الدكتور عبد الحميد أبو سليمان
تغمد الله الصديق المرحوم د. عبد الحميد أبو سليمان برحمته الواسعة، الذي رحل عن عالمنا إلى الديار الآخرة في 18-8-2021. قبل 24 سنة نشرت مجلة قضايا إسلامية معاصرة حوارًا معه، كان أرحب رؤية وثقافة من بعض رفاقه الدكاترة المهندسين في فريق إدارة المعهد، على الرغم من أنه لم يكن متجذّرا في دراسة التراث وغربلته، لأن التخصص الأكاديمي لأبي سليمان خارج التراث وعلوم الدين. أبو سليمان ابن مكة المكرمة، الأكثر وفاء لبيئتها المدينية، التي ولد ونشأ وتشبّع في مناخاتها ونسيجها الحضري العريق. كان متحضرًا، لا يفتقر لإدراك ومعرفة روح العصر.
المرحوم الشيخ د. طه جابر العلواني هو المتخصّص الوحيد في الشريعة وأصول الفقه من مؤسّسي المعهد وفريق إدارته، وإن تمّ تجميده من قبل فريق المعهد لاحقًا.
لا أتفق مع رؤية العلواني وأبي سليمان للأسلمة الشمولية، لأن “إسلامية المعرفة”، التي اقترحها المعهد العالمي للفكر الإسلامي تمثّل المدى الأقصى لإهدار مكاسب العقل البشري وتراكم الخبرة البشرية في العلوم، لكن أحترمهما وأعتزّ بصداقتنا معًا، لأنهما يحرصان على التواصل والحوار والمناقشة الحرّة، والإصغاء للتفكير العقلاني النقدي.
في سنة 2003 خصصنا عددًا في مجلة قضايا إسلامية لمناقشة موجة أسلمة العلوم، التي اتسعت الدعوة إليها في الربع الأخير من القرن العشرين، وإن انحسرت بالتدريج في القرن الراهن، بعد أن خسرت رهاناتها، وتعذّر عليها تحقيق أحلامها في الواقع. صدر محور العدد تحت عنوان: “إشكاليات أسلمة العلوم: التحيز والتمركز في المعرفة”، العدد 23، ربيع 2003.
وفي سنة 2006 تلقيت دعوة لحضور المؤتمر الذي عقده المعهد العالمي للفكر الإسلامي في اسطنبول بمناسبة مرور 25 سنة على تأسيسه، وقدّمتُ ورقةً نقدية لرؤية المعهد للأسلمة الشمولية، نشرت هذه الورقة لاحقا في كتابي: الدين والنزعة الإنسانية، في الفصل السابع بعنوان: “إسلامية المعرفة أيديولوجيا وليست معرفة”. كانت هي الورقة النقدية الوحيدة لهذه الرؤية الشمولية لأسلمة المعارف والعلوم في المؤتمر، لكن فريق المعهد تلقاها بانزعاج، خلافًا للمرحومين عبدالحميد أبو سليمان وطه جابر العلواني اللذين تلقياها برحابة صدر، وحثّا على نشرها.
في هذا اللقاء دعاني أبو سليمان إلى زيارتهم في مقرّ المعهد، وتقديم رؤيتي النقدية ومناقشتها مع فريق المعهد، لكن لم تصل دعوة المعهد، لأن الدكتور عبد الحميد أبو سليمان لم يكن وقتئذٍ رئيسا له، ولم تتحقّق هذه الزيارة.
واصلتُ النقد لهذه الرؤية، ففي سنة 2018 تضمن الفصل السادس من كتابي: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، نقدًا جديدًا لأسلمة المعرفة، بعنوان: “عندما يتجاوز الدينُ حدودَه”.
كلما التقيت الشيخ طه جابر العلواني الذي كان يشكو بمرارة من تصدي غير المتخصصين بعلوم الدين لإدارة المؤسسات ومراكز البحوث المتخصصة في دراسة الدين وعلومه، واستحواذهم عليها، كما حدث للمعهد، بعد أن تمّ تجميد العلواني، فعاش سنوات حياته الأخيرة في القاهرة حتى وفاته.
كانوا يضيقون ذرعًا بكلّ من ينقدهم علميًا، فمثلًا لبث كتاب “المنهجية المعرفية القرآنية” اثني عشر عامًا منسيًا بعد أن حجبوه عن القرّاء، لأنه لا يتناغم وتفكيرهم المبسّط المغلق. الكتاب ألّفه صديقنا المرحوم محمد أبوالقاسم حاج حمد، فرفضوه وعقدوا ندوة موسعة في القاهرة لمناقشته، لم أسمع فيها إلا الألفاظ والعبارات المكرّرة لديهم. المفارقة أن الكتاب أعدّه حاج حمد لصالح المعهد بتكليف الشيخ طه العلواني عندما كان رئيسًا للمعهد، كما حدثني العلواني بذلك، فطلب مني أبو القاسم حاج حمد نشره، وتطوّع الصديق الدكتور محمد همام مشكورًا فبعث بنسخته المصورة بالرونيو عبر البريد من المغرب “أغادير”، وعند تسلمي الكتاب طالعته مباشرة وتحمّست لنشره. استشرت الشيخ العلواني فشجّعني على نشره، فأصدرته ببيروت في سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة التي كان يصدرها مركز دراسات فلسفة الدين، صدر في صيف 2003. وقتئذٍ كنت في بيروت، كنا نمضي ساعات طويلة أنا والمرحوم حاج حمد في منزله بـ “الشويفات” وهو المضياف ككلّ الأصدقاء من السودانيين الكرماء المعروفين لمن عاشرهم بدفئهم الآسر، وتهذيبهم الأخلاقي. كنت أصغي لحاج حمد وهو يحكي منعطفات حياته، وتكوينه الثقافي، ونشأته المشبعة بالمعنى، ومناخات الروح المضيئة بإشراقات التصوّف الملهمة للشخصية السودانية.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: منشور على هذا الرابط العدد 23، ربيع 2003 من المجلة، محور العدد تحت عنوان: “إشكاليات أسلمة العلوم: التحيز والتمركز في المعرفة”. والورقة المقدمة للمؤتمر الذي عقده المعهد العالمي للفكر الإسلامي في اسطنبول بمناسبة مرور 25 سنة على تأسيسه، المنشورة في كتابي: الدين والنزعة الإنسانية، في الفصل السابع بعنوان: “إسلامية المعرفة أيديولوجيا وليست معرفة”، والفصل السادس من كتابي: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، الذي تضمن نقدًا جديدًا لأسلمة المعرفة، بعنوان: “عندما يتجاوز الدينُ حدودَه”.
رابط الكتب المشورة للدكتور عبدالجبار الرفاعي على موقع مكتبة نور