المقالات

مدونة الأسرة في ضوء التحولات المجتمعية: في الحاجة إلى سياسة أسرية

يُفتَح ورشُ مراجعة مدونة الأسرة المغربية للمرة الثانية خلال حكم الملك محمد السادس. فبعد عشرين عاماً من دخول القانون رقم 70.03 المتعلق بمدونة الأسرة حيّز التنفيذ في 4 فبراير 2004، قرّر عاهل البلاد، في 24 سبتمبر 2023، تكليف رئاسة الحكومة بالإشراف العملي على مشروع مراجعة القانون. وقد شُكِّلت لهذا الغرض لجنة تضم وزارة العدل، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ورئاسة النيابة العامة، تضطلع بهذه المهمة بشكل جماعي ومشترك، على أن تُقدّم إليه مقترحات التعديل المنبثقة عن هذه المشاورات في أجل أقصاه ستة أشهر.

أحال الملك محمد السادس، في 28 يونيو 2024، مقترحات اللجنة المكلّفة بالمراجعة، التي رُفعت إليه في أواخر شهر مارس، إلى المجلس العلمي الأعلى، باعتباره الجهة الوحيدة المخوَّلة لها رسميًّا إصدار الفتوى، وفقًا لمقتضيات الفصل 41 من الدستور، وذلك لإبداء رأيه الشرعي فيما يتصل بالنصوص الدينية. وقد دعا الملك المجلس إلى التحلي بفضائل الاعتدال والانفتاح في الاجتهاد، مذكّرًا بالتزام صريح دأب على التأكيد عليه في كل مناسبة، كان آخرها خطاب العرش لسنة 2022، حيث قال: “وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أُحلّ ما حرّم الله، ولن أحرّم ما أحلّ الله، لا سيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية”.

بعد صدور رأي المجلس العلمي الأعلى، ترأس الملك محمد السادس، في 23 دجنبر 2024، جلسة عمل خُصّصت لموضوع مراجعة مدونة الأسرة، قدّمت خلالها الحكومة تقريرًا حول التعديلات المقترحة، التي فاقت المئة تعديل. وتعمل الحكومة حاليًّا على إعداد الصياغة النهائية للنص، والانكباب على الجوانب التقنية لتفريغ تلك التعديلات في مشروع قانون متكامل.

تكتسي مدونة الأسرة خصوصية فريدة في السياق المغربي، إذ تُعد مرآة لصراع الهويات، حيث يصاحب النقاش المجتمعي أي حديث عن مراجعتها أو تعديلها. فأنصار الحداثة يدفعون باستمرار نحو اعتماد المرجعية الكونية في أحكامها، في حين تدافع القوى المحافظة، بإصرار، عن ضرورة التمسك بالمرجعية الإسلامية.

هذا وقد تفجّر الجدل من جديد بمجرد الإعلان عن مراجعة مدونة الأسرة، حيث شرع كل تيار في حشد أنصاره، وانتقل الضجيج من الشوارع، كما شهدنا في مسيرة مارس 2000 إبّان الحديث عن تعديل قانون الأحوال الشخصية، إلى منصات التواصل الاجتماعي التي أصبحت ساحة بديلة للنقاش والصراع. وهناك، امتزج النقاش الجاد بسخرية مبطّنة، عبّرت عنها لوائح متداولة في الفضاء الافتراضي حول ما يُتوقَّع أن يشمله التعديل، في ظل غياب مبادرة تشريعية واضحة المعالم. فالمقترحات التي قدّمها وزير العدل للرأي العام، وعددها 21، تبقى محدودة مقارنة بما أُعلن عنه من وجود 139 تعديلًا.

رغم غياب تفاصيل رسمية دقيقة، فإن ما يتداول حاليًّا يعكس ملامح المنظور الذي يُؤطّر إصلاح مدونة الأسرة، ويكشف عن صراع خفيّ بين اتجاهين متباينين: الأول ينظر إلى الأسرة باعتبارها مؤسسة “فوق اجتماعية”، تنتمي إلى مجال الحيز الخاص المرتبط بالأمة وثوابتها؛ أما الثاني، فيُصرّ على اعتبارها جزءًا من الحيز العام، ما يجعلها خاضعة لمنطق السياسة والتشريع العمومي. حسم هذا الجدل من شأنه أن يحدد بدقة طبيعة ما يحتاجه المغرب: هل المطلوب هو مجرد إصلاح تقني لقانون من قوانين الدولة، شأنه شأن قوانين الشغل والتعمير والاستثمار؟ أم أننا في حاجة إلى سياسة أسرية شاملة، ذات معالم واضحة، يكون قانون الأسرة أحد أركانها وليس بنيانها الكامل؟

‫4 تعليقات

  1. مقال يرصد السياق التاريخي لورش مراجعة مدونة الاسرة و الجدل المجتمعي بخصوصها بين من يقاربها من جانب تقني ووضعها على قدم المساواة مع غيرها من القوانين وبين من يدرجها ضمن مجال توابث الامة،وقد صادف المقال الصواب في اعتبار حسم هذا الجدل هو المدخل للجواب عن سؤال اصلاح المدونة والتعامل مع هذا الموضوع كجزء من السياسة الاسرية الذي تكون فيه مدونة الاسرة احد اضلاعها الاساسية على اعتبار ان الاسرة مؤسسة تراحمية اقدس واكبر من ان تكون موضوعا جافا لما ترسمه نصوص القانون
    تحياتي لكم ومزيدا من التألق.

  2. ماشاء الله تحليل و إحاطة علمية شاملة في المستوى
    ما أحوجنا لمثل هذه القراءات الرزينة و الحكيمة البعيدة عن منطق العصبية او خدمة الأجندات السياسية
    بالتوفيق استاذنا العزيز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى