الكتابة بلغة الصمت
تؤرق تلك الرغبة في الكتابة وقت الإخفاقات الكبرى، فهي لا تترك لك حيزا للاختيار، فإما أن تكتب عن الفشل أو تصمت. وكثيرٌ من مثقفينا يرتكنون إلى زاوية الصمت جبرا للضرر أو تداويا بحبوب الصمت، وأحيانا أخرى يصمتون لأنهم باعوا بضاعتهم ثمنا رخيصا. فأن تصمت –يقول الصامتون–هو أن تنحني للعاصفة، أو تختار أقل الإيمان.
يُشبّه كثيرون الحقبة التي نعيشها بحقبة ما بعد نكبة 67 ، حيث انهيار الجيوش العربية وتكمّش حلم القومية العربية وفكر الطليعة. إنهم ينظّرون للنكبة الثانية، وعلاماتها فشل ثورات الربيع العربي في بناء الدولة العربية المنشودة، وإعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني، ثم نجاح الثورات المضادة ورجوع الدولة العربية العسكراتية إلى الحكم من جديد وبقوة أكبر. إنهما إذا لحظتين متشابهتين من حيث مخرجاتهما السياسية ولكنهما مختلفتين من حيث محفزاتها السياسية؛ فلحظة النكبة الأولى أجّجها عدو خارجي وفساد داخلي وأدّت إلى انهيار نموذج الدولة العربية ما بعد الاستقلال، فيما اللحظة الثانية ساهمت فيها ثورات داخلية مدنية وسلمية ونتج عنها تبدّد الدولة العربية الثانية ثم انقضاض القوى الإقليمية والدولية على حلم الديمقراطية والحرية في الوطن العربي.
وبالقياس بين اللحظتين، سوف يدعونا البعض الاَخر من مفكرينا إلى الكتابة حول النقد، أن نجلد الذات المنهكة مرة أخرى، أن نكتب مجددا عن “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” و عن “نقد العقل العربي” و “نقد نقد العقل العربي” و “إشكاليات العقل والعقلانية في الفكر العربي” و”اغتيال العقل” …إلى اَخره. وإن لم نستطع فأضعف الإيمان أن نعيد قراءتها لأن أسئلتها واشكالياتها مازالت راهنة، أو كما قال العروي: لأن التاريخ لم يفرغها بعد من محتواها. وبلغة أخرى، أن يتجاوزها التاريخ لأن محتواها لم يعبّر عن تطلعات الإنسان الحديث والانسانيات المعاصرة. فهل ما زالت تصلح التاريخانية والثورة الثقافية والاشتراكية الموضوعية لفهم وتحقيق الحداثة عربيا؟
يضيف اَخرون أننا نعيش زمن انهيار الرأسمالية الغربية، وعلامتها انهيار نظامها المالي منذ العام 2008 وفشل أيديولوجيتها الفكرية “الليبرالية الديمقراطية” في تحقيق الرفاهية ودولة العدل والحريات. إنهم يشبّهونها بانهيار النظام الشيوعي وسقوط جدار برلين وفشل التجربة الشيوعية في تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة الطبقية. وربما أحد أوجه تصدُّع المشروع الرأسمالي الغربي يظهر في تنامي الأيديولوجيا الشعبوية، ذلك أن فلسفة الرأسمالية في شقها السياسي على الأقل تؤمن بأن الديمقراطية الليبرالية لا تسمح بتنامي الراديكاليات والشعبويات؛فنظامها السياسي القائم على الديمقراطية ودولة الحق والقانون مرتبط بنظامها الاقتصادية المبني على الشفافية واقتصاد السوق والمبادرة الحرة، ثم تكتمل بنظامها الأخلاقي القائم على الفردانية والحريات الطبيعية. لكن الأكيد أنه لم تكن هنالك رأسمالية غربية قومية وموحدة، بل هي رأسماليات وليبراليات متعددة، امتزجت بأيديولوجيات محافظة أو يمينية وأخرى اشتراكية، لذلك فرأسمالية فرنسا ليست هي رأسمالية إيطاليا وانجلترا، وليبرالية الاتحاد الأوروبي مجتمعا ليست كمثيلتها الأمريكية.
لقد قوّض المد الشعبوي العالمي ما كان يسمى بالمعسكر الديمقراطي، وهي تلك الدول والمؤسسات والهيئات المدنية والمنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام التي كانت تراقب وتبطئ المعسكر التسلّطي والاستبدادي. فلم تعد هذه الشعبويات تخاف قرارات الأمم المتحدة، ولا صرخات المنظمات الحقوقية، ولا حتى معايير الحس الإنساني. إنها نوستالجيات متصارعة، أو كما سماها الماركسي الراحل زيغموندباومان ب “اليوتوبيات الرجعية”، وهي تلك الأيديولوجيات التي تحن لتاريخها الإمبراطوري وتحاول إعادته وتوظيفه أمام خصومها. وتتصارع هذه النوستالجيات الكبرى )أمريكا، الصين، تركيا، بريطانيا، روسيا (على إعادة التاريخ الإمبراطوري واستحضاره في عملية توسيع النفود في مناطق النزاع والأسواق العالمية وفي العلاقات الدولية. لقد أصبح التاريخ الامبريالي لهذه النوستالجيات هو المحرك الرئيسي في عملية إعادة المجد والسيطرة، وهي أطروحة الناقدة الاجتماعية الفرنسية باسكال كازانوفا. تؤسس هذه الأخيرة لما تسميه بجمهورية الأدب العالمي، وهي الأطروحة التي خلقت جدلا واسعا باعتبارها تحدد التاريخ الامبريالي للإمبراطوريات عاملا رئيسيا وراء تأسيس عالمية الإنتاج الأدبي والمعرفي عموما.
تأزمت وضعية الفكر “الربيعي” العربي – للإحالة على فكرة وروح الربيع العربي- بعد صعود الأيديولوجيا الشعبوية، وذلك لأنها سمحت للأنظمة التسلطية العربية بالاستقواء مرة أخرى، خصوصا بعدما ضعف المعسكر الديمقراطي وانكمش تأثيره. فقد تزايدت تنافسية الأنظمة الاستبدادية والفكر المستبد وتسيّد على أية فكرة تحررية، سواء تعلق الأمر بتنظيم مظاهرات، أو فعاليات ثقافية، أو تعبير عن رأي حر، أو أية ممارسة سياسية ديمقراطية. في مثل هذه الظروف، يضعف الفكر الحر والممارسة الديمقراطية، وتتراجع مؤشرات حقوق الإنسان، ثم تظن الأنظمة السياسية السلطوية أنها تفوّقت وأبادت رياح التغيير التي جاءت ثورات الربيع العربي لتحقيقها. وتساهم هذه الأنظمة في التأسيس لهذه الرؤيا عبر ترويجها في فضاء الانسانيات والإنتاج الفكري، وذلك بالتنظير للحظة الربيعية باعتبارها لحظة فشل حركة اجتماعية مراهقة وغير واعية بلحظتها وبممارستها الميدانية. وبالنظر لهذه التعبئة السلطوية في الفضاء العام والفضاء المعرفي، فإن الفكر التحرري الربيعي يجد نفسه أمام مهمة مضاعفة؛ الاستمرار في الدفاع عن الفكر الحر والممارسة التحررية في الفضاء العام، ثم التأريخ المضاد للحظة الربيعية بما هي سيرورة مستمرة من الكر والوفر بين الطلب الديمقراطي والعناد الاستبدادي.وهي نفس المهمة التي وجب على المفكرين والمثقفين الاضطلاع بها عوض الاستسلام لدفء الصمت والترف الفكري.