، و"الحقيقة النفسية للدين عند فرويد". كما شارك في عدة ندوات وطنية ودولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى