المقالات

حدود الديني والدنيوي

   كلُّ يوم أزداد قناعةً بأن العالَم اليوم تغيّره العلومُ والمعارفُ ووسائلُ التواصل والتكنولوجيا الجديدة، وتغيّرُ الحروبُ ومباغتاتُ التاريخ غيرُ المتوقعة أقدارَهُ ومصائرَهُ وخرائطَهُ السياسيةَ. ومازلتُ على قناعة أيضًا بأن الكتاباتِ الجادّةَ والأفكارَ الجريئة والكلماتِ الحيةَ يمكن أن تسهم بإيقاظِ بعض العقول من سُباتها. وإن كانت الكتابةُ الورقيةُ بكيفياتِها المتوارثة، ووسائلِ تداولها وانتشارها، تنهزم كلَّ يوم أمام الكتابة الرقمية، وما تمتلكه الحروفُ الإلكترونية من إغواء، من خلال إيقاعِها المتسارع والمتدفق، ومن فعلٍ سحري يأسر وعيَ المتلقي من حيث لا يشعر، بكلماتِها البسيطة وعباراتِها الوجيزة الخاطفة. وسائلُ التواصل والنشر الإلكتروني خلقتْ عالمها الخاص، عالَما يتفوّقُ في حضوره على الواقع الذي نعيش فيه.

  نمطُ الحضور الجديد للإنسان في الوجود يُعادُ فيه بناءُ صلة الإنسانِ بالإنسان، والأشياءِ، والمعرفةِ، والحقيقةِ، والذاكرةِ، والزمانِ والمكانِ، والماضي والحاضرِ والمستقبل، على نحو يتبدّل فيه تعريفُ مفاهيم ظلت راسخةً في الثقافات البشرية لزمن طويل، وتحدث ولاداتٌ جديدةٌ لمصاديق وتطبيقات العدالة والحرية والأمن والسلام وغيرِها من القيم الكونية في الواقع المتجدد، فالأمنُ المعلوماتي اليوم مثلًا هو مصداقٌ جديدٌ للأمن.كذلك يتبدّل تعريفُ مفاهيم اجتماعية واقتصادية وثقافية على وفق منطق العالم الرقمي، فالملكيةُ مثلًا تنتقل من امتلاك الأشياء المادية في نمط الإنتاج الماضي إلى امتلاك الأفكار في نمط إنتاج المعرفة، ويتبدّل تعريفُ رأس المال، فينتقل من رأسِ المال المادي المتمثلِ في أصول ثابتة إلى رأسِ مالٍ معرفي يتمثل في: تعليم، ومعلومات، وأفكار، ومهارات، وبرامج، وابتكار، وذكاء صناعي، وهندسة جينات، وأمثالها. إعادةُ بناء صلات الإنسان بما حوله تنتهي إلى إعادةِ إنتاج نمطِ وجودِه في العالَم. نمطُ الحضور الجديد للإنسان في الوجود يدعونا إلى أن نعرفَ الديناميكيةَ التي يتغيّرُ على وفقها العالَمُ، وكيف أن تحولاتِ الواقع لم تعدْ محكومةً بما كنا نعرفه من معادلات وعوامل تقليدية يتغيّر العالَمُ تبعًا لها.              

 

 يجدُ القارئ في موضوعات كتاب “الدين والاغتراب الميتافيزيقي”،كيف يخرج الدينُ من حقله، بوصفه حاجةً أنطولوجية، ليهيمن على حقول الحياة الأخرى، التي هي من اختصاص العقل والعلوم والمعارف وتراكم الخبرات البشرية، فيتحوّل الدينُ من كونه حلًّا للحاجة الروحية والأخلاقية إلى مشكلة تهدِّد العقلَ وتحول دون تراكم الخبرة البشرية. يرى القارئُ أن أكثرَ مشكلاتنا يكمن في تمدّدِ وتضخّمِ هذه الحاجة وإهدارِها لغيرها من الحاجات الأخرى، وابتلاعها لكلِّ شيء في حياة الناس في مجتمعاتنا.كثيرٌ من مشكلات عالَم الإسلام تعود إلى الإخفاق في التعرُّف على الحقلِ الحقيقي للدين وحدودِ مهمته في حياة الإنسان، وما نتج عن ذلك من هيمنةِ الدين على حقول الحياة الأخرى، والإخلالِ بوظيفة العقل والعلم والمعرفة، وإهمالِ قيمة تراكم الخبرة البشرية وأثرها في البناء والتنمية.

  في ضوء هذا الفهم حاولنا أن نكتشفَ في كتاب “الدين والاغتراب الميتافيزيقي” حدودَ المجال الحقيقي الذي يحتلّه الدين، وحدودَ المجال الدنيوي الموازي له، وقد شرحنا ذلك من خلال نماذج تطبيقية متنوعة لما يختص به كلٌّ من: الدين والعلم، والدين والدولة، والمقدّس والدنيوي. يصدرُ هذا الكتاب في مسعًى لإرساءِ لَبَناتِ فهمٍ للدين، وبوصلةٍ ترشد لمنطق فهمِ آيات القرآن الكريم، من أجل بناء رؤية “إنسانية إيمانية”، عساها تطلُّ بنا على أفق مضيء، نرى فيه الدينَ بمنظار مختلف، يصير فيه الدينُ دواءً لا داءً، والإيمانُ محرِّرًا لا مستعبِدًا، والتديّنُ حالةً روحانيةً أخلاقية جماليةً، تتجلّى فيها أعذبُ صورةٍ لله والإنسان والعالَم.

  يأتي هذا الكتابُ رديفًا لغيره من كتاباتي، وهو يتوخَّى الغايةَ ذاتها، وما تنشده موضوعاتُما من إعادةِ قراءة النصوص الدينية في سياق الواقع اليوم، واكتشافِ متطلبات الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية للمتدين، في عالَم يتسارع إيقاعُ التحوّل فيه. اللغةُ المشتركة التي تتحدّثها هذه الكتب هي “لاهوتُ الرحمة”، من أجل تخفيفِ وطأة “لاهوت السيف” الذي اشتدت قبضتُه على ماضينا أمس، ومازالت آثارُه فاعلةً في حياتنا حتى اليوم. إذ كانت الفروسيةُ أعظمَ القيم وأشدَّها رسوخًا في حياة الفرد والقبيلة في الجزيرة العربية، لذلك تسيّدَ منطقُ الحرب عصرَ الفتوحات بعد البعثة الشريفة، وتشبّعت به القيمُ الدينية والحياةُ الاجتماعية والثقافية، ووقع الفكرُ الديني في الإسلام في أسره، فتغلّب “لاهوتُ السيف” على “لاهوت الرحمة”، على الرغم من الحضورِ المهيمنِ للرحمةِ الإلهية في القرآن الكريم، وضرورة اعتمادها إطارًا مرجعيًّا لتفسيره، إذ نرى بوضوحٍ أنَّ معانيَ القرآن تنشد الرحمة، لكن أهملها معظمُ المفسّرين، فتغلّبتْ في تاريخِ الإسلام لغةُ العنف على لغةِ الرحمة، وأهدر كثيرٌ من مفسِّري القرآنِ والفقهاءِ كلَّ هذا الرصيدِ الدلالي المكثَّف للرحمة، وصارت فاعليةُ دلالةِ آيةِ السيف في القرآن هي الحاكمة. هذا الكتابُ يهدف إلى إيقاظِ الضمير الديني وتنبيهِه الى كثافةِ حضور الرحمة في القرآن، وقوةِ دلالتها بشكل لافت، وهو ما يلتقيه القارئُ في الفصل الأول، الذي جاء بعنوان: “الرحمةُ الإلهية مفتاحُ فهمِ القرآن”، والفصلِ الثاني الذي جاء بعنوان: “التصوّف المعرفي وعلم الكلام: رؤيتان للتوحيد”، وتناول بالشرح والتحليل كيف يغتربُ الإنسانُ وجوديًّا عن الله في لاهوتِ المتكلّمين، لأنّ ذلك اللاهوتَ يبرعُ في نحتِ صورةٍ لله تحاكِي علاقةَ السيِّد بالعبد المكرّسةَ في مجتمعات الأمس. الله في علم الكلام القديم تَسَلُّطِيّ كالملوك المستبدّين، نمطُ علاقته بالإنسان كأنها علاقةُ مالكٍ برقيقه، فهو يمتلك الناسَ كما يمتلك الأسيادُ الرقيقَ، يمتلك أقدارَهم، ويمتلك التصرّفَ بكلّ شيء في حياتهم. وُلدت عقيدةُ الجبر في أُفُقِ هذه الرؤية مبكِّرًا، وأصبحتْ منبعًا لشرعنة الأشكال المتنوّعة للاستبداد في تاريخ الإسلام. كما تناولت بالشرح والتحليل ما يمكن أن يقدمه التصوُّفُ المعرفي في تراثنا من تأمين الحاجة للمعنى الديني اليوم، بوصفه مَنْجَمًا ثمينًا للمعنى الروحيّ والأخلاقيّ والجماليّ، وإن كان اكتشاف ما تزخر به طبقاتُ هذا المنجم يتطلّب وجود مُكْتَشِفٍ بارع يغوص في تلك الطبقات، فيصطاد الجواهرَ الغاطسة في ركام مَنْجَم فحم، مدون بلغة ضبابية أحيانًا، ولا يخلو من فائض أقوال وعبارات وشروح مملَّة في بعض المؤلفات، مشوبة أحيانًا بالحثِّ للانصراف والتفرغ لتطبيق توصيات شيخ الطريقة، التي تروّض الإنسان على تصوُّف الاستعباد.

    في مجتمعٍ تقليدي، الخروجُ على الإجماع في الكتابةِ وجعٌ، ونشرُ الكاتبِ لهذا النوع من الكتابة أشدُّ وجعًا. النشرُ يسوقُ الكاتبَ إلى محكمة القرّاء رغمًا عنه، وهي محكمةٌ تتطلّب كثيرًا من الإثباتات والحجج الصريحة،كي ينجو فيها الكاتبُ من الأحكامِ العاجلة، وغيرِ العادلة أحيانًا على كتابته، عندما يكون مضمونُ هذه الكتابة من الصنف الذي يتطلب دقةً وتدبرًا في القراءة. أحترم حكمةَ رجالِ فكرٍ يكتبون كثيرًا، لكنهم لا يجرؤون على النشر، على الرغم من أني طالعتُ نصوصًا لامعةً بأقلامهم، ووجدتُهم يجتهدون في كتابة أفكارٍ غير مكرّرة. قلتُ لصديقٍ أستاذٍ جامعي مكوّنٍ تكوينًا أكاديميًّا رصينًا، يكتب بالإنجليزية والعربية، لكنه لا يجرؤ على نشر أكثر ما يكتب، هل ألّفتَ كتابًا: فقال تحت يدي ثمانيةُ مؤلفاتٍ ناجزة، غير أني ربما لن أنشرها. فأجبتُه: إن نشرَ أفكارٍ خارجَ المألوف يحتاج ضربًا من شجاعةٍ تصير حكمةُ الحكيم قربانًا لها، بل يحتاج مغامرةً متهورة.

 صدرت الطبعةُ الأولى لهذا الكتاب منتصف عام 2018، وقبلَ نهاية ذلك العام نُشِرَ في طبعة ثانية، ويُنشَرُ اليومَ بطبعةٍ ثالثة مزيدة ومنقحة. ككلِّ أعمالي، عندما أعود إليها بعد سنوات من صدورها، كأني أقوم بتأليفها مجددًا، مرة أشطب، وأخرى أختزل وأكثّف، وثالثة أشرح وأوضّح، ورابعة أعيد بناء العبارات وانتقاء ما هو أجمل من الكلمات.

 

مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب: “الدين والاغتراب الميتافيزيقي”، صدر عن دار الرافدين ببيروت ومركز دراسات فلسفة الدين ببغداد.

 

عبدالجبار الرفاعي

د. عبدالجبار الرفاعي مفكر عراقي، ‏متخصص في الفلسفة وعلوم الدين. من مؤسسي علم الكلام الجديد في المجال العربي. منذ ثلاثين عامًا يكرّس منجزه لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة، منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم. أصدر أكثر من 50 كتابًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى