الدراسات

الدين والدولة في المجتمعات الإسلامية

مقاربة في فض الاشتباك

المقدمة

يبدو طرح إشكالية العلاقة بين الدين والدولة في الفكر السياسي الإسلامي طرحاً تقليدياً؛ لأن هذا الطرح يعود إلى بدايات القرن العشرين([1])، ومنذ ذلك الحين، ورغم تعدد الإجابات والمساهمات، إلا أن السؤال لا يزال مطروحاً، وتزاد أهميته مع التداخل العالمي، والتشابك في مختلف القضايا السياسية والثقافية والاجتماعية بين شعوب وثقافات العالم.

فحالة اللا حسم التي ميَّزت الفكر السياسي الإسلامي في علاقته بمفهوم الدولة، والتي تتمثل في استمرار السؤال وطرح الاشكالية، وتخلف الإجابات النظرية عن مواكبة الواقع، تكشف عن خلل واضطراب بنيوي. فالفكر الإسلامي –بحسب الجورشي– “يتطور في بعض جوانبه وأطرافه، لكنه سرعان ما تحيط به أحداث محلية ودولية، تربكه من جديد، وتعيده أحيانا إلى سفح الجبل أو نقطة الصفر”([2]).

إلى أن جاءت أحداث ما بات يعرف بـ “الربيع العربي”، وما رافق هذه الأحداث من صعود ملحوظ للتيار الإسلامي من خلال قاعدته الجماهيرية العريضة وخطابه السياسي المطالب بتأسيس النظام السياسي وفقا للمرجعية الإسلامية. تزامنت هذه المطالبة مع دعوة البعض إلى فصل الدين عن الدولة، وعلمنة الدولة، وعقلنة التراث. هذا السجال أدَّى إلى اتساع رقعة المعركة الأيديولوجية والصراع السياسي والاجتماعي، وإحياء الجدل من جديد حول موضوع العلاقة بين الإسلام والدولة؛ فاستعاد البعض مواقفهم بالفصل التام بين الإسلام “كدين”، والدولة “كمنتج بشري”، بينما وقف آخرون مطالبين بالمزج التام بين الإسلام والدولة، مؤكدين أن الإسلام دين ودولة، ولا يمكن الفصل بينهما، ووقف آخرون في منتصف الطريق؛ متعللين بإشكالات عديدة، ومطالبين في الوقت  ذاته بتجديد بعض المفاهيم والمصطلحات وتغيير المضامين التي ترتبط بما يعنيه تأسيس نظام الحكم وصياغة الدستور وفق الرؤية الإسلامية.

والخطاب الإسلامي كطرف رئيس في هذا السجال يتحمل القسط الأكبر من المسؤولية؛ كونه يستمد روحه من تعاليم الإسلام، يتزامن ذلك مع تطلع المجتمعات العربية إلى خطاب إسلامي يساعد في الخروج من الأزمات، ويُمَكِّن للعرب والمسلمين في الاستقرار والسلام والمشاركة المقبولة والإيجابية في الفكر والسلام العالمي. وهذا ما يؤكد الحاجة إلى خطاب إسلامي جديد وشامل، يشارك فيه جميع الناس، بمن فيهم غير المسلمين؛ لأن الجميع على اختلاف اتجاهاتهم وانتماءاتهم يحتاجون إلى عقد اجتماعي وسياسي، يتيح لهم القدرة على الحياة بكرامة وعدالة وسلام. هذه الورقة ستناقش إشكالية العلاقة بين الدين والدولة في المجتمعات العربية، ومن ثم تقديم رؤية لمحاولة إيجاد حل لهذا الإشكالية في النقاط الآتية:

  • جذور الإشكالية:

بدأت إشكالية العلاقة بين الدين والدولة من منطلق الخوف على الهوية الإسلامية لدى الإسلاميين، والشعور بالذنب على ذهاب الخلافة الإسلامية، ومن ثم محاولة استعادة ما يمكن استعادته تحت مسمى “الدولة الإسلامية” بحسب توصيف حسن البنا([3]). في الطرف الأخر، يقف (فرح أنطون 1874م – 1922م وآخرون) داعين إلى الفصل بين الدين والدولة، باعتبار هذه الدعوة “أهم المبادئ التي ينبغي تحقيقها، وصولاً إلى تطوير المجتمع والدولة”([4]). يعود السبب الرئيس في دعوة (أنطون) –بحسب رضوان السيد- “إلى النقاشات التي تجدَّدت في فرنسا، بشأن ضرورة فصل الدين عن الدولة، مع إضافة قَدّر من العدوانية تجاه الدين والمتدينين. ولأن فرنسا كانت بالنسبة لفرح أنطون رمز التقدم والحداثة والعصرية، فقد رأى ضرورةَ تقليدها في عملية الفصل هذه”([5]). فيرى (أنطوان) أن “الأمم بعد تكونها وتمدنها لا تتوقف على الدين بل على العلم، وأن الأمم المخالفة أو الوثنية كاليابان، إذ سلكت سبيل العلم والنواميس الطبيعية ارتفعت مدنيتها على كل مدنية، حتى مدنية الذين يعملون بقواعد الإنجيل والقرآن حرفاً ومعنى دون أن ينشغلوا بالعلم”([6]). فمع تأكيده على ضرورة العلم ووضع الدين جانباً، إلا أن ذلك لا يعني التخلي عن الاسترشاد بمبادئه. يقول: “ومتى يعمل جميع البشر بفضائل أديانهم بإخلاص وتركوا ما بقي، فقد صارت الأديان كلها ديناً واحداً، وهو دين الفضيلة”([7]).

ولتحقيق هدفه، حاول (أنطون) استعارة مفردات ابن رشد؛ ليوجد إطاراً عقلانياً مألوفاً للفكر الإسلامي، وأيضاً لجعل رؤيته مقبولة لدى معاصريه من المسلمين، فاستطاع –وفقاً لهشام شرابي– “في غموض وصبر أن ينسج حجة اثر حجة في (الجامعة) ليثبت أن الله وبرغم كونه غير معروف ممكن الاتصال به، وهكذا سأل مستعملاً كلمات ابن رشد “كيف يمكن الإنسان أن يصل إلى معرفة الله؟”. فأجاب ليس بالصلاة والتعبد بل بالدراسة المتصلة والبحث لكشف سر الوجود”([8]).

تصدَّر لدعوة ومقالات فرح أنطون، مفتي مصر وقتها الشيخ محمد عبده([9])، فرأى “أن فرح أنطون كان ظالماً للإسلام، سواءٌ لجهة قوله بالتناقَض بين الإسلام والعلم، أو لجهة قوله إن الإسلام مُعيقٌ للتطوير السياسي. ذلك أن العلومَ ازدهرت ازدهاراً عظيماً في ظل الإسلام، وبتشجيعٍ منه. كما أن الدولة في الإسلام ليست كهنوتية، بخلاف ما كان عليه الأمر في المسيحية”([10]). ورغم الطابع الجدالي في النقاش بين الرجلين، فقد كان مفيداً حيث طوَّر الشيخ محمد عبده أُطروحة الدولة المدنية في الإسلام([11]).

تطوَّر بعد ذلك الخلاف بين الطرفين، حيث اتجه الطرف الثاني -الداعي إلى عدم الفصل بين الدين والدولة- إلى تدعيم قناعاته على اعتبار وجوب تأسيس الحكم والنظام السياسي على أساس الإسلام، وقد امتلأت المكتبة الإسلامية بعشرات الأبحاث والكتب التي تدعم هذا التوجه، منها: كُتب أبي الأعلى المودودي، في (نظرية الإسلام السياسية)، وعبدالقادر عودة، في (الإسلام وأوضاعنا السياسية)، ومحمد المبارك، في (نظام الإسلام والحكم والدولة)، والإمام الخميني، في (الحكومة الإسلامية)، والشيخ تقي الدين النبهاني، في (نظام الإسلام)، وغيرهم.

بيدَ أن ما قدمه أنصار الطرف الثاني من أدلة، حاول الطرف الأول تفنيدها ومصادرتها، وذلك بالعودة إلى تأويل النصوص الإسلامية، وقراءة هذه النصوص قراءة تاريخية ظرفية، عبوراً على قنطرة التأويل والاجتهاد المفتوح. فـ “نشأة الدولة في الإسلام -وفقاً لهذا الرأي- كان أساسها الملك وليس الدين، وأن شكل الحكم في العصر الحاضر متروك للمسلمين؛ لأنه لم يرد فيه نص قرآني”([12]).

هذا التوجه تبناه قديماً بعضُ المعتزلة، كعبدالرحمن بن كيسان الأصم، الذي قال بأن الدينَ لا يوجب نصب الحكام، وأن الناس يمكن أن يتركوا على حالة الطبيعة([13]). وحديثاً علي عبدالرازق في (الإسلام وأصول الحكم)([14])، ومحمد أحمد خلف الله في (مفاهيم قرآنية)، و(القرآن والدولة) وجمال البنا في (الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة) وغيرهم. والبعض يقترب نسبياً من هذا التوجه كبرهان غليون في (نقد السياسة)، حيث يقول: “أما الإسلام فقد انطلق من موقف مشابه للموقف المسيحي الإنساني والعالمي، فجعل من الهداية إلى طريق الله والدعوة لدينه والشهادة في سبيله، رسالته الجوهرية”([15]).

وعند استعراض جورج طرابيشي للاتجاهات التي تمايزت وتباينت في تحديد العلاقة بين الدين والدولة يقول: “ثمة صيغتان كبيرتان، تتسع كل منهما لتمايزات وتباينات في الجزئيات: فإما أن تكون الروابط موصولة وموثوقة بين الدولة ودين بعينه يحكمها، (وتلك هي التيوقراطية، أو الحكومة الدينية)، أو تدعمه وتقوده وتلك هي (الدولة الطائفية)، وإما أن يكون بين الدولة والدين انفصال متفاوت في حدِّيته، بحيث لا تتدخل الدولة في مسائل الدين، ولا تمارس الطوائف الدينية أي تأثير مباشر على الشؤون العامة، والعلمانية على تعدد الأشكال التي يمكن أن تتظاهر بها، تقوم على نظام الفصل والتفريق هذا”([16]). ثم يضيف طرابيشي أن “ثمة إمكانية لصيغة ثالثة، ولكن يبدو أن صفحتها طويت نهائياً مع سقوط الشيوعية، وهي إعلان الدولة لإلحاديتها والتزامها بمكافحة كل أشكال الدين، وهو التزام يمثل بحد ذاته شكلاً جديداً من أشكال الدين”([17]). وعند ناصيف نصَّار أن العلاقة بين الدين والدولة، أو بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، لها خمسة أشكال رئيسية، هي: “الاندماج، الإنكار، والتحالف، والاستبعاد، والاستقلال”([18]).

  • تحرير الإشكالية :

رغم أن المسألة السياسية في الإسلام أخذت حيزاً كبيراً –وفقاً لعبد الإله بلقزيز- وذلك من خلال تجربة الإسلام التاريخية، وخاصة في عهده الأول، وهذا يمكن تلمُّسه من خلال ما فرضته مضامين عديدة في رسالة الإسلام، مما استوجب وجود جماعة سياسية وسلطان سياسي يعزز تلك الجماعة، ويكون ناطقاً باسمها، ولا يمكن إغفال أن المسألة السياسية فرضت نفسها على المسلمين منذ اليوم الأول لوفاة النبي القائد صلى الله عليه وسلم([19]). إلا أن النص القرآني للمسلمين “قدم مدونة تفصيلية من التشريعات تشمل معظم مناحي حياة الاجتماع الإسلامي من التجارة والبيوع والعقود، … لكنه لم يقدم تشريعاً خاصاً للمسألة السياسية يرسم إطار السياسية والسلطان، ويحدد وظائفهما ويُرسي قواعدها على مقتضى نصوص وتعاليم صريحة التعريف والتعيين. وقد كان لذلك الفراغ التشريعي آثار بعيدة المدى في رؤية المسلمين للسياسية ونصاب السلطة في اجتماعهم الإسلامي”([20]). كل ذلك أدَّى إلى تباين الآراء تجاه هذه القضية، ويمكن تلخيصها واستعراضها ومناقشة أدلتها في اتجاهين رئيسيين:

  • الإسلام دين لا دولة:

تعود فكرة الإسلام دين لا دولة، أو فصل الدين عن الدولة -كما تمت الإشارة إليها سابقاً– إلى المعتزلة، لكنها تبلورت –بشكل واضح- منذ بدايات القرن العشرين على أثر معركة فكرية أثارها كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ الأزهري علي عبدالرازق، الذي تزامن صدوره عام 1925م، مع حدث إلغاء الخلافة العثمانية، على يد النظام التركي القومي الجديد بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، (3 مارس 1924م). ومن الأحداث الشهيرة بمصر في ذلك التاريخ، ذلك المؤتمر الذي أقيم باسم (المؤتمر الإسلامي العام للخلافة)، والذي أصدر مجلة (الخلافة الإسلامية) كي تدعو إلى مبايعة أحد الملوك بخلافة المسلمين، وقد كان الحكم الملكي في مصر ممثلاً بـ (الملك فؤاد) يتطلع إلى الخلافة([21]). إذ جاء كتاب علي عبدالرازق (الإسلام وأصول الحكم) رداً على من جعل الخلافة واجباً دينياً، وأصلاً من أصول الحكم، ولقطع الطريق على تطلع العرش المصري لتنصيب نفسه خليفة للمسلمين.

كان عبدالرازق على وعي بإشكالية العلاقة بين الدين والدولة، وعلى وعي بالآفاق الحديثة للدولة المعاصرة. ومن هنا، فقد كان كتابه -وعلى ما جاء به من أفكار أصيلة وجديدة- قد مَثَّل إعلاناً عن تفجير المعركة الفكرية والسياسية داخل الاجتماع الإسلامي التقليدي([22]). فيؤكد علي عبدالرازق أن “الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيئوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة. والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرها من وظائف الحكم، ومراكز الدولة؛ وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يَعرِفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم، وقواعد السياسة”([23]).

وفي مسألة العلاقة بين (الحكومة والإسلام)، أو (الرسالة الدينية والحكم)، يقول عبدالرازق: “إن الرسالة شيء، والملك شيء آخر، وأنه ليس بينهما شيء من التلازم بوجه من الوجوه، … فكم من ملك ليس نبياً ولا رسولاً، وكم لله -جل شأنه- من رسل لم يكونوا ملوكاً، … ولا نعرف في تاريخ الرسل من جمع الله له بين الرسالة والملك إلا قليلاً”([24])، ثم يذهب إلى أن الإسلام رسالة لا حكم، ودين لا دولة، حيث يؤكد: “بأن محمد -صلى الله عليه وسلم- ما كان إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة، … وأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الذي يُفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها، ما كان إلا رسولاً كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكاً ولا مؤسس دولة، ولا داعياً إلى ملك”([25]).

استمرت فكرة الإسلام رسالة لا حكم، ودين لا دولة، عبر عدد من المفكرين الذين يستندون في أقوالهم إلى النصوص الدينية، منهم على سبيل المثال: جمال البنا صاحب كتاب “الإسلام دين وأمة، وليس ديناً ودولة”، والكتاب الذي تمت الإشارة إليه سابقاً لمحمد احمد خلف الله، بعنوان “مفاهيم قرآنية”. والذي عمل على تدعيم آراءه بآيات قرآنية، سبق وأن ذكر بعضا منها الشيخ على عبدالرازق، تشير إلى مهمة الرسول -صلى لله عليه وسلم- هي إبلاغ رسالة الله تعالى إلى الناس دون سيطرة أو إكراه، قال تعالى: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ ]سورة المائدة: 5/99[.وقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ ]سورة النساء: 4/80[([26]).

ويؤكد برهان غليون أن الإسلام “لم يفكر بالدولة، ولا كانت قضية الدولة من مشاغله، … ولم يتحدث عن السياسة، أو يقدم رأيه فيها، وليس هذا تقصيراً من الإسلام في حق المسلمين، وفي حق شأن من شؤونهم، إنه يعكس جوهر رسالة الإسلام، حيث لم يَعِد القرآنُ العربَ أو المسلمينَ بدولة، ولا أثار حماسهم بالحديث عن منافعها وخيراتها، ولكنه وعدهم بالجنة”([27]).

فالإسلام ليس له علاقة بالدولة -وفقاً لهذا التصور– كما أن الدعوة ليست من شأن الدولة، فوظيفة الدولة تقوم في التشريع لصالح شعبها، وصيانة القانون والنظام، وتوفير العدالة. فالدولة –إذاً- تشييد تاريخي وشأن مدني، وليست مفهوماً دينياً، بما فيه الدولة الإسلامية التي قامت كحاجة تاريخيه وليست دينية.

  • الإسلام دين ودولة:

ينطلق أنصار هذا الرأي من أن أهمية الإسلام تتمثل في تأثيره القوي في مختلف مجالات الحياة في المرحلة الراهنة، كقوة سياسية وعقدية وروحية. فالإسلام منذ البداية كان أكثر من ديانة بالمعنى الضيق للمعتقدات والطقوس وضوابط السلوك، إنه نظام سياسي واجتماعي شامل، حيث شؤون الحاضر لا تقل أهمية عن شؤون المستقبل. فالإسلام، في حقيقته العقيدية والتاريخية، نظام كلي شامل، لا يفصل الدين عن الدولة، وليست ثمة ناحية في حياة المسلم لا ينظمها بالتشريع أو بالتوجيه.

ازداد هذا الأمر وضوحاً مع انهيار الخلافة الإسلامية، والدعوة إلى العلمانية([28])، حيث تأسست بعض الحركات الإسلامية أبرزها حركة الإخوان المسلمين، مؤكدةً على أن الإسلام نظام شامل، كما يُصَوّر ذلك مؤسسها الإمام حسن البنا، بأن الإسلام “عقيدة وعبادة, ووطن وجنسية, ودين ودولة, وروحانية وعمل, ومصحف وسيف”([29]). وهذا ما جعله يركز أكثر على مصطلح (النظام الإسلامي)([30])؛ لتعميم فكرة شمولية الإسلام لكافة مناحي الحياة. ويمكن إجمال أبرز المنطلقات التي انطلق منها أنصار هذا الرأي لتعزيز فكرتهم من خلال الآتي:

  • أولاً: الحاكمية لله: وتعني عند عبدالكريم زيدان: “أن مصدر الأحكام في الشريعة الإسلامية هو الله تعالى وحده”([31]). وعند الآمدي أنه “فلا حاكم سوى الله تعالى، ولا حكم إلا ما حكم به”([32]). ويقول الشاطبي: “فالشريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه –يقصد النبي صلى الله عليه وسلم-، وعلى جميع المكلَّفين، وهي الطريق الموصل والهادي الأعظم”([33]). ويقول أبو الأعلى المودودي: “إن الدولة الإسلامية، دولة شاملة محيطة بالحياة الإنسانية بأسرها، وتطبع كل فرع من فروع الحياة الإنسانية بطابع نظريتها الخلقية الخاصة، وبرنامجها الإصلاحي، فليس لأحد أن يقوم في وجهها، ولا يستثني أمراً من أمورها، قائلاً أن هذا أمر شخصي خاص؛ لكي لا تتعرض له الدولة”([34]). مؤكداً بأن “أساس هذه الهيمنة والإحاطة التامة، إنما هو القانون الإلهي الجامع الواسع الذي وكل إلى الحاكم المسلم وتنفيذه في الناس”([35]). ثم يُعَرِّف الدولة الإسلامية بأنها: “الدولة التي تتسم بخصائصَ ثلاث: السلطة الحقيقية في الدولة لله تعالى، وليس لأحد من دون الله شيءٌ من التشريع، وتحكم بما أنزل الله”([36]).

وتستند فكرة الحاكمية إلى آيات من القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾ ]سورة المائدة: 5/44[، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ ]سورة المائدة: 5/45[، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ ]سورة المائدة: 5/47[، وقاله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ ]سورة المائدة: 5/50[([37]). فالجاهلية عند محمد قطب أن “تكون الحاكمية للبشر مع اللـه، بخلط شيء من التشريع الإلهي مع شيء من التشريع البشرى، أو من دون اللـه، بنبذ التشريع الرباني جملة، واتخاذ شرائع كلها من صنع البشر، سواء كان البشر فرداً حاكماً بأمره، أو فرداً حاكماً بمشورة طائفة غيره من البشر، أو كانوا كل البشر على السواء”([38]).

  • ثانياً: وجوب إقامة الدولة الإسلامية: يعتقد أنصار هذا الرأي أن إقامة الدولة الإسلامية من واجبات الدين، باعتبار أن فكرة الدولة الإسلامية تنطلق من مفهوم أن الإسلام دين إصلاح اجتماعي متكامل، فهو ليس نظاماً تعبدياً فقط، بل هو نظام شامل تربوي، سياسي، اقتصادي، وبالتالي فإن الحق الذي جاء به الإسلام لابد له من قوة تحميه؛ ألا وهي الدولة([39]). وقد وردت العديد من الأدلة في الكتاب والسنة والإجماع على وجوب إقامة الدولة، منها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ ]سورة النساء: 4/59[. فإذا كانت طاعة الرعية لولي الأمر واجبة، فإن ذلك يقتضي حتماً إقامة ولي الأمر؛ لأنه –كما يقول الغزالي-: “إن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب”([40]). وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، …”([41]).
  • ثالثاً: السنة الفعلية والتطبيق العملي: فليس ثمَ شك في أنّ النبي–صلى الله عليه وسلم- قد أقام دولة المدينة، وأقام الحكم في المدينة ووضع فيها دستور الأمة، وباشر فيها اختصاصات لا يباشرها اليوم إلا الرئيس الأعلى في الدولة. وعند وفاته -صلى الله عليه وسلم- كان أول ما شغل الصحابة هو أن يختاروا خليفة؛ ليقوم بمهام القيادة ورعاية شؤون الأمة، حتى أنهم قَدَّموا ذلك على دفن الرسول صلى الله عليه وسلم، فبادروا إلى بيعة أبي بكر الصديق –رضى الله عنه- وتسليم النظر في أمورهم إليه. يقول القرضاوي: “وبهذا الإجماع التاريخي ابتداءً من الصحابة والتابعين استدل علماء الإسلام على وجوب نصب الإمام الذي هو رمز الدولة في الإسلام وعنوانها”([42]).
  • رابعاً: دليل العقل والضرورة: فالإسلام ليس مجرد عقيدة دينية فحسب، بل هو -أيضاً- نظام اجتماعي وسياسي، لا يقبل الوجود والاستمرار بغير دولة تُعَبِّر عنه وتفرض أحكامه. وهذا ما عبَّرت عنه التجربة النبوية في بناء الدولة في المدينة بعد الهجرة إليها. وفي هذا يقول محمد المبارك: “إن الدولة ضرورة في الإسلام؛ لأن تنفيذ أحكام هذا القرآن ممتنع من دون دولة، بما فيها أحكام الزكاة والحدود وسواها، ولأن المفهوم الاجتماعي في القرآن لابد له من إطار اجتماعي كي يتحقق، وهو الدولة الإسلامية، ثم لأنّ النبي نفسه قد أقام دولة”([43]). والغنوشي يؤكد على ضرورة إقامة السلطة (الدولة) في الإسلام، على اعتبارها جزءاً منه، وأن هذه السلطة تُعتبر وظيفة أساسية لقيامه، وهي وسيلة لا غنى عنها([44]). وعليه -وبحسب القرضاوي- فإن الإسلام بحاجه إلى دولة وحكم؛ لأكثر من سبب، وأكثر من موجب([45]).

 

  • مقاربات وحلول

من خلال ما سبق، ومن التجاذب الحاصل بين الاتجاهين أو الرأيين السابقين، يمكن إدراك أن جدلية العلاقة بين الدين والدولة، أو بين الديني والسياسي، إشكالية معرفية وسياسية؛ مما فرض نمطاً من المعالجات التوظيفية، سواء من قبل الساسة، أو من قبل المثقفين وقيادات الأحزاب السياسية والحركات الإسلامية.

من هذا المنطلق، يمكن الاعتماد والبناء على أطروحة بعض المفكرين كالدكتور محمد عمارة، والدكتور سعد الدين العثماني، وغيرهم، في تتبعهم لسيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، والخروج برؤية تقتضي التمييز بين المجال الديني والمجال السياسي في حياته صلى الله عليه وسلم

  • العيش المشترك: (القرآن دستور المؤمنين، وصحيفة المدنية دستور الدولة)

فمع وصول الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، بدأ مرحلة جديدة، تمثلت في إرساء قواعد الدولة، وبناء مجتمع الجديد، وكانت أبرز مهامه –صلى الله عليه وسلم– “بناء المسجد، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وكتابة الصحيفة”([46]).

ونظراً لوجود أناس من غير المسلمين في المدينة (الدولة الجديدة)، فقد وافقوا على أن يدخلوا في الدولة الجديدة كجزء من رعاياها السياسيين، مع احتفاظهم بحرية الاعتقاد الديني. فتلونت الرعية السياسية للدولة الجديدة والتي كان الرسول صلى الله عليه وسلم قائد حكومتها، ومن أجل ذلك، وليتمكن الرسول القائد من إدارة شئون الدولة والرعية، وضع دستورا بلغت مواده نحو خمسين مادة، ينظم فيها شئون الدولة في السلم والحرب وفي التعاون الأدبي والإنفاق المادي، وفيما يخص كل قبيلة، وما هو عام في الرعية السياسية الجديدة، والكثير من القضايا التي تهم رعايا هذه الدولة، وقد دعيت هذه الوثيقة بالصحيفة أو الدستور([47]).

مثَّلت هذه الوثيقة نسقاً لتعددية الاجتماع في ظل الدولة، فقد أعلنت -وفقاً لرضوان السيد- عن “قيام جماعة سياسية وليس جماعة دينية، وإلا فما معنى وجود اليهود بينهم؟. ولا شك أن النبي كان هو الزعيم لهذه الجماعة السياسية، ليس لأنه نبي؛ فاليهود لا يعترفون بنبوته، بل لأنه رئيس تلك المجموعة القبلية والاجتماعية التي ذكرها الكتاب”([48]). فقد حددت وثيقة المدينة التمايز بين العقيدة والسياسية، بجعل السياسة (الدولة) مشتركاً جامعاً وحاضناً لكل أبناء الوطن (المدينة)، وجعل العقيدة نظاماً ثقافياً لكل من يؤمن بها. ووفقاً لمحمد عمارة أن “التراث التاريخي الإسلامي ميَّز من واقع التجربة بين (أمة الدين)، و(أمة السياسة)، فأُمة الدين هي: المؤمنون بدين الإسلام، أي الجماعة المصدقة بأصول الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة -في عقيدة الإسلام كدين- أخص من أمة السياسة في دولة الإسلام كحضارة وتاريخ، أما أمة السياسة فهي: جماعة المواطنين التي تربطهم علاقة المواطنة في الدولة الإسلامية، وإن تفرقت بهم الديانات التي يؤمنون بها. وهذه الجماعة والأمة أعم من جماعة المؤمنين بالإسلام وأمتهم. فبينما كان القرآن الكريم هو الدستور الديني للجماعة المؤمنة بالإسلام، كان لجماعة المواطنين أي للأمة بالمعنى السياسي في هذه الأمة دستور سياسي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم في حينه، وكذلك سماه الناس والمؤرخون بالصحيفة وتارة بالكتاب”([49]).

فالدولة في الإسلام، “هي جهاز إداري وسياسي, لمجتمع متعدد في الدين والمشرب السياسي والاجتماعي والثقافي, ولذلك فهي تنظر إلى رعاياها على قدم المساواة، وعلى قدم الالتزام، …”([50]). فلا توجد إشكالية –وفقاً للفقيه وهبة الزحيلي– بين الإسلام بوصفه شريعة ونظاماً أو قانوناً في ديار الإسلام وغيره، وبين النظام الديمقراطي الغربي، ولو كان علمانياً في بلد غير إسلامي، لأن العلمانية لا تعني في حقيقتها معاداة الدين أو محاربة الأخلاق والقيم العليا، وإنما تعني ضرورة وجود ما يسمى بالوحدة الوطنية في القضايا العامة بين جميع المواطنين([51]).

فحيادية الدولة في الإسلام، لا تعني أنها ضد الدين أو لا تأبه له, بل إنها لا تتعصب لدين مواطن ضد دين مواطن آخر, لذلك يرى الدكتور حسن حنفي، أن “الإسلام دين علماني منذ البداية، علمانيته معطاة من الداخل بوضع إلهي وليست مكتسبة من الخارج بجهد إنساني”([52]). فالعلمانية تعني عنده “رفض سلطة رجال الدين”([53]).

كما أن العلمانية نفسها وفقاً لبرهان غليون، “لا تَفْتَرض ولم تُفْتَرض في أي مكان، فصل الدين عن السياسة، أو المعارضة في قيمها، فقيم السياسة لا يمكن أن تصدر عن شيء آخر غير معتقدات المجتمع وإيمانه، وإلا أصبحت السياسة نفياً لهويته الوطنية. إنها التمييز بين مهام رجال الدين ومهام رجال الدولة”([54]).

  • الدين والسياسة (تمييز لا فصل)

أقر التصور الإسلامي بنوع من التمايز بين المجال السياسي بما هو شأن دنيوي، يدور على جلب المصالح ودرء المفاسد، وبين المجال الديني وبالخصوص التعبدي، مما لا سبيل إليه في كلياته وجزئياته غير سبيل الوحي من عقائد وشعائر، وشأن هذا ومرجعه ما ثبت بنص يقيني الثبوت وروداً ودلالة، ولذلك ميَّز الفقهاء والأصوليون بين مجال العبادات، والأصل فيه التقيد بالنصوص الواردة، وبين مجال المعاملات، والأصل فيه البحث عن العلل والمقاصد والمآل، إذ الحكم يدور مع العلة.

ومن هنا ميَّز الأصوليون في عمل الرسول عليه السلام بين مهمته الرسالية التبليغية([55])، وبين ما يخرج عن ذلك من نشاطه السلطاني قاضياً ومحارباً ومفتياً وزوجاً …إلخ. فالملزم للمسلمين يقتصر على الجانب الأول، أما الجانب الثاني فيندرج ضمن الاجتهاد أو لنقل ضمن السياسة. وكان الصحابة عندما يلتبس عليهم الأمر يسألون: أهذا الأمر وحي أم رأي؟ أي سياسة. فإذا كان الأول قالوا سمعنا وأطعنا، وإذا كان من الصنف الثاني أعملوا رأيهم حتى وإن خالف رأي النبي عليه الصلاة والسلام.

ومن أشهر الأصوليين الذين اعتنوا بهذا الموضوع، وقاموا بتحليل تصرفات النبي -صلى الله عليه وسلم- تحليلاً فقهياً: العز بن عبدالسلام (577ه – 660ه)، في (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) ([56])، وشهاب الدين القرافي (626ه – 684ه)، في (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام) وكتابه الآخر المشهور بالفروق([57])، والعلامة محمد الطاهر بن عاشور ( 1879م – 1973م) في (مقاصد الشريعة الإسلامية)([58])، وعلال الفاسي(1910م – 1974م)، في (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها)([59])، والدكتور سعد الدين العثماني في (تصرفات الرسول بالإمامة) ([60]).

إن القرارات والسياسات التي نهجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إطار الدولة التي أنشأها في المدينة، والتي يدخل معظمها في باب التصرفات بالإمامة، كانت تشريعاً خاصاً، بمعنى أنه “تشريع مرتبط بزمان أو مكان أو أحوال أو أفراد معينين، وليس عاماً للأمة كلها. والتصرفات النبوية التشريعية الخاصة ملزمة لمن توجهت إليهم فقط، وليس لغيرهم”([61]). وأهم سمات هذه التصرفات، أنها تصرفات تشريعية خاصة، مرتبطة “بتدبير الواقع وسياسة المجتمع، فهي خاصة بزمانها ومكانها وظروفها”([62]). فالتمييز الأصولي بين تصرفات النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطي إمكانية كبيرة لبناء تصور فكري يؤصل للتعددية، ليس فقط السياسية منها، وإنما أيضاً التعددية الاجتماعية والفكرية.

والأمثلة على هذا تصرفات الرسول –صلى الله عليه وسلم– بالإمامة كثيرة، أورد بعضها الدكتور العثماني في كتابه “فقه الدين والسياسة تمييز لا فصل”، منها: عن عائشة رضي الله عنها قالت: دفّ ناس من أهل البادية حضرة الأضحى زمان رسول الله –صلى الله عليه وسلم– فقال النبي عليه الصلاة والسلام: “ادخروا لثلاث وتصدقوا بما بقي”، قالت: فلما كان بعد ذلك قيل: يا رسول الله، لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم يجعلون منها الودك، ويتخذون الأسقية، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: “إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت حضرة الأضحى فكلوا وتصدقوا وادخروا”([63]). يعلق العثماني بالقول: “وليس الحكم الجزئي هو المهم هنا، ولكن المهم هو منهج التعامل مع الواقع، والأهداف التي يجب العمل لتحقيقها فيه، ويمكن اتخاذ نفس الإجراء في حالة وجود ظروف غذائية أو تموينية مماثلة، أيّاً كان سببها”([64]).

هذا التمييز جعل الصحابة –رضوان الله عليهم– “يشاركون في صناعة القرار إلى جانب النبي –صلى الله عليه وسلم- حين لا يكون القرار إنفاذاً لحكم نص قرآني، بل اجتهاداً من قيادة المسلمين”([65]). ومن ذلك ما رواه ابن اسحاق من أن النبي –صلى الله عليه وسلم– أخذ برأي الحباب بن المنذر –رضي الله عنه– حول موقع الماء الذي ينبغي أن ينزل به المسلمون في بدر، خلافاً للموقع الذي سبق وحدده الرسول سلفاً. فقد كان الحباب يسأل النبي قبل أن يقدم رأيه: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزَلَكَهُ الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟. فأجابه البني: “بل هو الرأي والحرب والمكيدة”([66]).

تكمن أهمية هذا التمييز بين المجالين، فيما يلي:

  • أولاً: ليس كل ما ورد في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام من الأعمال والأقوال والإقرار سنة تشريعية أي ملزمة للمسلمين، الملزم منها ما جاء بوصفه التبليغي.
  • ثانياً: هذا التمييز سمح -عبر تاريخ الإسلام- بتبلور مؤسستين: الأولى، سياسية هي الدولة. والثانية، دينية يقوم عليها العلماء، تهتم بأمر تفسير النصوص والإفتاء والتعليم والوقف وما إلى ذلك.
  • ثالثاً: قيام بعض أشكال حيادية الدولة، بمعنى دولة لا تتدخل في الشأن الديني تفسيراً عقدياً تفرضه على الناس، وكانت تلك خلفية انتفاضة الإمام أحمد ابن حنبل ضد ما أراده المأمون من فرض تصور عقدي على المسلمين، أو مذهب ديني وحيد تتبناه الدولة وتحارب غيره. فهذه الحادثة وفقا لفهمي جدعان “لم تكن إلا وجهاً لجدلية الديني والسياسي”([67]).
  • رابعاً: لم يتح هذا التمييز فقط وجود مذاهب إسلامية متعددة داخل الدولة، وما يستتبع ذلك من وجود أنظمة ومحاكم قضائية متعددة، بل أتاح أيضاً تعايشاً خصيباً بين الإسلام بمذاهبه المختلفة، وبين الإسلام والديانات الأخرى على تنوعها.
  • خامساً: أتاح التمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي، إمكانية المعارضة للدولة في تاريخ الإسلام، باعتبار الدولة كياناً بشرياً يرد على سلوكه الصواب والخطأ. غير أن التقصير في التاريخ الإسلامي كان فادحاً في تنظيم هذا المجال الشوروي تنظيماً مدنياً يفسح مجالاً للاعتراض على الحاكم وتغييره دون الخروج المسلح. هذا التنظيم المدني للشورى هو ما أنجزه العقل الغربي عبر آليات الديمقراطية، ويمكن بل يجب الإفادة من قدراته التغييرية الهائلة التي نقلت الرجل الأسود من العبودية إلى قمة الهرم ودخوله البيت الأبيض دون إهراق قطرة دم واحدة. بينما التأخر في تنظيم عملية الشورى، منع الدولة الإسلامية من التحول إلى نظام سياسي مدني بعد عهد الراشدين. كما أثر التقصير في تنظيم عمليات الشورى كثيراً في مسارات الفكر السياسي الإسلامي خصوصاً عميات انتقال السلطة.

–  استنتاجات

تقف هذه الرؤية التمايزية في (الوسط)، فهي لا تدمج الدين بالدولة، كما مر سابقا، ولا تفصل بين الأمرين، نظراً لوجود الرابط الوثيق بين مفهومي الدين والدولة، وفقاً للترابي، فـ “الإسلام يُخصص جزءاً كبيراً من تعاليمه لتوضيح العلاقة بين الفرد والسلطة، وبين الأفراد أنفسهم، وأن هذه العلاقة يجب أن تستند إلى العقيدة الإسلامية في التشريع والإدارة والحكم”([68]).

هذا الرؤية التمايزية تؤكد على أن الممارسة السياسية تدور بين الخطأ والصواب في التقدير، وليس بين الحق والباطل، إذ أن من مقتضى هذا الاعتبار، سحب مجموعة من المفردات العقدية من ساحة الممارسة السياسية، والتي من شأنها أن تقرب وجهات النظر المختلفة في علاقة الدين بالدولة. فهذا التمييز بين السياسة والدين يُؤسس لأرضية الاعتراف بالآخر، والاعتراف بحقه في النظر والتقدير المصلحي، والإسهام في تحريك الفعل السياسي، وتقديم المبادرة السياسية. فترك مجال التقدير في السياسة للنظر المصلحي، يعني أن كلاً من الإسلاميين والعلمانيين يملكون النظر في مكونات الواقع السياسي وبنيته، ويملكون إبداع ما يرونه مناسباً من وسائل وخطط وبرامج لمقاربة العدل والمصلحة والخير. فالإسلام -وفقاً للأنصاري- “وإن لم يفرق في نظامه الشامل بشكل قاطع بين الدنيا والآخرة، فإنه يميز قطعاً بين حقوق الله وحقوق الإنسان، بين حاكمية الله في الكون، وإمرة الإنسان في شؤون دنياه. وما لم يتأكد هذا الفصل المبدئي ومفهومه في الفكر واللغة، فإن الطريق المسدود للجدل العقيم بين الخوارج والفرق الإسلامية الأخرى سيتكرر في الحياة الإسلامية المعاصرة بمصطلحات مستحدثة لن يؤدي أي منها إلى تحديد طبيعة المسألة المتنازع عليها بل سيؤدي إلى مزيد من النزاع”([69]).

كما أن الرؤية التمايزية (لا الدمج ولا الفصل) بين الدين والدولة، أو الفعل الديني والفعل السياسي، تعطي المجال الأوسع للتيار الإسلامي أن يبدع برنامجه وتصوره السياسي انطلاقاً من رؤيته واجتهاده من داخل النصوص الشرعية، ويجوز للعلماني أن يجتهد في قراءة الواقع ومكوناته انطلاقاً من آلته الخاصة في النظر، ويمكنه أن يبدع تصوره وبرنامجه السياسي الذي يرى أنه أقرب إلى تحصيل العدل والمصلحة لمجموع الأمة. ولا يجوز بعدها أن يُقلق من استناد الإسلاميين لمرجعيتهم الإسلامية، ما دام خطابهم قام على التمييز بين الدين والدولة، وبين الفعل السياسي والفعل الديني.

فعلى الإسلاميين الانطلاق من مقاصد الإسلام الكلية ومبادئه العامة التي جاء بها؛ لتحقيق الأمن والسعادة للبشرية، وتحرير العقل من الكهنوت والتبعية، وعليهم الاتكاء فيما يتعلق بالقضايا السياسية والدنيوية على قاعدة حديث (أنتم أعلم بأمر دنياكم)([70]). كما على العلمانيين الوعي بأن فصل الدين عن السياسة والسياسة عن الدين، هو قول”ديني سياسي في آن معاً، وعلى نحو سلبي -وفقاً لحسن حنفي – فالسياسي الذي يريد أن يتفرد بالحكم دون مزاحمة الديني له، كما هي الحال في بعض النظم العربية المعاصرة، والديني الذي يريد إقصاء السياسي إنما يريد جعل الدين حكراً عليه”([71]). فالإسلام ومن خلال التمييز بين المجال الديني والمجال السياسي، فيه من ما يمكن تسميته بـ (العلمانية التمايزية) ما يكفيه، ومن ثم لا حاجة له لعلمانية زائدة عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) يرى الدكتور رضوان السيد، أن هذه الإشكالية تعود إلى فترة قيام الدولة العباسية على أنقاض الحكم الأموي، وحقبة ظهور السلاجقة، ثم المماليك والعثمانيين، وأخيراً حقبة الاستعمار الغربي لأكثر أقطار الإسلام بعد منتصف القران الماضي. رضوان السيد، الجماعة والمجتمع والدولة سلطة الأيديولوجيا في المجال السياسي العربي الإسلامي، بيروت، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، فبراير 2015م، 335.

([2]) صلاح الدين الجورشي، مقدمة كتاب الإسلام والحداثة السياسية بناء العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1431ه/2010م، 5.

([3]) حسن البنا، الرسائل، بيروت، المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر، د.ت، 129.

([4]) سمير أبو حمدان، فرح أنطون وصعود الخطاب العلماني، بيروت، الشركة العالمية للكتاب، دار الكتاب العالمي، 1413ه/1992م، 105.

([5]) رضوان السيد، الدين والدنيا والدين والدولة في الإسلام المعاصر، في مجلة التسامح، مسقط، السنة الخامسة، (19/2007م)، 11.

([6]) سمير أبو حمدان، فرح أنطون وصعود الخطاب العلماني، 113.

([7]) المصدر نفسه، 114.

([8]) هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، بيروت، دار النهار للنشر، ط2، 1978م، 82، 83.

([9]) كمال عبداللطيف، التفكير في العلمانية إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي، القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2007م، 54.

([10]) رضوان السيد، الدين والدنيا والدين والدولة في الإسلام المعاصر، 11. يمكن مراجعة ردود الإمام محمد عبده على فرح أنطوان في: محمد عبده، الأعمال الكاملة، تحقيق وتقديم: محمد عمارة، القاهرة، دار الشروق، 1414ه/1993م، 3/257 – 368.

([11]) رضوان السيد، الدين والدنيا والدين والدولة في الإسلام المعاصر، 12.

([12]) محمد أحمد خلف الله، مفاهيم قرآنية، ضمن سلسلة عالم المعرفة، الكويت، (79/1984م)، 23.

([13]) أبو المعالي الجويني (ت: 478ه)، غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق: مصطفى حلمي وفؤاد عبدالمنعم، الإسكندرية، دار الدعوة للطباعة والنشر والتوزيع، د.ت، 15.

([14]) محمد عمارة، الإسلام وأصول الحكم لعلي عبدالرازق، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000م، 46.

([15]) برهان غليون، نقد السياسة، الدين والدولة،، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط4، 2007م، 49.

([16]) جورج طرابيشي، هرطقات عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية، بيروت، دار الساقي، ورابطة العقلانيين العرب، ط1، 2006م، 208.

([17]) المصدر نفسه، 208.

([18]) ناصيف نصَّار، منطق السلطة مدخل إلى فلسفة الأمر، بيروت، دار أمواج للنشر والتوزيع، ط2، 2001م، 144.

([19]) عبدالإله بلقزيز، تكوين المجال السياسي الإسلامي، النبوة والسياسة، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط3، 2014م، 39.

([20]) المصدر نفسه، 46.

([21]) محمد عمارة، الإسلام وأصول الحكم لعلي عبدالرازق، 8.

([22]) تركي علي الربيعو، الدولة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، في مجلة التسامح، السنة (2)، مسقط، تصدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، العدد (4/2004م)، 43.

([23]) علي عبدالرازق، الإسلام وأصول الحكم: بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام،د.م، مطبعة مصر، ط3، 1344هـ/1925م، 103.

([24]) علي عبدالرازق، الإسلام وأصول الحكم، 49، 50.

([25]) المصدر نفسه، 64، 65.

([26]) محمد أحمد خلف الله، مفاهيم قرآنية، 22.

([27]) برهان غليون، نقد السياسة، الدين والدولة، 54، 55.

([28]) يقول الدكتور طه عبدالرحمن: “إن الوصل بين الدين والدولة في هذا الشعار يقصد الإسلام دين ودولةالذي يبدو أشبه بتعريف للإسلام هو أقرب إلى ردَّة فعل على الموقف العلماني الذي يقول بفصل الدين عن الدولة منه إلى اتخاذ موقف أصيل من حقيقة جامعية الإسلام“. طه عبدالرحمن، روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط2، 2012م، 335، 336.

([29]) حسن البنا، الرسائل، 153.

([30]) المصدر نفسه، 213. غير أن حسن البنا وتلامذته بعده وفقا لعبد الإله بلقزيز– “لم يضعوا موضوعة الإسلام دين ودولةحاجزاً أمامهم يمنعهم من الانخراط الإيجابي مع مكتسبات الدولة الحديثة، فقد اعترفوا بالدستور، وآمنوا بالواقعية السياسية، والتدرج في المطالب، والتزموا العمل بذلك في الممارسة، كما حرصوا على دخول اللعبة السياسية البرلمانية ونظَّروا لها وللمنافسة السياسية السليمة، ولم يترددوا في كل ذلكفي القول أنهم يتطلعون إلى إقامة دولة إسلامية“. عبدالإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط3، نوفمبر 2011م، 192، 193.

([31]) عبدالكريم زيدان، الوجيز في أصول الفقه، د.م، مؤسسة قرطبة للطباعة والنشر والتوزيع، د.ت، 69.

([32]) علي بن محمد الآمدي(551ه-631ه)، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق، عبدالرزاق عفيفي، الرياض، دار الصميعي للنشر والتوزيع، ط1، 1424ه/2003م، 1/111.

([33]) أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت: 790ه)، الاعتصام، تحقيق، أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، د.م، مكتبة التوحيد، د.ت، 3/435.

([34]) أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، بيروت، دار الفكر، 1964م، 46.

([35]) المصدر نفسه، 111.

([36]) أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام السياسية،د.م، دار الفكر، 1387ه/1967م، 29. وأبو بكر الجزائري، يعرِّف الدولة الإسلامية تعريفاً مشابهاً، قوامه عناصر أساسية، للدولة هي: الإيمان، الأمة، الحُكم، والحاكم، والحكومة. أبو بكر الجزائري، الدولة الإسلامية، بيروت، المكتب الإسلامي، ط2، 1402ه/1982م، 11.

([37])  يعتمد أصحاب هذا الرأي في تجسيد مفهوم الحاكمية في الواقع السياسي على الآيات المذكورة، وغيرها من الآيات التي ورد فيها مصطلح (الحكم). يذكر الدكتور محمد عمارة في مقدمة الأسباب التي أوصلت هؤلاء الى هذه النتيجة سببان:_

الأول: توهم أن مصطلح (الحكم) في القرآن كما هو في أدبنا السياسي المعاصريعني نظام الحكم السياسي في الدولة والمجتمع على حين أن الأمر ليس كذلك، فليس المراد بالحكم في القرآن الكريم، الدولة والسياسة، بدليل أن عيسى عليه السلام لم يكن حاكماً بهذا المعنى، ومع ذلك فإن الله يتحدث عن أنه قد أتاه: ﴿الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ ]سورة آل عمران: 3/79[، ونبي الله يحيى لم يكن حاكماً، فضلاً عن أن يكون كذلك في صباه: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾ ]سورة مريم: 19/12[، وعندما كان موسى هارباً من مطاردة فرعون لم يكن حاكماً، ومع ذلك فهو يقول:﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ﴾ ]سورة الشعراء: 26/21[، هكذا يستخدم القرآن مصطلح الحكم بمعنى: الفقه، والحكمة، والنبوة، وأيضاً بمعنى (القضاء) والفصل في المنازعات﴿خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ﴾ ]سورة ص: 38/22[.

والسبب الثاني: أن البعض قد غفل عن سبب نزول هذه الآيات. فلقد وقعت جريمة قيل أنها قتل وقيل أنها زنى في صفوف اليهود بالمدينة، فتحاكموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، كي يحكم أي يقضيبينهم. فنزلت الآيات تطلب من الرسول أن يقضي بينهم بما أنزل الله لهم في التوراة، ولتطلب كذلك، أن يكون الحكمأي القضاءبين النصارى بما أنزل إليهم في الإنجيل، وأن يكون الحكم بين المسلمين وفق ما في القرآن، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾ ]سورة المائدة: 5/44[، ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ﴾ ]سورة المائدة: 5/47[، وقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾ ]سورة المائدة: 5/48[. إذن فنحن هنا أمام (القضاء) بشرائع دينية متعددة، لتعدد الأديان، في مجتمع سياسي واحد، ولسنا أمام (نظام للحكم) يجب أن يكون واحداً ومتحداً في المجتمع الواحد، بصرف النظر عن تعدد ديانات رعية هذا المجتمع. ويعزز هذا الفهم ويجعله وحيداً وحاسماً، أن الله سبحانه يعقب على ذلك بقوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ ]سورة المائدة: 5/48[، فليس المراد إذاً بمصطلح (الحكم) في القرآن نظام الحكم السياسي، كما نفهمه اليوم في أدبنا السياسي الحديث، وإلا لكان واحداً في الأمة والدولة الواحدة، ولما جاز أن تكون فيه شرائع ومناهج متعددة بتعدد الديانات في الدولة والأمة الواحدة. محمد عمارة، التراث في ضوء العقل، بيروت، دار الوحدة، 1980م، 120، 121.

([38]) محمد قطب، مذاهبفكرية معاصرة، القاهرة، دار الشروق،1988م، 21.

([39]) خالد الفهداوي، الفقه السياسي الإسلامي، دمشق، الأوائل للنشر والتوزيع والخدمات الطباعية، ط3، 2008م، 256.

([40]) أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (450ه-505ه)، المستصفى من علم الأصول، تحقيق، محمد سليمان الأشقر، بيروت، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1417ه/1997م، 1/156.

([41]) أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، (256ه)، الجامع الصحيح، عمل أبي صهيب الكرمي، الرياض، بيت الأفكار الدولية للنشر، 1419ه/1998م،كتاب: الجمعة (11)، باب: الجمعة في القرى والمدن (11)، حديث (893)، 179.

([42]) يوسف القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، القاهرة، دار الشروق، ط3، 1422ه/2001م، 17.

([43]) محمد المبارك، نظام الإسلام في الحكم والدولة، بيروت، دار الفكر، ط4، 1981م، 12.

([44]) راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1993م،91، 93.

([45]) يوسف القرضاوي، الحل الإسلامي فريضة وضرورة، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1394ه/1974م، 90.

([46]) مصطفى السباعي، السيرة النبوية دروس وعبر، بيروت، المكتب الإسلامي، د.ت، 66، 67.

([47]) محمد عمارة، الدولة الإسلامية بين العلمانية والدولة الدينية، القاهرة، دار الشروق، ط1، 1988م، 215.

([48]) رضوان السيد، الجماعة والمجتمع والدولة، 30.

([49]) محمد عمارة، الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية، 66.

([50]) عبدالرحمن السالمي، (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله الغزة ولرسوله وللمؤمنين) المواطنة والمساواة والتعددية، مجلة التسامح، السنة (4)، (15/2006م)، 9.

([51]) وهبة الزحيلي، مفهوم المواطنة في المنظور الإسلامي، مجلة التسامح، السنة (4)، (15/2006م)،12، 13.

([52]) حسن حنفي، التراث والتجديد، بيروت، دار التنوير، ط1، 1981م، 155.

([53]) المصدر نفسه، 155,

([54]) برهان غليون، نقد السياسة: الدين والدولة، 395.

([55]) يرفص محمد إقبال هذا التمييز، فيقول: “وليس صحيحا أن يقال إن الدين والدولة جانبان أو وجهان لشيء واحد. فالإسلام حقيقة مفردة لا تقبل التحليل، وهو يبدو في صورة أو أخرى بحسب نظرك إليه“. محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة: عباس محمود، د.م، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 1421ه/2000م، 182. والقرضاوي يرفض التجزئة لكن في سياق مختلف، فيقول: “إن تجزئة ما أنزل الله إلى ديني وغير ديني، تجزئة مضللة، ولا تقوم على أساس سليم. أتريد منا أن نطيع الله سبحانه إذا قال: (وأقيموا الصلاة)؛ لأن الصلاة من شؤون الدين، فإذا قال (وآتوا الزكاة)، قلنا له عفواً يا رب. هذا من شؤون المال والدنيا، فدعنا ندبرها وحدنا دون هدايتك ووحيك يا ربنا. وإذا قال الله تعالى: (أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه)، قلنا له: سمعنا وأطعنا، فإذا قال: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)، قلنا له: سمعنا وعصينا.. إن تحريم الخمر يا رب خطر على نشاط السياحة وحجر على حرية الفرد فدعنا أحراراً في تناولها“. يوسف القرضاوي، من أجل صحوة راشدة، القاهرة، دار الشروق، ط1، 1421ه/2001م، 77. ولا خلاف مع القرضاوي فيما نزلت به النصوص لكن الحديث عن ما كان له شأن في دنيا الناس ومعاشهم.

([56]) عزالدين عبدالعزيز بن عبدالسلام (ت: 660ه)، القواعد الكبرى، الموسومة بقواعد الأحكام في إصلاح الأنام، تحقيق، نزيه كمال حماد، وعثمان جمعة ضميرية، دمشق، دار القلم، ط1، 1421ه/2000م، 2/144.

([57]) شهاب الدين القرافي، الفروق، تحقيق، محمد أحمد السراج، وعلي جمعة محمد، القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، ط1، 1421ه، 2001م، الفرق السادس والثلاثون بين قاعدة تصرفه صلى الله عليه وسلم بالقضاء، وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ، وبين قاعدة تصرفه صلى الله علية وسلم بالإمامة، 1/ 346 –350.

([58]) محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق، محمد الطاهر الميساوي، الأردن، دار النفائس للنشر والتوزيع، ط2، 1421ه/2001م، 284 – 389.

([59]) علال الفاسي، مقاصد الشريعة ومكارمها، منشورات مؤسسة علال الفاسي، ط4، 1991م، 114 – 117.

([60]) سعد الدين العثماني، تصرفات الرسول بالإمامة الدلالات المنهجية والتشريعية، الرباط، منشورات الزمن، 2002م، الفصل الأول، 7 – 52.

([61]) سعد الدين العثماني، تصرفات الرسول بالإمامة الدلالات المنهجية والتشريعية، 26.

([62]) المصدر نفسه، 65.

([63]) أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (261ه)، الجامع الصحيح، تحقيق أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، الرياض، دار طيبة للنشر والتوزيع، 1427ه/2006م كتاب: الأضاحي (35)، باب: بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء (5)، حديث (1971)، 948.

([64]) سعد الدين العثماني، في فقه الدين والسياسة، بيروت، صناعة الفكر للدراسات والتدريب، ومؤسسة الانتشار العربي، ط1، 2011م، 35.

([65]) عبدالإله بلقزيز، تكوين المجال السياسي الإسلامي، النبوة والسياسة، 144.

([66]) أبو محمد عبدالملك بن هشام (218ه)، السيرة النبوية، تحقيق وضبط وشرح، مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبدالحفيظ شلبي، بيروت، دار المعرفة، 1/620.

([67]) فهمي جدعان، المحنة بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، د.م، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ط2، 2000م، 365.

([68]) حسن الترابي، السياسة والحكم والنظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع، بيروت، دار الساقي، ط1، 2003م، 28.

([69]) محمد جابر الأنصاري، التأزم السياسي عند العرب، وسوسيولوجيا الإسلام، القاهرة، ط2، 1999م، 178.

([70]) رواه مسلم، الجامع الصحيح، كتاب: الفضائل (43)، باب: وجوب امتثال ما قاله شرعاً، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي (38)، حديث (2363)، 1110.

([71]) حسن حنفي، الإسلام السياسي بين الفكر والممارسة، ضمن كتاب الحركات الإسلامية وأثرها في الاستقرار السياسي في العالم العربي، أبو ظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ط1، 2002م، 57.

عبدالقوي حسّان

باحث في العلوم السياسية. اليمن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى