المقالات

فكر طه عبد الرحمن: الأيديولوجيا والسلطة

لا يسع الإنسان ذي العقل البشري الطبيعي الفطري، الذي يتقاسمه ويشترك فيه جميع البشر؛ والدال على أن غيره من “العقول” المدعاة على فرض ثبوتها، إلا ان يجد نفسه، وهو يقرأ لطه عبد الرحمن، في مقام النقد والانتقاد حتما. لأن الرجل دخل وأقحم نفسه وقلمه في أكثر الحقول مدعاة للنقد والاعتراض والنقض أحيانا؛ وهو حقل الأيديولوجيا “التديينية”، والتي قلما يدخلها المرء وينجو من مصائدها؛ فما بالك بمن يدخلها مدعيا ومدافعا ومتحيزا، ومهاجما وحاكما كما هو شأن الأستاذ طه.

فقد دخلها طه منذ البداية من منطلق المنحاز والمدافع، الذي حسم نتائجه وخلاصاته، ولم يدخلها من موقع العالم الذي يبحث عن الحقيقة، ولا من موقع الفيلسوف المنتقد الذي يؤسس لفلسفة دين، ولا من موقع حتى العارف الذي يبني مذهبا جديدا في المعنى أو المعنويات، بما لا يتعدى بها الحدود الممكنة لها بم هي كذلك.

حسنا فعل طه عبد الرحمن عندما صرح، بما لا يقبل المزايدات، عن طبيعة عمله والخلفية المتحكمة فيه؛ فقد صرح في كتاب: “العمل الديني وتجديد العقل” أن مجال أعماله هو “الفكر الديني” (ص، 11)، وصرح في كتاب: “روح الدين” عن الخلفية التي يصدر عنها فيما يكتب وما يقرأ لغيره. يقول: “ترانا في هذا الكتاب الذي بين يديك لا نزعم ولا نفتعل الانسلاخ من معتقداتنا، ولا من مختاراتنا في تناول الصلة بين التعبد والتدبير، أو بالتعبير المألوف، العلاقة بين الدين والسياسة (…) بل لم نتردد في الكشف عن مسلماتنا الخاصة من أول سطر سطرناه”. (ص، 16)

ونخصص هذه المقالة للبعد الأيديولوجي لهذه الخلفية التي اختص هذا الكتاب بالإفصاح عنها أكثر من غيره من كتبه.

  اعتمد طه في مقاربة قضية “علاقة الدين والسياسة”، التي خصص لها الكتاب المذكور، مقاربة اعترف هو نفسه بأنها: “ليست تاريخية ولا سياسية ولا اجتماعية ولا قانونية، ولا فقهية ولا فكرانية؛ وإنما قصدنا أن تكون مقاربة روحية، أو قل مقاربة ذكرية غير نسانية، أو عمودية غير أفقية”. (ص، 17) وحاول تأسيس “نظرية” بناها على مفهوم مركزي يسميه “بالتسيد” أو “السيادة” بمعنى “السلطة” والتسلط، التي يرى أن الحداثة السياسية “اختلستها” من مجالها الأصلي؛ وهو الدين، إذ هي “صفة” خاصة بالله، فنسبتها للسياسة وللدولة وللشعب.

ولهذا حدد مهمة ما يعتقد أنه بديل لما أخذت به الحداثة، وهو “العلمانية”، أي الفصل بين السياسة والدين، ولما يقول به الإسلام السياسي وهو الوصل، في رفع “التسيد” في عالم الانسان والرجوع به إلى صاحبه. يقول يقتضي التعبد المودع في الفطرة منذ لحظة الخلق: “الكف عن نسبة السيادة إلى الذات، والاقرار بنسبتها لله وتخصيصه بها”. (ص271) وحدد مهمته في الكتاب في العمل على دفع: “هذه السيادة المنتحلة” والخروج منها: “بواسطة عمل أصله غيبي ثابت يكون منشؤه الروح، بحيث يحول الإنسان من داخله وبجمعيته، وما ذاك إلا عمل التزكية”. (صن 25)

يقول إن تصوره للعلاقة يقوم على وجود: “وحدة أصلية” بين التعبد والتدبير سابقة على الفصل العلماني والوصل الدياني”. (ص، 19) تصور: “لا فصل فيه ولا وصل”. (ص، 322) وسنرى لاحقا أن هذا التصور انتهى إلى نقيض المدعى وهو تكريس تسيد السلطة الموروثة عن السلفية.

فالأصل في “التدبير” الذي سمي “سياسة” هو ذلك “الاختلاس” للسيادة/ التسيد الذي يمثل أساس “التدبير” الأصيل الذي يسميه “بالتدبير التعبدي” أو الروحي؛ وهو تدبير يرجع إلى إقرار “الروح” في عالم الغيب لله بالألوهية والوحدانية، والعهد بالتعبد له وحده (السيادة). ومنذ “حدث” الاختلاس المدعى نتج في الحياة البشرية الحديثة نوعان من “التدبير”؛ سمى الأول “بالتدبير السياسي”، والثاني “بالتدبير التعبدي”.

حدد طه لكل من التدبيرين منشأ خاصا؛ فمنشأ الأول هو “النفس”، وبشكل محدد فيما تنسبه إلى نفسها. فيكون منشأ “التدبير السياسي” إذن هو “النسبة”، أي نسبة الأشياء وملكيتها إلى النفس. ومنشأ “التدبير التعبدي” هو “الروح” وفاء منها بالإقرار والعهد الذي تعهدت به من إفراد الله بالتسيد والسيادة؛ ولهذا فهي، عكس النفس، بعيدة عن خلق “النسبة” و”التملك” فهو ليس من طبيعتها ولا ينبغي لها. إذ تقر بمالك وصاحب نسبة واحد ووحيد وهو الله.

ومن اختلاف المنشأين، نشأ التناقض والصراع والتنازع الذي امتد ويمتد إلى الحياة العامة في الاجتماع والسياسة والاقتصاد (..)، فمنشؤه هو الصراع بين “الروح” و”النفس” داخل الفرد، الذي يتعين، والحالة هذه، أن يكون هو منطلق اصلاح مشكل “التسيد” المغتصب والمختلس. وهو ما لا تستطيع جميع المشاريع الفكرية والفلسفية معالجته، كما سنرى لاحقا، إلا التصوف الطرقي، أو بعبارته: “العمل التزكوي”، الذي يركز على تخليص “الروح” من سجن النفس والجسد وأغطيتهما، لتعود كما كانت في عالم الغيب قبل أن تتلبس بالبدن والنفس. يقول: “لقد وجد الإنسان في عالم الغيب روحا مجردة قبل أن يوجد في عالم الشهادة روحا مجسدة”. ويقول: “لكن لما جاء أجل ظهورها في عالم الشهادة، واخرجها البارئ تعالى إلى الوجود ملتبسة ببدنها الذي يظهرها ويميزها، كادت أن تنسى الميثاق الغيبي الذي أخذه منها، كما لو أن تلبسها بالبدن يحجب عنها ذاكرتها، وما أن شرع صاحبها يلبي لازم حاجات بدنه، مقيما بنيته، حتى استدرج إلى قضاء زائد شهواته، خاضعا لراسخ عوائد مجتمعه”. فتكالبت عليه الشهوات والعادات فأنسته “الميثاق”؛ بل محت آثار فطرته: “منشئة له بديلا منها ألا وهو نفسه”، فبعد أن كانت: “تنسب كل شيء إلى بارئها، صارت تغطيها نفس ناسبة تنسب كل شيء إلى ذاتها. لذلك هم العمل التزكوي الأول أن يعيد إلى الفرد ذاكرته الأصلية”. (ص، 277)

  لا شك أن القارئ يدرك بفطنته موقف طه تجاه النفس والجسد من النص، والذي يفصح عنه في مواضع أخرى فشهوة الجنس هي حط لأشواق الروح (ص، 262)، والنفس تتربص بالإنسان وتمكر به: “علما أن مكرها لا ينجلي وتلوناتها لا تنتهي”، وأنها “تلوت الروح بأهوائها، فضلا عن أدواء المحيط”. (ص، 278)

يقيم طه “نظريته” على رؤية ثنائية الكون والوجود، والإنسان والحياة؛ فالكون أو العالم عالمان، مرئي وغير مرئي، أو محسوس وغيبي، والإنسان روح ونفس/ جسد، والحياة دنيا وآخرة. وبنى على هذه الثنائية أو الازدواج نتائج منها: أن الإنسان عمل على اقتباس معاني العالم اللامرئي ونسبها إلى العالم المرئي وأولها “التسيد” أو السيادة، التي ترجع في أصلها الغيبي إلى معنى “الجلالة”، فآل ذلك في رأيه إلى التسلط وتأليه الإنسان: “متعبدا لنفسه فضلا عن تعبيده لغيره”. (ص، 31-32)

ومنها أن الإنسان يعيش في العالمين في آن واحد؛ إذ يمكن أن يعيش بروحه في عوالم الغيب المتعددة ويسميه “تواجدا”، كما يعيش بروحه وبدنه في العالم المادي والمرئي ويسميه “انوجادا”، فالإنسان كما يقول: “بمقدوره أن يحيا كلا الحياتين في ذات الوقت (…) منوجدا في العالم المرئي، ومتواجدا في العالم غير المرئي (…) يقيم في الأول بجسمه مزدوجا بروحه” و “يعرج إلى الثاني بروحه وحدها”. (ص، 63)

ومنها أن “المنوجد” الذي يأخذ ب “التدبير السياسي”، نظرا لارتباطه التكويني بالغيب، يجد نفسه، بوعي أو بغير وعي، يمارس ما يسميه “التغييب” (ص، 46)؛ إذ يقتبس معاني عالم الغيب فيضفيها على أفعاله “السياسية”، وأحيانا على شخصه وذاته نفسها، فالسياسي، يقول طه، يستمد: “حبه للتسيد من نفسه التي تكونت في عالم الشهادة” ناقلا “معاني التعبد من مجالها الروحي إلى مجاله النفسي (…) مقيما نفسه مقام الذي يتعبد له”. (ص، 94)

  أخذته هذه الرؤية إلى التعقيب على أغلب المشارع الفكرية الحديثة، التي علمت على معالجة مشكلة السلطة/ التسلط، وهي جميعها تؤسس على فصل الدين عن السياسة، والتعقيب أيضا على جميع تيارات الإسلام السياسي المعاصرة التي تقول بالوصل بين الدين والسياسة. فبدا طه في هذا المقام كأنه يؤسس لرأي “جديد” في الموضوع، لكنه، وكما سيتضح، سيعيد انتاج ذات “السلطة” السلفية المسماة “بالخلافة”.

مهد نقده مؤكدا أن العمل السياسي يتداخل فيه البرهان بالوجدان والسلطة؛ بمعنى أنه ذو طبيعة مزدوجة (ص، 133) والوجدانية (النفسية)، والسلطوية (القوة والنزاع) أرسخ فيه من البرهانية، ليصل إلى النتيجة التي يريد وهي فشل تلك المشاريع في معالجة المشكل في الحياة البشرية. ترجع أصول النزاع السياسي إلى ثلاثة وهي: التعادي والتخاصم والتناقش.

يقول بالأول الألماني كارل سميت؛ إذ يرى أن فعل السياسة يقوم على التقابل بين الصديق والعدو، وهو تقابل لا تحله قواعد مقررة سلفا، ولا ينفع معه تحكيم طرف ثالث نزيه. ووجد طه في هذا التقابل بغيته فهو يؤكد أن: “التغييب السياسي يتأسس على المقابلة بين الرب والعبد”. (ص، 142) بينما ترى المنظرة البلجيكية شانتال موف أن الصراع السياسي يتأسس على التخاصم، وليس على التعادي. فكل واحد من الناس هو خصم مشروع يتعذر التوفيق بين مطالبهما، يشارك خصمه في العمل بمبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية. وما دام أن التخاصم خلاف لا يزول، فلا مفر من التسليم بالفروق والتعايش في ظل التنازع. (ص، 144-145)

وثمن رأي موف عندما حددت أصل النزاع في الطبيعة المزدوجة للاجتماع الإنساني، وانتباهها إلى العامل الوجداني المتمثل في الأهواء التي يتعين ترويضها وتوجيهها لكي تخدم المؤسسات. وانتقد رأيها بأنها لم تنتبه إلى أن: “الازدواج يتعلق بالتكوين النفسي للفرد، وليس بالتكوين البنيوي للمجتمع”.(ص، 146) وأيضا في وضع الحدود بين القيم التي تقبل التنازع والتي لا تقبله، هل توضع بصورة تقريرية (الهوى)، أو تدليلية (العقل) أو تقليدية (الخبر)؟، حيث أخذت بالأولى التي تتيح اختيار قيم على أخرى وتفضيلها، ويرى أن وراء هذا التفضيل تدليل أو خبر، الذي يحكم الحداثيون ببطلانه (ص، 149) ويرى أن الخبر فيه حق “تقارنه شهادة لا توجد في الدليل”، و فيه خبر باطل مثله مثل الدليل الفاسد، وانتهى إلى أن القيم، وهي من باب الواجب، ليست وقائع فيكون مصدرها “الخبر” وليس الوجود: “فيكون الأصل في وضع هذه الحدود هو العمل بالخبر الصحيح”. (ص، 150-151) فوضع الحدود لإدارة الصراع إما أنها مقتبسة من الدين، أو بالقياس على حدوده(ص،151) 

وعقب على المناقشة التي يقول بها يورغن هابرماس، الذي أسس نظريته في الديمقراطية التحاورية على “أخلاقيات الخطاب” أو ما سماه “العقل التواصلي”، تجاوزا منه لعقل الذات المفكرة عند ديكارت، وعقل الذات الباطنة لدى كانط، وتجاوزا أيضا للعقل التوسلي أو الأداتي، حيث استبدلها بذوات “متواصلة بواسطة اللغة”، واستبدال النجاح لدى الأداتي “بالتفاهم الذي يدعو إليه اختلاف أشكال الحياة لدى المواطنين”. (ص، 153-154)

ونبه في بداية تعقيبه على رأي هابرماس، إلى أن “التعالق” الذي هو أصل العمل السياسي تعبر عنه في العربية صيغ المفاعلة مثل: التواصل، والتعاقل، والتوافق، والتذاوت(…) ويرى أنه هو أصل كذلك في تكوين الذوات، فالفرد لا يتعرف على تفرده إلا بواسطة “التعارف” وبالتواصل تتحدد هويته. وبالتالي فالعقل “ليس محله الذات المنفردة، وإنما محله في الحقيقة، هو علاقات التواصل بين الذوات المختلفة”.

   عقب بأن التعالق نفسي لا روحي قائم على التنافس على النسبة، هدفه “ليس تحصيل التفاهم عن طريق الخطاب، وإنما تحصيل التقاسم عن طريق الحساب”. (ص، 159) وبالتالي فالتعالق السياسي تناسب لا تعاقل، فجعل “النسبة” محل “العقل” عند هابرماس لأنهما يفيدان معا معنى “الربط” ف: “النسبة ربط الأشياء بالذات، والعقل ربط الأشياء بعضها ببعض”. (ص، 159) وبنى عليه أن تواصل النسبة تواصل سلطة وتواصل وجداني، لأن السلطة والوجدان أكثر تغلغلا في الفعل السياسي من العقل كما سبق أن قرر. (ص، 160)

وما دام أن النسبة “لا تسعى (…) إلى التفاهم المؤدي إلى الاجماع، وإنما إلى التقاسم المؤدي إلى الاشباع”. (ص،161) وأن النفس لا تفتر من نسبة كل شيء لها فلا مفر من العمل على مجاهدة هذه النفس، وخلص إلى أن البرهان مهما تقيد “بأمثل الشروط الخطابية، فلا يستطيع أن ينزع ميل الأنا إلى تفضيل نفسها بالمنسوب” والذي يستطيع “نزع هذا الميل هو التحويل الوجداني لبنيتها”. (ص، 162)

ويخلص إلى أن الشهادة” أفضل من الاستدلال الذي يقيم عليه هابرماس التواصل؛ إذ يشهد المتكلم بما علم وأن عليه واجب الصدق فيه، وأنها أوثق صلة بالمناقشة (…): “فإذا أشرب قلب المناقش بهذه القيم: احترام الغير بل واجب تقديمه على احترام الذات (..) لا محالة اتجه إلى قطع الأسباب التي تولد الطغيان في مؤسسات النظام الديمقراطي” مدعيا أن معنى الحرية ليس احترام القانون، ولا الحرية السياسية: “وإنما هي في تحقق الإنسان بأنه محدود بالطبع”. (ص، 1710-171)

  ولا يبدو أن الشهادة الطهوية تختلف عن الأساس “النفسي”، فقد يشهد الإنسان ظاهرا، وهو على يقين بأن الواقع خلاف ما يشهد به، فلا يعول عليها في المجال السياسي، والدليل على مثاليتها أو لنقل فردانيتها قوله: “والحق أنه لا يرقى إلى هذه الرتبة إلا من قطع أشواطا في رياضة نفسه على التجرد من أغراضه والإخلاص في نقاشه والالتحام بدعواه، ولا يبالي بالظهور على الخصم بقدر ما يبالي بظهور الحق”. (ص، 172)

وكما ظهر أنه يمهد لشرعنة التصوف الطرقي بديلا، وقف عند مفهومين تتأسس عليهما الديمقراطية التواصلية؛ أولهما “إرادة الشعب”، والثاني “قاعدة الأغلبية”، مدعيا أن الديمقراطية ترفع الأول إلى “مقام إرادة الله”، والثاني “إلى مقام الحكم الإلهي”، لماذا؟ لأن الأول يفيد أن الشعب هو من “يضع قانونه بنفسه”، ولأن الثاني يورث المشروعية، مما يجعل الإنسان في غنى عن الآخر في التشريع لنفسه واكتساب المشروعية لعمله السياسي. (ص،176-177)

  يرى طه أن الفاعل السياسي مهما تفانى في خدمة الصالح العام، لا يتخلص من الباعث على التسيد على الناس، وأن “التدبير الديني” هو وحده ما يستطيع ذلك. ولا تمكن من التخلص منه أرقى أشكال القول المعروفة كالحوار الديمقراطي، والحوار الذي يسود “مجال التحليل النفسي”. يذهب إلى أن النظام الديمقراطي، رغم المبادئ التي يأخذ بها للحد من التسلط (فصل السلطات، الانتخابات، تعدد الأحزاب، حق الاعتراض)، فإنه لا يرقى بالحوار إلى مستوى النقاش حول بواعث السلطة لدى الفاعل السياسي، المتجذرة في النفس البشرية. (ص، 254-255)

ويرجع ذلك في نظره إلى فصل السياسة عن الأخلاق (ميكياف

يلي)، وفصل العام عن الخاص، أي فصل الاجتماع والسياسة والاقتصاد عن الفرد والأخلاق والعقائد. وخلص إلى أن الآليات الموضوعة لمراقبة السلطة لا تجدي ما لم: “تعالج الأسباب الخفية التي تضرب بجذورها في النفس البشرية”. (ص،256)

  ولا يختلف وضع التحليل النفسي، فرغم منجزاته في مجال اكتشاف البنية النفسية، وخاصة في مجال اللاشعور، حيث ركز: “على علاقة التسيد في صورها الأولى” فيقابل الإنسان كل طور حياتي بصورة التسيد التي يواجهها (سلطة الأم، سلطة الأب) أي أنه بحث عن أسباب التسيد عامة في خفايا النفس وليس في المظاهر الخارجية. (ص،258) فإنه يرجعها إلى “كبت الدوافع”، بينما يرى طه أنها ترجع إلى “نسبة الأشياء” إلى الذات.

ووجد في تعقيب المحلل النفسي الفرنسي، على فرويد بأن النفس “في غاية التعقيد والخفاء”، وأن مفاهيم التحليل لا تكشف عن حقيقتها، ما يؤيد رأيه فاستخلص منه أن كورنيلوس: “استشعر وجود حياة باطنية أخرى متميزة عن تلك التي اصطلح عليها باسم “الحياة النفسية”” هي “التي أطلقنا عليها اسم “الروح”، وقابلنا بينها وبين النفس، وجعلنا قوامها الفطرة” عملا بأن الإنسان “مزدوج البنية” الداخلية، وليس متوحدها كما يرى التحليل النفسي. (ص، 260) ولا يتأتى الخروج من التسيد إلا بالخروج من النفس: “إلى حقيقة وجودية تعلو عليها وتسد مسدها في تحديد ماهية الإنسان” وهي الروح، وذلك عن طريق “فعل “مشخص”، ويقصد به التصوف الطرقي، الذي هو عمل يتعدى حصر علاقة الإنسان بالعالم المرئي إلى العالم الغيبي. (ص، 264)

 تسليم طه عبد الرحمن بإمكانية اتصال الإنسان بالغيب بآلة الابصار الروحية التي يسميها “الاستبصار”، أوقعه في تفضيل الروح ومعارفها الغيبية، على آليات البصر (الرؤية) والعقل (الاستدلال) ومعارفهما، ورغم اقراره أنها تتبادل التأثير: “إلا أن تأثير الأعلى عبارة عن تزكية، وتأثير الأدنى عبارة عن تدسية”، و “التدسية” تعني اصطلاحا الإفساد في مقابل التزكية التي تتعني الإصلاح. (ص،282-277 على التوالي)

ويمهد بذلك لتمرير قضايا معرفية، يصنفها الفكر العرفاني القديم ضمن “معارف خاصة الخاصة” التي قد تخالف العقول البشرية الطبيعية؛ وقرر في هذا السياق أن “الشهود الروحي” بالنسبة للنظر العقلي، مثل “النظر العقلي بالنسبة للنظر الحسي، فقد يرى المرء بعقله ما لا يراه بصره، فيحكم بما قد يخالف ما يبصره؛ ولا يدعو ذلك إلى الاستغراب من حكمه أو الشك فيه، ولا بالأولى القدح في عقله (…) فكذلك إذا رأى المرء بروحه ما لا يراه عقله وأخبر بما قد يخالف ما يعقل، فلا ينبغي أن يكون ذلك إلى استهجان خبره أو الارتياب فيه ولا، بالأحرى الطعن في روحه، بل قد يدل على صدق خبره وقوة روحه”. (ص، 282)

  ما ينبغي الانتباه إليه هنا؛ هو أن المعرفة الصوفية في نظره تحمل “خبرا”، أي “وحيا”، لهذا صنفها العرفاء ضمن المعارف “الخاصة”، بينما يعمل طه على تعميمها، رغم اقراره بأنها محصلة بغير الطرق المشتركة وهي الحس والعقل. ثم كيف يصح وجود خلاف بين معرفة الروح ومعرفة العقل؟ أليس العقل أيضا فطري في الإنسان؟ لماذا لا يكون تفاعل قوى المعرفة الثلاث إيجابيا، أي في الاتجاهين معا، وليس في اتجاه واحد كما يدعي طه؟ وهو الذي تؤثر فيه الروح في العقل، والعقل في الحس، بينما يكون تأثير الاتجاه الآخر “إفسادا” كيف يكون “الاخبار بما قد يخالف ما يعقل” اصلاحا للعقل؟ أليس هو إلغاء للعقل؟ وفرض ما لا يعقله عليه؟ وليس هذا بغريب إذ يقر طه أن “حال الشهود”: “تفارق العقل الشائع” لأن: “المتزكي أصبح يجمع بين النقيضين؛ إذ فعله غير فعله ووصفه غير وصفه، بل ذاته غير ذاته، بل صار هو غير هو”. ويصل إلى أن بلوغ التناقض هو ثمرة عمل يجدد العقل، والعقل الذي يحكم به ليس: “إلا أدنى رتب العقل”. (ص، 288)

  ويعكس توجه طه إلى “تعميم” ما طبيعته التفريد، أيديولوجية أعماله، من شواهدها ما يسميه “المقاومة الوجدانية”، التي ليست مقاومة قوة(سلطة)، ولا مقاومة برهان(قول) لأن مسعاهما “التسيد على الخلق”، بينما هدف الأولى “التعبد”، ولهذا تختلف عن كل أشكال التغيير والاستيلاء على السلطة بالقوة (الثورة، والتمرد، والانقلاب)، فغايتها محاربة ظلم النفس المتجلي في: “تحدي حدود الله”. (ص، 290-291)

تتخذ المقاومة الصوفية لدى طه صورة “الازعاج”، ويختلف عن الارباك؛ إذ “لا يثير اضطرابا مؤذيا، ولا يعكر أمنا حقا”. هدفه رد المزعج إلى التعبد. (ص، 296-298) لا يستعمل العمل الازعاجي العنف المادي، ولا العنف القولي (الانتخاب)، فهو “يتبرأ من كلا العنفين”، ويستعمل طرقا مختلفة منها: الحال الوجداني، والسلوك الخلقي، والتذكير الحكمي. (ص، 299)

ذلك لأن الازعاج “لا يهمه الحكام ولا الدولة بقدر ما يهمه المحكومون أو المجتمع” (ص، 302) ولهذا فإن الزوايا، التي يدعو الدولة إلى أن تفسح لها المجال، لا تشكل خطرا على الدولة لأنها “لا تنشغل بأسباب التمكن والتسيد على الخلق، وإنما بأسباب التخلق والتعبد للحق (…) فلا يلحقها من هذه الفضاءات المستقلة إلا مزيد القوة”. (ص، 306) والزوايا بالنسبة للدولة: “بمنزلة الرئة التي تزودها بنقي الهواء الذي يجدد دورتها التدبيرية”. (ص، 311)

وأخذه التحليل الازعاجي إلى افراغ “الجهاد” المقدس من العنف المشبع به فقال إن ما يكابده المجاهد المضحي بحياته: “مرة واحدة يكابده الزاعج عدد مشهوداته؛ فإذا كان الأول لا يغيب عن العالم المرئي الا بسفك دمه، فإن الثاني يغيب عنه كل مرة يشهد فيها الحق بروحه”. (ص، 313-314) ويلخص دور الزاوية في اعداد المجتمع: “حتى يستطيع أن يمد الدولة بالطاقات التي تجدد تدبيرها”. (ص، 314)

  فرضت الأيديولوجيا على طه عبد الرحمن نقد الإسلام السياسي، الذي صرح في بداية أعماله أنه اشتغل عليها لتكون سندا فكريا له، ويكشف نقده هذا التباسا لا يتسع المقام لابرازه، خاصة أنه يدخل في هذا النقد “تسييس الدين” الدي تمارسه الدولة نفسها، التي يوظف التصوف الطرقي لخدمتها وتقويتها.

ويبدو من الزاوية المنطقية، أن قوله بأسبقية “التدبير التعبدي”، على القول بالفصل الذي تأخذ به العلمانية، والوصل الذي يقول به الإسلام السياسي، يجعل نقده منسجما مع تلك المقدمة؛ إلا أن ما سبق (تقديم السند الفكري، خدمة الدولة وتقويتها، التسيد على المجتمع) يعترض هذا الاستنتاج، مما يبيح استخلاص أن غاية النقد، ربما هي محاولة افراغ العمل الأصولي من ايديولوجته السياسية في صورتيها: “تسييس الدين” الذي تمارسه الدولة، و”تديين السياسة” الذي تقوم به الحركات الأصولية. في اتجاه أن تفوض الدولة للزاوية “التدبير الروحي” للمجتمع، وتحويل العمل الحركي الأصولي إلى زوايا تتنافس ذلك التدبير.

  صنف طه تيارات الإسلام السياسي تحت اسم “الديانيون”، لأنهم يتفقون جميعا في القول بوصل الدين بالسياسة، مع اختلافهم في التشخيص؛ فالدولة تشخص “الوصل” في “التسييس”؛ إذ تجعل الدين جزءا من سياستها للمجتمع. وتشخصه الأحزاب الأصولية في “التديين”؛ إذ تجعل السياسة جزءا من الدين، مع اختلافها حول الكيفية التي تصبح فيها السياسة جزءا من الدين. فبعضها أخذ آليات التدبير من العلمانية، لغيابها في “الدين” (اتفق معها في السبب وانتقدها في النتيجة). فرغم اعترافه بما تبرر به اقتباس الآليات؛ إذ لم يسطر الإسلام: “نظام تدبير بعينه، وجاء به أمرا جمليا غير مفصل” (ص،343) انتقدها بأنها تثير الشبهات في وجه الإسلام، باقتباسها الآليات التدبيرية العلمانية مخالفين: “إرادة تدبير أمور المعاش بما يخدم المصالح الأخروية على طريقة المتقدمين”. (ص، 337)

وبعضها؛ وهم القائلون “بالحاكمية”، ينسبون التسيد لله بقولهم ذاك، لكنهم في الممارسة والتطبيق يقعون في “الانتحال”؛ انتحال التسيد أو التدبير الإلهي؛ إذ يمارسون بأنفسهم “التسيد” على الناس باسم الإله (ص، 373) (يتفق معهم في الشعار ويختلف معهم في الممارسة والتطبيق) يقول عن الصوفي هو: “التحكيمي الذي انتقل من رتبة الذي أخبر بالأوامر (…) إلى رتبة الذي أشهد حقائق من وراءها وأشهد عليها”. (ص، 383-384)، و يقول: “لا يقول بالحاكمية لله إلا من يشاهد الحق في الخلق” مشاهدة لا تتأتى إلا “للتمزكي” ، وليس لأهل العقل المجرد ولا لأهل العقل المسدد. (ص، 396)

. وآخرهم؛ وهم القائلون “بولاية الفقيه” من الشيعة، ويسميهم “أهل التفقيه”، لأنهم أخذوا بالمعنى الاصطلاحي “للفقه”، وهو معنى متأخر ومختلف عما كانت تعنيه الكلمة قبل ذلك (اتفق معهم في شكل المفهوم واختلف معهم في المضمون والمحتوى). فبدل ذلك قال “بفقه القلب” و “فقيه القلب”، وقرر أن: “الفقيه الصناعي لا يستحق أن يكون نائبا حقيقيا عن الواحد من أئمة آل البيت الأطهار حتى ولو روى حديثهم وسننهم وعرف أحكامهم”، و: لأن “النيابة عن الإمام المهدي تقتضي النهوض بواجب التزكية” التي هي “فرض عين” وليس بالفقه الصناعي. (ص، 424-425) وينتهي إلى أن الفقيه الحي أحق بالولاية العامة من الفقيه الصناعي”. (ص، 435) يبدو أن طه عمل على سحب بساط “الدين” أو التديين من الإسلام السياسي بجميع تياراته. مجاراة منه لطروحاته وهو ما يتجلى، فضلا عن كل ما سبق، في حديثه عن مقاومة خاصة بالصوفية للتسيد يسميها “بالمقاومة الوجدانية”، وهي بديل عن كل أشكال التغيير المعهودة من ثورة وتمرد وانقلاب وانتخابات، وتتخذ عنده صورة “الازعاج”. وهو ازعاج: “لا يثير اضطرابا مؤذيا ولا يعكر أمنا حقا” هدفه رد المزعج إلى التعبد. (ص، 297)

يستعمل الازعاج، في مقابل العنف المادي، والعنف القولي (الانتخابات)، الحال الوجداني، والسلوك الخلقي، والتذكير الحكمي. (ص، 299) لا يهمه الحكام أو الدولة. وهمه المجتمع والأفراد. ينتهي طه بعد طول تجواله في ايهام القارئ بأنه يقدم مشروعا في دفع التسيد والتسلط إلى إقرار “نظام الخلافة” نموذجا “للتدبير الإسلامي بامتياز”. (ص، 361)، وذلك بعدما أكد أن تقسيمه التدبير إلى “تدبير تعبدي” و “تدبير سياسي” يتفق مع تعريف ابن خلدون “للخلافة” و “الملك”. (ص، 323) لكنه استدرك على تعريف ابن خلدون والماوردي للخلافة بأنها: “حراسة الدين وسياسة الدنيا” فقال: “وعندنا أن هذا التقابل بين الدين والدنيا لا يصح” لأن تدبير الدنيا بقوانين منزلة هو: “عبارة عن تدبير تعبدي للدنيا”. (ص، 344)

 وغفل طه في استدراكه أن التعريف الموروث للخلافة مؤسس على وصف حقيقي للسلطة في الإسلام، حيث جمعت بين الوظيفة التي يسميها “التدبير التعبدي” (حراسة الدين)، وبين ما يسميه “التدبير السياسي” الذي اعتمدت فيه على نوعين من التدابير؛ أولاهما “القوانين” المقتبسة من التراث السياسي لدى الاغريق والفرس والرومان، ثانيها القرارات التي يتخذها الخليفة نفسه وبمساعدة حاشيته. ويعني هذا أنها سلطة لم تكن تعتمد “التدبير التعبدي” وحده كما يزعم. فهل استطاع المقترح “السياسي” الصوفي الطرقي لطه عبد الرحمن دفع التسيد فعلا؟ الإجابة في عهدة القارئ.  

 

 

  

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى