علال الفاسي وحاجة العقل إلى دواء الحرية

إن دواء الحرية صعب، ولكنه وحده الدواء الصحيح.
(علال الفاسي، النقد الذاتي)
إن التأمل في مفهوم الحرية عند علال الفاسي، هو تأمل في هذا المفهوم ضمن شبكة مفاهيمية يفكر من خلالها صاحب “النقد الذاتي” في هذا المفهوم. بحيث يصعب استيعابه من دون قراءته ضمن أسرة دلالية ومفاهيمية تتوزع بين مفاهيم الإنسانية، أو الإنسية، والمدنية، والعمل، والإرادة، بالإضافة إلى مفهوم العقل والتجربة الحياتية، وغيرها من المفاهيم المتشابكة والمترابطة مع هذا المفهوم المركزي في فكر علال الفاسي.
كما سيندهش قارئ ما كتبه علال الفاسي حول الحرية، من اطلاعه الفكري الواسع، لا على المدونة الفقهية الإسلامية، ولا على أقاويل أدباء وفلاسفة بلاد الإسلام، القدامى والمحدثين، ولكن على متون فلسفية متعددة، بدءا من فلاسفة الإغريق حتى فلاسفة العصر الحديث والزمن المعاصر، الذين اشتبك مع أطروحاتهم فهما واستيعابا ومناقشة ونقدا واختلافا.
سنقف عند نصين أساسيين تناول فيهما الزعيم الوطني المغربي مسالة الحرية، وهما كتابه العمدة النقد الذاتي[1]، بالإضافة إلى كتاب متوسط الحجم اختار له الحرية عنوانا[2].
لقد تحكمت في تأليف علال الفاسي لنص الحرية ظروف حركة الاستقلال في المغرب، وما طبعها من هم التحرر الوطني من تبعات الاستعمار، ورغبة في بناء عهد جديد من الحرية يقوم على أساس الحرية وتمثيلية الحكم للإرادة السياسية للمواطنين. فلا شيء كان عند المغاربة يستحق التضحية أكثر من الحرية، باعتبار الوجود الحق هو الوجود الحر، الوجود مع الحرية وبالحرية ومن أجل الحرية، من حيث هي قبس رباني[3].
هكذا نجد علال الفاسي يميز بين الحرية المطلقة، والحرية الجزئية. الحرية المطلقة واحدة بينما الحرية الجزئية متعددة، الحرية المطلقة هي الحرية الكاملة وهي صفة من صفات الله وخلق من أخلاقه. وبما أن غاية الإنسان أن يتحلى بصفات الله ويتخلق بأخلاقه فهو ليس حرا في أن يكون غير حر: بل واجب عليه أن يكون حرا حرية لا تقيدها قيود أو تحدها حدود[4].
وفي هذا الصدد يقارب علال الفاسي مسألة الحرية الإنسانية، انطلاقا من المقارنة بينها وبين الحرية الإلهية، فإذا كانت حرية الإنسان، كما هي حرية الإله، مطلقة، فإن الفرق يكمن بين إرادة الله الكاملة وإرادة الإنسان الناقصة. يقول في هذا الصدد: “(..) وحقيقة أن الحرية الإنسانية لا نهاية لها ولا حد. ولكن الإرادة الإنسانية هي الناقصة (..) فالفرق بين إرادة الإنسان، وبين إرادة الله، هو الذي يرتب الفرق بين حرية الإنسان وبين حرية الله”[5].
وإذا كان يربط بين مفهوم الحرية ومفهوم الاختيار، فإنه يرفض ربط مفهوم الحرية بمفهوم العقل فقط، على غرار الفلاسفة العقلانيين، ولا يربطها بمفهوم التجربة فقط، كما يزعم التجريبيون، بل يحاول أن يكون كانطيا، ويجمع بين الحرية والعقل والتجربة، فهي، أي الحرية، تجمع عنده “بين الفكر والحس، بين الإرادة وبين العمل، عن طريق الحياة داخل الكون، لا خارج الكون”[6].
هنا ينتقد الموقف الإلحادي الذي ينزع الحرية من القوة الإلهية الخارقة، بسبب كون أصحاب هذه النزعة لم يعرفوا غير إله الكنيسة المسيحية في عصور الظلام الأوربية، بينما الأمر على خلاف ذلك في الديانة الإسلامية، ولم يعرفوا إله المسلمين الذي لا يوجد “داخل الكون، ولا خارجه، ولكنه متعال عن كل شيء، ومن تعاليه هذا أن الإنسان حر في أن يفعل ما يشاء، وأن يترك ما يريد”[7].
يرفض علال الفاسي مفهوم الحرية الملتزمة عند سارتر، كما يرفض مفهوم الحرية غير الملتزمة عند ديكارت، ويتبنى مفهوما خاصا به للحرية يعبر عنه بقوله “الحرية التي تختار بالاختيار، الذي أعطاه الله للإنسان .. إنها تختار لا لتعبد نفسها (..) ولكن لتحرر نفسها، لأن ذلك ليس من باب تقييد الحرية، ولكنه من باب تعميمها”[8].
إنه يعترف أن تصوره هذا يقترب من تصور الفيلسوف محمد إقبال الذي ربط بين مفهوم الحرية ومفهوم الحركة، أي “الحركة التي يفكر بها الإنسان والحركة التي يشتغل بها الإنسان”[9].
لا يكتفي علال الفاسي بمقاربة مفهوم الحرية من زاوية فلسفية ونظرية عامة، بل حاول مقاربتها من زوايا واقعية واجتماعية، فالحرية مسألة فطرية إنسانية، تمكن الإنسان من الاختيار بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وترتبط بسعيه في الحياة العملية، وتترتب عن عمله هذا تبعات ومسؤوليات، ومن هنا ينتصر علال للحريات المدنية باعتبارها تجسد إرادة الشخص الإنساني في الميدان الاجتماعي[10].
وهنا ينظر إلى مفهوم الحرية من خلال ربطها بمفاهيم أخرى كالدين والأخلاق والقانون والعرف؛ إذ لا يحق للإنسان أن يؤذي إنسانا آخر، ف”ذلك ممنوع دينا، وخلقا، وقانونا. ولا يمكن للإنسان أن يخرج على القانون العادي، الذي خلقته الأمة بإرادتها”[11].. ذلك أن القوانين، كما الأخلاق، لا تحد، في نظره، من الحرية بل تعممها وتوسع نطاقها، حتى ينعم بها كل الأشخاص في أمن ووئام وسلام.
لكن، ماذا عن علاقة الفرد بالدولة؟ وماذا عن احتكارها للعنف؟ وما هي حدود تدخلها في حريات الأفراد؟
في مقاربة هذا الإشكال يشتبك علال الفاسي مع فلاسفة التعاقد الاجتماعي، هوبز وجون سيتوارت ميل وروسو، معتبرا نظرياتهم غير صحيحة، لأنها انبثقت من مجرد تخمينات وافتراضات، لأن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، كما تدل على ذلك تجربته التاريخية والحياتية، وانه، أي “(..) الإنسان بطبيعته من أول يوم دخل في المجتمع[12]” بدءا بالسرة فالقبيلة فالقرية ثم المدينة حتى تكونت الدولة[13]. فقد جعل الإنسان الحكومة خادمة له وحارسة لحقوقه وحرياته، وعليه فدورها ليس قمع الحرية بل المحافظة عليها وصيانتها.
إن تدبير الدولة ينبغي أن يتم من خلال المواطنين ويجسد إرادتهم العامة عن طريق الانتخابات الحرة والنزيهة، وذلك يقتضي حرية العمل السياسي، وحرية التجمع وتشكيل الأحزاب، والانخراط فيها [14] ، بإضافة على حرية العمل[15] وحرية التنظيم النقابي[16]، بالإضافة إلى حرية المبادرة الاقتصادية[17]، فضلا عن حرية التعبير عن الأفكار والمواقف والاختيارات، حيث ينتقد علال الفاسي التشريع المغربي، ممثلا في ظهير الحريات العامة الذي صدر سنة 1958، أي خلال بداية عهد الاستقلال، داعيا إلى تعديل ونسخ هذا القانون الذي “قيد هذه الحرية، لأنه أوجب على الناطقين، والمتكلمين، عقوبات لا قبل لهم بها، وعقوبات لا مبرر لها لا شرعا، ولا طبعا[18]“.
هذا عن الحريات المدنية، فماذا عن الحريات الفردية؟
ينتصر علال الفاسي لحرية الاعتقاد، ويعتبرها حقا مقدسا، لا يمكن المساس به، ف”حرية الوجدان، وحرية الاعتقاد الديني، مضمونة للإنسان في جميع الشرائع، وجميع الملل والنحل[19]“. والإكراه الديني محرم دينا ومرفوض عقلا وممنوع قانون، وهنا يرى علال الفاسي أنه لا ينبغي الاكتفاء بضمان حرية حق الاعتقاد، بل لا بد من توفير كل الآليات والضمانات التي تمكن الإنسان ممارسة معتقداته على مستوى الواقع والفعل.. تعبيرا وممارسة وطقوسا وشعائر[20].
إن أساس الحرية الإنسانية ومنطلقها هو الفكر الحر، والتحرر الفكري، لذلك نجد علال الفاسي قد تناولها في كتيبه عن الحرية[21]، كما تدارسها في كتابه العمدة النقد الذاتي، من خلال مبحثين اثنين، تناول في أولهما، وهو المبحث التاسع، حرية التفكير[22]، وتطرق في ثانيهما، وهو المبحث العاشر، موضوع التحرر الفكري[23].
يعتقد علال الفاسي أن تعميم خصلة إعمال العقل، وبث روح التفكير تقوم على مبدا أساسي وهو مبدأ حرية التفكير، بلا قيود أو حدود. وإذا كانت حرية الإنسان الداخلية، وحقه في بناء أفكاره مسألة فطرية وطبيعية فإن هذه الحرية لا قيمة لها إذا لم يتمتع الإنسان بحق التعبير عنها علنا وفي الفضاء العمومي، ذلك أن “الخاصة من أهل الفكر أنفسهم لا يجدون متعة بأفكارهم إذا لم يسمح لهم بالإعراب عنها[24]“، ذلك أن كبث حرية التعبير عن الفكر هو كبث لقدرة التأمل والنظر ووأد لها وشل لطاقات الإبداع والابتكار عند أفراد المجتمع، وذلك هو ما يوصل إلى أدنى درجات التخلف والانحطاط.
ينتقد علال الفاسي ضيق أفق نزعة المحافظة التي ترفض كل جديد وتتوجس من كل نقد للقديم، وتتخوف من مراجعة للسائد من الأفكار، وهي بذلك لا “ترى فائدة في بروز مفكرين جدد وأفكار جديدة من شأنها أن تغير الواقع أو تهدم السابق، ومع أن هذه التخوفات ليست حتمية فإنها تعمل عملها في حملنا على التقزز من آراء المخالفين ونبذهم[25]“.
تحول هذه النزعة المضادة لحرية التفكير دون أي تجديد فكري وتجديد سياسي وتجديد اجتماعي وتجديد اقتصادي، مما يبقي حال التخلف والانحطاط على ما هي عليه. وهنا يبدي علال إعجابه بالفيلسوف سقراط الذي دافع حتى الموت عن “قيمة المناقشة وفائدتها الاجتماعية[26]“، وسيرا على هذا النهج السقراطي دعا الفاسي إلى “تطوير الرأي العام بالنظريات الجديدة، وهذا بالطبع يستدعي وجود أشخاص يتقدمون للنقد الصريح والحديث الواضح عن كل مسائلنا الداخلية، فيضعون على محك البحث والنقد كل ما لدينا من نظام (..) وما عندنا من نظريات(..) وهذا ما يستدعي منا (..) أن نستعد لتوسيع أفقنا وجعل صدرنا منشرحا لقبول كل نقد يوجه إلينا ومناقشته بالأساليب المنطقية النزيهة وتحررنا من الطبيعة التي أورثنا إياها أجيال الكبث والاضطهاد للأفكار”[27].
إن المطالبة بحرية التفكير للغير لا يقوم بها إلا المتحررون فكريا، أي من خلال عقل متحرر، كما هو حال الشعوب المتقدمة، على خلاف نحن الذين نرزح في شتى قيود الجمود والتقليد، ونستسلم للموروث من النظم والأفكار، عملا بشعار ليس في الإمكان أبدع مما كان، وهو الأمر الذي لا يمكن معالجته إلا بدواء الحرية، وهو دواء صعب، لكنه وحده الدواء الصحيح[28].
[1] – علال الفاسي، النقد الذاتي، الدار البيضاء/ بيروت، المركز الثقافي العربي، ط10، 2019.
[2] – علال الفاسي، الحرية، الرباط، منشورات مؤسسة علال الفاسي، ط2، 2012.
[3] – نفس المرجع، ص6.
[4] – نفس المرجع وص.
[5] – نفس المرجع، ص7.
[6] – نفس المرجع وص.
[7] – نفس المرجع، ص8.
[8] – نفس المرجع، ص9.
[9] – نفس المرجع وص.
[10] – نفس المرجع، ص11.
[11] – نفس المرجع، ص12.
[12] – نفس المرجع، ص17.
[13] – نفس المرجع وص.
[14] – نفس المرجع، ص41 و42.
[15] – نفس المرجع، ص53.
[16] – نفس المرجع، ص46.
[17] – نفس المرجع، ص55.
[18] – نفس المرجع، ص40.
[19] -نفس المرجع، ص36.
[20] -نفس المرجع، ص37.
[21] – نفس المرجع، ص39.
[22] – علال الفاسي، النقد الذاتي، مرجع سابق، ص67-71.
[23] – المرجع السابق، ص72-76.
[24] – المرجع السابق، ص67.
[25] – المرجع السابق، ص68.
[26] – المرجع السابق، ص69.
[27] – نفس المرجع، ص69.
[28]– نفس المرجع، ص76.