الدولة في المنطقة المغاربية بعد الربيع العربي: قطيعة أم استمرارية؟
يعد كتاب “مستقبل الدولة الوطنية في بلدان المغرب الكبير وعوائق الانتقال الديمقراطي” أحدث إصدارات مركز أفكار للدراسات والأبحاث، برسم عام 2021. يضم المؤلف، الذي تولى تنسيقه الباحثان عبد العالي المتقي ومصطفى أيت خرواش، تسعة أوراق بحثية، كانت عينة من منتخبات ما نُوقش في ندوة علمية بالعاصمة المغربية الرباط، وكان الكتاب؛ الممتد على 300 صفحة، إحدى مخرجاتها.يصدر الكتاب في لحظة زمنية فارقة، تتمثل في مضي عشر سنوات على الحراك الذي عرفته دول المغرب الكبير (تونس، المغرب، ليبيا)، حيث تولى المساهمون في الكتاب، من دول مغاربية مختلفة، قراءة واقع الحال في بلدانهم، وتحليل مآلات الحلم الثوري في كل دولة على حدة، من خلال مساءلة المنجز على أرض الواقع، بعد انصرام عقد من الزمن على تجربة الربيع المغاربي.
قارب المشاركون، كل من زاوية اشتغاله البحثي، قضايا وإشكاليات احتدم النقاش بشأنها في الأعوام الأولى للحراك الثوري، من قبيل طبيعة الدولة المنشودة؛ هل تكون الدولة مدنية الهوية أم دينية؟ وأي مفاصلة بين الديني والسياسي في دولة ما بعد الحراك؟ وهل نجحت الشعوب في انتزاع شروطها الذاتية لقيام عقد جديد، عبر إعادة المعنى لمفاهيم الحرية والاستقلالية والسيادة والشرعية؟ وهل إقرار التعددية في المتن الدستوري كفيل بتسوية عقود من القهر الرسمي والاقصاء الممنهج تجاه الأقليات في بلدان المغرب الكبير؟
حقبة الاستقلال.. الدولة أم النظام
مضى أكثر من نصف قرن على جلاء الاستعمار عن دول المغرب الكبير؛ إذا أخدنا بعين الاعتبار الجزائر التي حصلت، بعد 132 سنة، على الاستقلال عام 1962، دون أن يتغير الشيء الكثير في هذه البلدان. فالأسئلة الكبرى حول الشرعية والمشروعية والسياسة والتنمية… ذاتها تتكرر على مدار خمسة عقود وزيادة، ما دفع الشعوب المغاربية إلى الانتفاضة، مطلع عام 2011، في حراك جماهيري شعبي سلمي، أعاد العقد الاجتماعي لدولة الاستقلال؛ على فرض وجود هذا العقد أصلا، إلى نقطة الصفر، وذلك بمساءلة الوعود الحالمة زمن الاستقلال، على ضوء ما المتعيّن حقيقة على أرض الواقع.
تردّد الجواب؛ الساطع والمباشر، عن سؤال منجز الدولة خلال سنوات الاستقلال، بمختلف الساحات والميادين، في عبارة “الشعب يريد إسقاط النظام”؛ المكتنزة بالدلالات عن حصيلة وعطاء الدولة أو بالأحرى “الأنظمة” القائمة منذ خروج الاستعمار. وكشف الحراك الثوري المنفلت من الولاء والإيديولوجيا، أن الدولة القائمة (النظام أو الدولة العميقة) تحول إلى عائق أمام عقد اجتماعي جديد، وهذا ما حاولت ورقة الباحث مصطفى أيت خرواش بالأمثلة والشواهد. مرد ذلك إلى التناقض القائم بين مشروع الدولة مع مشروع الأمة، حيث أضحت “السيادة والشرعية تمارس بالقوة عوض ممارستها بالطرق التعاقدية الحديثة”.
من جانبه، يدعو الباحث المغربي جامع سموك إلى التمييز، عند الحديث عن الدولة، ما بين البنى الوظيفة التقليدية والبنى الوظيفية الجديدة، فرياح العولمة أسقطت أي حدود يمكن للفصل بين السياسة الدولية والسياسة الوطنية. يبقى اعتماد معيار البنى قرين تفرقة بين الدولة في نموذجين؛ غربي وأخر عربي، دون أن يكون لذلك تأثير في النتيجة فدولة اليوم “لم تعد أكثر حرية، ولا أكثر قوة في هذا التحول الذي يبدو مضطربا، كذلك الدولة ليست في حالة احتضار ولا تبدل، ولكنها على خلاف ذلك تجري تسويات دائمة مع فاعلين أخرين…”.
هوية الدولة .. بحثا عن الشرعية
يبقى السجال بشأن هوية الدولة في شمال افريقيا، الوجه الآخر للنقاش حول وجود وشرعية الدولة بهذه المنطقة، بالرغم من تواري سؤال الهوية زمن الاستعمار أمام وطنية ترفض التعددية والتنوع، معتبرة أي انشطار في الجبهة الداخلية جسرا أمام المستعمر للتغلغل وإحكام السيطرة على البلاد والعباد، ما وأد معالم التنوع الداخلي لصالح “أنا جماعية” تكافح ضد الأخر الأجنبي المستعمر.
كانت التجربة التونسية مثالا حيا لفصول من هذا الصراع، سواء في نسختها التأسيسية الأولى (1956-1959) بواكير الاستقلال بين الزعيم الحبيب بورقيبة المتأثر بالنموذج الغربي للدولة؛ لا سيما تجربة كمال أتاتورك التحديثية والنموذج اليعقوبي الفرنسي، والزعيم صالح يوسفي ذي الطموح نحو تأسيس نموذج دولة عروبية محافظة في تونس. وأيضا عند التأسيس الثاني للجمهورية، بعد ثورة الحرية والكرامة (2011)، مع وحدة في مسار التجربتين، واختلاف في الظرفيتين؛ فسياق وضع زعماء التحرير دستور الاستقلال، غير إكراهات لحظة الثورة بمفاعليها الداخلية والخارجية.
قرأ الباحث التونسي تامر سعداوي تجربة بلاده، بإسهاب مع كثير من التفاصيل، في ورقة بعنوان: “هوية الدولة وطبيعة النظام السياسي في تونس: زمنا الاستقلال والثورة” كاشفا نقط التوافق والاختلاف بين هوية دولة الاستقلال وهوية دولة الثورة. فضّل التونسي مراد مهني تجاوز القراءة المتوازية بين اللحظتين، نحو الاشتباك مع الموضوع من منظور صراع الشرعيات زمن الثورة، في ورقة بعنوان “الدولة العميقة والقوى الثورية الجديدة في السياق الانتقالي التونسي: صراع الشرعيات وجدلية الاحتواء والانفلات”، مبرزا لعبة المد والجزر التي أتقنها معظم القوى السياسة الفاعلة في المشهد التونسي، لحظة التأسيس الثاني للجمهورية.
الأمازيغ.. أغلبية صارت أقلية
يخفي الحديث عن هوية الدولة بين ثناياه موضوع الأقليات الذي كان باستمرار نقطة شديدة الحساسية بالنسبة للأنظمة السياسية في العالم العربي بأسره. فطالما اعتبرت الأنظمة الحاكمة الأقليات مصدر تهديد لوحدة الدولة المركزية، ما جعل أسلوب الحديد والنار منهج –شبه مشترك، بين أنظمة ما بعد الاستقلال لمواجهة هذه الأقليات؛ أيا كانت طبيعتها: قومية، عرقية، دينية…
حاولت الأكاديمية المغربية إكرام عدنني تشريح المسألة على ضوء البروز الملفت لصوت “الأقليات” في الحراك المغاربي، لا سيما في المغرب وليبيا وبدرجة أقل في تونس، في ورقة “الأقليات واستمرارية الدولة الوطنية: ليبيا والعراق نموذجا”. لكن أساس مقارنته غير سليم، حين عمدت إلى قولبة الموضوع على ضوء التجارب المشرقية (العراق، لبنان…)، وقد سقط قبلها كثيرون في هذا الخطأ، لاختلاف السياقات؛ فالأمازيغ في معظم بلدان شمال افريقيا ليسوا أقلية؛ بل إنهم السكان الأصليون – مملكة نوميديا مثلا – قبل مجيء الإسلام والعروبة.
عملت الأنظمة في البلدان المغاربية دوما على مقاربة المسألة الأمازيغية باعتبارهم أقلية، فالقبول بغير هذه المعطى سوف يقوي وشائج الانتماء القبلي بين الأفراد والجماعات، وبالتالي يفتح الباب لأسئلة كبرى حول شرعية الأنظمة (العسكرية، الدينية، الوطنية…). كانت اللحظة الثورية فرصة لانكشاف هذه الحقيقة، ما دفع بلدانا مغاربية (المغرب، الجزائر، ليبيا) نحو الاعتراف بحقوق المكون الأمازيغي في دساتيرها. وقد حرصت ورقة الأكاديمي محمد أمين أوكيل على تتبع هذا المسار بتفصيل، في التجربة الجزائرية، من خلال ورقته “الهوية الأمازيغية ومسألة بناء الدولة الوطنية في الجزائر: مقاربة قانونية”.
تباين المواضيع المثارة في أوراق الكتاب، واختلاف زوايا نظر الباحثين، بحسب مشاربهم العلمية، شكل قيمة مضافة أثرت مضمون المؤّلف، فالسياقية التي تحكم كل بحث على حدة؛ مانحة إياه خصوصية معنية. لا يمنع مطلقا من إسقاط النتائج والخلاصات على بقية الدول؛ فالمشترك بين بلدان المنطقة المغاربية أكثر من المختلف فيه. وهذا ما يقف عنده المراقب الحدق هذه الأيام، حيث عمدت الأنظمة (المغرب/ الجزائر/ تونس) إلى استنساخ ذات الأساليب لتدبير المرحلة الراهنة.
————————————————-