عنف الشخصية الصهيونية : الدكتور عبد الوهاب المسيري
ثمة عنف أساسي في الإدراك الصهيوني للواقع والتاريخ، ولم يكن هناك مفر من أن يُترجم هذا الإدراك لإجراءات وعنف مسلح لتغيير الواقع ولرفض الرؤية اليهودية الحاخامية. ولتحقيق هذا الهدف كان حتمياً أن تنتج المادة البشرية القتالية القادرة على تحريك التاريخ لا من خلال التوراة وإنما من خلال السيف، وهذا ما سماه الصهاينة “تحديث الشخصية اليهودية”، أي علمنتها وجعلها قادرة على تغيير قيمها حسبما تقتضيه الظروف والملابسات، وتبني قيم نيتشاوية وداروينية لا علاقة لها بمكارم الأخلاق أو بالمطلقات الإنسانية والأخلاقية والدينية.
وقد بيَن الصهاينة أن اليهودية الحاخامية طلبت من اليهود الانتظار في صبر وأناه لعودة الماشيح، وألا يتدخلوا في مشيئة الإله، لأن هذا يعتبر كفراً. ولكن الصهاينة، الرافضين للعقيدة اليهودية تمردوا على هذا الموقف أو وصفوه بالسلبية ونادوا بأن يعمل اليهودي بكل ما لديه من وسائل على العودة الى أرض الميعاد. فالمنفى بالنسبة الى ديفيد بن جوريون يعني الاتكال، الاتكال السياسي والمادي والروحي والثقافي والفكري، ودعا الى الانفصال كلياً عن هذا الاتكال وأن يصبحوا أسياد أقدارهم.
إن العنف هنا يصبح الأداة التي يتوسل بها الصهاينة لإعادة صياغة الشخصية اليهودية، فاليهودي في هذا التصور يحتاج الى ممارسة العنف لتحرير نفسه من نفسه ومن ذاته الطفيلية الهامشية، وكان الكاتب الصهيوني “بن هكت” يشعر بسعادة في قرارة نفسه في كل مرة يقتل فيها جندياً بريطانياً لأنه، على حد قوله، كان يتحرر من مخاوفه ويولد من جديد. فاليهودي حينما يقوم بهذا الفعل (ذبح أحد الأغيار) يتخلص من مخاوفه. وهذا الجانب من الفكر الصهيوني يتضح بجلاء في كتاب “الثورة” الذي ألفه مناحم بيجين، والذي يقلِب فيه عبارة ديكارت المعروفة “أنا أفكر، إذن أنا موجود” لتصبح “أنا أحارب، إذن أنا موجود”. ثم يضيف: “من الدم والنار والدموع والرماد سيخرج نموذج جديد من الرجال، نموذج غير معروف البتة للعالم: اليهودي المحارب”.
أحد الأشكال الأساسية للعنف الصهيوني هو رفض الصهاينة قبول الواقع والتاريخ العربي في فلسطين باعتبار أن الذات الصهيونية واليهودية هي مركز هذا الواقع ومرجعيته الوحيدة، ولذا يستبعد الصهاينة العناصر الأساسية (غير اليهودية) المكونة لواقع فلسطين وتاريخها من وجدانهم ورؤيتهم وخريطتهم الإدراكية. والإرهاب الصهيوني إن هو إلا محاولة تستهدف فرض الرؤية الصهيونية على الواقع.
والصهيونية حركة استيطانية إحلالية وهو ما يعني ضرورة أن تُخلي الأرض التي سينفذ فيها المشروع الصهيوني من السكان الأصليين، ولا يمكن أن يتم هذا إلا من خلال أقصى درجات العنف والإرهاب. وقد يعبر العنف عن نفسه بطريقة مباشرة، كما أنه قد يعبر عن نفسه بطريقة غير مباشرة عن طريق عشرات القوانين والمؤسسات، وما قانون العودة الإسرائيلي إلا ترجمة لهذا العنف حين يُعطي أي يهودي في العالم حق “العودة” الى إسرائيل في أي وقت شاء ويُنكر هذا الحق على ملايين الفلسطنيين الذين طُردوا من فلسطين على دفعات منذ عام 1948، رغم أن يهود العالم لا يودون الهجرة الى إسرائيل بينما يقرع الفلسطينيون أبوابها.
من ناحية أخرى قام الصهاينة بتسويغ الاستعمار الصهيوني بالرجوع الى فكرة التفوق الحضاري الغربي، وانطلاقاً من هذا التصور تم طرح الامبريالية على أنها نشاطاً نبيلاً يهدف الى جلب الحضارة للأجناس الأخرى التي تعيش في ظلام البدائية والجهل. وظهرت مقولة عبء الرجل الأبيض حيث طرحت إسرائيل نفسها باعتبارها دولة وظيفية غربية (بيضاء) متقدمة، قاعدة للديمقراطية الغربية تحمي المصالح الاستراتيجية الغربية، وتقف بحزم وصرامة ضد القومية العربية ثم ضد الحركات الإسلامية.
الصهيونية إستعمار إحلالي
لقد تركزت الجهود الصهيونية علي إحلال الكتلة البشرية اليهودية الوافدة محل السكان الأصليين، أي أن الترانسفير الذي بدأ في أوربا بتهجير اليهود إلي فلسطين ينتهي ويتحقق من خلال طرد الفلسطينيين من ديارهم ثم الاستيطان في بلادهم.
يُطلق مصطلح “الاستعمار الاستيطاني الإحلالي” على هذا النوع من الاستعمار حين يقوم العنصر السكاني الوافد (عادة الأبيض) بالتخلص من السكان الأصليين إما عن طريق الطرد أو عن طريق الإبادة حتى يُفرِغ الأرض منهم ويحل هو محلهم. ففي أمريكا اللاتينية، كان هدف المستوطنين البيوريتين في الولايات المتحدة الأمريكية الحصول على الأرض لإنشاء مجتمع جديد، فكان طرد أو إبادة السكان الأصليين وإحلال عنصر جديد محل العنصر القديم أمراً لا مفر منه. كذلك كانت جنوب أفريقيا، حتى عهد قريب، من هذا النوع الإحلالي، فنجد أن المستوطنين البيض قد استولوا على خير أراضيها وطردوا السكان الأصليين منها، ولكن بمرور الزمن، طرأت تغيرات بنيوية على الدولة الاستيطانية في جنوب أفريقيا، وأصبح استغلال السكان الأصليين أحد الأهداف السياسية. ولذا، كان يوجد في جنوب أفريقيا استعمار استيطاني يقوم بتجميع السود في أماكن عمل ومدن مستقلة (بانتوستان) تقع خارج حدود المناطق والمدن البيضاء، ولكنها تقع بالقرب منها حتى يتسنى للعمال السود الهجرة اليومية داخل المناطق البيضاء للعمل فيها.
والأمر بالنسبة لإسرائيل لا يختلف كثيراً عنه في جنوب أفريقيا إذ أن الهدف من الصهيونية هو إنشاء دولة يهودية خالصة، ومن هنا طرح كل من الاستعماريين غير اليهود والصهاينة اليهود شعار “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. ولكن مثل هذه الأرض لا توجد إلا على سطح القمر (على حد قول حنه أرنت). ولذا، كان يتحتم على الاستعمار الصهيوني أن يستولى على قطعة أرض ثم يفرغها من سكانها عن طريق العنف. ولذا فطرد الفلسطينيين من أراضيهم جزء عضوي من الرؤية الاستيطانية الصهيونية، ولا تزال هذه هي السمة الأساسية للاستعمار الصهيوني في فلسطين.
وإخلاء فلسطين من كل سكانها أو معظمهم (على أقل تقدير) هو أحد ثوابت الفكر الصهيوني، وهو أمر منطقي ومفهوم، إذ لو تم الاستيلاء على الأرض مع بقاء سكانها عليها لأصبح من المستحيل تأسيس الدولة اليهودية، ولتم تأسيس دولة تمثل سكانها بغض النظر عن انتمائهم الديني أو الإثني وتكتسب هويتها الإثنية الأساسية من الانتماء الإثني لأغلبية سكانها. ومثل هذه الدولة الأخيرة لا تُعد تحقيقاً للحلم الصهيوني الذي يطمح إلى تأسيس الدولة-الجيتو. ومن هنا، كان اختفاء العرب ضرورياً. والعنصرية الصهيونية ليست مسألة عَرَضية، ولا قضية طغيان فرد أو مجموعة من الأفراد؛ وإنما هي خاصية بنيوية لأنه لكي يتحقق الحلم الصهيوني لابد أن يختفي السكان الأصليون، ولو لم يختفوا لما تحقق الحلم. ولهذا، نجد أن الصهاينة (كل الصهاينة، بغض النظر عن انتمائهم الديني أو السياسي، وبغض النظر عن القيم الأخلاقية التي يؤمنون بها) يسهمون في البنية العنصرية وينمونها، فالمستوطن اليهودي الذي يصل إلى فلسطين سوف يسهم -حتى لو كان حاملاً مشعل الحرية والإخاء والمساواة وملوحاً بأكثر الألوية الثورية حمرةـ في اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وفي تشويه علاقاتهم الاجـتـمـاعـيـة والاقتصادية والحضارية، وسوف يعمل على تقوية مجتمع استيطاني مبني على الاغتصاب. وهذه مشكلة أخلاقية حقيقية تواجه الإسرائيليين الذين يرفضون الصهيونية، والمولودين على أرض فلسطين المحتلة. ويؤكد كل هذا التوجه (إسرائيل زانجويل) إذ يقول: “إن أردنا أن نعطي بلداً لشعب بلا أرض، فمن الحماقة أن نسمح بأن يصبح في هذا الوطن شعب”.
وثمة عناصر خاصة بالاستعمار الاستيطاني الإحلالي الصهيوني تضمن استمرار آليات الاحتكاك والتوتر بينه وبين السكان الأصليين وسكان المنطقة ككل. فمعظم التجارب الإحلالية الأخرى حلت مشكلتها السكانية (أي وجود سكان أصليين) بعدة طرق: التهجير أو الإبادة أو التزاوج مع عناصر السكان الأصليين، أو بمركب من هذه العناصر. ولكن التجربة الاستيطانية الصهيونية تختلف عن معظم التجارب الإحلالية الأخرى في أنها لم تتم في المناطق النائية عن العالم القديم (الأمريكتين وأستراليا ونيوزيلندا) وإنما تمت في وسط المشرق العربي، في منطقة تضم كثافة بشرية لها امتداد تاريخي طويل وتقاليد حضارية راسخة وامتداد بشري وحضاري يقع خارج حدود فلسطين.
ولكل هذا، فإن حل التهجير صعب إلى حد ما، كما أن حل الإبادة يكاد يكون مستحيلاً، والتزاوج أمر غير مطروح أصلاً، وهو ما يجعل المسألة الفلسطينية السكانية والتاريخية مستعصية على الحل الاستعماري التقليدي الذي مورس في مناطق أخرى في مراحل تاريخية سابقة، ولذا فإن من المتوقع استمرار التوتر والعزلة والشراسة.
حتمية طرد الفلسطينيين ونقلهم (ترانسفير)
إذن يهدف المخطط الصهيوني -شأنه شأن أي مشروع استيطاني إحلالي- إلى طرد وترحيل السكان الأصليين الذين يشغلون الأرض التي سيقام فـيـهـا التجمع الصهيوني. وهذا أمر حتمي حتى يتسنى إقامة دولة يهودية خالصة لا تشوبها أية شوائب عرقية أو حضارية أخرى. ولذا طرح شعار “أرض بلا شعب”. وهو ما يجعل طرد الفلسطينيين أمراً حتمياً نابعاً من منطق الصهيونية الداخلي.
فنجد على سبيل المثال أن “إسرائيل زانجويل”، المفكر الصهيوني البريطاني، يؤكد في كتاباته الأولى ضرورة طرد العرب وترحيلهم، فيقول: “يجب ألا يُسمح للعرب أن يحولوا دون تحقيق المشروع الصهيوني ولذا لابد من إقناعهم بالهجرة الجماعية أليست لهم بلاد العرب كلها … ليس ثمة من سبب خاص يحمل العرب على التشبث بهذه الكيلو مترات القليلة … فهم بدو رحل يطوون خيامهم ويَنْسَلون في صمت وينتقلون من مكان لآخر”.
وذكر جوزيف وايتز، مسئول الاستيطان في الوكالة اليهودية، في عدد ٢٩ سبتمبر ١٩٦٧ من جريدة دافار، أنه، هو وغيره من الزعماء الصهاينة، قد توصلوا إلى نتيجة مفادها أنه “لا يوجد مكان لكلا الشعبين (العربي واليهودي) في هذا البلد” وأن تحقيق الأهداف الصهيونية يتطلب تفريغ فلسطين، أو جزء منها من سكانها، وأنه ينبغي لذلك نقل العرب، كل العرب، إلى الدول المجاورة. وبعد إتمام عملية نقل السكان هذه ستتمكن فلسطين من استيعاب الملايين من اليهود.
ثمة رؤية إحلالية صهيونية واضحة لها منطقها الواضح الحتمي، تحولت إلى خطة لحل مشكلة الصهاينة الديموجرافية، وهذه المشكلة عادةً ما يُطرح حل نهائي جذري لحلها، وقد تتأرجح بين حد أقصى (الترانسفير الكامل أو الإبادة الجسدية الكاملة) أو حد أدنى، خلق أغلبية من العنصر السكاني الجديد. المتحرك هو الحدان الأعلى والأدنى، أما الثابت فهي رؤية الترحيل والإحلال.
إذن الثوابت واضحة والخطة ليست أقل وضوحاً، والآلية في مثل هذه التجارب الاستيطانية الإحلالية معروفة، فالبشر لا يتركون أرضهم هكذا، ولا يطوون خيامهم وينسلون من الأرض ويختفون، ولابد من استخدام القوة والعنف.
في عام ۱۹۰۷ تأسست منظمة عسكرية صهيونية سرية شعارها “لقد سقطت يهودا بالدم والنار وستنهض بالطريقة نفسها”. وقد تحول اسم هذه المنظمة عام ١٩٠٩ إلى منظمة الهاجاناه. وقد أسقطت الهاجاناه، وهي الذراع العسكري للوكالة اليهودية وللمنظمة الصهيونية العالمية، الشعار الإرهابي آنف الذكر. ولكن الأرجون (أو هاجاناه بيت) التي كان يترأسها مناحم بيجين احتفظت به. وقد اتخذت الأرجون – رمزاً لها – يداً تمسك بندقية فوق خريطة فلسطين وشرق الأردن، أيضاً، نقشت تحته هذه الكلمات: “هكذا فقط”، وفي سنة ١٩٤٨ اندمجت كل من الهاجاناه والأرجون لتكوِنا جيش الدفاع الإسرائيلي.
وأصبح إفراغ فلسطين من سكانها هو هدف وضرورة يحتمها منطق العنف الصهيوني. ولكي يحقق الصهاينة مخططهم تبنوا تكتيكات مختلفة، فلم يكن العنف المسلح الوسيلة الوحيدة، وإنما استخدموا وسائل أخرى أيضاً، كان المكر أهمها. ويتمثل المكر في نشر الذعر والإرهاب بين العرب، إلا أن الأسلوبين متداخلان، بل إنهما في الواقع مجرد عنصرين في مخطط واحد متكامل. ففي حالة مذبحة دير ياسين، على سبيل المثال، حرص الصهاينة حرصاً شديداً على إطلاع جميع الفلسطينيين على الحادث، ليقوموا من خلاله بغرس الخوف والهلع في القلوب. وكان أكثر أساليب الحرب النفسية شيوعاً هو أسلوب استخدام مكبرات الصوت والإذاعات الخلق جو من الذعر بين السكان.
*. عبد الوهاب المسيري (2002). الصهيونية والعنف: من بداية الاستيطان إلى انتفاضة الأقصى. ط. 2. القاهرة. دار الشروق. ص ص. 191 – 232.