المقالات

حينما تُستنكَر “غَواية اللُّغة” شعارًا ويُتوسَّل بها ذريعةً!

 

كَـتَب ﭐلْـمُفكِّـرُ ﭐلْعراقيُّ “عبد الجبار الرفاعي” مَقالًـا بعُـنوان «غواية اللغة: أحمد فرديد وطه عبد الرحمن» نُـشِـر مُـنْـذ أيّام بموقع «مركز أفكار» (يُـنْـظَـرﭐلرّابط ﭐلْمُرْفَـق). ويستطيع قارئُ ﭐلْـمَـقال أن يَـتبيَّن فيه أنه يَـقُوم على مُـقايَـسةٍ مُفْـتعَـلة بين ﭐلْمُفكِّر ﭐلْـإيرانيّ “أحمد فَـرْديد” [1910-1994] وﭐلْمُفكِّـر ﭐلْمغربيّ “طه عبد الرحمن” [1944-؟] على أساس أَنَّـهما يَشْـتركان فيما يُسَـمِّـيه ﭐلْـكاتب «غَـواية ﭐللُّغة». فما مدى مُـناسَبة تلكـ ﭐلْمُقايَـسة من ﭐلنَّاحية ﭐلْمنهجيّة؟ وما ﭐلْـغَـرض منها نَـقْديًّا؟ وما ﭐلْقيمةُ ﭐلْمعرفيّةُ لِـمجمُوع ﭐلْـأَحْكام ﭐلتي بَـثَّها “عبد الجبار الرفاعي” في ثَـنايا مَـقاله؟ هذه ﭐلْـأَسئلة هي ما سأُحاول أَنْ أُجيبَ عنه في ﭐلْـمُلَـاحَظات ﭐلتّالية (حَـرَصْـتُ على إيراد أَقْـوال ﭐلْكاتب بِـتمامها وﭐلتَّعليق عليها):

-1 يَـبْـتدئ ﭐلْـأُستاذ “الرفاعي” مَـقالَه بــﭑلْحديث عن ﭐلْمُفكِّر ﭐلْـإيرانيّ “أحمد فَـرْديد” فيصفه بأنه «تميَّز […] بموهبةٍ وذكاء نادر، وتكوينٍ وخبرةٍ ممتازة في اللسانيات والفيلولوجيا، وبراعةٍ في ابتكارِ ونحتِ المصطلحات، والتقاطِ ألفاظ من مجالٍ تداولي وزجّها في مجال مغاير.»، ثُمّ يَقُول إنّ ذلكـ هو «ما منح خطابَه وأحاديثَه حساسيةً لغوية فائقة، وجاذبيةً فريدة وقع في شراكها كثيرٌ ممن أصغوا إليها.» وأنّ «غواية لغته بَـهَـرَت أبرزَ مثقفي عصره، وأغوتهم بالإنصاتِ لصوته المميز والتلقي منه» وأنّ «غواية اللغة الناتجة عن توترها وإبهامها وضبابيتها عمّقت سطوتَه في الحياة الفكرية الإيرانية، وأثارت الكثيرَ من النقاشات والجدل حول أفكاره؛ فضلا عن موقفِه الجذري الرافض للغرب، وهجائِه للفلاسفة والمفكرين، في زمنٍ كانت النخبةُ المفتونة بالثقافة الغربية متهمة، واتهاماتُه العنيفة للمثقفين الإيرانيين. لا يرى فرديد الغرب، منذ العصر اليوناني حتى اليوم، مفهومًا جغرافيًّا أو اقتصاديًّا أو سياسيًّا أو ثقافيًّا، بل مفهومُه للغرب أنطولوجي ميتافيزيقي، تبعًا لهايدغر.»؛ كما يقول «يختبئ بعضُ المفكرين وراء الألفاظ، فيشتقون مصطلحاتٍ بالعودة إلى جذورها اللغوية، أو يزاوجون ويركبون مصطلحاتٍ أخرى باستعارتها من معجمٍ تراثي، ويسقطونها على مفهومٍ مستعار من الفلسفة والعلوم الإنسانية الغربية الحديثة بطريقة متنكرة. ذلك ما فعله فرديد، حين أسقط المعجمَ الاصطلاحي لمحيي الدين بن عربي على فلسفة هايدغر، فأنتج مخلوقاتٍ لغويةً هجينة تثير الدهشة، لا تعبّر عن هايدغر، مثلما لا تتجلى فيها رؤيا ابن عربي واستبصاراتُه المضيئة الرحبة.»؛

1.1- بِصَـرْف ﭐلنَّظَر عن مدى صِحّة كُـلّ هذه ﭐلْـأَقْـوال عن “أحمد فَـرْديد”، وبعيدًا عن أَيِّ إرادةٍ لفحص عبارة ﭐلْكاتب ﭐلتي لَـا تخفى ركاكتُها على من له فقهٌ بـأَساليب ﭐلْبيان ﭐلْعربيّ، سأَكْـتفي هُـنا بِـمُـلَـاحَظة أنه مُـنْـذ جُـملته ﭐلْـأُولى لم يجد غَضاضةً في ﭐستعمال أحد أهمّ مُصْطَلحات “طه عبد الرحمن”، وهو مُصطلَح «مجال ﭐلتّداوُل/ﭐلْمجال ﭐلتّداوُليّ» في قوله «وﭐلْـتقاطِ ألفاظ من مجالٍ تداولي وزجّها في مجال مُغاير»!

2.1- يأتي ﭐلْكاتبُ بتلكـ ﭐلْـأَقْـوال سَندًا لِـإقامة مُقايَـسةٍ بين “فَـرْديد” و”طه”، إِذْ يقول «غواية اللغة الفرديدية وإبهامها قريبان من غواية لغة المفكر المغربي طه عبد الرحمن وإبهامها.»؛ وهو ما يُـفْهَم منه أنّ “الرفاعي” يَقيس لُغةَ “طه” على لُغة “فَـرْديد” فيَـرُدُّ إلى غَـوايتها تأثيرَ وشُهرةَ كُـلّ منهما، كأَنّ هذين ﭐلْمُفكِّرَيْـن ليس لهما – بحَسب زَعْـمه– إِلَّـا هذا ﭐلذي يُـسَـمِّيه «غَـواية ﭐللُّغة وإبهامها»؛

3.1- يُـلَـاحَظ أنّ “الرفاعي” لم يُـوَضِّـحْ حتّى مقصُودَه بعبارة «غَـواية ﭐللُّغة» ﭐلتي يبدو أنّها تُـفِـيد أنّ من تُـنْسَب إليه يُعَـدُّ كاتبًا «تُغْـوِيه ﭐللُّغةُ» إلى ﭐلْحَـدِّ ﭐلذي يَـسْـتعملُها على نَحْـوٍ كفيلٍ «بإِغْـواء غَـيْره». ولو أَنَّ ﭐلكاتبَ وَقَـف عند هذا ﭐلْـمعنى، لكان عليه أن يَـرْجِعَ بـﭑلضّبط إلى “هيدﮔـر” بوصفه نموذجَ ﭐلْـكاتب ﭐلذي يُمَـثِّـل «غَـواية ﭐللُّغة» إِغْـراقًـا في “ﭐلتَّأْثِـيل” وإِكْـثارًا من ﭐلتَّأْليف (تَـبْـلُغ أعمالُه ﭐلْـكاملةُ مِـئةً وﭐثْـنَـيْن من ﭐلْمُجلَّدات ﭐلتي طُـبِعت ﭐلْـآن في مُعْـظَمها، وكُـلّ واحدٍ منها يَمْـتدّ على مِـئات ﭐلصّفحات) من دون أن يَـمْـنعه هذا من أن يُعَـدَّ أحدَ كِـبار ﭐلْـفَـلَـاسفة ﭐلْمُعاصِـرين (وهُـناكـ من لَـا يَـتردَّد في جعله أكبر ﭐلْـفلَـاسفة كافّةً!) ولَـا من إِلْـهام فَـلَـاسفة آخَـرين ذَهَـبُوا بعيدًا في تجسيد «غَـواية ﭐللُّغة» (على رأسهم “دِريدا”)؛ بل لكان عليه أن يقف عند نُصوص “مُحْـيِـي ﭐلدِّيـن ﭐبْـن ﭐلْـعَـرَبيّ” ﭐلذي يُمْكِـن أن يُعَـدَّ نظيرَ “هيدﮔـر” في ﭐلتُّـراث ﭐلْـإِسْـلَـاميّ-ﭐلْعربيّ، بحيث تَجْـدُر مُـؤاخَـذةُ هؤلَـاء جميعًا بِـ«غَـواية ﭐللُّغة». وإِلَّـا، فأَشَـدُّ من ذلكـ كُـلِّه هو أنه إِذَا لَـزِمَ رَدُّ كلُّ «سِـحْـر بَـيانيٍّ» بـﭑعتباره من «غَـواية ﭐللُّغة»، فـلَـنْ يعدو ﭐلْـمَـرْءُ حينها “ﭐلْـقُـرآن” ﭐلذي قال عنه مُشْـرِكُو ﭐلْعرب بأَنَّـه ليس سوى قَـوْلِ شاعِـرٍ أو سِحْـرِ ساحِـرٍ!

4.1- إِذَا جاز أن يَكُون إِبْـهامُ لُغة “فَـرْديد” سببًا في سَطْوتها على من تَـلَقَّـوْا خطابَه ﭐلْـفِكْـريَّ في إيران تحديدًا، فـﭑلذي كان يجب على ﭐلْكاتب أن يَقُوم به هو أَنْ يُثْـبِـتَ – أَوَّلًـا– أَنّ “فَـرْديد” تعاطى ﭐلْكتابةَ مِثْـلَما تعاطاها “طه” فحَـرَّر نُصوصًا وأَلَّـف كُـتُبًا على غِـراره (وﭐلْـحال في ﭐلْواقع بِخِـلَـاف ذلكـ، لِـأَنّ “فَـرْديد” كان مُرْتابًا بشأْن قيمة ﭐلْـكتابة وفَضَّـل عليها ﭐلْـكَـلَـامَ ﭐلشَّـفَـويَّ مُحاضَرةً ومُحادَثةً ومُحاوَرةً، مِمّا هو ﭐلْـأَصلُ في مُعْظَم نُصوصه!)، ثُـمّ أن يَنْـتقلَ – ثانيًا– فيُثْـبِـتَ صِحّةَ مُدَّعاه على “طه” من حيث إنه يُـريدنا أن نُصَدِّق أنّ غَـوايةَ لُـغته مُـرْتبطةٌ بإبهامها وأَنّ جِـماعَ فِـكْـره مَـرْدُودٌ إلى هذا. لكنّ “الرفاعي” يكتفي بإقامة مُـقايَـسته على أَساس حُـكْمٍ مُـرْسَـلٍ هو بمثابة مُصادَرة على ﭐلْمَطلُوب، لِـأَنّه لَمْ يَـذْكُـرْ مِـثالًـا واحدًا على لُغة “فَـرْديد” ولَـا على لُغة “طه”!

2-  ثُـمّ يأخُذ “الرفاعي”، بعد ذلكـ، في مُـراكَـمة ﭐلْـأَحْـكام ﭐلْـمُرْسَـلة عن “طه”، فيقول إنه «يعمد إلى نحتِ مصطلحات بديلة لما هو شائع ومتعارَف عليه بالعربية.»؛

1.2- يَقُود هذا ﭐلْـقولُ إلى طرح ثَـلَـاثة أسئلةٍ: أَوّلُها، أين هي ﭐلْـأَمثلة عن تلكـ ﭐلْـمُصطَلحات ﭐلتي ﭐسْـتبدلها “طه” مكان نَـظائرها ﭐلشّائعة وﭐلْمُتعارَفة؟ وثانيها هل هناكـ مانعٌ (أو أكثر) لِـنَحْـت مُصْطَلحات بديلة مِمّا هو شائع ومُتعارَف عليه في ﭐللُّغة ﭐلْعربيّة؟ وثالثها هل “طه” يَنْحِـت مُصطَلحاته ﭐلْبديلة تَحَـكُّمًا أو تَشَهِّيًا أَمْ يَـتعاطى تعليلَها لُغوِيًّا وفِكْـريًّا؟ لم يُكلِّـف ﭐلْكاتب نفسَه أن يُجيب عن أَيّ واحد من هذه ﭐلْـأَسئلة!

2.2-  يُمْكِـن، تَجَـوُّزًا، أن يُسْـتثنى ﭐلسُّؤال ﭐلْـأَخير (هل “طه” يَنْحِـت مُصطَلحاته ﭐلْبديلة تَحَـكُّمًا أو تَشَهِّيًا أَمْ يَـتعاطى تعليلَها لُغوِيًّا وفِكْـريًّا؟)، إذْ يأتي ﭐلْكاتب ببداية جوابٍ عنه بقوله «تلك المصطلحات صاغها في ضوء خبرته وتكوينه المتميز بفلسفة اللغة والمنطق الحديث»؛ وهو ما يُفيد أنّ “طه” لَـا يضع مُصْطَلحاته بـﭑلتَّحكُّم أو ﭐلتَّـشهِّي، وإِنَّـما يُعَـلِّـلُها «[بصوغها] في ضوء خبرته وتكوينه المتميز بفلسفة اللغة والمنطق الحديث». لكنّ كيفيّةَ ﭐستشكال “طه” لمصطلحاته وﭐستدلَـاله عليها لم يُـبَـيِّنْ منها “الرفاعي” شيئًا، بل يُفضِّلُ أن يأتي بِحُكْمٍ مُـرْسَـلٍ آخَـر فيقول «يُحاول في سياق هذه المصطلحات إعادةَ إنتاج التراث، وتلوينَه بآرائه ومواقفه التراثية.». وهذا حُـكْمٌ يُـرَتِّـبُ ثَـلَـاثَ تُـهَمٍ من دون أَيّ سندٍ: أُولَـاها أنّ “طه” يضع مُصطَلحاته لِـأَجْـل «إعادة إنتاج التُّراث»، وﭐلثّانية منها أنه «يُـلَوِّن التراث بآرائه»، وﭐلثّالثة أنّ مواقفَه “تُراثيّة” خالصةٌ. وعلى ﭐلرّغم من أنّ نُـصوصَ “طه” كثيرةٌ ومُتوفّرةٌ، فلَمْ يأتِ ﭐلْكاتبُ بِـما يُثْـبِت منها زَعْـمَه!

3-  يقول “الرفاعي” مُـواصِـلًـا مُقايَـستَه من جهة أُخرى: «كما اصطادت غوايةُ لغة فرديد أبرزَ المثقفين الإيرانيين، اصطادت غوايةُ لغة طه أكثرَ شباب الحركة الإسلامية العرب وفي وطنه قبل ذلك، من ذوي التكوين الأكاديمي الحديث، الذين سئموا من تبسيطِ أدبيات هذه الحركة، وسطحيتِها المضجرة وشعاراتِها المملة. شبابٌ قادهم الحنين إلى الهوية والبحث عن الجذور، للانبهار بكتابات طه. معظم هؤلاء لم يكتشفوا أبعادَ التراث المتنوعة، ويجهلون منزلقاتِه ومسالَكه ودروبَه، التي لا يفضي بعضُها إلا إلى المزيد من المتاهات، لمن لا يعرف مسالكَه جيدًا.»؛

1.3-  يُـلَـاحظ أنَّ هذه ﭐلسِّلسلةَ من ﭐلْـأَقوال تجعل ﭐلْكاتب يُـوغِـلُ في ﭐلتَّـشْنيع على “طه”: فإذَا كانت غَوايةُ لُغةِ “فَـرْديد” قد ﭐصطادت «أبرزَ المثقفين الإيرانيين»، فإنّ غَـوايةَ لُغة “طه” ﭐصْطادت فقط «[…] أكثرَ شباب الحركة الإسلامية العرب وفي وطنه قبل ذلك، من ذوي التكوين الأكاديمي الحديث». ولَـا يخفى أنّ ﭐستعمالَ فعل “ﭐصْطادت” دالٌّ، في آنٍ واحد، على وَصْـمِ صاحب «غَـواية ﭐللُّغة» بـﭑعتباره “مُخادِعًا” أو “مُضَلِّـلًـا” وعلى وَصْـم ﭐلذين ﭐصْطادتهم لُغتُه كـ”طَـرائد” أو “ضحايا” يجب عليهم أن يُـنْصِتُوا لِـنداء “الرفاعي” ﭐلذي أتى، أخيرًا، لِـيَـفْضح ذاكـ «ﭐلْغاوِي/ﭐلْمُغْـوِي» ولِـيُخلِّصَهم من شِـراكِـ لُغته ﭐلْـآسِـرة!

2.3-  رغم أنّ ﭐلْـكاتبَ يَـرُدّ ذاكـ ﭐلِـاصْطيادَ إلى كون ﭐلذين تَـلَـقَّـوْا لُغةَ “طه” «سَئِـموا من تبسيطِ أدبيات هذه الحركة، وسطحيتِها المضجرة وشعاراتِها المملة.»، فقولُـه هذا يَـقْـتضي أنَّ لُغة “طه” ليست فقط مُـبْهَمةً بحسب زعمه، بل يبدو على ﭐلْـأَقلّ أنّها تخلو ممّا يصفه بـ”ﭐلـتَّـبسيط” و”ﭐلسّطحيّة ﭐلمُضْجِـرة” و”ﭐلشِّعارات ﭐلْمُمِـلَّة” في كتابات أصحاب “ﭐلحركة ﭐلْـإِسلَـاميّة”؛ فكأَنّه يعترف مُـكْـرَهًا بـشيء من ﭐلْـفضل لِلُغة “طه”!

3.3-  يُعلِّـلُ ﭐلْـكاتبُ ﭐصْطيادَ «شباب ﭐلْحركة ﭐلإسلامية» بِـأنه «قادَهُم الحنين إلى الهوية والبحث عن الجذور، للانبهار بكتابات طه.»، وبأنّ «مُعظمَ هؤلاء [الشباب] لم يكتشفوا أبعادَ التراث المتنوعة، ويجهلون منزلقاتِه ومسالَكه ودروبَه، التي لا يفضي بعضُها إلا إلى المزيد من المتاهات، لمن لا يعرف مسالكَه جيدًا.». وهذا قولٌ يُـفِـيد أنّ غَـوايةَ لُغة “طه” تَصْـطاد (أو، بـﭑلْـأَحْـرى، تَـخْـدَع) فقط من كان ذاكـ حاله. لكنّ ﭐلْـكاتبَ يتجاهل كون ﭐلذين تَـلَقَّـوْا نُصوصَ “طه” ليسُـوا فقط «شباب ﭐلْحركة ﭐلْـإسْـلَـاميّة» ومن لَـا معرفة لهم بـ”ﭐلتُّـراث” (طبعا، إِذَا صدَّقنا أنّ كلَّ كتابات “طه” تتعلّق بـ”ﭐلتُّـراث” حصرًا!)، بل هُـناكـ أيضا بين ﭐلْمُتلَقِّـين باحثون ومُتخصِّصُون عبر ﭐلْعالَـم ﭐلْـعربيّ وﭐلْـإِسْـلَـاميّ، بل خارجه. ويتّضح، من هُـنا، أنّ ﭐخْـتزالَ ﭐلْـكاتب لِـمُـتلقِّي كتابات “طه” في «شباب ﭐلْحركة ﭐلْـإسْـلَـاميّة» – من حيث هو ﭐخْـتزالٌ لَـا يصف ﭐلْـواقع في تَـنوُّعه وتَعقُّده- يفضح غرضَه ﭐلْـمُتمثِّـل في ﭐستقطاب ﭐلْمُخاطَبين بمقاله (أو رُبَّـما ﭐلذين ﭐسْـتكتَـبُوه في ﭐلْـموضوع)!

4.3-  إِذَا تَـبيَّن ﭐلْغرضُ من تركيز ﭐلْكاتب على «شباب ﭐلْحركة ﭐلْـإسْـلَـاميّة»، فيبقى أنّه حتّى لو ثَـبَت أنّهم كانوا أكثر من تَـلَـقَّى كِـتابات “طه” وأنّهم ﭐصْـطِـيدوا بِـ«لُغته ﭐلْمُغْـوِيَة»، فَـلَـا بُـدّ من ﭐلِـانْـتباه إلى أمرَيْـن أَساسيَّـين: أَوّلُهما أنّ عُـمُـوم “ﭐلْـإِسْـلَـاميِّـين” في ﭐلْعالَـم ﭐلْعَـربيّ كانوا (ولَـا يَـزالون) إِمّا مُـتحفِّـظين من فِكْـره بـﭑعتباره تَـنْظيرًا فلسفيًّا أو تخريفًا صُوفيًّا، وإمّا عاجزين إلى حدٍّ كبيرٍ عن ﭐستيعابه بِـما يُـقْـدِرُهم على ﭐستئنافه أو تجاوُزه تمامًا؛ وثانيهما أنّ تَـلَـقِّـيَ فكر “طه” ليس محصُورًا في قُـرّائه ﭐلْعرب، وإنَّـما يَـمْتدّ إلى قُـرّاء عرب أو مُسْتعرِبين خارج ﭐلْعالَـم ﭐلْعربيّ هم ﭐلذين صاروا يُظْهِـرُون مَـزيدًا من ﭐلِـﭑهْـتمام ﭐلْـبحثيّ وﭐلتَّـرْجَـميّ بأعمال “طه” (مَـثَـلًـا في “أمريكا” و”تُـركيا”). وبقدر ما يُـنْتبَه إلى هاذَيْـن ﭐلْـأَمْـرَيْـن، يُمْكن أن يَظْهَـر ﭐلسّببُ ﭐلْعميق وراء كون فِـكْر “طه” يَحْضُر بصفته مُسْتفِـزًّا ومُـزْعِـجًا لكثيرين بَـيْننا!

4-  يقول “الرفاعي” مُواصِـلَـا مُـقايَـسته بحثًا عن مَـزيدٍ من ﭐلتّبْخيس وﭐلتَّشْـنِـيع: «التكوين الأكاديمي والبيئة الثقافية والمناهل الموروثة لطه عبد الرحمن لا تتطابق بتمامها مع سياقاتِ تكوين أحمد فرديد وبيئتِه وثقافتِه. فرديد تمحور تفكيرُه حول هايدغر ومدرسةِ ابن عربي وتلامذتِه وشُرّاحِه، والتصوفِ الفلسفي والعرفان النظري، وطه عبد الرحمن استند في اشتقاقاته إلى القاموسِ اللغوي، والمقولاتِ الاعتقادية للأشعري، والتصوفِ الطرقي، ومعجمِ التراث الأخلاقي. لكنهما يعمدان معًا إلى تلوينِ التراث وإلباسِه رداء اصطلاحيًّا جديدًا، يشبه ارتداءَ عجوزٍ طاعنة في السنّ لثيابِ عروس، وطلاءِ وجهها بمساحيق تجميلية صاخبة.»؛

1.4-  يأتي ﭐلْـكاتب هنا بجُـمْلةٍ من ﭐلْـأَحْـكام ﭐلْمُرْسَـلة: أَوّلُها يجعل “طه” يستند، في ﭐشتقاق مُصطَلحاته، إلى ﭐلْـقاموسِ ﭐللُّغويّ لِـ”ﭐلْـأَشْعَـريّ” ومَـقُولَـاته ﭐلِـاعتقاديّة، وإلى ﭐلتّصوُّفِ ﭐلطُّرُقيّ، وإلى مُعْجمِ ﭐلتُّراث ﭐلْـأَخْـلَـاقيّ. ولَـا يكتفي ﭐلْكاتبُ بإرسال هذا ﭐلْحُكْم من دُون تَـبْيِـين ولَـا تعليل، بل يَنْقُض به حُكْـمَه ﭐلسّابق ﭐلْمُتعلِّـق بأنّ “طه” يَنْحِـت مُصطَلحاتٍ بديلةً عمّا هو شائعٌ ومُتعارَفٌ!

2.4-  قولُه إنّ “طه” يَعْـمِـدُ – مثل “فَـرْديد”- إلى «تلوينِ التراث وإلباسِه رداء اصطلاحيًّا جديدًا يُشبه ارتداءَ عجوزٍ طاعنة في السنّ لثيابِ عروس، وطلاءِ وجهها بمساحيق تجميلية صاخبة.» يُـمَثِّـلُ تشبيهًا خادِعًا، لِـأَنّه يُخْـفي كونَ ﭐلْكاتب لم يُبَـيِّنِ ﭐلْمَـواضعَ حيث يَـتجلّى بـﭑلضَّبط عمل “فَـرْديد” و”طه” على «تلوينِ التراث وإلباسِه رداء اصطلاحيًّا جديدًا». ولِـأَنه يكتفي بـذاكـ ﭐلتَّـشْـبيه، فإنّنا نصيرُ أمام ضَـرْبٍ من ضُرُوب «غَـواية ﭐللُّغة» يُـريد ﭐلْـكاتب أن يَخْـدَع به ﭐلْـقارئَ غير ﭐلنَّبِـيه!

3.4-  من ﭐلـلَّـافِـت جِـدًّا أن يقف “ﭐلرفاعي” على عَـلَـاقة “طه” بـ«ﭐلتَّصوُّف ﭐلطُّرُقيّ» (فيَذْكُـر في هامشٍ ما يُحدِّدُ ﭐنْـتماءَه إلى «ﭐلطّريقة ﭐلبُوتشيشية»)، لِـأنّه يأبى إِلَّـا أن يُـتابِـعَ خُـصُومَ “طه” في بحثهم عن ﭐلتّشْنيع عليه بما لَـا يستطيعون أن يَـسْتحضروا مُقابلَه ﭐلْخَـفِـيَّ في حياتهم ﭐلشَّخْـصيّة. لكنْ حتّى من هذه ﭐلنّاحية يَتفوَّق عليهم “طه” لكونه لم يُخْـفِ تَـلقِّيَه ﭐلتّربية أو ﭐلتَّزْكية على يد شيخ صُوفيّ صاحب زاوية مشهُورة، بل ﭐسْتفاض في ﭐلْحديث عنه مُعْـترِفًا بعظيم فضله (على ﭐلْـأقلّ في ﭐثْـنين من كُـتبه: تمهيد ﭐلطّبعة ﭐلْـأُولى من «ﭐلعمل ﭐلدِّيني وتجديد ﭐلعقل» [1989] وخاتمة ﭐلْجزء ﭐلثّالث من «دِين ﭐلْحياء» [2017]). وفي ﭐلْوقت ﭐلذي لَـا يكاد خُصُومُ “طه” يَجْـرُؤُون على إظهار ما خفي من تكوينهم وتوجيههم (بـﭑلْـأَخص في إطار مُنظَّمات أو أحزاب أو في أثناء تنشئتهم على أيدي شُـيُـوخ ومَـراجع في “ﭐلْحَـوْزات”)، تراهُـم مُبْتهجِـين جِـدًّا بذِكْـرِ تَـوجُّهه ﭐلصُّوفيّ على ﭐلرّغْـم من أنّ تأثيرَ “ﭐلتَّصوُّف” في ﭐلْـفِكْـر ﭐلْـفلسفيّ ثابتٌ قديمًا وحديثًا ولَـا شيء يُحَـرِّمُ على ﭐلْـفيلسوف أن يَـسْتلهمَ تَجْـرِبتَه ﭐلْخاصّة مهما بَـلَغتْ في شُـذُوذها أو طَـرافتها. وإِلَّـا، فما أكثر ما يَـنْتظرُنا لو أَرَدْنا ﭐلِـانْـتقاصَ من عُـمُـوم ﭐلْـفِكْـر وﭐلْعمل ﭐلْبَشَـريَّـيْن من جهة كُـلّ ما هو شخصيٌّ في حياة كِـبار ﭐلْعُـلماء وﭐلْـفَـلَـاسفة وﭐلْـقادة!

5-  يقول “الرفاعي”: «لا يصدق على كتابات طه أنها فلسفة، وهكذا لا يصدق على أقوال فرديد مفهومُ الفلسفة.»؛

1.5-  يُـلَـاحَظ أنّ هذه ﭐلْـجملة (ﭐلْـمُرَكَّبة من قولَـيْن رُبِـطَ بينهما بأَداة “وهكذا”) يَـنْفي فيها ﭐلْـكاتبُ إمكانَ أن يَصْـدُق «مفهوم ﭐلفلسفة» على كتابات “طه” وكذا على أَقْـوال “فَـرْديد”. فكيف يُعَـلِّـلُ هذا ﭐلنَّـفْي؟! إنه يأتي بسلسلةٍ من ﭐلْـأَحْـكام ﭐلْـمُرْسَـلة وﭐلْـمُبْـهَـمة، إذْ يقول: «الفلسفة ضربٌ من التفكير العقلي المستقل، لغةُ ومصطلحاتُ الفلسفة تكشف عن خارطة العقل، وهي مرآةُ حدوده. لا تلتهم لغةُ الفلسفة ومفاهيمُها لغةَ ومفاهيمَ اللاهوت والمتخيَّل والمثيولوجيا واللامعقول. العقلُ مرجعيتُه العقل لا مرجعيةَ له خارجه، العقلُ مرجعيةٌ ومعيارٌ وسلطةٌ على كلِّ ضربٍ من أفعالِ الذهن وإبداعِه مهما كان. العقل يرسم حدودَه وما هو داخلٌ في فضائه، ويتدخل ببيان حقيقةِ وحدودِ ما هو خارجه مما ينتجه المتخيَّلُ وغيرُه. لا يصدق التفكيرُ فلسفيًّا إلا لحظةَ يكتفي العقلُ في تصديقاتِه وحججِه وأحكامِه بذاته، يكون هو مرجعيةُ تمحيصِ تفكيره، ومرجعيةُ تمحيصِ ما سواه مما ينتجه الذهن، والحكم عليه إثباتًا أو نفيًا. عندما يصمت العقل تدخل الروح والقلب والعاطفة في متاهات أبدية. العقل يريد ألا نستمع منه إلا إلى صوته الخاص، من دون أن تشوّش عليه وتربكه وتنهكه أصواتٌ خارج حدوده. الفيلسوف يحاول أن يفسّر حقيقةَ الظواهر والأشياء وماهيتَها، يفسّر حقيقةَ العلم وماهيتَه، الفيزياء والكيمياء ومختلفُ العلوم تنشغل باكتشافِ قوانين الطبيعة ومعادلاتِها، ولا تعرف حقيقةَ ذاتها وماهيتها. أحيانًا نرى إنسانًا عبقريًّا في منطقةٍ يقظة من عقله، وعلى الضدِّ من ذلك في منطقةٍ نائمة من عقله. تدهشك قدرتُه على توظيف المغالطاتِ المنطقية لعقله اليقظ للاستدلال على أوهام عقله النائم. المراوغاتُ الذهنية والثغراتُ المنطقية في تفكير العباقرة تفسيرُها يتطلب الانتباهَ لوجود هذه الحالة الذهنية. ذلك ما يجعل بعضَ ‏الفلاسفة يبدأون بمقدماتٍ عقلية وينتهون بنتائجَ غير معقولة. الفيلسوف ينشغل بفعلِ التفلسف، يفكّر تفكيرًا عميقًا بالأسئلة والأجوبة الوجودية، يبدأ بمقدماتٍ فلسفية ومنطقية وينتهي بنتائج فلسفية ومنطقية. تفلسفُ الفيلسوف يعني أنه يقدّم تفسيرًا يتجاوز سطحَ الأشياء والظواهر ويبحث عن حقيقتها.»؛

2.5-  يُـلَـاحَـظ أنّ هذه ﭐلسّلسلةَ من ﭐلْـأَقوال ﭐلتي يَظُنُّ ﭐلْكاتبُ أنّها تَحُـدُّ «مفهوم ﭐلْفلسفة» ليست سوى أَحْـكامٍ مُـرْسَـلةٍ لَمْ يُـبَـيِّنْ ما يُوجِـبُ تَصْديقَها ولَـا ما يُثْـبِتُ ﭐنْـطباقَها على كُلّ ﭐلْكتابات وﭐلْـأَقْـوال ﭐلْمنسُوبة إلى جميع من يُسَمَّـوْن “فَـلَـاسفة”، كما لم يُـبيِّـنْ أنّ أَقْـوال “طه” وكتاباته لَـا تتحقَّق بأَيِّ شيءٍ منها. وبِـما أنّ ﭐلْوُقوفَ عند كُلّ هذه ﭐلْـأَحكام يَطُـول ﭐلْكَـلَـامُ فيه، فقد يكفي إبداءُ ما يُـشير إلى إمكان مَـنْعها بسُهولة؛

3.5-  من يَـتلقَّى قولَ «الفلسفة ضربٌ من التفكير العقلي المستقل»، يُمْكِـنُه أن يَـتساءل عن معنى وصف “ﭐلفلسفة” بأنّها «تفكير عقلي مستقل»؛ فهل “ﭐلْـفلسفةُ” مُستقلَّةٌ فقط بما هي تفكيرٌ عقليٌّ أَمْ بـﭑعتبار أنّ «ﭐلتَّـفكير ﭐلْعقليّ» فيها له خُـصوصيّةٌ (إمّا من جهة كيفيّة بنائه منهجيًّا، وإمّا من جهة ﭐمتياز ﭐلْموضُوع ﭐلْمُتناوَل) أَمْ بـﭑعْـتبار أنّها مُسْتقلّةٌ عن كلّ ما هو سِـواها (ﭐلْـأَدب، ﭐلْفنّ، ﭐلْعلم، ﭐلدِّين، ﭐلسِّياسة، ﭐلْـأَخْلَـاق)؟ إنّ كونَ قول ﭐلْكاتب يُؤدّي إلى طرح هذه ﭐلْـأسئلة يجعلُه مُـبْهَـمًا؛ ولِـأَنَّـه قولٌ غيرُ مُدلَّـلٍ، فـهو لَـا يَـمْنَع من ﭐلتّساؤُل مثلًـا: ولِـماذا لَـا تَكُون “ﭐلْفلسفةُ” مُـمارَسةً حيّةً تَـقُوم على ﭐلِـاشْـتغال بـ”ﭐلسُّـلُوكـ” و”مُجاهَـدة ﭐلنّفس” بـﭑعتبار أنّ أصلَها «مَـحبَّة ﭐلْحكمة»؟ وما ﭐلذي يُوجِب أن تَكُون “ﭐلْـفلسفةُ” مُسْـتقلَّةً عن “ﭐلْعُـلُوم ﭐلْوضعيّة” (ﭐلريّاضيَّات، ﭐلْـفيزياء، علم ﭐلْـفلكـ، ﭐلْكيمياء، علم ﭐلْـأحياء) ﭐلتي تَـبْني، في ﭐلْواقع، ما يُعَـدُّ «معرفةً موضُوعيّةً وحقيقيّةً»؟ وقد يكفي هذا لتأكيد أنّ قولَ «الفلسفة ضربٌ من التفكير العقلي المستقل» ليس بتعريفٍ حقيقيٍّ لِــ«مفهوم ﭐلْفلسفة»!

4.5-  قوله «لغةُ ومصطلحاتُ الفلسفة تكشف عن خارطة العقل، وهي مرآةُ حدوده» قول آخَـرُ مُـبْهَـمٌ. فما معنى أنّ لُغةَ “ﭐلْـفلسفة” ومُصطَلحاتِها تكشف عن «[خريطة] ﭐلعقل»؟ وما ﭐلذي يُمَـثِّـل مِـرْآة حُدود “ﭐلْعقل”؟ هل هو “ﭐلْـفلسفة” أَمْ لُغتُها ومُصطَلحاتُها أَمْ كونُ “ﭐلْـفلسفة” خريطةً للعقل؟!

5.5-  قولُه «لا تلتهم لغةُ الفلسفة ومفاهيمُها لغةَ ومفاهيمَ اللاهوت والمتخيَّل والميثولوجيا واللامعقول» مُبْهَـمٌ أيضًا؛ إذْ متى كانت لُغةُ “ﭐلْـفلسفة” ومفاهيمُها لَـا تَـلْتَـهِمُ لُغةَ ومفاهيمَ “ﭐلـلَّـاهُوت” و”ﭐلْمتخيَّل” و”ﭐلميثولوجيا” و”ﭐلـلَّـامعقول”؟ وما ﭐلذي تَـلْتهِمُه بـﭑلضّبط (إذَا كانت أصلًـا تَـلْتهِم شيئًا أو تَـقْـرِضُه قَـرْضًا)؟

6.5-  قولُـه «العقلُ مرجعيتُه العقل لا مرجعيةَ له خارجه، العقلُ مرجعيةٌ ومعيارٌ وسلطةٌ على كلِّ ضربٍ من أفعالِ الذهن وإبداعِه مهما كان» مُـبْـهَـمٌ ويَقُود إلى التّساؤُل: فما معنى “ﭐلعقلُ” مرجعيّة نفسه ولَـا مرجعيّةَ له من خارجه؟ هل معناه أنّ “ﭐلْعقل” يُؤسِّسُ ذاتَه بدَوَرانه على نفسه أَمْ بتَـسَلْسُلٍ لَـانهائيٍّ لِلْمُمْكِـنات أَمْ أنه مُغْـلَقٌ ومُكْتَـفٍ بذاته ولَـا يحتاج إلى ما يَـتجاوزُه رُتْـبةً وزَمنًا؟

7.5-  ما معنى قوله «العقلُ مرجعيةٌ ومعيارٌ وسلطةٌ على كُلِّ ضربٍ من أفعالِ الذهن وإبداعِه مهما كان»؟ هل معناه أنّ “ﭐلْعقل” لَـا يَعْـلُو على نفسه حتّى يكون مرجعًا ومعيارًا وسلطةً على ما يُـنْتِجُه؟ وما حقيقةُ هذا “ﭐلْعقل” ﭐلذي يَـتَّخذُه ﭐلْـكاتبُ موضوعًا لِـكَـلَـامه وإِرْسال ﭐلْـأَحكام بشأْنه؟!

8.5-  ما معنى قوله «لا يصدق التفكيرُ فلسفيًّا إلّا لحظةَ يكتفي العقلُ في تصديقاتِه وحججِه وأحكامِه بذاته، يكون هو [مرجعيةَ] تمحيصِ تفكيره، و[مرجعيةَ] تمحيصِ ما سواه مما ينتجه الذهن، والحكم عليه إثباتًا أو نفيًا»؟ هل معناه أَنّ “ﭐلعقلَ” مُـتوحِّـدٌ ومُتسَـيِّدٌ كأنّه مُـستقلٌّ تماما عن “ﭐلْواقع” وليس تلميذًا بين يدي «ﭐلتَّـجْـربة ﭐلْحسيّة»؟

9.5-  ما معنى قوله «عندما يصمت العقل تدخل الروح والقلب والعاطفة في متاهات أبدية»؟ هل معناه أنّ كُـلَّـا من “ﭐلرُّوح” و”ﭐلْـقلب” و”ﭐلْعاطفة” تابعةٌ لِـ”ﭐلْعقل” أَمْ معناه أن هناكـ أسبقيّةً وُجُوديّةً ومعرفيّةً وأَخْـلَـاقيّةً لِـ”ﭐلْعقل”؟ وماذا لَـوْ كان ﭐلْعكسُ بما يُفيد أنّ “ﭐلْعقل” لَـا يَقُوم ولَـا يهتدي من دون “ﭐلرُّوح” و”ﭐلْـقلب” و”ﭐلْعاطفة” تمامًا كما يبدو أن ﭐلْكاتب يَـرْجِـعُ إلى تأكيد شيء منه في آخِـر فِـقْـرةٍ من مَـقاله؟!

10.5-  أَلَـيْست تلكـ ﭐلْـأَقْـوالُ من جنس «غَـواية ﭐللُّغة» ﭐلتي يَـنْسُبها ﭐلْكاتب إلى “فَـرْديد” و”طه”؟ أليس من شأنها إغْـواءُ من يَـتلَـقّاها من دون ﭐلتّساؤُل عن دَلَـالتها وأسانيد تَعْـليلها؟

11.5-  إذَا كان «ﭐلْـفيلسوف ينشغل بفعلِ التفلسف»، فما معنى أن نجد أنّ “طه” راكَـمَ عدّة كُـتُـب («ﭐللُّغة وﭐلْفلسفة» [1972، 1979]، «فقه الفلسفة-الفلسفة والترجمة» [1995]؛ «فقه الفلسفة-القول الفلسفي: المفهوم والتأثيل» [1999]؛ «الحق العربي في الاختلاف الفلسفي» [2002]؛ «سُؤال السيرة الفلسفية: بحث في حقيقة التفلسف الائتمانية» [2023]) تَـدُلّ بـﭑلضّبط على مدى ﭐنْـشغاله بفعل “ﭐلتّفلسف”؟

12.5-  إِذَا كان ﭐلْـفيلسوفُ «يفكّر تفكيرًا عميقًا بالأسئلة والأجوبة الوجودية»، فما معنى أن يَكُون “طه” قد أَلَّـفَ خمسةَ كُـتُـب تَحْمِـلُ في عناوينها ﭐلْـأَساسيّة لفظ “سُؤال” («سُـؤال الأخلاق» [2000]، «سُؤال العمل» [2012]، «سُؤال العنف» [2017]، «سؤال المنهج» [2015]، «سُؤال السيرة الفلسفية» [2023])؟

13.5-  إذَا كان ﭐلْفيلسوفُ «يبدأ بمُقدِّماتٍ فلسفيّة ومنطقيّة وينتهي بنتائج فلسفيّة ومنطقيّة»، فما هي ﭐلْـأمثلةُ ﭐلتي تُخالِـف هذا ﭐلْحُكْـم من كتابات “طه”؟

14.5-  إذَا كان «تفلسفُ الفيلسوف يعني أنه يُقَـدِّم تفسيرًا يتجاوز سطحَ الأشياء والظواهر ويبحث عن حقيقتها»، فما معنى أن يَكُون عملُ “طه” مَبْنِـيًّا على تأكيد أهمِّـيَّة ما يُسَـمِّـيه «ﭐلْعقل ﭐلْمَـلَكُـوتيّ» ﭐلذي شأنُه أن يَتجاوزَ «ﭐلنّظر في ﭐلظّواهر» إلى «ﭐلنَّظر في ﭐلْـآيات»؟

15.5-  هذه ﭐلْـأسئلةُ غَـيْضٌ من فَـيْضٍ كان على “الرفاعي” أن يَطْـرَحها ويُقَـلِّـبَها حتّى يَـتبيَّنَ أَنّ تعريفَه لِـ”ﭐلْـفلسفة” أقربُ إلى ﭐلتّحكُّم أو ﭐلتَّشهِّي وأبعدُ من أن يَكُون تعريفًا مَـبْنيًّا على مَعايِـير مَوْضُوعيّة يُمْكِـنُ ﭐلِـاتِّـفاقُ عليها عَـقْـليًّا (وأنّى له بمثل هذه ﭐلْـمَـعايِـير!). وإِلَّـا، فهُـناكـ ما هو أشدّ: لِـكَيْ نُسَـلِّمَ لِلْكاتب بتعريفه ذاكـ يجب أن يَكُـون قد بَـلَغ من “ﭐلتَّفلسُف” شأْوًا لَـا يُـدانِـيه فيه أحدٌ من سابِقيه أو مُعاصِـريه بحيث يَـفْـرِض نفسَه «نَمُـوذجًا كُـلِّـيًّا للفيلسوف». فهل يَجْـرُؤ “الرفاعي” على أن يَـدَّعيَ ذلكـ؟!

– 6 يقول “الرفاعي”: «لا يُنكَر أن طه عبد الرحمن مثقفٌ موسوعي خبيرٌ بالتراث والحداثة، يمتلك موهبةً فذّة وذكاءً فريدًا، وتكوينًا بالفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة جادًّا، وخبرةً واسعة بالتراث، غير أن كتاباتِه الفلسفية والمنطقية تبدأ بمقدماتٍ فلسفية ومنطقية وتنتهي بنتائجَ لاهوتية.»؛

– 1.6 ما يَعْـنِـينا في هذا ﭐلْـقول هو آخِـرُه («غير أن كتاباتِه الفلسفية والمنطقية تبدأ بمقدماتٍ فلسفية ومنطقية وتنتهي بنتائجَ لاهوتية.»)، بحيث إذَا صَحَّ «أنّ كتاباتِ [طه] الفلسفية والمنطقية تبدأ بمُقدِّماتٍ فلسفيّة ومنطقيّة وتنتهي بنتائجَ لاهوتيّة.»، فما هي ﭐلْـأَمثلةُ ﭐلدَّالَّةُ على هذا في كتاباته؟ وما ﭐلذي يَمْنَعُ عقليًّا من مثل ذاكـ ﭐلِـانْـتقال؟ وماذَا لو كان ﭐلثّابِـتُ في كتابات “طه” هو ﭐلْعكس؟ بل متى كان ﭐللُّـزُومُ ﭐلْعقليُّ يُوجِـبُ تَـرْتيبَ ﭐلنّتائج على ﭐلْمُقدِّمات بِـناءً على شيء آخَـر غير صِـحَّـة ﭐلِـاستنتاج؟!

– 2.6 إِذَا كان “ﭐلـلَّـاهُـوتُ” مُـتضمَّـنًا ميتافيزيقيًّا في ﭐلْفكر ﭐلْفلسفيّ وﭐلْمنطقيّ مُنذ “أَفْـلَـاطُون” و”أرسطو” (بَـلْهَ ما حدث بعدهما عند ﭐلْمتفلسفة ﭐلْيهود وﭐلْمسيحيّين وﭐلْمُسلمين، بل حتّى عند كثير من مُتفلسفة ﭐلْعصر ﭐلْحديث)، فما ﭐلذي يُسَـوِّغ ﭐستغرابَ أن تَكُون كتاباتُ “طه” ﭐلْفلسفيّةُ وﭐلْمنطقيّةُ تنتهي بنتائج لَـاهُوتيّة كما يَـزْعُم ﭐلْكاتب؟!

– 3.6 وكيف يَـمُـرّ “الرفاعي” – ﭐلذي سبق له أن نَـفَى “ﭐلْـفلسفة” عن “طه”– على جُمْـلةٍ مُقْـتضاها إِثْـبات أَنّ هناكـ «كتاباتٍ فلسفيّةً ومنطقيّةً» لـ”طه” نفسه تبتدئ بمُقدِّمات فلسفيّة ومنطقيّة وتنتهي بنتائج لَـاهُوتيّة؟!

– 7 يقول “الرفاعي”: «برع طه في إعادةِ انتاج شيءٍ من مقولات الغزالي والفخر الرازي وابن تيمية الاعتقادية بأسلوبٍ مُـراوغ لغويًّا»؛

– 1.7 يُـلَـاحَـظ أنّ هذا ﭐلْـقولَ يَـقُود إلى طرح أربعة أسئلة: أوّلُها، ما هي بـﭑلضّبط مَقُولَـات “الغزالي” و”الفخر الرازي” و”ابن تيميّة” ﭐلتي ﭐستعادها “طه”؟ وثانيها، كيف أعاد “طه” إنتاج تلكـ ﭐلْـمَقُولَـات ﭐلِـاعتقاديّة؟ وثالثُها، أَيْـن يَـتجلّى أُسْـلُوب “طه” ﭐلْـمُراوِغ لُغويًّا؟ ورابعها، ما ﭐلْعيب في أن يستعيدَ مُفكِّـرٌ مُعاصرٌ بعضَ مقُولَـات “الغزالي” و”الفخر الرازي” وابن تيميّة” إذَا كان لديه ما يَسْتصْوِبُها به؟

– 2.7 إذَا ثَـبَتَ أنّ “طه” قد بَـرع في إعادة إنتاج مَقُولَـات “الغزالي” و”الفخر الرازي” و”ابن تيميّة”، فما ﭐلذي يَـمْنَع من أن تُحْـتسَب له هذه ﭐلْـبراعة؟ أو، بـﭑلْـأَحْـرَى، هل كُـلُّ مَقُولَـات ﭐلْمذكُورِين باطلةٌ أَصْـلًـا أَمْ صارت ميِّتةً فِعْـلًـا بحيث لَـا يَصِحُّ أن يُستعاد منها شيء في عصرنا؟

– 8 يقول “الرفاعي”: «طه تراثي برداءِ منحوتاتٍ لغوية جديدة، التراثيةُ بنيةٌ ذهنية ونفسية وعاطفية، كأنها وعاءٌ يمكن أن تملأه بأيِّ معتقد، سواء كان قوميًّا أو ماركسيًّا أو دينيًّا»؛

– 1.8 يُـلَـاحَـظ أنَّ هذه أَيْضًا ثَـلَـاثةُ أَقْـوالٍ مُـرْسَـلةٍ غَـرَضُها ﭐلِـاتِّهامُ من دُون تَـبَـيُّنٍ حتّى إنّ صِدْقَها يُوجِـب أن يكون من يَجْـري بها لسانُه أو قلمُه موضوعًا لها أكثر من غيره:  فأَنْ يكون “طه” تُـراثيًّا، فهذا لَـا يَخُصُّه وحده، بل يَشْمَـل كُلَّ من له ﭐنْـتسابٌ ما إلى «ﭐلتُّـراث ﭐلْـإِسْـلَـاميّ-ﭐلْعربيّ» أو إلى غيره، بحيث لَـا يُسْـتَـثْـنى منه إِلَّـا من أَنْجَـز فِعْـليًّا ﭐنْـقطاعَه عن كلّ أنواع “ﭐلتُّـراث”؛ وهيهات أن يكون ﭐلْكاتبُ أو غيرُه هو صاحب هذا ﭐلْـإِنْجاز ﭐلْمُمْـتنِع في ﭐلْـواقع!

– 2.8 لكنّ مُـرادَ ﭐلْكاتب بقوله «طه تُـراثيّ» ليس ذاكـ ﭐلْـمعنى، بل هو أن يَقُول إنّ “طه” «سجينُ “ﭐلتُّـراث” ومفصولٌ تماما عن “ﭐلْحداثة”». ولِـذَا، فإنّ “الرفاعي” يأتي بتكملةٍ مُـزْدوجةٍ لقوله: جُـزْؤُها ﭐلْـأَوّلُ «بِـرِداءِ منحوتاتٍ لُغويّة جديدة» (ﭐلتي مُفادها أنّ “طه” «يُخفي تراثيّتَه ﭐلْكاملة بـﭑرْتداء قِـناع ﭐلْمنحوتات ﭐللُّغويّة ﭐلتي لَـا جِـدّة فيها إِلَّـا من جهة ﭐلشّكل»)، وجُـزْؤُها ﭐلثّاني «ﭐلتُّـراثيةُ بِنْـيةٌ ذهنيّة ونفسيّة وعاطفيّة، كأنها وعاءٌ يمكن أن تملأه بأيِّ معتقد، سواء كان قوميًّا أو ماركسيًّا أو دينيًّا»؛ غير أنّ هذه ﭐلتّكْـملة ﭐلثّانية مُبْـهَـمةٌ ومُشْكِـلةٌ جِـدًّا، لِـأَنّه يستعمل فيها لفظ “ﭐلْـبِـنْية” كما لو كان مُـرادِفَ لفظ “ﭐلْـوِعاء” («ﭐلتُّـراثيّةُ بنيةٌ ذِهنيّة ونفسيّة وعاطفيّة»؛ «كأنّها وعاءٌ يمكن أن تملأه بأيِّ معتقد»)، في حين أَنَّ “ﭐلْـبِـنْية” (سواء أَأَخذناها بمعناها ﭐلْعامّ كـ«هَـيْـأَة تنتظم بها مُكوِّناتُ ﭐلْـمجموع» أَمْ بمعناها ﭐلْعِلْميّ ﭐلْخاصّ كـ«نسق مُـرَكَّـب يُعْـتبَـر من جهة ﭐلْعَـلَـاقات ﭐلتَّبادُليّة ﭐلْـقائمة بين عناصره») لَـا تَـقْـتضي أَن يَكُون ﭐلْـموصُوفُ بها (ﭐلذي هو “ﭐلتُّـراثيّة” في قوله) مُجَـرَّد وِعاء أو إطار فارغ بحيث يَـقْـبَـل أن يُمْـلَـأَ بأَيِّ مُعْـتقَـدٍ، بل تقتضي أَنَّ “ﭐلتُّـراثيّة” – بما هي هَـيْأَةٌ ذِهْـنيّةٌ ونفسيّةٌ وعاطفيّةٌ- مُحدِّدٌ أَساسيٌّ لِـأَيِّ فِـعْـلٍ إِدْراكيّ أو ﭐعْـتقاديٍّ، على ﭐلنّحو ﭐلذي يجعل قولَه «كأنّها وعاءٌ يمكن أن تملأه بأيِّ معتقد، سواء كان قوميًّا أو ماركسيًّا أو دينيًّا» غَـيْـرَ مُناسِـبٍ لِـوَصْف “ﭐلتُّـراثيّة-ﭐلْـبِنْـية” ﭐلتي هي بمثابةِ كـيانٍ ذِهْـنيٍّ ونفسيٍّ وعاطفيٍّ!

– 3.8 أشدّ من ذلكـ، ستُطْـرَح حينئذٍ مُشْكِـلةٌ مُـزْدوِجةٌ: وجهُها ﭐلْـأوّلُ أنّ وصف “ﭐلتُّـراثيّة” لَـا يدلُّ على ما يُمْكِـن أن يُكْـتسَب ﭐخْـتيارًا، بل يَدُلُّ على ما يُورَث كشيءٍ يُـلَـابِـس ﭐلذَّاتَ من داخلها وبشكلٍ غير شُعُـوريٍّ، مِـمّا يَقُود إلى ﭐلتّساؤُل عن مدى تحقُّق ﭐلْـقائِـل نفسه بـﭑلِـانْفكاكـ عن “ﭐلتُّـراثيّة” ﭐلتي يَتحدّث عنها كأنّها وَصْمةٌ تقع فقط على غيره؛ ووَجْـهُها ﭐلْـآخَـر أنّ “ﭐلتُّـراثَ” ليس له وُجُـودٌ موضُوعيٌّ كوَقائع يُمْكِـنُ ﭐلِـاشْـتراكُـ في توصيفها وتفسيرها بهذا ﭐلْـقدر أو ذاكـ (مَـثَـلًـا مُـدَوَّنات ﭐللِّسان ﭐلْعربيّ في ﭐلْعصر ﭐلْجاهليّ)، بل يصير مثل ﭐلطِّـلَـاء أو، بـﭑلْـأَحْـرى، مثل ﭐلْعجين ﭐلْـقابِـل للتَّـشْكيل كيفما يَـتّفِـق للنّاس أن يَفْعَـلُوا به!

– 4.8 كُـلُّ ما سبق يُشِـير إلى فساد مفهُـوم “ﭐلتُّـراث” في ذِهْــن ﭐلْـكاتب إلى ﭐلْحدّ ﭐلذي يُـوقِـع وَصْـمَ “ﭐلتُّـراثيّة” عليه من حيث لَـا يَـدْري أو يُـشير إلى أنه لَـا يَـتَّخذ “ﭐلتُّـراثيّةَ” وَصْمًا لغيره إِلَّـا في ﭐلْـمدى ﭐلذي يُـريد أن يُخْـفِيَ تُـراثيَّـتَه ﭐلْخاصّةَ ﭐلتي يُخالِـف بها ﭐلْـآخَـرين (سواء أكانت تُـراثيّةً مُتّصلةً جُـزْئيًّا أو كُـلِّـيًّا بما هو “إِسْـلَـاميّ-عربيّ” أَمْ كانت تُـراثيّةً مُـتَّصلةً فقط بـ”ﭐلْحداثة” من حيث يُنْسى أَنّها لَـا تقع بين أيدي ﭐلْعرب وﭐلْمسلمين، أو في أَذْهانهم، إِلَّـا كَـ«تُـراث مُتنكِّـر»)!

– 9 يقول “الرفاعي”: «طه عبد الرحمن مُقـلِّـدٌ للأشعريةِ في علم الكلام، وللمالكيةِ في الفقه، وللطريقةِ القادرية البودشيشية في التصوف. يتعاطى مع مقولاتِ الأشعري وأتباعه وإجاباتِهم للأسئلة الميتافيزيقية الكبرى على أنها مُسلَّماتٌ نهائية لا تقبل النقاش»؛

– 1.9 في هاتين ﭐلْجُملتَيْـن سلسلةٌ من ﭐلْـأَحكام ﭐلْـمُرْسَـلة ﭐلتي لَـا تستدعي فقط أن يُتساءل عمَّا يُثْـبِتها، بل تستدعي أيضًا أن يُتساءَلَ عن مُناسبة إيرادها؛ فقولُه «طه عبد الرحمن مُـقَـلِّـدٌ للأشعريةِ في علم الكلام، وللمالكيَّـةِ في الفقه، وللطريقةِ القادرية البودشيشية في التصوف» تعميمٌ يُطْـلِـقُه ﭐلْكاتب من دون أن يأتيَ بشيء من مكتوبات “طه” يَجعلُه خاصًّا به. ولَـا مُناسِـبة ظاهرة لقوله، لِـأَنّ “طه” لم يَـدَّعِ قطُّ أنه مُجْتهدٌ مُجَـدِّدٌ في “علم ﭐلْـكَـلَـام” أو في “ﭐلْـفقه” أو في “ﭐلتّصوُّف” حتّى يَصِحَّ ﭐلِـاعتراضُ عليه بأنه مُـقَـلِّدٌ فيها جميعًا!

2.9- قد كان يَحِـقُّ لِـلْكاتب أن يُـؤاخِـذَ “طه” بكونه مُقلِّـدًا في “علم ﭐلْكَـلَـام” و”ﭐلْفقه” و”ﭐلتّصوُّف” لو أنه هو، بِـخِـلَـافه، تحقَّق بتمام ﭐلِـاجْـتهاد وﭐلتَّجْـديد فيها. ولو أراد ﭐلْـمرءُ أن يشتغل بما يُظْهِـرُ تَـقْـليديّة “الرفاعي” حتّى في “علم ﭐلْكَـلَـام” (ﭐلذي ما فتئ يَظُنّ أنه من رُوّاد ﭐلتّجْـديد فيه)، لَـﭑنْتهى إلى إِثْـبات أنه واقعٌ في أَسْـوإِ أنواع ﭐلتَّقليد!

– 3.9 قولُه «يتعاطى مع مقولاتِ الأشعري وأتباعه وإجاباتِهم للأسئلة الميتافيزيقية الكبرى على أنها مُسلَّماتٌ نهائية لا تقبل النقاش» يُـرَدُّ عليه بشيءٍ واحدٍ: إمّا أنه تَـقْوِيلٌ مُناسبٌ لغرضه في ﭐلتَّـشنِيع، وإمّا أنه دليلٌ آخَـرُ على وُقوعه في «غَـواية ﭐللُّغة»!

– 4.9 أن يَزْعُمَ ﭐلْكاتبُ أنَّ “طه” مُقلِّدٌ في “علم ﭐلْـكَـلَـام” و”ﭐلْـفقه” و”ﭐلتّصوُّف”، فهذا لَـا يُريد به فقط أن يُظْهِـرَ نفسَه بوصفه مُجدِّدًا، بل يُـريد به أيضًا أن يُخْـفيَ كوْنَه صاحبَ “عقيدة كَـلَـاميّة” و”مذهب فقهيّ” و”طريقة عِـرْفانيّة” يَـتَّبع فيها جميعا من يَعُـدُّهم مَـراجِـعَ له!

– 5.9 ومُقْـتضَى ذلكـ أنَّ مُؤاخَـذةَ ﭐلْكاتب بتعاطي “ﭐلتّضليل” لَـنْ تُـرْفَـع عنه ما لم يُثْـبِتْ ﭐنْـفكاكَه ﭐلتّامَّ عن عُـمُـوم “ﭐلتُّـراث” (ﭐلْـإِسْـلَـامي وﭐلْغربيّ) بوصفه غيرَ مُـلْزِم له لَـا عَـقْليًّا ولَـا شَـرْعيًّا بـﭑعْـتبار تَحقُّـقه بمَـرْتَـبة «ﭐلْمُجتهد ﭐلْمُطلَق» في “ﭐلْعقيدة” و”ﭐلْـفقه” و”ﭐلْـأَخلَـاق”!

– 6.9 لو صَدَّقْـنا ﭐلْكاتب، تَجوُّزًا، بأنّ صفةَ “ﭐلْمُجَـدِّد” ثابتةٌ له بِـناءً على ﭐشْتغاله بما يُسمَّى «علم ﭐلْـكَـلَـام ﭐلْجديد»، لَـصِـرْنا إلى مُـنازَعته في هذا ﭐلذي يَـدَّعيه خِصِّيصًا لنفسه. ذلكـ بأَنّ ﭐلِـانْـتقاصَ من «علم ﭐلْـكَـلَـام ﭐلْـقديم» في مُقابِـل “ﭐلْـفلسفة ﭐلْحديثة” عموما يُوجِـب بُطْـلَـانَ أَيِّ تجديدٍ مَـزْعُـومٍ في مجال “ﭐلْـكَـلَـاميّات”، بحيث لَـا تَعُـود مُحاولةُ أصحاب «علم ﭐلْـكَـلَـام ﭐلْجديد» إِلَّـا طمعًا في مُحالٍ بـﭑعْـتبارين: أَوَّلُهما ﭐمْـتناع أن يكون هناكـ عِـلْمٌ بَـشَـرِيٌّ حقيقيٌّ موضُوعه “ﭐلْـعقائد” في إحالتها إلى “ﭐلْغَـيْبيَّات”؛ وثانيهما أنّ إرادتَهم بِـناء مُعْـتقَداتهم ﭐلْخاصّة عِـلْميًّا لَـا أساس لها في «صحيح ﭐلْمَنْـقُول» ولَـا في «صريح ﭐلْـمَعْـقُول»!

– 7.9 ما يَـتجاهلُه “الرفاعي”، بصدد عَـلَـاقة “طه” بـ”علم ﭐلْكَـلَـام” يَتمثَّل في أَمْـرَيْـن مُـزْعِـجَـيْن له: أَوَّلُهما أنّ “طه” كان رائدًا (ضمن كتابه «في أُصول الحوار وتجديد علم الكلام» [1987]) في ﭐلدَّلَـالة على أحد ﭐلطُّـرُق ﭐلْمُمْكِـنة عقْليًّا لتجديد “علم ﭐلْـكَـلَـام”، وذلكـ بـﭑلنّظر في بعض مَـباحثه نَـظرًا منطقيًّا وحِـواريًّا تبعًا لِـأَهمّ ﭐلْمُكتسَبات ﭐلْـمُسْتجدّة؛ وثانيهما أنه مارس نَـقْـدًا شديدًا على “عِـلْم ﭐلْـكلَـام” بما هو نَـظَـرٌ مُجَـرَّدٌ لَـا سبيل لِلْخُروج من حُـدُوده ﭐلْخاصّة إِلَّـا عن طريق ﭐلدُّخُـول في «ﭐلْمُمارَسة ﭐلْعَـمَليّة» (يُنْظَـر فصلُ «الحدود الخاصة للعقل المجرد» من كتابه «العمل الديني وتجديد العقل» [1989]، وفصل «من الجدل المحمود إلى علم المناظرة فإلى علم الاعتقاد» من كتابه «سُؤال المنهج: في أفق التأسيس لأنموذج فكري جديد» [2015]). ولِـذَا، فإنَّ إِرْسالَ ﭐلْـقول بأنّ «طه عبد الرحمن مُقَـلِّدٌ لِــ”ﭐلْـأَشْعَـريّ” في علم الكلام» يُعَـدّ تَـدْلِـيسًا مَحْـضًا، ولَـا سِـيَّما إذَا ﭐستحضرنا أنّ “ﭐلْـأَشْعَـريّ” قد على من سبقه بما جعل لَـاحِـقيه (“ﭐلْغَـزاليّ” و”ﭐلفخر ﭐلرازي” و”ﭐبن تيميّة” و”ﭐبن خلدون”) يستدركون عليه (بَـلْه “طه” بعدهم)!

– 10 يقول “الرفاعي”: «طه متكلم يختبئ بجلباب “فيلسوف”، وفي ضوء ذلك يمكن تصنيفُه، كما يُصنّف فَـرْديد، بـ“فيلسوف ضد الفلسفة”. يتحدث طه بلغةِ الحداثة الفلسفية والمنطقية واللغوية، إلا أنه ضدّ الحداثة، يبرع بتوليد مصطلحاتٍ غائمة لتقويضِ كلِّ شيء ينتمي للحداثة. ذلك ما يدعوني أن أصنف كتاباتِه الفلسفية بوصفها محاولةً متنكرة لـ “أسلمة الفلسفة.”»؛

– 1.10 هذا ﭐلْـقولُ سُخْـفٌ شائعٌ ﭐكْـتفى “الرفاعي” بـﭑسْـتعادته لحسابه ﭐلْخاصّ ومن دُون تَـبَـيُّن؛ وهو سُخْـفٌ لِـأَنّه يَفْـترِض ثُـبوتَ ﭐلتَّضادّ بين “ﭐلْمُتكلِّم” و”ﭐلْفيلسوف” بحيث يصير «ﭐلْمُتكلِّم بجلباب ﭐلْفيلسوف» في مَـقام «ﭐلْمُضادّ لِلْفلسفة» كأنّ “ﭐلْـفيلسوف” لَـا يعتقد شيئًا أو لَـا يُدافع عمّا يَـدَّعِـيه مُعْـتقِـدًا صِدْقَه، بل كأنّ “ﭐلْـمُتكلِّم” لَـا يَـنْظُـر أو يُـفكِّـر عَـقْـليًّا بِـناءً على ترتيب ﭐلْقضايا وإقامة ﭐلْـأَدِلَّـة. وهكذا، فَــلَـا يُصِـرُّ على ﭐلْـمُقابَـلة بين “ﭐلْمُتكلِّم” و”ﭐلْفيلسوف” إِلَّـا من تَهُمُّه ﭐلْمُفاضَلةُ بينهما لصالِـح “ﭐلْفيلسوف” أو يجهل أَنْـواعَ ﭐلتَّـداخُـل ﭐلتي عُـرِفتْ تاريخيًّا بين “علم ﭐلْكَـلَـام” و”ﭐلْـإِلَـاهيَّات ﭐلْـفلسفيّة” بما سَـمح بـﭑلْحديث عن «علم ﭐلْـكَـلَـام ﭐلْـفلسفيّ» (أو «ﭐلـلَّـاهُـوت ﭐلْـفلسفيّ» كما يُفضِّل ﭐلذين تُغْـرِيهم ﭐلْـأَلْـفاظُ ﭐلْـفخمة!)؛

– 2.10 ثُم إنه يَـفْـترض لَـا فقط كون “ﭐلْحداثة” و”ﭐلكلَـاميَّات/ﭐللَّاهُـوت” شيئَـيْن مُتناقضَيْن ومُتخارجَـيْن، بل يَفْـترض أيضًا أنّ “ﭐلحداثة” و”ﭐلْـفلسفة” كُـلٌّ مُـتناغِـمٌ يجب أن يُؤخَـذَ بِـرُمَّـته ولَـا حقّ لِعاقلٍ في ﭐلِـاعتراض عليه أو نَـقْضه (كأَنّ ﭐلْـقائل لَـا يَعْـلَم شيئًا عن ﭐلْـفلَـاسفة ﭐلْمعاصرين ﭐلذين ذهبوا إلى أبعدِ حدٍّ في نَـقْض “ﭐلْحداثة”؛ وليس “هيدﮔـر” بأَهْـوَنهم)؛

– 3.10 ما يَـزِيد من سُخْـف ذاكـ ﭐلْـقول هو أنّه يَجْـمَع بين إِفادتَـيْن مُتناقضتَـيْن: «طه ضدّ ﭐلْحداثة» و«كتاباته (ﭐلتي يصفها ﭐلْكاتب، مَـرّةً أُخْـرى، بـ”ﭐلْـفلسفيّة”!) مُحاوَلةٌ مُتنكِّرةٌ لِـأَسْـلمة ﭐلْحداثة». فلَيْـت شِعْـري، إذَا كان “طه” ضدّ “ﭐلْحداثة”، فما ﭐلذي يَـدْفعُه إلى ﭐلْبحث عن أَسْـلمتها بشَكْـلٍ مُتنكِّرٍ خَـفِـيَ حتّى على “وائل حلاق” وهو يُـؤلِّـفُ عنه كتابه «إصلاح الحداثة» [2020]؟!

– 4.10 أَليس حديثُ ﭐلْكاتب عن أَسْـلمة “طه” للحداثة بشكلٍ مُتنكِّـر كيفيّةً مُلْـتوِيَـةً لعدم ﭐلْجُـرأة على ﭐلْـقول بأَنّ “ﭐلْـإِسْـلَـام” (أو، بـﭑلْـأَحْـرى، إِسْـلَـامًا مُعَـيَّـنًا يَـشِـيعُ عالميًّا وَصْـمُه بشكلٍ منهجيٍّ منذ عُـقُود) يَـقُوم ضدّ “ﭐلْحداثة”؟!

– 5.10 لو كان “طه” حقًّا ضِدَّ “ﭐلْحداثة”، فما ﭐلذي جَـعلَه يَـتكلَّف أن يُـؤلِّـفَ، من جهةٍ أُولى، كتابًا عن «رُوح الحداثة» [2006] ويضع له عُـنوانًا فرعيًّا هو «المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلاميّة» بحيث يستخلص ﭐلْـأُصول ﭐلْعامّة ﭐلْمُقوِّمة لـ”ﭐلْحداثة” ويَطُـلُب تطبيقَها إِسْلَـاميًّا؛ ثُـمّ يُـؤلِّـفَ، من جهةٍ أُخرى، كتابًا بعُـنْوان «الحداثة والمقاومة» [2007] يحتفي فيه بمن كان يَظُـنُّ (مع كثيرين) أَنَّـهُم يُمَـثِّـلُون «طليعة ﭐلْـمُقاوَمة» في عالمنا بما يستدعي إرْشادَهم فلسفيًّا وأَخْـلَـاقيًّا للتَّحقُّـق بمُقْـتضَيات “ﭐلْحداثة”؟!

– 11 يقول “الرفاعي”: «لا يمكن إنكارُ ذكاء طه عبد الرحمن، ولا علم طه وموهبته الفذة. المفكر الديني يحتاج القلبَ بموازاة العقل، يحتاج النظرَ للإنسان المختلِف في معتقده بنور الله، وأن تحضر رحمةُ الله بكتابات هذا المفكر وكلماته، ويرى الإنسانَ بوصفه إنسانًا بمرآة الرحمة، بغضِّ النظر عن دينِ الإنسان وهويتِه الاعتقادية والقومية والثقافية والجغرافية. الرحمة صوت الله، وعنوانُ رحمانية كلِّ دين وإنسانيتِه وأخلاقيته. الدين لا يحتاج عباقرةً فقط، الدين يحتاج رحماءَ قبل أن يكونوا عباقرة.»؛

– 1.11 هذا ﭐلْـقولُ بمجموعه إذَا لم يَكُـنْ مُـزايَـدةً فِجَّـةً على فِكْـر “طه” مِـمَّـن لَـا عِـلْمَ له بنُصوصه ﭐلتي يجعل فيها “ﭐلْقلب” و”ﭐلْـأَخْـلَـاق” أَصْـلَ “ﭐلْعقل” كما يستفيض في ﭐلْحديث عن “ﭐلْحياء” و”ﭐلتّراحُم” في كُـتُـبٍ معلُومةٍ لِـقُـرَّائه ومُتابِـعيه، فهو دليلٌ آخَـرُ على ﭐسْـتحباب «غَـواية ﭐللُّغة» حينما تُسْـعِـفُ صاحبَها في تفادي أن يَعْـمَل بمُقْـتضَيات “ﭐلتَّبْيين” و”ﭐلتَّعْـليل”!

– 2.11 قد لَـا يَفُوت ﭐلْـقارئَ أن يُـدْرِكَـ أنّ قول ﭐلْكاتب «الرحمة صوت الله، وعنوانُ رحمانية كلِّ دين وإنسانيتِه وأخلاقيته. الدين لا يحتاج عباقرةً فقط، الدين يحتاج رحماءَ قبل أن يكونوا عباقرة.» إِنّما هو ضَـرْبٌ من «غَـواية ﭐللُّغة» ﭐلتي يُـراد بها أَنْ يُـسْوَّى «ﭐلدِّين/ﭐلْـإِسَـلَـام» وَفْـق أهواء أَدْعياء «ﭐلنَّـزْعة ﭐلْـإِنْسانيّة» ﭐلذين لَـا يَعْـنِـيهم شيءٌ أكثر من تعطيل «آمِـريَّة ﭐلشَّـرِيعة ﭐلْـإِسْـلَـاميّة» إلى ﭐلْحدِّ ﭐلذي تَـجِـدُهم لَـا يَـتردَّدُون عن جعل أنفسهم كأَنَّـهم «أَرْحَـمُ وأَعْـدلُ من رَبّ ﭐلنّاس»، بل أشَـدُّ رأْفةً من «ﭐلنَّـبيّ ﭐلْمُـرْسَـل رَحْـمة لِلْعالَمين»!

– 3.11 إذَا كان “طه” قد وَضَـع نظريَّةً أَخْـلَـاقيّةً وفلسفيّةً (سَـمَّاها “ﭐلِـائْـتمانيّة”) تُـفكِّــرُ في سياق «ﭐلْـمُشْـترَكـ ﭐلْمُتنوِّع» وتَجْـعَـلُ ﭐلْـإِنْـسانَ «آيةً أَخْـلَـاقيَّـةً» بحيث تُـقَـدَّم فيها «ﭐلْقِـيمُ ﭐلرُّوحيّةُ» على غيرها رُتْـبةً ومَـقْصِدًا بما يُوجِـب تجديد «نظريَّـة ﭐلْـمَـقاصد» وبما يكفي لِـإعادةَ بِـناء «ﭐلْـفِـقْه ﭐلِـائْـتماريّ» على «ﭐلْـفقه ﭐلِـائْـتمانيّ» ومِـنْ ثَـمّ تجديد «مفهوم ﭐلْـإِنسان» عينه، فَـلَـا يُـرى كيف ستَسْـتقِـيمُ ﭐلْـمُـزايَـدةُ عليه تحت ذريعة ﭐلنَّظَـر إلى “ﭐلْـإِنْـسان” على أساس واقع ﭐخْـتِـلَـافاته أو كون حقيقته لَـا تَـتجلَّى إِلَّـا لمن يَـتظاهر بأنه يَـرى بـ«عَـيْـن ﭐلرَّحْـمة» أو يَـدِين فقط بِـ«دِيـن ﭐلْحُبّ»!

– 12 أخيرًا، يقول “الرفاعي” مُواصِـلًـا مُـزايَـدتَه على فيلسوفٍ عُـرِف بتَـوَجُّـهه ﭐلْـأَخْـلَـاقيّ ﭐلصّريح وﭐلْـكثيف: «الفيلسوفُ عندما يكتبُ مرجعيتُه العقل لا غير، الروائي عندما يكتبُ يتوغل في أعماق الطبيعة الإنسانية وتناقضاتها، ويُعلِن عن نزعات الشرّ الكامنة داخل الإنسان، ويفضحُ الصراعاتِ المختلفة في الواقع على السلطة والثروة. مَن يكتبُ في الدين عليه الكشفُ عن الأبعاد الروحية والأخلاقية والجمالية العميقة في جوهر الدين، وذلك لا يتحقّق إلا بأن يحضرَ في كتابته القلبُ بموازاة العقل. الذكاءُ والعبقريةُ والموهبةُ الاستثنائية لا تكفي وحدها لمن يفكّر ويكتب ويتحدث في الدين. يحتاجُ المفكّرُ الديني لضميرٍ أخلاقي يقظ، والتسلحِ بنزعةٍ إنسانية في كتاباته، ترى الإنسانَ كما يراهُ الله. مَن كان ضميرُه الأخلاقي يقظًا ويكتبُ في الدين، ليس بوسعه أن يقفَ متفرّجًا وهو يرى التلاعبَ بفهم الدين، وطغيانَ القراءة المغلقة المتشدّدة للنصوص الدينية، وهي تفترسُ واقعَنا.»؛

– 1.12 لعلّ خَـيْـرَ رَدٍّ على هذا ﭐلْـكَـلَـام هو أن يُـذَكَّـرَ، سريعًا، بأَنّ “طه عبد الرحمن” هو ﭐلذي أَلَّف كتاب «الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري» [2005] للرَّدِّ على فَـلَـاسفة غَـرْبيِّـين جَـنَّدُوا قُـواهم ﭐلْـعقليّةَ لكيْ يَـنْـتزعوا من “ﭐلْـإسْـلَـام” وأَهْـله كُـلَّ حَـقٍّ ويُلْصِقُوا بهم أَيَّ شَـرٍّ مُمْكِـنٍ، وهو أيضًا ﭐلذي أَلَّـفَ كتابَ «دِين الحياء: من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني» [2017] بأجزائه ﭐلثَّـلَـاثة، وأيضا هو من أَلَّـفَ «سؤال العنف بين الائتمانية والحوارية» [2017]، كما أنه هو من أَلَّـفَ كتاب «ثُغُـور المُرابَطة: مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية» [2018]. فأَنَّـى يَـنْصرف، إِذًا، ﭐلْعاقلُ ﭐلْحريصُ على إنصاف مُخالِـفه وﭐلِـاعْـتراف بما يجب له من حَـقٍّ؟!

– 2.12 حينما يأْتِـيكـ أحدُهم ببعض ﭐلْـأَحْكام ﭐلْـإِيجابيّة في سياق رُكامٍ من ﭐلْـأَحْكام ﭐلسَّلْـبيّة وﭐلْمُسَـيَّبة، فـﭑعْـلَمْ أنه يُريد أن يَخْدَعَكـ بـﭑعتبار أَنَّ ما يبدو إيجابيًّا في كَـلَـامه ليس سوى طِـلَـاءٍ يُـزَيِّـنُ ما هو سَـلْبيٌّ حتّى يُسْـتساغَ كأَنَّـه أَظْـهَـرُ وأَقْـوى مِن سِـواه. وإِلَّـا، لكان عليه أن يُقدِّمَ ﭐلْـإِيجابيَّ فيَـبْنيَ عليه بما يكفي حتّى يَـتفادى ﭐلِـﭑستكثارَ من ﭐلسَّـلْـبيّ دون قَـيْدٍ أو شَـرْطٍ!

– 3.12 بعد كُلّ ما سَـلَـف من مُـلَـاحَظات، ليس بِوُسْـع ﭐلْـمَـرْء إِلَّـا أن يُـؤَكِّـدَ أنَّ كونَ “طه عبد الرحمن” فيلسوفًا مُجَـدِّدًا ليس بـأَمْـرٍ يَـفْـرِضُ نفسَه بداهةً على كُـلِّ إنسانٍ، وإنَّـما هو مُعْـطًى يُمْكِـنُ لِلنّاظِـرِ ﭐلْمُـنْصِف وحده أنْ يَـتثَـبَّتَ من صِحَّـته إِذَا ﭐصْـطَـبر لِـقراءة وتَـفهُّم كُـتُـبه ﭐلثَّـلَـاثين ﭐلتي أصدرها على ﭐمْـتداد أربعةِ عُـقُودٍ ونَـيِّفٍ. ولِـأَنّ أَحَـدَ أهمّ ﭐلْجوانب في عمل “طه” ﭐلْـكِـتابيّ يَـتمثَّـلُ في حِـفْـظ بَـيانيّة ﭐلْـقول ﭐلْـفلسفيّ وحِـجاجيّته بمُـراعاة مُقْتضَيات ﭐلتَّـبْـلِـيغ في ﭐللِّسان ﭐلْعَـرَبيّ وشرائط ﭐلتَّـدليل ﭐلْـمنطقيّ، فما كان خُصُومُه لِـيَجْـهَـدُوا في إِلْصاق تُـهْمة «غَـواية ﭐللُّغة» به لَـوْلَـا أَنَّـهُم يَشْعُـرُون في قَـرارة أَنْـفُسهم بِـعُـلُـوِّ عَـمَـله تفكيرًا وتعبيرًا وظُهُـور عَجْـزهم عن مُضاهاته بِـما يُماثِـلُه أو يَـفُـوقُه من جهة قُوَّة ﭐلتَّـبْيِـين وﭐلتَّـدْلِـيل. وحَـسْـبُ ﭐلْمُعْـترِض، إِنْ ﭐسْـتبصَـر، أَنْ يَـقِـفَ عند كوْن “طه” ﭐبْـتَـدأَ سِـيرتَه ﭐلْـفَـلْسفيّةَ بأُطْـرُوحةٍ جامعيَّـةٍ عن «ﭐللُّغة وﭐلْـفلسفة: رسالة في ﭐلْـبِـنْيات ﭐللُّغوِيَّة لِـمَبْـحَـث ﭐلْـوُجود» [1972، 1979] وكونه أَبَـى إِلَّـا أَنْ يَخْــتِـمَها بكتابٍ جامِـعٍ عن «سُـؤال ﭐلسِّـيرة ﭐلْـفلسفيّة: بحث في حقيقة ﭐلتَّـفلسُف ﭐلِـائْـتمانيّة» [2023] صدر من قريب!

عبد الجليل الـﮕـور

عبد الجليل الـﮕـور، كاتب مغربي، مترجم ومُدرِّس للفلسفة، من مواليد 1968؛ صدرت له عدة كتب: منها ترجمة كتاب "أسئلة علم الاجتماع: في علم الاجتماع الانعكاسي" (الدار البيضاء-دار توبقال: 1997) و"تساؤلات التفلسف وتضليلات اللَّغْـوَى" (إربد-عالم الكتب الحديث: 2013) و"مفهوم الفطرة في فلسفة طه عبد الرحمن" (بيروت-المؤسسة العربية للفكر والإبداع: 2017) و"التفلسف تحطيما لأصنام التضليل" (بيروت-المؤسسة العربية للفكر والإبداع: 2020).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى