مشكلة الشر وثيوديسيا الظمأ الأنطولوجي في فكر عبد الجبار الرفاعي
تحاول هذه المقالة معالجة الثيوديسيا التي يقول بها عبد الجبار الرفاعي في ثنايا مشروعه الفكري. والثيوديسيا “كلمة مشتقة من اليونانية: θεός (theos) الله، وδίκη (justice) العدالة. تُعد الكلمة إذًا نوعًا من الاخترال الفني؛ دفاعًا عن عدالة الله وخيريته في مواجهة الشر وحقيقته”[1]. ينقسم الشرّ غالبًا إلى شرور أخلاقية، وشرور طبيعية، وشرور ميتافيزيقية. يميز ليبنيز Leibniz بين هذه الأنواع الثلاثة؛ قد يكون شرًّا ميتافيزيقيًّا، وفيزيائيًّا [طبيعيًّا]، وأخلاقيًّا؛ الشر الميتافيزيقي يكمن في نقص، أو عدم كمال محض، والشر الطبيعيّ يكمن في المعاناة، والشر الأخلاقي يكمن في الخطيئة.[2] تُعنَى هذه الورقة بالشر الميتافيزيقي، وبما أسميتُه الشرّ اللاهوتي باعتباره فرعًا عن الأخلاقي. أعني بالشرّ الميتافيزيقيّ النقصَ الوجوديّ الحالّ في الطبيعة عمومًا والإنسان خصوصًا باعتباره داخلًا فيها؛ وبالشرّ اللاهوتي ذلك الصادر عن الإنسان أخلاقيًّا تجاه آخرين باعتبار مقولاتٍ لاهوتية يؤمن بها.
I. الشر الميتافيزيقي
الإنسان بوصفه مخلوقًا ظامئًا
الإنسان مخلوق ظامئ، يطلب الرِّيَّ في كلِّ شيء، فهو لا يلبث يُولَد إلا ويسلك في تحقيق نفسه، وتكميلها، وهو لا يكمِّل منها شيئًا إلا ويطلب التحقق بغيرها في سعي محموم صوبَ الكمال في كل شيء؛ كمال لا يصل إليه أبدًا لنقصانه الوجودي، ولطبيعة خلقه المبتور عن التمام. لا حول ولا قوة للإنسان، إذ لا تتقاصر نفسُه عن طلب الكمال، إلا وتنطفئ ذاتُه، وينمحي معنى وجودِها.
لا سبيل أمام هذا الإنسان إلا أن يعيش باطن هذا القلق الوجودي طول عمره؛ أو أن يُنهِي ذاته ويُفنيها؛ أو أن يطلب الريَّ في شيء لا ينقضي رِيُّه، ولا ينقطع معينُه، وما ثمة أمر كهذا سوى ما تصورته العقولُ الإنسانية في الموجود المطلق (الله): “لو توفرت كل حاجات الإنسان المادية والبيولوجية، مثل حاجته للهواء والماء والطعام، والنوم والجنس وكل الأشياء الأخرى المماثلة، كما نرى في حياة الأثرياء المُتخمين بتكديس الأشياء والإفراط في استهلاكها، فإن كل هذا الاستهلاك لا يضمن لهم توفير طمأنينة القلب وسكينة الروح، ويظل الإنسان محتاجًا إلى ما يُؤمِّن له سلامًا داخليًّا، ولن يتحقق ذلك إلا ببناء صلة وجودية بالله”.[3]
يُعبِّر الرفاعي عن الظمأ الوجودي فيقول: “أعني بالظمأ الأنطولوجي الظمأ للمقدس، أو الحنين للوجود المُطلَق؛ إنه ظمأ الكينونة البشرية بوصف الإنسان وجودًا محتاجًا على الدوام إلى ما يُثريه، كائنًا متعطشًا إلى وجود غنيّ مُكثَّف بذاته يروي به ظمأه، ويثري به وجودَه، ويسقي عطشَه المُزمن”[4]. يفترض الرفاعي في هذا المورد وغيره أنّ الإنسان وُجود مُحتاج، وجود مُفتقِر إلى وجود آخر أغني منه يثبِّت كيانَه، ويثري بنيانه، ويكمِّل روحَه.
منشأ اغتراب الإنسان
وباعتبار الإنسان موجودًا ظامئًا يريد الرِّيَّ في كل شيء ولا يرتوى، فما من شيء يمكنه إشباعه حقًّا في هذه الدنيا بعلائقها المادية. نعم الإنسان موجود تشتمله الروح والجسد، ما يعني أنه ذو مطالب مادية وروحية (معنوية)، لكنَّ الانغماس في مطالب المادة مع إهمال مطالب الروح يُوقِع الإنسان في شَرَكِ الظلمة المادية. يقول الرفاعي: “الاغتراب الوجودي ينشأ من أن الكائن البشري يبحث عن ذاته داخل عتمة الوجود المادي. المادة ظلام تكتئب في فضائه الروح، الظلام أشد من قدرة الروح على تحمل وحشته. طاقة الروح أقوى من المادة، طاقة الروح تبدد عتمة المادة. لا يُشفَى اكتئابُ الإنسان ويُخمَد قلقُه الوجودي إلا بإيقاظ حياته الروحية والأخلاقية”.[5]
لا بد من إيقاظ حياة الإنسان الروحية والأخلاقية إذًا، لأنها الحياة الوحيدة ضمن حيوات متكاثرة يمكنها إثراء الوجود الإنسان الواهن، فهي المَعين غير الناضب، والمَنهَل غير النافد الذي يمكن للإنسان من خلاله أن يغترفَ ما يرجوه من معنىً لا يتناقص، وأن يستقي ما يرجوه لنفسه الهشَّة؛ وإنّ رشفةً واحدةً لقادرة على تحويله عن إملاقه الوجودي، وعلى تدعيم نفسه، وتكميل روحه.
الشرّ الميتافيزيقي ينتفي بالعودة
يُعالج الرفاعي في هذه السياقات ما اصطُلِح عليه بالشر الميتافيزيقي. “يتناول الشرُّ الميتافيزيقيُّ حقيقةَ التناهي، أو الأشكال محدودةَ الوجود، وما يكمن فيها من نقص”[6]، فالعالم بكل ما فيه يعتريه النقصانُ لا محالة (بما في ذلك الإنسان)، ذلك لأنه مهما بلغت درجةُ الكمال فيه إلا وهو ناقص عن اللهِ خالقِه ومُصدِرِه الذي هو الكمال المُطلَق. وبغض النظر عمَّا إذا كان الشرُّ موجودًا باستقلالٍ أم عالقًا بالخير مُنقِصًا من شأنه فإنَّ الرفاعيّ يرى أن هذا النوع من الشرّ يمكن دفعُه أو التقليلُ من حِدَّتِه على الأقل من خلال الإيمان والنزوع إليه، يقول: “الإيمان نور يكشف للإنسان حقيقة وجوده. ثمرة الإيمان تُعرَف بإثرائه لسكينة الروح، وطمأنينة القلب…”.[7]
يسكن مفهومُ العود الأبدي لغةَ الرفاعي إذًا، لكنه يغاير المتكلمين فيه من الفلاسفة، لأنه يرى العودَ ضرورةٌ اختياريةٌ على الإنسان النزوع إليها بالإيمان طوعًا من خلال عودته بالوقوف على روحِه الصادرة عن الله في الأصل، فهو إن تلمَّس طريقَ الروح هذا وسلك فيه؛ ينتفي عنه الظمأ الوجودي والغربة الميتافيزيقية، ومن ثم ينتفي شره الميتافيزيقي الساكن كينونته بالاحتجاب عن الله.
II. الشرور اللاهوتية
مَنْشَأ الشر اللاهوتي
ليس الرفاعي حالمًا، فهو ليس من نوعِ المفكرين أو المتحدثين في الدين الذين يرون أنه متى آمن الناس، أو سلكوا مسالك الدين، فإن الحياة تُضحي خيرًا تامًّا، فهو مُدرِك تمامًا أن الإيمانَ مثلما يكون مصدرًا للخير قد يكون مصدرًا للشر. يُعرِّف الرفاعيّ الدينَ بأنه “حياة في أفق المعنى، تفرضه حاجة الإنسان الوجودية لإنتاج معنىً روحيّ وأخلاقيّ وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية”.[8] لا يُعرف الرفاعي الدين هنا بالحد أو الرسم، لكنه يعرفه بوظائفه، ومن ضمن وظائفه إنتاجه المعنى سواء كان روحيًّا أو أخلاقيًّا أو جماليًّا. هذا المعنى الناجم عن الدين مُنعكس على حياة الإنسان تجاه نفسه أو تجاه غيره، لكن هل يمكن أن يكون هذا المعنى قبيحًا مثلما يكون حسنًا؟ يُجيب الرفاعي صراحةً بأن هذا ممكن؛ ممكن إذا حصل تلاعب بوظيفة الدين في إنتاج المعنى. يحدث هذا في حدوث أمرَيْن: إفقار الدين روحيًّا بالأدلجة، أو حصره في البنية التاريخية للأفكار.
الشر اللاهوتي ينتفي بلاهوت المحبة
يربط الرفاعيّ بين الإيمان والمحبة ربطًا وثيقًا، فلا يظهر أحدُهما إلا بالقدر الذي يظهر فيه الآخر، ولا يغيبُ أحدُهما إلا بالقدر الذي يغيبُ فيه الآخر. يقول: “الإيمان والحب كلاهما كيمياء للروح، كلاهما منبثقان من جوهر واحد، يولَدان معًا، ويرتضعان معًا، ويتكرّسان معًا، ويتوحّدان معًا. حيث يشتد الإيمانُ يشتدّ الحب، وحيث يذبل الإيمان يذبل الحب”.[9]
لا أظنّ الرفاعيَّ يطابق الإيمانَ بالمحبةِ، أو المحبةَ بالإيمانِ، لكنه يريد أن يقول أن أصل الإيمان هو المحبة فيما ينبغي ويجب. يعني هذا أن المحبة ينبغي أن تكون أصلَ الإيمان والنزوع إلى الله لا الخوف والرهبة مثلًا؛ وأن الإنسان إذا حقق في نفسه هذا المعنى، تنشَّا فيه الإيمانُ الحرُّ بالله من طريق المحبة التي لا يلبث معها إلا وتمتلئ حياتُه بالنور الإلهيّ الذي يُضيء نفسَه، ويُشعل روحَه، ويجعله سالكًا بين الناس بالمحبة أيضًا.
يتطلب هذا الأمر الخروج عن الأنساق الفكرية التي يفكر بها التراثيون الآن، فـ”لن يتحرر فقه المسلمين من نزعات التكفير والتشدد ما دام هذا الفقه متمسكًا بالولاء والبراء والأحكام التي وُلِدَتْ في سياقات تاريخية لا تعرف منطق الحريات والحقوق. لن يتحرر فقهُ المسلمين ما دام لا يرى الله والإنسان والعالم إلا في آفاق علم الكلام القديم. ولن يبلغ تفكيرنا الديني الآفاق المضيئةَ الرحبة للإيمان إلا من خلال بناء علم كلام جديد”[10].
ملامح التجديد الكلامي
لا تجديد في الدين إذًا إلا من طريق تجديد علم الكلام القديم الذي يتخذ المنطق الأرسطي مرجعيةً له، وينفصم معه النظرُ عن العمل، ويشيع فيه التقليدُ، ويُهمِل الإنسان، ويغيب عنه المضمونُ الاجتماعيُّ، ويُربِّي على الخوف، ويُرسِّخ اللاهوتَ الصراطي، ويُهمل الروحَ، ويفتقر إلى المضمونِ الأخلاقي، ولا يميز بين المقدس واللامقدس، ويتجاهل العوامل المؤدية إلى نشأة الفرق (مثل السياسة)، ويعتمد على الطبيعيات الكلاسيكية.[11]
والكلام الجديد الذي يُعنَى بابتناء مفهوم جديد للوحي يقوم أساسُه على أركان من أهمها: (1) تفسيرُ الوحي تفسيرًا ديناميكيًّا، لا يكون النبيُّ فيه الجانبَ السلبيَّ المنفعل، بل يكون فيه متفاعلًا معه، متأثِّرًا ومؤثِّرًا فيه. (2) نفي الصورة المرعبة لله في الكلام القديم، ومحاولة ابتناء صورة أخرى رحمانيّة مُفَعَّمَة بالرأفة الإلهيّة. (3) ابتناء صلة بين العبد والله تقوم على أساس من المحبة، لا على أساس القهر والخوف. (4) إيقاظ المعنى الروحيّ والأخلاقيّ والجماليّ الكامن في النصوص المؤسِّسَة. (5) إعادة تعريف الدين بصورةٍ يكون فيها منبعًا لما يُثْرِي حياةَ الإنسان بالمعنى الذي يتطلّبه وجودُه. (6) الانفتاح على تعدُّد قراءات القرآن بتعدّد الأحوال، والأزمان، والبيئات، والثقافات، والأشخاص. (7) الاستفادة من معطيات الفلسفة الحديثة، والعلوم الإنسانية المعاصرة، والأدوات الجديدة في الفهم والتأويل.[12]
يضع الرفاعي من بعد ذلك ضابطًا معياريًّا فارقًا بين ما يُعدّ كلامًا جديدًا وما لا يُعدّ كذلك: “ونظرًا، لعدم استناد الباحثين إلى معيار كلي يمكن العودة إليه في معرفة ما يصدق عليه بأنه علم كلام جديد؛ حدث التباس لدى أكثر الباحثين في تمييز المصاديق، ووجدنا عشوائية في انتقاء كتابات وإدراجها في الكلام الجديد مع أنها لا تنتمي إليه… المعيار العلمي الذي يمكن اعتمادُه، بوصفه مقياسًا لتمييز الكلام الجديد عن القديم، وعلى أساسه يمكن تصنيف أحد المتكلمين بأنه متكلم جديد، هو المبني على اجتهاد جديد يقدمه المتكلم لبناء مفهوم للوحي لا يكرر مفهومَه في الكلام التقليدي…”.[13]
خاتمة
يمكن تلخيص ما سبق في عدة نقاط: (1) يرى الرفاعيُّ الإنسان مخلوقًا من روح الله، ما يجعله واقعًا في الظمأ الأنطولوجي لشعوره بالحنين الدائم وانقطاعه عن الأصل الذي صدر منه. (2) إذا ما طلب الإنسانُ الرِّيَّ في غير الله وقع الإنسان فريسةً للاغتراب الميتافيزيقي الذي ينهش كيانه. (3) يؤدي اغترابُ الإنسان الميتافيزيقي إلى شر ميتافيزيقي يوازيه، شرّ يعني فاعلية النقص فيه، وشعوره بهشاشةٍ ضمن عالم تفترسه المادةُ. (4) حتى ينفي الإنسانُ اغترابه وشرَّه الميتافيزيقيان؛ عليه العودُ الإيمانيّ إلى روحه التي هي من روح الله، ونفخةٍ منه، ومن ثم العود إلى الله، المعين الذي لا ينضب. (5) الدين موصوف بأنه منتج للمعنى في حياة الإنسان. (6) قد يضيق هذا المعنى ويفتقر إذا تأدلج الإيمانُ أو تأطَّر بالتاريخ. (7) يؤدي هذا إلى حدوث الشر اللاهوتي باعتباره شرًّا صادرًا عن إيمان عنيف. (8) لا ينفي الإنسان عن نفسه هذا الشر إلا بلاهوت الرحمة غير المُنبني على التراث الفقهي والكلامي. (9) يعني هذا ضرورة ابتناء علم للكلام جديد ما دام العلمَ الحاكمَ على ما سواه.
[1] Hick, John, Evil and the God of Love (London: Palgrave Macmillan, Edition Number 2010), p. 6.
[2] انظر: كوبلستون، فريدريك، تاريخ الفلسفة، ترجمة وتعليق: سعيد توفيق، محمود سيد أحمد، مراجعة وتقديم: إمام عبد الفتاح إمام (القاهرة: المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2013)، المجلد الرابع، ص 437.
[3] الرفاعي، عبد الجبار، الدين والكرامة الإنسانية (بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، ودار الرافدين، الطبعة الثانية 2022)، ص 220-221.
ص 220-221
[4] الرفاعي، عبد الجبار، الدين والظمأ الأنطولوجي (بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، ودار الرفدين، الطبعة الرابعة 2023)، ص 25.
[5] الدين والكرامة الإنسانية، مصدر سابق، بتصرف يسير، ص 42.
[6] Evil and the God of Love, ibid. p. 38.
[7] الدين والكرامة الإنسانية، مصدر سابق، ص 42.
[8] الرفاعي، عبد الجبار، الدين والنزعة الإنسانية (بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، ودار الرفدين، الطبعة الرابعة 2022)، ص 92.
[9] الدين والنزعة الإنسانية، مرجع سابق، ص 316.
[10] الدين والنزعة الإنسانية، مرجع سابق، ص 321.
[11] انظر: طلبة، عبد العاطي، الخلاصة في الكلام الجديد: موجز كتاب «مقدمة في علم الكلام الجديد»، موقع مؤمنون بلا حدود، أغسطس 2023.
[12] انظر: الخلاصة في الكلام الجديد: موجز كتاب «مقدمة في علم الكلام الجديد»، مرجع سابق.
[13] الرفاعي، عبد الجبار، مقدمة في علم الكلام الجديد (بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، ودار الرفدين، الطبعة الثالثة 2023)، ص 134-135.