حواراتحوارات

الدكتور عبدالجبار الرفاعي[1] مفكِّراً بيننا[2]

حوار مع الدكتور محمَّد حسين الرفاعي

أجرى الحوار: كريم جدي

ماهيَّة مشروع عبدالجبَّار الرفاعي لتجديد الفكر الديني

كريم جدي: لقد حاول الدكتور عبدالجبَّار الرفاعيّ أن يقوم بثورةٍ فكريةٍ في مجال الخطاب الديني من داخل هذا الخطاب، حتى إن البعض يصنّفه، أو يحاول أن يقايسه بابن حيَّان التوحيدي في مجال التصوّف العقلي، أو العرفان الفلسفي ذي الصبغة العقلانية، الذي لا يخرج عن شروط وروح العصر ومتطلّباته، ولا يخرج عن الأصول الكونية الكبرى للدين، وليس الخطاب الديني فحسب؛ لأن الرفاعيَّ يختلف -كما نعلم جميعاً- ليس مع الدين، وإنما مع الخطاب الديني، ومع التأويلات المجحِفة والأصولية للدين التي قيَّدته بسياجاتٍ دغمائيةٍ.

ولقد حاول أن يتناول المشروع موضوعاتٍ إنسانيةً ومجتمعيةً تنطلق من أرضيةٍ فكريةٍ وفلسفيةٍ وضعها وحدَّدها الدكتور الرفاعي؛ منها:

  • مسألة “الأنسنة”.
  • ومسألة المعرفة الدينية عامَّةً، وبالتالي “أنسنة” الوجود الديني في العالم.
  • ومسألة: كيف يمكن للإنسان المؤمن المتديّن أن يوجَد في العالم، ولكن على نحوٍ عالميٍّ، وليس منغلقاً على ذاته؟

د. محمَّدحسين الرفاعي: حينما نتوقف عند الرفاعي، نتساءل التساؤل الأكثر بداهةً فيما يتعلق بالفكر الديني، وهو: أين الفكر الديني اليوم أولاً؟ ومِن بعد: كيف يمكن للفكر الديني أن يُنشِئ علاقةً مع العالم على نحوٍ منفتحٍ عليه، وليس ضمن إطار انغلاق هوياتٍ أو أيديولوجياتٍ تريد للإنسان أن يتقوقع حول نفسه وهويته؟

المسألة الأساسية عند الرفاعي تتعلَّق بالإنسان ومركزية الإنسان، أي أنه يريد أن يفهم الدين انطلاقاً من الإنسان، وليس فهْمَ الإنسان انطلاقاً من الدين، وحينما نطرح تساؤلاً عن الفكر الديني، وضروب التفكير الدينية عند الرفاعي، يجب أن نأخذ في منطلق كل تساؤلاتنا – وحتى إجاباتنا فيما بعد – الإنسانَ بوصفه محوراً ومركزاً في عملية الإنتاج المعرفي أو الفكري، فلسفيَّاً وعلميَّاً.

وفيما يتعلق بحقل الفهم الجديد هذا  – الذي وضعه الرفاعي، والذي يمكن تصنيفه ضمن الثورة العلمية في فهم المعرفة الدينية بعامَّةٍ -، فإن الأمر ليس متعلقاً  فقط بافتراض المعرفة الدينية، إنما هو يتكلم عن الدين بوصفه يقوم على إمكاناتٍ لتحديد المعرفة والوجود، وبالتالي تحديد الوجود في العالم. هذه المسائل تضع الرفاعيَّ، مباشرةً، في حقلٍ منفتحٍ على العالَميَّة. ووفقاً لذلك يرِد التساؤل التالي: كيف يمكن أن نتعرَّف على البداهات التي يضعها الرفاعي بالنسبة للإنسان المؤمن في أن يكون في علاقةٍ مع العالم، وليس منغلقاً على ذاته؟ متقوقعًا في ذاته؟

البداهة الأولى التي يضعها الرفاعي ترتبط بمسألة “الأنسنة”، وهي هنا تؤخَذ بالمعنى الواسع والشامل للكلمة، ولا تؤخَذ ضمن إطار الإنسان معرَّفاً في الفقه أو التراث الديني؛ بل تؤخذ انطلاقاً من صيرورة هذا المفهوم في المعرفة البشرية العالمية، أي: انطلاقاً من العصور الأربعة للفلسفة: العصر الإغريقي، والقرون الوسطى، وصولاً إلى فلسفة الحداثة، وفلسفة ما بعد الحداثة. بناءً عليه؛ فإننا – في مفهوم “الأنسنة” -، نكون أمام جملةٍ من المضامين النظرية التي يضعها الرفاعي من أجل بناء بنية هذا المفهوم، وتحديدها.

إنَّ المكوّنات والعناصر ضمن هذه البنية مرتبطةٌ بأنه يتحتَّم علينا أن نفهم الإنسان انطلاقاً من صيرورة فهم الإنسان من الحداثة إلى اليوم، فقد نكون في علاقتنا مع العالم نستخدم ونوظّف عقلاً عالميَّاً ضمن إطار أو حقل العقلانية العالمية الحديثة، وما بعد الحديثة، لفهم وجودنا في العالم.

إنَّ النتاج المعرفيَّ للرفاعي مهم، لأنَّ الرفاعيَّ في الحقيقة ليس معنيَّاً بإنتاج معرفةٍ تخصُّ بلداننا فقط، وليس معنيَّاً بأن ينتج معرفةً ترضي جماعةً أو هويةً أو مجتمعاً بعينه؛ بل هو معنيٌّ بإنتاج معرفةٍ تتعلَّق بالدين عامَّةً في العالم بأسره، ومعنى ذلك أنه حينما يخرج بتساؤلٍ عن الإنسان ضمن الدين عموماً، فإنه يقع في اللقاء بين حقلين في الفلسفة الحديثة وما بعد الحديثة، وهو حقل فلسفة الأخلاق، وفلسفة الدين، أو ذلك الحقل الذي يتساءل عن جملة القيم والأخلاقيَّات التي يمكن أن تتوفَّر في الدين، وضروب التديُّن المختلفة.

وهذا يلخِّص لنا فكرة مركزية الإنسان؛ إذ هي فكرة الإنسانية المنسية، ومحاولة اِستدعائها ثانيةً، واِستئناف التَّساؤل عنها، في مشروع الدكتور الرفاعي.

أهمّ أعمال الدكتور الرفاعي كتاب: “الدين والظمأ الأنطولوجي“، وبعده كتاب: “الدين والاغتراب الميتافيزيقي“؛ ففي كتابه الأول: “الدين والظمأ الأنطولوجي“، حاول الدكتور الرفاعي الإجابة عن مصير القلق الوجودي الذي يعاني منه الإنسان المسلم، وحاول البحث في فكرة جوهر الدين، وأن يقدّم فكرة الحداثة الروحية، لا الحداثة المادية؛ كونه نظر إلى العالم، فوجد أن الأنموذج الليبراليَّ المتصلِّب قد زحف إلى داخل المجتمعات العربية والإسلامية، فكاد أن يقتل فيها كلَّ ما هو أنيق وروحاني، هنا حاول الرفاعي – كونه فيلسوفًا مهتمَّاً بالعرفان العقلاني- أن يقدّم للإنسان العربي والمسلم أنموذجاً روحانيَّاً يُقتدى به.

الرفاعي في الحقيقة وعى منذ أول بدء التفكير بالمسائل المجتمعية والإنسانية ثنائيةَ التراث والحداثة في الفكر العربي، ووعى أيضاً المواقف الموجودة في الفكر العربي ضمن هذه الثنائية، تلك المواقف التي تريد أن تحدّث التراث العربي الإسلامي وفقاً لجملة المدارس والاتجاهات الغربية أو العالمية، كتلك التي تريد ضمن مشاريع مختلفةٍ: تارةً “أسلمة المعرفة”، وتارةً “أسلمة المجتمع”، وأخرى “أسلمة الإنسان”، وأخرى أيضاً تتعلق بأسلمة كل ضروب وجود الإنسان في علاقته بالمجتمع والعالم. من هذا الوعي بالتراث وإشكالية تراث الحداثة، أراد الرفاعي أن يُنشئ وعياً جديداً لا يناهِض الدين من جهةٍ، ولا يناهض التجربة البشرية العميقة القوية العالمية في الحداثة والتحديث، وفي الفكر الإنساني عامةً.

في هذا السياق، وضع الرفاعي التساؤل الأصلي الذي يرتبط بإعادة تحديد وتعريف الإنسان وفقاً لمضمونٍ ومنظورٍ جديدٍ، هو “الأنسنة” مفاده التعرف إلى كل ما يتعلَّق بالدين والمعرفة الدينية، انطلاقاً من الإنسان وجملة حاجاته الوجودية والروحية والأخلاقية والعاطفية والجمالية، وصولاً إلى حاجاته الوجودية في علاقته بالعالم. وأيضاً ضمن مفهومٍ قد صاغه على نحوٍ دقيقٍ للغاية، هو مفهوم “الظمأ الأنطولوجي”، وهو في الحقيقة نتاجٌ لـ “الاغتراب الميتافيزيقي” الذي يوجد فيه الإنسان الحديث، وطبعاً ما بعد الحديث.

فما هو الاغتراب المتافيزيقي؟ وفق “جورج فريدريك هيغل” و”كارل ماركس” و”جان جاك روسو”، فإنَّ مفهوم الاغتراب هو: الاستلاب، وصولاً إلى مدرسة “فرانكفورت” الذي ينقل هذا المفهوم إلى مفهوم التشيُّؤ؛ فالاغتراب: هو سلب الروح من الإنسان، وحصر الإنسان ضمن المادة والجسد، أو تسليع الإنسان؛ أي: تحويله إلى سلعةٍ، أو تشيوء الإنسان ونسبته إلى الآلة؛ أي: تحويل الإنسان إلى شيءٍ، ليكون كسلعةٍ تباع وتشترى، فعمله يمكن – أيضاً – أن يباع ويشترى وفق فلسفة الرأسمالية الطاغية – كانت طاغيةً، ولا زالت – في عصر الحداثة وما بعد الحداثة.

إذاً؛ فالاغتراب الميتافيزيقي في هذا الوجود الذي تكون فيه فلسفة الرأسمالية، هو تشييء الإنسان، بمعنى: أنه يسلب الروح منه، ويختزله بكونه آلةً أو شيئاً أو مادةً أو جسداً فحسب، وهو ذلك النوع من السلب أو الاغتراب الذي يعيشه الإنسان؛ بحيث يشعر أنه كائنٌ غريبٌ في هذا الوجود، وليس لديه أيُّ ضربٍ من الروحانيات أو التجربة الروحية في علاقته بالعالم، أو في وجوده في العالم.

وهذا يُنتج حالاً جديدةً للعلاقة بين الإنسان والتجربة الروحية الدينية لديه، وهي حالة الظمأ الأنطولوجي؛ أي: ظمأ الإنسان إلى ما وراء حدوده بوصفه إنسانًا؛ لأن الإنسان كإنسانٍ لديه وجودٌ متعيَّنٌ محدود، ولا يمكنه بواسطة هذا الوجود أن يجد نوعاً من التوسّع والانتشار الوجودي، فثمة حاجاتٌ روحية له غير مشبعةٍ، وهي في الحقيقة تجعله في حاجةٍ دائمةٍ إلى المطلق، إلى المتعالي اللَّامحدود، الأعظم، الأعلى، وهو الله عز وجل. وهنا يمكن أن تكتشف أن الرفاعيَّ يريد بناء علاقةٍ للإنسان العربي المسلم المؤمن المتديّن بالله تعالى، وأن تكون هذه العلاقة حرَّةً من دون توسُّط، وهكذا، نجد أن دعوة الرفاعي في الحقيقة إنما هي ثورةٌ علميةٌ في المعرفة الدينية وفهم المعرفة، وعلى هذا الأساس، حينما نقول: “أنسنة” المعرفة الدينية، أو “أنسنة” الدين، أو “أنسنة” ضروب التديّن في حياة الإنسان العربي والمسلم”، فنحن في الحقيقة نقول: إن هذا الإنسان هو المركز في علاقته بالأعلى، بالأعظم، بالله عز وجل.

هذه هي المسألة الجوهرية التي عليها يقوم كلُّ نقد الدكتور الرفاعي للتيارات والحركات الأيديولوجية في الإسلاموية السياسية.

تجديد الرفاعي لعلم الكلام

كريم جدي: اهتمَّ الرفاعيُّ كثيراً بتجديد علم الكلام، فلا يمكن لأيّ تجديد – على حدّ تعبيره – في الخطاب الديني القيامُ بثورةٍ في المدوَّنة الدينية، إلا بأن تبدأ بتجديد علم الكلام، فكيف ذلك؟

محمد حسين الرفاعي: بالنسبة للرفاعي فإنَّ علم الكلام بالتحديد في كتابه: “مقدمة في علم الكلام الجديد” يتخذ موقفاً واضحاً فيما يتعلق بالمعرفة الدينية والكلامية، وموقفُه يمكن أن يندرج ضمن إطار ثلاث محطَّاتٍ منهجيَّةٍ أصَّل لها، يجب أن نتعامل معها مع شيءٍ من الصبر؛ لأنها في الحقيقة تتطلَّب شيئاً من التوقُّف، وبيان هذه المنهجيات:

  • المحطَّة المنهجية الأولى: حينما يدعو الرفاعي إلى إعادة تعريف الإنسان ضمن إطار علم الكلام الجديد، فإنه يشير إلى أنَّ ضمن المعرفة السائدة، هناك المعرفة الحداثية العالمية التي لا يمكنها تلبية حاجةٍ أكيدةٍ للإنسان، وهي الحاجة إلى الإيمان. وعليه؛ فإنه يجب أن نعيد تعريف الإنسان، وإعادة تعريف الدين؛ بغية إعادة علاقة الإنسان بالدين، وبالتالي التديُّن. وعلينا في هذه العملية أن نشدّد على الحياة الروحية للإنسان في علاقته المباشرة بالخالق، أو أن نسعى إلى بناء هذه العلاقة؛ بأن نفهم الإنسان في المعرفة الفلسفية والعلمية الحديثة، وما بعد الحديثة، أي: بواسطة المعرفة الإنسانية الفلسفية، والسوسيولوجية[3]، والأنثروبولوجيا[4] والسيكولوجيا الحديثة، وبواسطة التركيز على البُعد الأخلاقي والإنساني والجمالي والروحي الذي في الدين، وبذلك نكون قد تعرَّفنا إلى أول الطريق لبناء علم كلامٍ جديدٍ.

هذه هي المحطة المنهجية الأولى فيما يتعلَّق بدعوة الرفاعي لنا لأنَّ نكون من جديد، التي هي -بالتأكيد – لحظة ثورةٍ أصليةٍ في الفلسفة والفكر العربي.

  • المحطَّة المنهجية الثانية: لنصل إلى عزل التناقض البنيوي بين فكرة “الأنسنة” الغربية – أو التي يقال عنها: غربية، وهي في حقيقة الأمر عالمية -، فمِن أجل حلّ هذا التناقض البنيوي الذي يقول من جهةٍ: “الأنسنة” فكرةٌ غربية تأتي إلينا من بلاد الغرب، ومن جهةٍ أخرى، القطب الثاني للتناقض الذي يرى الإنسانَ في الدين مختزلاً ضمن إطار الواجب والتكليف، فإن الرفاعيَّ يدعو إلى إعادة الاعتبار للإنسان داخل الدين، وليس إعادة الاعتبار للإنسان من خارج حقل الدين، وليس أيضاً بممارسة نقد المدونة الدينية أو المعرفة الدينية من خارج الدين، الذي مورس من قِبل التيارات والحركات الليبرالية والعلمانية والماركسية وبعض الحركات القومية؛ حيث إن الرفاعيَّ ومن داخل الفكر الديني يقدّم نفسه على أنه ضمن إطار الدين الإسلامي، لكنه ينتج فلسفةً عامَّةً وعالميةً، ونمطاً من العلاقة الجديدة مع الدين انطلاقاً من الإنسان، لحلّ هذا التناقض البنيوي، وبذلك تخرج فكرة “الأنسنة” من كونها فكرةً غربيةً إلى كونها فكرةً موجودةً بالأساس في ديننا، متى انطلقنا إلى فهم ديننا من الإنسان وبواسطة الإنسان.

هذه المحطة المنهجية في غاية الأهمية في تأسيس علم كلامٍ جديدٍ؛ لأنَّها تقف حقيقةً عند ما كان قد نُسِي في علم الكلام القديم، أو حتى ما كان قد نُسي في الفكر الديني والمعرفة الدينية عامةً؛ سواء كانت المسألة متعلقةً بالأصول، أو بالفقه، أو بضربٍ من تناوُل الموضوعات الإنسانية والمجتمعية الدينية. فما كان قد نُسي، إنما هو الإنسان، فإنَّ الرفاعيَّ يعود ليسحب هذا الإنسان إلى مستوى الدين، وليسحب الدين إلى مستوى الإنسان، انطلاقاً من منظورٍ جديدٍ يقوم على التَّساؤل الحُرِّ عن الإنسان في الدروب المختلفة إلى الدِّين، وأيضًا منه.

  • المحطَّة المنهجية الثالثة: هي مسألة إشكالية الذين يصنّفون أنفسهم ضمن إطار فلاسفة الدين أو الفلاسفة المضطلعين بالتساؤل الديني، انطلاقاً من حق فلسفة الدين عادةً يتناولون الدين بوصفه معرفةً، أو مصدراً من مصادر الوجود، أو مصدراً من مصادر القيمة فيما يتعلّق بالمجتمع. في أفضل الأحوال، وصلت الفلسفة الألمانية – بدءاً من الحركة الفينومينولوجية[5]، وصولاً إلى مدرسة “فرانكفورت”- إلى أنَّ الدين يؤخَذ بمثابة مصدرٍ معرفيٍّ روحيٍّ فحسب. أما الرفاعي، فإنه يأتي بمنظورٍ جديدٍ يقول: حتى تكون متكلّماً جديداً، عليك أن تنطلق أولاً من غيبية النصّ الديني، ثم تنطلق من البُعد البشري الإنساني في القرآن الكريم في النص الديني الذي يتمثَّل بشخص النبي “ص”. إذاً؛ فهذا المصدر الغيبي إنما نزل على الإنسان، وللإنسان، وفي الإنسان، فلا معنى للدين ولا للإيمان من دون وجود الإنسان بوصفه موضوعًا منسيَّاً كان قد وُضع على أنه موضوعٌ جاهزٌ للسيطرة، للتحكم به؛ ولكن الرفاعيّ يعيد بذلك تعريف الإنسان ضمن إطار تجربةٍ جماليةٍ إيمانيةٍ روحيةٍ قائمةٍ على فكرة الحوار والتواصل مع الآخر المختلف، بالتالي الحوار مع العالَميَّة، ليُنتج معرفةً عالميةً تأخذ مساراً – هذه المرة – من الشرق إلى الغرب، من بلداننا العربية إلى الغرب، وليس فقط من بلدان العلم في الغرب إلى بلداننا، بعد أن كنَّا قد وظَّفنا المعرفة العالمية في فهمنا للدين.

الحرية في مشروع الرفاعي

كريم جدي: الدعوة إلى التمركز حول حرية الإنسان في مشروع الدكتور الرفاعي، نجد بأن الحرية فيها قد احتلَّت مكانةً رائعة ومرموقة ومركزية ومحورية؛ حيث إنه ركَّز على حرية الإنسان، مثلما قدّمها في مشروعه الذي أعلن عنه في مؤلفاته، وفي مجلَّته “قضايا إسلامية معاصرة“.

محمد حسين الرفاعي: الكلام عن الإنسان يُقصد به الإنسان العالمي؛ فالإنسان مرَّ في لحظاتٍ أساسيةٍ كما يظهر من خلال الكلام عن “الأنسنة” عند “أراسموس”، أو فيما يتعلق بمشروع “ديكارت”، و مفهوم “الكوجيتو”، فالأنسنة – فيما يتعلق بالإيمان، وصولاً إلى الفردانية و”الأنسنة” فيما يتعلَّق بعصر الحداثة وما بعد الحداثة – تعني: الحرية في العلاقة بين الإنسان والدين، والعلاقة بين الإنسان والعالم من جهةٍ أخرى، فضمن فلسفة الرفاعي، المسألة متعلّقةٌ بضربٍ من ضروب تناول الإيمان نفسه، أي: أخذ الإيمان نفسِه بوصفه حاجةً أكيدةً للإنسان في كل العصور، وفي كل زمانٍ ومكانٍ. إذاً؛ فثمَّ حاجةٌ أكيدة للإنسان إلى الإيمان، هذه الحاجة تفتح الإمكانات للإنسان في علاقته مع العالم، مع الكون، مع الوجود، وهي إمكاناتٌ مِن رسم الإنسان نفسِه، ومن فهمه هو، فحاجة الإنسان إلى الإيمان حاجةٌ تذهب به إلى الوجود المطلق اللامحدود مقابل وجوده كإنسانٍ فرديٍّ محدودٍ وضيقٍ. وحتى تكون هذه العلاقة علاقةً حرَّةً، يجب أن نحرّر معنى الإيمان من المدوّنة الفقهية. وبالتالي، نفهم الإنسان والعلاقة بينه وبين الدين انطلاقاً من إطارٍ خارج التحديدات القبْلية التي تأتي بها المعرفة الكلامية والفقهية. وهذا يعني أن نجعل من الإنسان كائناً متسائلاً واعياً بذاته على نحوٍ حرٍّ في هذا السبيل يمكن تشييد الطرق والدروب في علاقته بالله سبحانه، أي: بواسطة تلك الطرق، يبني علاقته بالله على نحوٍ حرٍّ، وذلك عبر حلّ مربع إشكالية سموِّ الإنسان من خلال عدة مفاصل:

الأول: يرتبط بحدود الوجود البشري والكينونة التي للإنسان في انفتاحه على الوجود والكينونة من جهةٍ، وعلى علاقته العمودية بالسماء أو بالله من جهةٍ أخرى.

الثاني: يجب أن نحدّد حدود الاغتراب الذي يشعر به الإنسان بعد الوعي بحدود وجوده الفردي.

الثالث: يجب أن نحدّد أيضاً فهم علاقة الإنسان بالدين، وكيف يمكن تحرير مفهوم الذات الإلهية من هذه المدوَّنة القبْلية التي تريد أن تعيّن كلَّ أنماط الوجود الديني، أو القائم على الدين.

الرابع: هو حدود الانعتاق، والبحث عن الحرية، بوصفها تجربةً روحيةً ناهضةً بالتساؤلات الأكثر أهميةً فيما يتعلق بالعلاقة من جهةٍ، وبين محدودية الكينونة التي ترسمها ثلاثية الزمان والمكان واللغة من جهةٍ أخرى، وبين النزعة الأصيلة عند الإنسان، لتقويمٍ دائمٍ لعلاقةٍ مع نموذجٍ مثاليٍّ لديه الحرية، ونمط علاقةٍ حرَّةٍ مع المطلق اللَّامحدود من جهةٍ ثالثةٍ.

موقف الرفاعي من علي الشريعتي

تكملة الإجابة: ثمَّة تيَّارٌ في الفكر الديني في العالم، ليس فقط في البلدان العربية أو المشرقية، هذا التيار يفهم الدين بوصفه أيديولوجيا، بدءاً مع المدرسة المادية والماتريالستية، فصاعداً مع الماركسيّين. هذا التيار أو هذه المدرسة العلمية أو الفكرية بالتحديد، تأخذ الدين بوصفه أيديولوجيا؛ بمعنى أن الدين يمكن أن يقدّم فهماً ووعياً للإنسان، ومجموعةً من الإجابات الجاهزة المغلقة. علي شريعتي متأثِّرٌ بهذا التيار، فهو حتى في فهمه ونقده لرجال الدين، وفهمه للظاهرة الدينية، كان قائماً على المدرسة الماركسية. أما الرفاعي، فهو يقول: إن أدلجة الدين تستلب الروح الدينية، يعني: تسلب من الدين روحه وتحوّله إلى جملة إجاباتٍ جاهزةٍ، أو إلى موضوعٍ ساكنٍ جامدٍ، كأنه معرفةٌ جاهزةٌ تقدّم الإجابة عن كل التساؤلات الموجودة للإنسان في حياته ووجوده وعلاقاته المجتمعية، وفي البِنى المجتمعية الأساسية. وبالتالي يقدّم الرفاعي موقفه في مواجهةٍ لفكر علي شريعتي وأمثاله، بوصفه موقفاً يقوم على الانتقال من أدلجة الدين إلى فهمه على أنه مصدرٌ أنطولوجي روحي أخلاقي جمالي غني وعميق في حياة الإنسان المعاصرة الحديثة، وفي علاقته بنفسه، وبالخالق، وبالمجتمع. وبالتالي في علاقته ضمن إطار العالمية الجديدة.

على هذا الأساس، حينما يختزل علي شريعتي أو أيُّ تيارٍ أو مفكّرٍ الدينَ ضمن إطارٍ بعينه، أو ضمن جملة مقولاتٍ بعينها، فهو في الحقيقة يسلب روح الدين، ويحوّل الدين مِن كونه كائناً حيَّاً نابضاً يمكن أن تتدفّق في عروقه الحياة، إلى كائنٍ ميتٍ، ومعرفةٍ جامدةٍ يمكن أن تكون ضمن المتاحف، يُرجع إليها في كل مرةٍ عند حاجة الإنسان لها. لذلك فإن الرفاعيَّ يتعامل مع هذه التيارات تعاملاً منطلِقاً من التجربة الشعورية المعاشة للإنسان في العالم، وهو في المنحى الآخر يعني أنَّ تحويل الدين إلى الأيديولوجيا لا يمكن أن يلبّي حاجة الإنسان الأكيدة للإيمان.

خاتمة

تكملة الإجابة: ثمَّة حاجةٌ حقيقية لفكرٍ وفلسفةٍ مثل ذاك الذي يأتي به الرفاعي؛ لسببٍ بسيطٍ وهو أن جيلنا المعاصر كائنات عالمية، شئنا أم أبينا، وعلينا أن ننتج ونبني ونحدد علاقةً مع العالم بمعزلٍ عن فشل جيل الآباء والأجداد، بدءاً من عصر النهضة العربية إلى الآن، فيجب أن نبني علاقةً مع العالمين على أساسٍ نحافظ به على هويتنا وأصلنا وأصالتنا، وفي الوقت عينه تكون متصالحةً، ومتكيفةً، ومتكاملة مع العالم.

هذه الدعوة في فكر الرفاعي هي دعوةٌ في غاية الجدة والأهمية يحتاجها جيلنا، والجيل الذي يليه، وهذا النوع من العلاقات لا يقوم إلا على أسس الإيمان والمحبة والرحمة والتواصل، والمبالاة على الضدِّ من اللامبالاة.


[1]عبدالجبار الرفاعي مفكِّرٌ عراقيٌّ متخصِّصٌ في الفلسفة وعلوم الدين، من مؤسِّسي علم الكلام الجديد وفلسفة الدين في المجال العربي، كرَّس كلَّ منجزاته منذ أكثر من ثلاثين عاماً لبناء أرضيةٍ معرفيةٍ لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد بالعربية، وهو عضو المجمع العلمي العراقي، وهو أستاذٌ جامعيٌّ لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد وعلوم الدين بجامعة الأديان والمذاهب، أشرف وناقش ثمانين أطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير، كُتِب حتى اليوم خمس وعشرون أطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير لدراسة مشروعه في تجديد الفكر الديني، وهو رئيس مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة منذ إصدارها عام 1997 حتى اليوم، طُبع له اثنان وخمسون كتاباً، وقد أصدرت دار الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة والسياحة والآثار بالعراق كتاباً له بعنوان: “عبدالجبار الرفاعي، حياةٌ في أفق المعنى”.

[2] لقاءٌ حواريٌّ مع الدكتور محمد حسين الرفاعي أستاذ علم الاجتماع والإبستمولوجيا والفلسفة في الجامعة اللبنانية والجامعة اليسوعية ببيروت. أجراه: كريم جدي لفضائية السلام الجزائرية يمكن متابعة اللقاء على الرابط: …………….. https://www.youtube.com/watch?v=NDUqjQDGA2I…………………….

[3] السوسيولوجي – Sociology، أو مفهوم النظريات الاجتماعية: تشتمل النظريات الاجتماعية (السوسيولوجية) على افتراضاتٍ حول العلاقات الاجتماعية، والعمل على فهمها وتحليلها من منظورٍ اجتماعيٍّ، ووضع المفاهيم الخاصة بهذه العلاقات، والربط بينهما لتنظيمها على شكل أُطرٍ ومناهجَ نظريةٍ اجتماعيةٍ، وتقسم النظريات الاجتماعية إلى: نظريات الفعل البنيوي، ونظريات العمل الاجتماعي.

[4] الأنثربولوجيا – Anthropology: تُقسم كلمة الأنثربولوجيا إلى كلمتين يونانيتين، هما: Anthropos وتعني: الإنسان، و:logos  وتعني: العلم؛ ليتشكّل (علم الإنسان). من أشهر تعريفات هذا العلم: (علم الإنسان والحضارات والمجتمعات البشريّة، وسلوكيّات الإنسان وأعماله، وهذا هو التعريف العام للأنثربولوجيا؛ حيث ظهر مصطلح الأنثربولوجيا الاجتماعيّة، والتي تُعنى بعلوم الإنسان ككائنٍ جماعيٍّ).

[5] الفينومينولوجيا أو الظاهراتية، تتكوّن كلمة فينومينولوجيا من مقطعين «Phenomena» وتعني: الظاهرة، و«Logy» وتعني: الدراسة العلمية لمجالٍ ما، وبذلك يكون معنى الكلمة: العلم الذي يدرس الظواهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى