منشأ الاختلاف في ثبوت الهلال
نشر صديقي وتلميذي الشيخ مهند الساعدي مقالة سابقة لي عن الهلال مشكورًا في إحدى مجموعات الواتس اب، فأورد بعض أعضاء المجموعة ملاحظات على الأمثلة التوضيحية التي ذكرتها في المقال، فأرسل لي الأخ مهند ذلك، وكتبتُ له هذا الجواب:
لقد وسّعتُ هذا النصَّ كثيرًا، فصار الفصلُ السابعُ من كتابي الأخير:”الدين والاغتراب الميتافيزيقي”، وجاء في طبعته الثانية بعنوان: “الاستملاك الرمزي للهلال”.
الملاحظات المذكورة تنبهتْ للأمثلة التوضيحية، ولم تلتقط ما ترمي إليه فكرةُ المقال المحورية. وقد تعلّمنا من التراث: “ألا مناقشة في المثال، فهو بالقدر الذي يقرّب من جهة، يبعد من جهة أو جهات أخرى”.
هذا المقالُ يفكر داخلَ نظام معرفي مشتق من فلسفة العلم وعلوم التأويل والمعارف الحديثة، أما نحن فاعتدنا في دراساتنا الدينية أن نفكر في التراث بنظام معرفي تراثي، فالذي يفكر على وفق مكاسب الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع اليوم لا تتطابق طريقةُ تفكيره مع من يفكر داخل التراث…أظن أن أولَ فقيهٍ في الحوزة تنبّه لضرورة دراسة “فلسفة الفقه” هو السيد محمد باقر الصدر، عندما تكلّم في مقدمة الجزء الثاني من اقتصادنا عن “عملية الاجتهاد والذاتية”، وأظن أن الشيخ مرتضى المطهري من بعده أشار إلى: “أن فتوى ابن القرية يشم منها رائحة القرية، وفتوى ابن المدينة يشم منها رائحة المدينة”… لكن أولَ من اقترح تأسيسَ هذا العلم، وأطلق تسميةَ “فلسفة الفقه” هو الشيخُ محمد مجتهد شبستري.
هذا المقالُ مثالٌ صغيرٌ على تطبيق “فلسفة الفقه” في تحليلِ مدونةِ الفقه والكشف عن المرجعياتِ التي يحيل إليها التفكيرُ الفقهي، وهو منهجٌ لا يكرّر ما تعلمناه في أصول الفقه وغيرِه في الحوزة… يذهب المقالُ إلى ضرورةِ الخروج من الأسوارِ المنيعةِ للدراسات الدينية التقليدية، والسعي للتخلص من رؤيةِ الحاضر بعين الماضي، وتحريرِ العقل من استبداد علوم الأوائل وإكراهاتها للتفكيرِ الديني، تلك العلوم التي نسخت العلومُ والمعارفُ الحديثةُ كثيرًا منها، والعملِ على إعادةِ النظر في البنيةِ التحتية التي ابتنى عليها هيكلُ المعارف الدينية، وعدمِ سلوك المساراتِ القديمةَ ذاتِها، واستئنافِ النظر في ما صار بمثابة البداهات في هذه المعارف، وأعادتْ مساءلتَه وتشريحَه، بغية اكتشافِ الآفاق التاريخية التي تشكّل فيها والخروجِ منها إلى أفقنا الراهن.
في حقلِ الفقه يتكرّر القولُ في المسائل ذاتها، ويغرق الدارسُ في تفاصيل مدوّنته التي تضخّمتْ بالتدريج، وانحسرتْ تبعًا لتضخّمها معظمُ مجالات التفكير الديني الأخرى، وفرضتْ حضورَها الصارم على كلِّ ما يتّصل بأقوالِ وأفعالِ المسلم، وأخضعتْ كلَّ حياتِه لمعاييرها، بلا استحضار للقيم والمقاصد الكلية المعبرة عنها.
وذلك يفرض تدشينَ علمٍ قادرٍ على إجراءِ حفرياتٍ عميقةٍ في المدوّنة الفقهية، من خلالِ تفكيكِ الأنساقِ المولّدة للمعرفةِ الفقهية، والكشفِ عن العناصرِ المختبئةِ في عملية الاستنباط، وأثرِها البالغِ في توالدِ هذه المعرفة وتشعّبها ونموِّها وتطوّرِها. وهذه مهمةٌ يتكفّلها علمُ “فلسفة الفقه”، وهو علمٌ لا يعتمد العدّةَ المنهجيةَ والمفاهيميةَ المعروفةَ في “أصول الفقه” أو”الفقه”، بل ينفتح على فلسفةِ العلم وعلومِ التأويل والعلومِ الإنسانية والاجتماعية المختلفة، ويتوكأ على مناهجِها ومفاهيمِها، بغيةَ تحليلِ البنية العميقة للمعرفة الفقهية، وكيفيةِ إنتاجِها، والكشفِ عن العناصرِ المضمَرةِ في ذهنِ الفقيه، وأثرِها اللاواعي في توليد المواقف والآراء والفتاوى، والصلةِ العضوية بين الفقهِ والسياقاتِ التاريخيةِ المختلفةِ التي تشكّل فيها، والعلاقةِ بين المعرفةِ الفقهية وشبكاتِ السلطات الروحية والزمنية.
فلسفةُ الفقه علمٌ يُنقّب عمّا هو غاطسٌ في عملية الاستدلال الفقهي، ويعمل على عبور عناصر هذا الاستدلال المعروفة، ليصل إلى تشريح الخلفيات غير المرئية في استنباط الأحكام الشرعية، ويسعى للتعرّف على العناصر البشرية المختلفة الخفيّة المؤثّرة في إنتاج الفتوى.
فلسفةُ الفقه لا تتوقف عند السطح، بل تنشغل بالنظر إلى الأعماق، في محاولةٍ للكشف عن البنية التحتية للتفكير الفقهي، أي إن هذا العلمَ يحاول أن يتوغل بعيدًا ليكتشف الأحكامَ المسبقةَ للفقيه، وتأثيرَ رؤيته للعالم، وما هو مترسب في لاوعيه من مؤثّرات متنوّعة، توجّه تفكيرَه على وفق بوصلتها.
كلُّ خبير يدرس الفقهَ في ضوء المناهج الحديثة يكتشف أنه مدونةٌ تشريعيةٌ، ومرآةٌ ترتسمُ فيها ألوانُ تفكير فقهاء الإسلام في العصور المختلفة، وتحمل بصمةَ شخصياتهم، وتحكي كيفيةَ حياتهم، وأنماطَ العيش المتنوّعة في بيئاتهم، التي تنعكس كلُّها على طريقة تفكيرهم وما يفضي إليه من نتائج.
كذلك يعرف الخبيرُ أن قراءاتِ الفقهاء لما جاء في القرآن والسنّة من نصوص، مضافًا إلى أنها وُلدت في إطار ما فرضته شخصياتُهم وأحكامُهم المسبقةُ وآفاقُ انتظارهم وما تحفل به بيئاتُهم من جهة، وُلدت من جهة أخرى في إطار ما فرضته قواعدُ ومعاييرُ قراءة النصوص الدينية، تلك القواعدُ والمعاييرُ التي تمّت صناعتُها في عصر متأخّر عن عصر البعثة الشريفة بمدة طويلة نسبيًا، والذي بدأ في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني، وهذه القواعدُ تمثل اجتهادات بشرية أنتجها مجتهدون كالشافعي”150-204هـ” وغيره، ثم صارت هذه القواعدُ تتجذّر وتتوسّع عموديًا وأفقيًا بمرور الزمان، حتى تسلّطت على عملية الفهم، ففرضتْ طريقةَ فهمٍ تهيمن على عمليات تلقي النصوص الدينية في الأزمنة المختلفة، بنحو تسيّدتْ فيه وتأبّدت وأضحتْ مسلماتٍ نهائية، لا مشروعيةَ لقراءةِ أيّ نصٍّ دينيّ أو ممارسةٍ لتفكيرٍ فقهي خارج أسوارها.
حاولنا أن ندرس الخلافَ حول الهلال في ضوء علم “فلسفة الفقه”. والهلالُ مثالٌ تطبيقي لهذا العلم، ينشد إضاءةَ ما هو مستورٌ في النزاع على الهلال، فخلصنا إلى أن الخلافَ على الهلال يعود لمحاولة استملاكِه الرمزي واحتكارِه، بغية إثراء رأس المال المقدّس، وتبيّن لنا أن الخلافَ هو على هلالين وليس على هلال واحد، فهلالُ أكثر الفقهاء غيرُ هلال الفلكيين، هلالُهم مؤطّر بمعنى ديني، في حين أن هلالَ الفلكيين هلالٌ ماديٌّ، مجردٌ من المضمون الرمزي الديني، بوصفه ظاهرةً كونية، يكتشفها ويحدّد كلَّ شيء فيها العلمُ، وهو ظاهرةٌ محايدةٌ حيال المعنى الديني، وليست مؤطرةً بشيء ينتمي للمقدّس.
المقدّس يمثّل موقفًا حيالَ العالم، ويحدّد طريقةً خاصّة للتعامل معه، بشكل لا يتطابق دائمًا مع الدنيوي، والتعرّفُ على ذلك يتطلب دراساتٍ متنوعة، لا تكرّر ما هو موروث، بل تنفتح على المناهجِ الحديثة في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع وتطبيقِها على فهم الدين وقراءةِ نصوصه، لتنكشف كيفيةَ توالد المقدّس، وأنماطَ صيروته وتمثّلاته وتمدده في حياة الإنسان، والصلةَ العضوية بين اتساع المقدس وتمدد واتساع السلطة الروحية ومديات نفوذها في الحياة البشرية.
ومن يرغب في تفاصيل هذا الموضوع يمكنه العودة إلى مباحث فلسفة الفقه في كتاباتي، فهناك مجموعة فصول في كتبي لها صلة مباشرة بفلسفة الفقه، منها:
1- فلسفة الفقه، فصل 3 من كتابي: مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد، طبعة 2.
2- المرجعيات الكلامية للفقيه وأثرها في عملية الاستباط، فصل 5 من كتابي: الدين والنزعة الانسانية، طبعة .3
3- الاستملاك الرمزي للهلال، فصل 7 من كتابي: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، طبعة 2.
4- تناغم القيم والقانون في الدولة الحديثة، فصل 2 من كتابي: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، طبعة 2 .
5- التدين الأخلاقي، فصل 5 من كتابي: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، طبعة 2.
6- عندما يتجاوز الدين حدوده، فصل 5 من كتابي: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، طبعة 2.
7- للدين حقيقته الخاصة في الهرمنيوطيقا، فصل 10 من كتابي: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، طبعة 2.
8- أية دولة بلا حياة روحية وقيم اخلاقية، فصل 5 من كتابي: الدين والظمأ الانطولوجي، طبعة 3.
9- الأخلاق والتفكير الفقهي، مقالة ستنشر لاحقًا.
10- دعوة الشيخ أمين الخولي للتجديد، رابط النشر
11- محاضرات في أصول الفقه، في مجلدين، مطبوع 10 طبعات.