المقالات

بؤس الذائقة الاستهلاكية وتشوهها

  مثلما تُعلِنُ العنصريةُ عن حضورها عبر النسب والقبيلة والقومية والمعتقد والجغرافيا والثقافة وغير ذلك، يُعلِنُ الاستهلاكُ المبتذل عن عنصريته عبر الغرابة والشذوذ فيما يستعمله ويتناوله الإنسان. الذي يتناولُ اللحمَ المطلي بالذهب يُعلِنُ أنه الاستثناء في استعلائه على الناس في الأرض، لا يستحقُ هذه المكانةَ غيرُه هو وحده المؤهل للتويج بها. أثار قرفي واشمئزازي خبرٌ نشرته قناةُ العربية يوم 12 ديسمبر 2021 على صفحتها في الانستغرام يتحدث عن: (فندق في فيتنام يقدّم لزواره فرصة شراء قطعة لحم “توماهوك” مغطاة بالذهب، مقابل 1319 دولارًا للقطعة).

لفرط دهشتي بعثتُ الخبر إلى ولدي محمد باقر المقيم في استراليا، فبادر هو وأرسل رابطًا لصفحة أحد الطباخين المشهورين على الانستغرام في أحد الدول، يعلن هذا الطباخُ عن أسعار وجباته من اللحوم فيكتب: أن مطعمه يبيع قطعة اللحم المطلية بالذهب، بوزن 680 غراما، بسعر يصل إلى 2000 دولار أمريكي”.

تذوقُ الإنسانِ للطعام يختلفُ عن تذوق الحيوان للطعام. تذوقُ الإنسانِ حالة تلذّذ أعمق من أن تنحصر بالحواس، إنها أبعدُ مدىً مما هو مادي لأنها تعبّر عن المشاعر والأحاسيس الإنسانية والرؤية الجمالية للعالَم أيضًا. الاستعلاءُ والتباهي والغطرسة والتبختر في الاستهلاك ضربٌ من خيانة الضمير والمرض الذوقي والأخلاقي الذي يهدرُ إنسانيةَ الإنسان، ويبذّرُ حقوقَ الفقراء والجياع في الأرض، بافتعال احتياجات مفارقة لاحتياجات الإنسان الأساسية والثانوية، ويبدّدُ الثرواتِ والمواردَ الطبيعية المشتركة لتأمين احتياجات كلِّ البشر بسفاهة وحمق.

بطرُ الذائقة في الاستهلاك وانحباسُها فيما هو مادي حالةُ تشوّه مرضية سامّة، تفتكُ بأخلاقية الإنسان، وتميتُ غيرتَه وشفقتَه ورحمتَه بأخيه الإنسان. يُنحَر الإنسانُ داخلَ الإنسانِ حين يُختَزل ويُنظر إليه وإلى كلِّ شيء يتصل بوجوده وعقله وروحه ومشاعره كشيءٍ من الأشياء. هذه واحدةٌ من خطايا رأسمالية السوق المتوحشة، وتعاملها مع كلِّ شيء حتى الإنسان،كبضاعةٍ تجارية ومنتَجٍ استهلاكي يباع ويشترى.

احتياجاتُ الإنسان: للمعنى، للإيمان، للمحبة، للجمال، لسكينة الروح، لطمأنينة القلب، لتقدير الذات، للاعتراف، للعطاء، للتضامن الإنساني، لا ترويها الأشياءُ المادية مهما غرق الإنسانُ في استهلاكها، ومهما كانت قيمتُها السوقية. مَنْ يعجز عن تأمين الاحتياجات الروحية والأخلاقية والإنسانية يعيش خواءً روحيًا وقلقًا وجوديًا يسلبُ سكينتَه الباطنية، ويحجب عنه معاني السعادة.

كثيرٌ من الناس في المجتمعات الغارقة في الاستهلاك، سواء كانت غربيةً أو شرقية، يكابدون الاضطراباتِ النفسية والقلقَ وفقدانَ السكينة والأرقَ والمللَ والضجرَ والاكتئاب. يعيشُ أكثرُ هؤلاء الناس بلا شعورٍ بالأمن والسلام في داخلهم، وإن كان معظمُهم يحاول التنكّرَ لتعاسته ويتظاهر بالسعادة. التظاهرُ بالسعادة تشجّع عليه كتاباتٌ ساذجة تتكتّم على بواعث مواجع الإنسان العميقة، وتلهيه عن البحث عن اكتشاف عللها الكامنة في داخله والسعي لإشباع احتياجاته الطبيعية،كما إن إعلانَ السعادة صار وسيلةً مخادِعة تتيح للإنسان الحضورَ الاجتماعي والتأثيرَ في الناس الذي ينشده.

في المجتمع الاستهلاكي يصير كلُّ شيء سلعةً، حتى الإنسان يُنظر إليه كأنه سلعة، ويجري تقديرُ قيمة كلّ شيء بمعيار الربح والخسارة بالمعنى الاقتصادي، وتقدّر قيمتُه بمقدارِ ما يسهم فيه من إنتاجٍ مادي، وبنوعِ ما يتسوقه ويستهلكه. تحديدُ قيمة الإنسان بنوعِ ما يتسوقه ويستهلكه أحدث تحولاتٍ في منظومة القيم، وخلق مفاهيمَ زائفة للسعادة والرضا وتقدير الذات والاعتراف، ولكلِّ ما يصنع للإنسان حضورًا ومكانة وتأثيرًا في المجتمع.

في المجتمع الاستهلاكي تزدهر حالةُ التباهي، ويتسيّد التبجّحُ والزهو بما يقتنيه الإنسانُ من أشياء مادية، ينظر الناسُ في هذا المجتمع للتسوق والاستهلاك بوصفه وسيلةً للتفوق على الآخرين، يجري استثمارُها في تنمية الرصيد الاجتماعي للفرد، خاصةً وسط الطبقة المُترَفة الغارقة في الأضواء، المتهافتة على إظهار استعلائها على غيرها بشتى الأساليب المبتذلة.    تُسرِف هذه الطبقةُ في شراء السيارات الفخمة، وماركات الملابس باهظة الثمن، والألماس والمجوهرات النادرة، والساعات الفاحشة السعر، وغيرها من المقتنيات التي تقاس قيمتُها بارتفاع ثمنها، وليس بإشباعها المباشر لحاجة حقيقية، بل تستعمل لغرض الظفر بإلفات نظر الغير وطلب المزيد من الإعجاب والاهتمام، لذلك كلّما غلا ثمنُها تضاعف شغفُ المترفين وتهافتهم عليها، بغضّ النظر عن قيمتها الاستعمالية، وما يمكن أن تؤديه من إشباع حاجة أساسية أو ثانوية.

تمادى نمطُ الاستهلاك التفاخري فشغف هؤلاء بأرقام السيارات، وأرقام الهواتف، وأشياء أخرى غريبة، صارت سلعًا تُعرَض في مزادات خاصة. وأضحت وسائلُ التواصل أداةً لتعويض الافتقار للمشاعر الإنسانية الصادقة، وابتُذلت العواطف وتنمّطت وتجمدت، حتى ابتلي الناسُ بالإدمان على الحضور الدائم في وسائل التواصل، واشتدّ التلهفُ والتسابقُ على الفوز بعدد أكبر من المتابعين والمعجبين،كتعويضٍ عن فقدان المشاعر الصادقة الدافئة الحميمة.

في المجتمع الاستهلاكي تُفتعَل احتياجاتٌ هامشيةٌ وحتى عبثية، ويختلّ سُلّمُ الاحتياجات، فيمسي ما هو ضروريٌّ هامشيًا وما هو هامشيٌّ ضروريًا. تُنسى الاحتياجاتُ العميقة، وتحتجب حاجةُ الإنسان للمعنى وللقيم السامية، ويتدجّن الإنسانُ ويُدمِن على النمط الاستهلاكي المادي المُنطفِئة فيه جذوةُ الحياة الأصيلة، فيموت الإنسانُ داخلَ الإنسان. هذا ما يقوله فلاسفةٌ وعلماءُ نفس واجتماع وقفوا على معاناة الإنسان في هذا العصر، وأدركوا مكابدات اغترابه الوجودي، وكيف صار كأنه آلةٌ ميكانيكية.

في هذا المجتمع يكبتُ الإنسانُ احتياجاتِه العميقة، ويفتعل احتياجات يتطلبها حضورُه في المجتمع الذي ينتمي إليه. يتحول الإنسانُ إلى ممثلٍ يستعير شخصيةً غريبة عن طبيعته، وبالتدريج يطمس احتياجاتِه الإنسانية، ويدمن على التلبّس بهذه الشخصية المستعارَة. في المجتمع الغارق في التباهي المتغطرس بالاستهلاك يصبحُ الإنسانُ السوي غريبًا بل كأنه شاذٌ. يصفُ إريك فروم هذا المجتمعَ بقوله: “الناس الأسوياء يبدون مرضى، ومن هم عكسهم يبدون أسوياء، وهذه ليست طرفة. إن الإنسانَ المريض يشعر أن هناك أشياء فيه لم يتم كبتها، فتدخل صراعًا مع ما هو سائد من أنماط ثقافية، لذلك يشعر بالألم. الشعورُ بالألم إشارةٌ الى أن هناك خطأ ما. هو محظوظ لأنه تألم، ذلك يؤشر إلى أن هناك خطأ في مساره. عندما لا يتألم الإنسانُ يعني أنه تأقلم، لدرجة أنه تخلّى عن كلِّ معنى يمتلكه، أصبح منسلخا أشبهَ بالآلات والروبوتات، ولم يعد يشعر بأيِّ صراع. وهذا يعني أن حُبَّه ومشاعرَه مكبوتةٌ إلى حدٍّ كبير، أو ضامرةٌ بنحوٍ يكشف عن صورةٍ لانفصام الشخصية المعتدل المزمن. إن ما يهدف إليه مجتمعُنا هو زيادةُ الإنتاج بغيةَ تأمين متطلبات زيادة الاستهلاك، أي الاقتصاد وتنميته والتكنولوجيا، هذا هو الهدفُ الذي نعيش من أجله، ولا يعيش الإنسانُ من أجل الإنسان. ما ينفع الناسَ لا يحظى باهتمامٍ كبير، ولا حتى ما يؤذي الناس يحظى باهتمام”.

التعاطي مع الإنسان كشيء في المجتمع الاستهلاكي جعل البعضَ يوصي بإحراق جثته بعد الموت. رفاتُ الميت صار ضحيةَ المجتمع الاستهلاكي، بوصف الميّت شيئًا لا قيمةَ له في نظر بعضهم، لذلك ينبغي أن تتخلصَ الأرضُ ومَنْ عليها من رفاته، أو يبادر ذووه أحيانًا فيحرقونه، بغيةَ تحويل رماده إلى ألماس أو جواهر نادرة، كي يكتسب هذا الرمادُ قيمةَ الألماس والجواهر المادية. بعد أن خسر الإنسانُ حياتَه صار لا قيمةَ له كما تفرض ذلك معاييرُ السوق. الإنسانُ بوصفه منتَجًا استهلاكيًا لا قيمةَ له خارج جسده المادي، لذلك تعيره الجواهرُ قيمتَها السوقية بعد أن خسر قيمتَه كسلعة بعد موته. لا أعني بذلك أديانًا تمارس حرقَ جثة الميت بوصفه طقسًا دينيًا، وتعتقد بأن حرقَ الميت يعمل على تسامي روحه وخلاصها من وحشة عالم المادة وأدرانها،كي تعود الروحُ إلى أصلها متحرّرةً من ظلمات المادة. النار في اعتقاد هذه الديانات مطهرة كما يطهر الماء في ديانات أخرى.

في ثقافة الاستهلاك كلُّ شيء سلعة، كلُّ شيء معروضٌ للبيع والشراء والتسوق والاستهلاك والربح التجاري والعرض والطلب. الإنسانُ بعد موته يستعمل كسلعة، مادام كلُّ شيء في الحياة سلعةً استهلاكية، لذلك يمكن للورثة التصرّفُ برفاته كيفما يشاؤون، ومعاملتُه كشيء مادي، واستخدامُه على الضدّ من تميّز وفرادة الكينونة الوجودية له، المتعالية على كلِّ مخلوق في الأرض.

مكانةُ الإنسانِ لا يُحدِّدُها نوعُ ما يتسوقه من أشياء مادية ولا نمط ما يستهلكه. الإنسانُ هذا الكائنُ اللغز المدهش المستودَع لأسرار الخلق، هو الوحيد الذي تجلّت فيه أجملُ صورةٍ لله في العالَم. الإنسانُ جوهرُ الخلق، وأجلى مظهر ارتسمت فيه أكملُ صورةٍ لله، لا يمكن أن يضاهيه الألماسُ أو يساويه أيُّ شيء من الجواهر في العالَم، مهما كانت قيمتُها المادية. الإنسانُ محترمٌ مكرّمٌ في حياته محترمٌ مكرّمٌ بعد موته أيضًا، الموتُ ليس فناءً، الموتُ في مفهوم الدين طورٌ جديد لوجود الإنسان، لذلك ينبغي تكريمُ الإنسان بعد موته كما ينبغي تكريمُه في حياته.

عندما ينحطّ الإنسانُ يرى ذاتَه شيئًا ماديًا، وهو لا يدري أنه مهما كانت القيمةُ المادية لهذا الشيء فإنها لا يمكن أن تضاهي المكانةَ الوجودية ‏للإنسان فضلًا عن أن تماثلها. لن يدركَ الحقيقةَ الوجودية للإنسان إلا ذوو البصائر، ولن يتذوقَ صورةَ هذه الحقيقة بوصفها تجليًا للوجود الإلهي إلا مَنْ يعيش تجربةً روحية تشرق بنور إلهي. من هنا لابد من “إعادة تعريف الإنسان” وذلك هو موضوع مقالتنا القادمة.

 

 

عبدالجبار الرفاعي

د. عبدالجبار الرفاعي مفكر عراقي، ‏متخصص في الفلسفة وعلوم الدين. من مؤسسي علم الكلام الجديد في المجال العربي. منذ ثلاثين عامًا يكرّس منجزه لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة، منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم. أصدر أكثر من 50 كتابًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى