عن سؤال “المصير” واللغة العربية اليوم
ينبري عدد من الباحثين الذين ينعتون ب”المستقبليين” للحديث عن مصير اللغات، وينبري عندنا نحن في ثقافتنا عدد من المهتمين لنقل رؤى ونتائج أولئك الباحثين٬ وبكثير من الهالة والتقديس، وإسقاطها على اللغة العربية تحديدا٬ والحقيقة أني شخصيا لا أستسيغ مجموع هذه التحليلات والرؤى في كليتها، سواء عند من ينتجها ابتداء، أو من ينقلها عنهم في سياقنا، والعلة في وعدم استئناسي بهذه التحليلات مزدوجة في الحقيقة، إذ أني، من جهة المبدأ، لا أعتقد بأن دور الفكر هو التنبؤ أو الحديث عما سيكون، فزمن التنبؤ زمن فقير، ينبني على رد “الحدث” الآتي وقياسه على أطر الفهم والإدراك التي هي في مكنتنا اليوم، والحال أن الحدث هو ما يفجر كل أطر إدراكنا وفهمنا القبلية، بأن يفتحها على مصائر لم يكن من الممكن التنبؤ بها ابتداء، فالممكن ليس هو الحاضر منعكسا في المستقبل، بل هو، كما يبين فيلسوف الديمومة الفرنسي الكبير هنري برغسون، العكس تماما، أي هو الحاضر وقد انعكس، بعديا، في مستقبل افتراضي للماضي، هكذا فنحن لا نتصور الممكنات إلا بعديا، أما المستقبل فهو ما يفرض نفسه دائما خارج كل أفق انتظار، مهما بدا لنا، حين نلاقيه، أنه أفق انتظار كان متوقعا، ولا داعي، للتمثيل على هذا الأمر، وإلا فإن النماذج لا حصر لها، فلا أحد، مثلا، كان ينتظر “حدث” الثورات العربية، ولا أحد كان يعرف آن حدوثها التوجه الذي هي تأخذه اليوم، وهذا كله لسبب بسيط كما قلنا، هو أن زمن التنبؤ لا يلحق مطلقا بزمن الحدث. السبب الثاني لتحفظي المذكور هو من طبيعة عملية خالصة، إذ هو يتعلق بطبيعة هذه التنبؤات ومضمونها نفسه، فهذه الرؤى متناقضة في نتائجها٬ وأخلاقية في تقويمها، إذ هي تعتمد الانفعال، تفاؤلا أو تشاؤما، عنصرا جوهريا لها، رغم كل معطيات الإحصاء وأرقام الديموغرافيا التي تعتمد عليها٬ وبشكل مبالغ فيه أحيانا، وقد كان الفرنسيون يقولون : الإحصاء حجة الكذب. في هذا السياق تعتبر بعض هذه التحليلات أن مستقبل اللغة العربية “زاهر”، مستشهدة في ذلك بالدراسات التي تبين أن عدد المتكلمين بهذه اللغة هو في تزايد مستمر (حوالي 450 مليون اليوم) وأن نسبة الخصوبة في المجتمعات الناطقة بها في ارتفاع، وأن عدد المقبلين على تعلمها عبر العالم في تزايد مستمر، وأن الأمم المتحدة ومنظماتها ما فتئت تذكر أهمية هذه اللغة وحيويتها، بل وتحتفي باعتماد يوم عالمي لها هو الثامن عشر من ديسمبر (ابتداء من سنة 2012 ). أما البعض الباقي من هذه التحليلات فينحو منحى مضادا تماما، فيتحدث عن التراجع الكبير لهذه اللغة والانحسار الذي تعاني منه قياسا، من جهة، لتغوّل الانجليزية التي صارت لغة العصر منذ عقود، وقياسا، من جهة أخرى، للهجات المحلية التي بدأت تحتل، في كثير من الدول الناطقة بالعربية، محل اللغة المرجعية، مع ما يوازي ذلك من دعوات عرقية وثقافية إقليمية، وهو الأمر الذي استنفر مؤسسات ومنظمات عربية كثيرة للدعوة لتفعيل اللغة العربية وتقويتها والدفاع عنها أمام هذا المد “الكاسح”.
سبق وذكرت أني شخصيا لست مع أي من الرؤيتين، والعلة أني ضد منطق الرؤية الثنائي هذا نفسه، بل وضد صيغة السؤال نفسها، فالسؤال هنا خاطئ وغير واضح، على الرغم مما يبدو عليه من وجاهة وقوة، فبخصوص الرؤية الأولى، ولنسمها “المتفائلة”، فهي في الغالب تأتي في سياق خطاب عام تمجيدي واحتفائي بالثقافة العربية، والاحتفاء والتمجيد حق مشروع، بل هو أحيانا على صواب، لكنه غير ذي مفعول عملي، كل ما يقدمه هو نوع من الانتشاء النفسي والزهو بالذات، وهو خطاب يبلغ أحيانا حدودا تثير الاستغراب، من مثل حديث بعضهم عن كون اللغة العربية أفضل لغات العالم على الإطلاق، لأنها لغة أهل الجنة، ولأن هناك ضمانة ميتافيزيقية لاستمرار هذه اللغة واكتساحها للعالم في مستقبل الأيام. وخطاب الاستغراب يصير تعجبا عند المتلقي حين يعرف أن هذا الحديث يأتي من أناس لا يعرفون غير هذه اللغة حصرا، فما تدري بحسب أي قياس وأي مقارنة أمكنهم أن يتحدثوا عن أفضلية هذه اللغة على غيرها، بل كيف استطابوا حديث المفاضلة هذا بين اللغات، في إطلاقه، أصلا، واللسانيات المعاصرة تبين أن لكل لغة عبقريتها الخاصة التي تجعلها غير قابلة للمقارنة مع غيرها، فكل لغة هي عالم في ذاته محكوم هو نفسه بتصور معين خاص عن معنى الأفضلية، بهذا المعنى فما يكون عنصر تفضيل في لغة وثقافة معينة٬ سيصير هو نفسه عنصر ضعف في تصور لغوي وثقافي آخر، والعكس صحيح، وهذا ما يجربه يوميا الناس الذين تمرسوا بألسن متعددة. أما بخصوص الرؤية الثانية فالمشكلة معها هي نزوعها “القيامي”، فالحديث عن اندحار اللغة العربية وتراجعها ليس جديدا، بل لقد كان ملازما لهذه اللغة – وربما لكل اللغات- منذ نشأتها، ونذكر كلنا كلام علي ابن أبي طالب لعمر بن الخطاب أن “أدرك العربية فإنها تهلك”، أو حديث أحد نقاد الأدب القدامى عن “هذا الكلام الذي ذهب أهله”، كما نذكر في العهد القريب ذيوع هذا الخطاب وشيوعه، حتى طفقت بعض الدول العربية تنشئ القوانين والمؤسسات لحماية اللغة العربية وتحصينها ( اللغة العراق في العام 1977 مع “قانون الحفاظ على سلامة اللغة العربية “، نفس القانون في اليمن 1995، سوريا عام 2009 وإنشاء “اللجنة الفرعية لتمكين اللغة العربية”، الجزائر مع قانون “تعميم اللغة العربية” عام 1990، السعودية عام 2001 والأردن عام 2001 ….) كلا النظرتين أو الجوابين خاطئ إذا، وما ذلك كذلك إلا لأن السؤال خاطئ في الأصل كما ذكرنا، تماما كما أن كل الأسئلة التي تحتمل جوابين في ما هو أستشكالي بطبعه، تكون خاطئة، بل إن النظرتين تسندان بعضهما في الحقيقة، فالأولى منهما تغذي الثانية٬ والعكس، تماما كما أن الرؤية التمجيدية تتغذى على الرؤية القيامية٬ والعكس.
كيف ينبغي أن نتمثل الأمر إذن وكيف لنا أن نتدبره؟
الأحق بالانتباه والأحرى بالاهتمام في نظري، ولا أقول الأصح، هو أن نتحرر، ابتداء، من منطق التنبؤ ولواحقه في كليتهما، والأجدى والأحرى أيضا، أن نقترب مما هو عملي في مثل هذه القضايا، وأن نبتعد عما هو نظري، فعوض الحديث عن مستقبل اللغة العربية ، يكون المطلوب هو التساؤل أولا : أي لغة عربية نقصد ؟ وهل أن هناك لغة عربية واحدة وحيدة ينبغي الدفاع عنها أصلا، استمرت منذ الجاهلية إلى اليوم، أم أن الأمر خلاف هذا؟ وما طبيعة التعالقات التي تقيم هذه اللغة أو “اللغات” العربية اليوم (لغة البحث، لغة الإعلام، لغة الترجمة …) مع اللهجات الدارجة المحلية؟ ومع اللغات الحية الفاعلة اليوم؟ ثم كيف نفعل عمليا هذه اللغة في اليومي وبأية وسائل وبأي غايات قريبة أو بعيدة؟ وأين تنتعش وأين تنحصر، ولأي أسباب جزئية؟ وبأي دوافع أو موانع ظرفية أو بنيوية؟
حين ننظر للأمور من هذه الزاوية، حين نجزئ الرؤية ونجعلها أكثر “محايثة”، قد تصير أسئلتنا أقل تضخما، لكنها ستكون أكثر “عملية” وقدرة على الفعل، فعوض الحديث عن “مستقبل اللغة العربية” سنطرح سؤال الترجمة وسؤال المعجم وسؤال التداول اليومي وسؤال التدبير، وهو الأمر الذي سيحذو بنا، الآن وهنا، لأن نجتهد في بناء مقاومات “صغرى” ، في المواقع والقنوات والتفاعلات البينية، وفي تفعيل اللغة وتمرينها في الراهن، عوض ربطها بآفاق التنبؤ والترقب، فالتطبيق هو التنظير بحق، وهذا ما يعني أن التداول العملي لهذه اللغة، وتفعيلها وتمثل ممكناتها جزيئيا، هو ما سيضمن لها، عمليا، مستقبلا حيا، عوض تحنيطها في صور كلية قبلية، والسعي للبحث عن ماهيتها المطلقة في الزمان .