المقالات

المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي في سبعينيته : من أرض الرافدين إلى المحيط بين مسرات التنوير ومخاض بناء العقل المسلم.

تعد المساهمة التنويرية للمفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي (ولد بالعراق سنة 1954م) إثراء وتثويرا للحوار الفكري والديني حول الإسلام وتصوراته ومكانته في العصر الحديث، وهي صيرورة وأفق مفصلي في تاريخ النسق النقدي الإسلامي المعاصر، مما جعل تجربته مميزة عن بقية المفكرين من معاصريه، بالإضافة لكونه ساهم مساهمة جادة وملحوظة في إثراء المكتبة الإسلامية في مجالات ومسارات علمية مختلفة، كالكتابة الفكرية والفلسفية والنشر والترجمة والإشراف على المجلات المتخصصة، والتي نذكر من أهمها (قضايا إسلامية معاصرة). وقد تلقف معظم القراء والباحثين كتاباته بقبول حسن، لكونها تعالج معضلات فكرية حديثة بأسلوب لغوي أنيق غير متكلف، وبرؤية متكاملة منسجمة، أسها سعة الاطلاع على المعرفة الإسلامية مع استيعاب للمعارف الغربية.

تعرف عموم الباحثين المغاربة على كتابات الدكتور الرفاعي من خلال إصدارات مركز فلسفة الدين الذي يتخذ مقره ببغداد، وله إصدارات متنوعة تهم قضايا الفكر الديني وعلم الكلام الجديد وفلسفة الدين، كما تصدر عن المركز نفسه مجلة “قضايا إسلامية معاصرة” وبذات النفس والتوجه، وهي متميزة باستكتابها أسماء من مختلف التوجهات والحساسيات الفكرية، ليساهموا بمقالاتهم وأبحاثهم في محاور المجلة المتنوعة، وهو توكيد واقعي على أهمية الايمان بالاختلاف واستيعاب الآخر، ومن خلالها وما تنشره من ترجمات تعرفنا  كذلك على فلاسفة من الشرق والغرب، وبصمت بفتح نافذة  للحوار والاختلاف بين الانتماءات العقدية والفقهية والفكرية في السياق الإسلامي…. وفي زمن صعب عرف الكثير من الاضطرابات وسوء الفهم والتواصل بين أبناء الثقافية الإسلامية باختلاف توجهاتهم.

قدم المفكر عبد الجبار الرفاعي  جهدا ملحوظا في تفسير الكثير من المضار التي أثرت على الفكر الديني في مراحله التاريخية ليفقد فاعليته، كما عَدَّدَ الأعطاب التي أصابت النهضة الإسلامية الحديثة، والتي رافقت مشاريع أغلب النهضويين منذ قرن ونيف، مما جعلها تنتقل من جيل إلى جيل بما صاحبها من نواقص ورؤى وأسئلة مشوشة، لتورث تلك السمات لبقية الباحثين من اللاحقين وتشكل الكثير من قناعاتهم ومدار تفكيرهم من جديد، فلم يقدروا على تجاوزها أو تفكيك مثالبها.

وبحسب تتبعي لبعض كتاباته يبدو أن مشروعه مؤسس على دفتين التنوير ثم إعادة تشكيل العقل المسلم، وصيرورة اشتغاله على مفاهيم شائكة في الفكر الإسلامي سواء من خلال الكتب المنجزة أو من خلال الاعتناء بمضامين ومحاور بعض إصدارات مجلة “قضايا إسلامية معاصرة” تدور ذلك المدار، ويبدو كذلك أن هم هذا الإصلاح والبناء الأخلاقي للمجتمع المسلم سكن وجدانه منذ بدايات إبداعه، وأشرك فيه الكثير من الأسماء بمختلف حساسياتها الفكرية والعقدية والمنهجية، في إطار تكامل معرفي كان من السباقين لتنزيله.

ويسائل الرفاعي مدونتنا الأخلاقية التي يعتبرها شحيحة مقارنة بالكثير من مدوناتنا الأخرى، ويفكك الثنائيات الضدية التي تسكن تراثنا، والتي تراكمت على مدى قرون كاملة، وهي جعلت مجتمعنا مضطربا غير مستوعب لذاته واختلافاته، إنه منهك بذاته وبسوء فهم التنوع وسوء تدبير الاختلاف، الذي هو جزء من كينونته، لتنفجر بؤر العنف واللاتسامح هنا وهنالك في أطرافه لتصل لمراكز المدن، وتتمدد لتغتال المفاهيم السامية التي زخرت به ثقافتنا.

 إن هذا المأزق الثقافي والاجتماعي والديني بدأ في تفكيك المعنى الوجودي للدين، ليفقد آفاق الارتفاع بالإنسان والتسامي به، ويوقعه في دوامة اللامعنى، وهو ما أحدث شرخا كبيرا وجروحا غائرة في المجتمعات العربية والإسلامية، والتي لايزال تأثيرها مستمرا إلى الآن.

 يتطلع المفكر الرفاعي لإعادة بناء شبكة المفاهيم التي تؤطر تصورنا للحياة بخلفية دينية، لتجاوز هذه الإشكالات التي تحصر الدين في الغلبة ومصادرة الانسان لخيرية أخيه الانسان، مقابل خيرية الأيديولوجيا، واختزال معنى الانسان في ضيق الانتماء. ويعترف الرفاعي في كثير من كتاباته باعتزازه بمواقف ورؤية الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي على -وجه الخصوص- للتدين، الذي كان يصرح، قائلا:”أن الشفقةَ على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغَيْرَةِ على الله”، واستمد منه رؤيته لسعة الدين وعلاقة الانسان بالإنسان، ليرى أن الدين له نزعة إنسانية عالية، وينقل بذلك الدين من ضيق التفسير السلفي السني/ الشيعي. ويرافع لإعادة تعريف الدين وكذلك الانسان وفق هذا المنظور. ليستعيد الدين دوره فيشكل أفق المعنى من جديد، ويبعث على الطمأنينة والسكينة، ويمد الوجود الإنساني بمعاني جديدة للأخلاق والجمال والحياة، لتتجاوزه ككائن له “ظمأ وجودي” للدين لتشكل بعدها امتدادات عظيمة تلامس الحضارة والثقافة والمجتمع.

 إن الرفاعي يسعى لإعادة تشكيل فهمنا للدين، ويحاول حصار التأويلات التي تفضلها المجموعات المتطرفة، والتي تدعو للموت وتقيم دعوتها على النصوص المقدسة، ويبين من خلال كتاباته المتنوعة؛ قدرتنا على مزاحمة هؤلاء بتأويلات أخرى ممكنة، ليمد فيها الدين الإنسان بمعنى مرن وواسع وجديد للحياة، بدل تمجيد ثقافة الموت.

والجدير بالذكر أن الدكتور عبد الجبار الرفاعي انتقد بشدة تناولنا لمفاهيم الوحي بذهنية كلامية قديمة، واعتبر في الكثير من مقالاته أننا بحاجة إلى إعادة اكتشاف مفاهيم الوحي خارج الذهنية التقليدية، والرجوع للحس التاريخي في التعامل مع الكثير من المقولات الكلامية التي تأسست في ظل الصراع التاريخي بين الفرق الكلامية الإسلامية، واعتبرتها عقائدا نهائية، وفي غاية الدوغمائية، وحقائق كاملة لا تقبل النقاش لدى المؤمنين بها، والسبب الأساس في ذلك أنهم لم يستوعبوا تدخل الصراعات السياسية والنزعات النفسية والثقافية في تشكلاتها وتفعليها. فهؤلاء يرونها وحيا مقدسا، وسنة متبعة، وفهما صحيحا، ويقفز هؤلاء على بقية الجزئيات الأخرى. ولا يهم في الأخير لتحقق هذا الفهم المأساوي للدين وعقائده، لأي معسكر ينتمي هذا المؤمن أو كيف تشكلت طائفته.

ختاما وباختصار، يعكس المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي من خلال عمله ومناقشاته الفكرية التزامه بتحقيق التجديد والتأصيل في فهم الإسلام وتطبيقاته في العصر الحديث، من خلال البحث عن حلول تجمع بين القيم التقليدية والتحديثية، لبناء مجتمعات إسلامية مزدهرة ومتقدمة، وعقل إسلامي متسم بالنقد، وقادر على التفاعل والإبداع والمنافحة عن التصور الإسلامي عن الكون والحياة. ربما بهذا الفهم -وهذا البناء إن تحقق- يستعيد العقل المسلم الإرادة لينخرط كجزء فاعل في هذا العالم، وليس جزءا منفعلا وفقط، قادرا العطاء والمنافسة على الخير، يقدم شبكة من المفاهيم والتصورات التي تعيد للإنسانية كرامتها، وتنمي الضمير الأخلاقي الإنساني باتزان مسدد بالوحي، دون هيمنة للرؤية المادية على كينونته، ليسمو الفرد والمجتمع، متدرجا في سلم الكمال، وهو ما يعبر عنه الباحث بالحيز العمودي نحو الله سبحانه وتعالى، وما يصدر عنه من عطايا ومعاني ودلالات، بدل الانزلاقات التي وقعت فيها الفلسفة المعاصرة بحداثتها، والتي حشرت الوجود الإنساني في حيز أفقي ضيق، حتى أضحى الإنسان إله نفسه، شكله بذاته في لحظة ذهول عن الحقائق الميتافيزيقية، وهذا ما يفسر تيهه المستمر واضطرابه الفلسفي والعقدي والسلوكي.

يوسف محمد بناصر

باحث مغربي، متخصص في الحوار الديني والحضاري وقضايا التجديد في الثقافة الإسلامية، متحصل على درجة الدكتوراه من كلية الآداب ببني ملال جامعة السلطان مولاي سليمان- المغرب، له عدة مشاركات علمية في ندوات وطنية ودولية، كما ساهم بمقالات ودراسات وأبحاث عدة في مجلات وجرائد ومواقع عربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى