الحُبُّ بوصفه علاجًا
في نهاية ستينيات القرن الماضي اشتركتُ في الامتحان الوزاري الشامل للسادس الابتدائي، الذي نسميه في العراق “بكالوريا”، يجرى هذا الامتحانُ لأبناء الريف في المدينة، كانت قلعةُ سكر أقربَ مدينةٍ لقريتنا، تبعد عنها 15 كم تقريبًا، أسكنونا في إحدى المدارسِ المعطلة، كان كلٌّ منا يحمل فراشا بسيطًا للنوم جلبه من أهله، منحتنا التربية مبلغًا زهيدًا لطعامنا، مشهدُنا في المدينةِ يثيرُ الاستهجانَ والشفقةَ، نسيرُ خائفين ملتصقين ببعضنا، لو تأخر أحدُنا عن أصحابه سرعان ما يلتحق بهم مذعورًا. أهلُ المدينة ينظرون إلينا بدهشة، لا تخلو من ازدراءٍ يلتبس بإشفاق،كأننا مخلوقاتٌ غريبةٌ هبطت من كوكب آخر. أطفالُ المدينةِ وشبابُها كانوا أشدَّ وطأةً في تعاملهم معنا، لا يكتفون بنظراتِهم الحادة القاسية وسخريتِهم المبتذَلة منا، بل يستغلون أيةّ ثغرةٍ تحدث في تكدّسِ مجموعتنا ليرجمونا بالحجارة، نفرُّ منهم ونحن نرتجف. دهشتُهم ربما تعود إلى منظرِنا غيرِ المألوف في كثيرٍ من الأشياء الغريبة عليهم، وجوهُنا كالحةٌ من سوءِ التغذية والحرمان، ثيابُنا منكمشةٌ، ألوانها متناشزةٌ، مشيتُنا ولغةُ أجسادنا مرتبكة.
كانت الفجوةُ بين نمطِ ثقافة وحياة المدينة والريف واسعةً جدًا تلك الأيام، اللهجةُ مختلفةٌ، الزيُّ مختلفٌ، المطبخُ مختلفٌ، الاقتصادُ ونمطُ العيش مختلفٌ، بعضُ الأعراف ليست واحدة، العلاقاتُ مختلفةٌ، وكأن الفجوةَ لا حدودَ لها. تشكّلت شخصيةٌ مدينيةٌ تجاريةٌ للمدن العراقية تميز بوضوحٍ نسيجُها الحضري عن شخصيةِ الريفِ الزراعية والرعوية، قبلَ تقويض مدينية المدينة وتبعثرِ نسيجها الحضري في حروبِ صدام وفاشيتِه وسفهه، وجهلِ وعبثِ وفسادِ أكثرِ رجال السلطة من بعده.
كان امتحانُ البكلوريا ثقيلًا مملًا، مخيفًا ككابوس مرعب، أتطلع للخلاصِ منه كلَّ لحظة، في اليومِ الأخير للامتحانات عدتُ مبتهجًا إلى مقرِّ اقامتي، وجدتُ كلَّ كتبي ودفاتري المدرسية ممزقةً، ومهشمةً كلَّ لوازمي المدرسية وأقلامي بحقد عنيف، تحوّل ابتهاجي فجأة إلى اكتئاب أغرقني في كوميديا سوداء. لم يكن هناك عداءٌ معلنٌ بيني وبين أيِّ تلميذٍ من زملائي، لم أتحسّس أيةَ ضغينةٍ ضدي من أحد،كنا متفقين منسجمين متحابين في الظاهر، لكن ليس بالضرورة أن يكون ما يخفيه كلٌّ منا من مشاعر متفقًا مع ما يظهره، اكتشفتُ لاحقًا أن ما يخفيه كثيرٌ من الناس على الضدِ مما يعلنُه.
لم أكن في ذلك العمر قادرًا على فهم ما يختبيء في باطنِ كلِّ إنسان، وإن كان صغيرًا، من غيرةٍ ونفورٍ وغضبٍ وكراهيةٍ مضمَرةٍ لكلِّ منافس له،كلُّ إنسان يحاول التكتمَ لئلا يفتضح، وعادةً ما يعلن أكثرُ الناس المتنافسين احتفائهم بنجاحِ وتفوقِ زميلهم، وهم يضمرون غيضًا متقدًا، ينفجر أحيانًا لدى بعض الأشخاص الانفعاليين بتحريض وحتى عدوانٍ لا تُعرف دوافعُه ضدَّ الشخص الناجح، والأقذر عندما يتحول إلى مكائدَ خفية. لم أدرك أن هذه ضريبةٌ بسيطةٌ لنجاحي في المرتبة الأولى أو الثانية كلَّ سنوات دراستي، وعليّ أن أواصل دفعَ ضرائبَ شتى لـ “أعداء متطوعين” في كلِّ مراحل دراستي ومحطاتِ حياتي الآتية، لأن ضريبةَ نجاح ِكلِّ إنسان وانجازِه المميز باهضة.
التساؤلُ الذي كان يؤرقني في طفولتي: لماذا يكره الأطفالُ العصافيرَ والطيورَ الجميلة فيلاحقونها، ويقطعون رؤوسَها بأيديهم، وهم جذلون؟!
لماذا يكره الأطفالُ الكلابَ فيطاردونها بالحجارة، وربما يقتلونها؟!
لماذا يكره الأطفالُ كلَّ شيءٍ غريبٍ على محيطهم، فيرجمون السيارةَ الخشبية “اللوري”، وهي تسير بالحجارةِ ويهربون، مع أنه نادرًا ما كنا نرى سيارةً تصل قريتَنا النائية؟!
لماذا يكره الأطفالُ الأطفالَ؟!
تضخّم هذا التساؤلُ وتعمّق في مراهقتي وشبابي، كنت أقول: لماذا يكره الإنسانُ الإنسانَ؟!
هل يحتاج الإنسانُ الكراهيةَ أكثرَ من حاجته للمحبة، أم يحتاج الكراهيةَ كحاجته للمحبة، أم أن الكراهيةَ مرضٌ غريبٌ على البشر وليست حاجة؟!
لماذا لا تجدي نفعًا الكلماتُ الجميلةُ من رجالِ الدين والوعّاظ وغيرِهم في هجاءِ الكراهية والثناءِ على المحبة؟!
وقائعُ الحياة والعلاقات الاجتماعية تخبرنا أن الكائنَ البشري مثلما يحتاج المحبةَ يحتاج الكراهيةَ أيضًا، وأحيانًا يحتاج الكراهيةَ أكثرَ من المحبة، وهو ما نراه ماثلًا في حياتنا، بعضُ البشر يفرضون على غيرِهم كراهيتَهم، أحيانًا لا يحتمي الإنسانُ من نزعةِ الانتقام العنيفة لديهم إلا بالهروبِ والاختباءِ بعيدًا عنهم، ولو حاول أن يتسامح لن يجدي نفعًا تسامحُه معهم، لو حاول الصمتَ لن يصمتوا، لو حاول الاحسانَ لن يكفّوا. هؤلاء “أعداء متطوعون” لا خلاصَ منهم، يتسع حضورُهم في المجتمع باتساعِ انهيارِ منظومات القيم، وتفشي الجهل، والفقر، والمرض، والحروب العبثية.
يتحدث علماءُ النفس والأنثربولوجيا والاجتماع عن هذه الحاجة، ويكشفون عن جذورِها العميقةِ في الطبيعة البشرية، ويبحثون مناشئها في نوعِ التربية والتعليم، وشكلِ الثقافة والآداب والفنون، ودرجةِ التطور الحضاري، ومنظوماتِ القيم، ونمطِ عيش الإنسان وموقعِه الطبقي، والهويةِ الإثنية والدينية، وغيرها. الإبداعُ والابتكارُ والحضارةُ تعبيرٌ عن تفريغِ الكبت والكراهية في حياة الإنسان،كما يقولُ علمُ النفس الحديث.
عندما أنظر لأعماقِ النفس البشرية بمجهرِ علماء النفس، لا أرى في هذا الكائن ما يغويني بمحبته، وعندما أنظر لروح الإنسان بمجهرِ العرفاء والمتصوفة أرى شيئًا من النور يغويني بمحبته. أدركتُ أن الطبيعة البشرية ملتقى الأضداد، فعملتُ منذ سنواتٍ طويلةٍ على ترويضِ نفسي على الحُبّ، كان هذا الترويضُ شديدًا شاقًا منهِكًا، ولم يكن سهلًا أبدًا. الترويضُ على الحُبّ هو الأشق، خاصة مع “الأعداء المتطوعين”، لم أتجرعه إلا كعلقم، إلا أنه كان ومازال يطهرني من سموم الكراهية، وينجيني من أكثر شرور هؤلاء الأعداء.
سرُّ الحُبّ أنه لا يتحقّقُ إلا بالحُبّ
من يعجز عن إنتاجِ الحُبّ يعجز عن إنتاجِ معنىً للحياةِ، الحُبُّ أهمُّ منبعٍ لإنتاج المعنى في الحياة، مادام هناك إنسانٌ فإن حاجتَه لمعنىً لحياته تفوق كلَّ حاجة. لغةُ الحُبّ لغةُ القلوب، لغةُ القلوب لا تخطئ، لغةُ القلوب لا يمكن التشكيكُ في صدقها، يتذوقها بغبطةٍ وابتهاج مَنْ تفيض عليه حُبّك، ولا ينجذب إليك مَنْ لا يتذوقها منك.
بعضُ الناس عاجزٌ عن إنتاج الحُبّ، على الرغم من حاجته الشديدة إليه، ربما يكون عاطفيًا بلا حدود، ربما يمتلكُ حساسيةً فائقةً يفتقر إليها كثيرٌ من الناس. عجزُه عن إنتاج الحُبّ يعود لعقدٍ نفسيةٍ وعاهاتٍ تربوية وجروحٍ غاطسة في لا وعيه، تفرض عليه حياةً خانقة كئيبة، لا يمكنه الخلاصُ منها أو تخفيفُ وطأتها إلا بمراجعة مصحّ نفساني.
لا يمكن أن تُكرِه إنسانًا على الإيمان أو الحُبّ، فكما لا إكراه في الإيمان، لا إكراه في الحُبّ. الإيمان الحُبّ من الحالات، والحالات أشياء وجودية لا ذهنية، وكل ما هو وجود لا تطاله الأوامر والقرارات المفروضة من الخارج مهما كانت، لذلك لا تستطيع أن تُكرِه شخصًا على عدم الإيمان، أو تُكرِه عاشقًا على ترك معشوقه، مهما فعلت معه، حتى لو سلطت عليه أقسى أشكال التعذيب.
الحُبُّ كالضوء الذي يكشف عن كلِّ شيء ويُفسّره، غير أنه لا يحتاج إلى من يكشف عنه ويفسّره، وإن حاول أحدٌ تفسيرَه فهو عصيٌ على التفسير. الحُبُّ حالةٌ، والحالاتُ أشياء وجودية، كما أن مفهومَ الوجود واضحٌ، وحقيقتَه عصيةٌ على الفهم، هكذا الحُبّ مفهومُه واضحٌ، كنهُهُ مبهمٌ. ينطبق على الحُبّ قولُ ملا هادي السبزواري في بيان حقيقة الوجود، فمفهوم الوجود واضح جدًا، غير أن كنهه غاية في الخفاء:
مفهومُه من أعرفِ الأشياءِ وكنهُهُ في غايةِ الخفاءِ
مثلما يُعرفُ الوجودُ بآثاره ومظاهره وتعبيراته، يُعرفُ الحُبّ بآثاره ومظاهره وتعبيراته وثمراته في حياة الكائن البشري.
تعددت طرائقُ فهمِ الحُبّ وتفسيرِه وبيانِ آثاره المتنوعة على القلب والروح والضمير والعقل والجسد، فكلُّ فن وعلم يفسّره من منظور يتطابق مع الوجهة التي يتجلى له فيها، الحُبُّ لا يتجلى إلّا جميلًا مُلهِمًا. وكأن الحُبَّ مرآةٌ لا يرتسم فيها إلّا ما هو رؤيوي مضيء. الحُبّ محُبّوبٌ لكونه حُبًّا لا غير. الحُبّ حاجةٌ أبدية، وكلُّ شيء يحتاجه الإنسانُ بهذا الشكل لا يحتاج سببًا آخر غيره يدعوه للظفر به.
أشبع العرفاءُ الحُبَّ في كلّ الأديان بحثًا وتحليلًا، ومازال تحليلُهم لماهية الحُبّ هو الأسمى والأبهج والأعذب والأثرى، وهكذا أنشده الشعراءُ في قصائدهم وتغنوا فيه بغزلياتهم، ونهض بتفسيره الفلاسفةُ في علم النفس الفلسفي، واهتم بالكشف عن آثاره المتنوعة ومظاهره وتعبيراته في حياة الفرد والمجتمع، كلٌّ من: علماء النفس، والاجتماع، والأنثربولوجيا، والأخلاق، وأخيرًا قدّم له علماءُ الأعصاب والدماغ تفسيرًا بايولوجيًّا.كلُّ علم وفن يفسّره من منظوره، ويشترك الكلُّ في التشديد على عدم استغناء الإنسان عنه في أي مرحلة من مراحل حياته، وفي أية حالة يكون فيها، وفي أية محطة تصل حياتُه إليها. تظل الحاجة للحُبّ مزمنة، تولد مع الإنسان ولا تنتهي بوفاته، إذ يتطلعُ الإنسانُ في حياته إلى مَنْ يُخلِّد ذكراه بعد وفاته.
الحُبّ ليس صعبًا فقط، بل هو عصيٌّ على أكثر الناس، لا يسكن الحُبُّ الأصيل إلا الأرواحَ السامية، وكلَّ مَنْ يتغلّب بمشقةٍ بالغةٍ على منابع الكراهية والعنف الكامنة في أعماقه. حُبّ الإنسان من أشقِّ الأشياء في حياة الإنسان، لأن هذا الكائنَ ليس آليا، بل هو بطبيعته أسيرُ ضعفه البشري، يصعب عليه أن يتخلص من بواعث الغيرة في نفسه، وما تنتجه الغيرةُ من منافسات ونزاعات وصراعات، واستعدادات للشر، وما يفرضه الشرُّ من كراهياتٍ مختلفة، وآلامٍ مريرة في حياة الإنسان.
لا يكفُّ الإنسانُ عن الصراع مع غيره، ولا يتوانى عن اللجوء لمختلف أنواع العنف اللفظي والرمزي والجسدي مع خصومه، وإن كانت للعنف دوافعُه المختلفة، ولا عنفَ من دون أسباب ظاهرة او كامنة، لكن أحيانًا يلجأ الإنسانُ للعنف بلا أيّ سببٍ ظاهر يدعوه لذلك. أكثرُ الناسِ في مجتمعنا مشغولون بالحط من بعضهم البعض، حياتُهم تضج بالكراهية والأحقادِ والضغائن،كلُّهم جائعون للمحبة غيرَ أن أكثرَهم يعجزون عن إنتاجها.
يصعب جدًا بلوغُ الإنسان مرتبةً يصير فيها الحُبّ حالةً لا كلمة، الظفر بالحُبّ تجهضُه نزعةُ التعصب المترسبةُ في النفس البشرية، ويجهضُه التلذّذُ المضمَر غالبًا، الذي يتسلط على المرء من حيث لا يشعر، لحظةَ نكباتِ الغير وانكساراتِهم وآلامِهم وأحزانِهم.
الكلُّ يريد أن يحُبّه الكلُّ، ويكون محُبّوبًا للكلِّ، لكن الكائنَ البشري لا يتنبه إلى أنه لن يصبح محُبّوبًا للكلّ، ما لم يكن محُبّا للكل. لن يصيرَ الحُبُّ أصيلًا إلّا أن يصيرَ المرءُ مُحبًّا، العلاقةُ تفاعلية بين حُبّ الآخر لك وحُبّك للآخر. ليس هناك شيءٌ يُمنح مجانًا في الأرض، لن يحُبّك الآخرون مالم تحُبّهم، ولن يهبك الآخرون الحُبَّ، الذي هو أثمنُ عطاياهم، مالم تهبهم أثمنَ عطاياك. سرُّ الحُبّ أنه لا يتحقّق إلا بالحُبّ. لا علةَ للحُبّ إلّا الحُبّ، لا ينتج الحُبّ إلّا الحُبّ، لا ثمرة للحُبّ إلّا الحُبّ.
مادام الحُبّ أثمنَ ما يظفر به الإنسانُ وأغلاه، فإن نيلَه يتطلب معاناةً شاقةً وجهودًا مضنية. الطبيعةُ البشرية ملتقى الأضداد، الإنسانُ أعقدِ الكائنات في الأرض، وأغربِها في تناقضاته، وتقلب حالاته.
الحُبُّ حالةٌ لا تتكرّس إلا بالتربيةِ والتهذيب، ونحوٍ من الارتياض النفسي والروحي والأخلاقي، والتدريب المتواصل على تجفيف منابع الشر والعنف والتعصب والكراهية المترسبة في باطن المرء، والعملِ الدؤوب على اكتشاف منابع إلهام الحُبّ وتكريسها.
كلُّ فعلٍ يرتدُ على فاعله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. الحُبُّ أنجع دواء تحمي به نفسَك وتحمي به غيرَك من الآلام وشرورِ البشر. الحُبُّ يمكنُ أن يكونَ أجملُ دواءٍ لآلامِ القلبِ وجروحِ الروح، جربتُ الحُبَّ في مواقفَ متنوعةٍ فوجدت الحُبَّ يتغلّب على ضجيج كراهيةِ الأعداء، ويخلّصني من حقدِهم، ويعمل على فضحِ مكائدهم.كان ومازال الحُبُّ، كما جربته في حياتي، أنجعَ دواءٍ في شفائي وشفاء علاقاتي داخلَ العائلة والعمل والمحيط الاجتماعي من الأمراضِ التي تتسببُ فيها الكراهيةُ.
جربتُ ألا دواءَ يخفضُ الآثارَ الفتاكةَ للشر، ولا سبيلَ لتخفيفِ آلام الكراهية، ولا وسيلةَ لتقليل النتائج المرعبة للنزعة التدميرية في أعماق الكائن البشري سوى المزيد من الاستثمار في الحب، بالكلمات الصادقة، والمواقف الأخلاقية النبيلة، والأفعال المهذبة الجميلة، والاصرار على تجرّع مرارةِ الصفح والغفران، على الرغم من نفور المشاعر منهما.