جدلية القراءة والكتابة في كتاب “”مسرَّات القراءة ومخاض الكتابة”
وددتُ لوْ يكون هذا الكتابُ جزءً أوَّلَ من سلسلةٍ تتعقَّبُ سيرةَ الكاتب الغنيَّة أحداثاً وعبراً. تتكوَّن عتبتُه من دالتيْن متساويتيْن صوتاً، متقابلتيْن دلالةً، موحيتيْن: “مسَّرات القراءة”، و “مخاض الكتابة”، وردتا مصدرين ميمييْن، يقول النحوُ: المصدر الميمي أقوى دلالةً على الحدث من المصدر الأصلي، فلفظةُ “مسرَّات” حدثٌ أوَّلٌ، ورد جمعاً، و”مخاضٌ” حدث ثانٍ، ورد مفرداً، والحدثُ الأولُ يحْكي عن تعاظم سرورٍ مصدرُه القراءة التي تبهج أكثر القراء، والثاني هلعٌ ووجعٌ مصدره الكتابة، كما يمارسها ويشعر بها الرفاعي، وكأنه لا يريد أن يتحدث عن شعور غيره، ممن لا يكابدون وجع الكتابة.
سعادةُ الكاتب تبدأ من ساعة إبحاره في عالم القراءة، شقاوتُه تبدأ من ساعة التفكير في الكتابة. القراءة عند الكاتب انعتاق وانطلاق، والكتابة معاناة وعسرٌ كعسر الولادة.
اختار الكاتبُ هذه الثنائية، يلج منها إلى أدب السِّيرة الذاتية، وهي طريقةٌ جديدةٌ، وطرحٌ غيرُ مسبوق، ولم يعتمد في إيراد سيرته على السرد الكرونولوجي لمراحل حياته، ولا احتذى بطريقة من طرق سابقيه، بل ربط سيرته بما هما توأما سيرته. القراءةُ والكتابةُ شريكتا حياته… حتَّى إنَّ المقدِّمة التي عادةً ما تكون توطئةً لموضوع الكتاب، ومدخلاً إليه، خصَّصها الكاتب لفن القراءة، فن إدارة القراءة.
يتحدث عن القراءة في طول كتابه كعاشق يعرف عن معشوقه أكثر ممَّا يعرف معشوقه عن نفسه، فهو شغوفٌ بها، لمْ يتوقَّفْ عن مغازلتها، والتودُّد إليها مدَّة حياته كلّها، فلمْ يستأنسْ، ولمْ ينفردْ إلاَّ بها، كانتْ تتعبُه ويستريحُ بها… الرفاعي ظمآنٌ قراءةً ظمأً مزمناً، ريُّهُ عينُ ظمئه، فهو غير قابلٍ للارتواء من القراءة إلا بالقراءة… عرفها من جميع نواحيها وزواياها، عرف فضاءها الحيوي قديماً في الكتاب، في لبوسه الورقي، ولمَّا ارتحل الكتاب إلى العالم الافتراضي، لمْ يشأ الكاتبُ إلاّ أنْ يرتحل معه، وهو مستعدٌّ لأنْ يصحبهُ إلى أيِّ فضاءٍ اختار… عرفه في المكتبات ومعارض الكتب، ودوَّن تواريخ شرائه وقيمة أثمانه، ولوحات أغلفته ونكهة أوراقه… (ص44)، عرض محاسن القراءة وثمراتها، ومنحنياتها وتطوراتها، ومزالقها وأعطابها، وهو واعٍ، ولم يُخفِ ذلك، بأن بعض القراءات تسبَّبت في نكْساتٍ وكوارث خطيرةٍ. هناك رواياتٌ قاتلةٌ قتلاً حقيقياً لا مجازياً (رواية يوهان غوته الألماني “آلام الشاب فارتر” أودتْ بحياة كثيرٍ من الشباب)، أمَّا القتلُ المجازي، والإعاقاتُ الذِّهنيَّة والنَّفسيَّة، فيذكر منها كتب التَّنميَّة البشريَّة مثلاً لذلك…
تضطرُّ الكاتبَ ظروفٌ خاصة، فيفرُّ من بلده العراق على وجه السُّرعة إلى البلد المجاور الكويت، يدخل البلد خائفاً مترقِّباً متوجِّساً، لكنَّه أَّول ما يفكر فيه اقتناء كتبٍ، لا تسوية وضعيةٍ (ص50)، ويقتني ذلك… وتمضي حياتُه كلُّها قراءةً، وإمعاناً في القراءة… لكنَّ القراءةَ تطوَّرتْ عنده، فلم تعُد حبيسةَ مساحة كتابٍ، ولا حبيسةَ حجمه، بالرَّغم من علاقته التَّاريخية الحميميَّة به، فقدْ أصبح بحكم التطوُّر للقراءة آفاقٌ وفضاءاتٌ، لم يصمَّ دونها أذنه، ولم يزورَّ عنها، بل جاراها، وترافَقَ في مسيرته معها.
الأفلامُ والمسرحيات واللوحات الزَّيتية، والمنحوتات قراءاتٌ، والتَّجوال والأسفار، والمهنُ والحرف، وأنواع التجارب والخبرات الإنسانية، ودهاليز النفوس البشرية الفاتحة والقاتمة، البسيطة والمعقَّدة قراءاتٌ، حتَّى السجن يصلح لأنْ يكون موضوع قراءةٍ، ولعلَّ كتاب فَرَاشَة Papillon، للكاتب الفرنسي هنري شاريار Henri Charrière، خيرُ مثالٍ، فقد صدر عام 1969، بيع منه 13 مليون نسخة في العالم، يتحدث فيه الكاتب عن تجربته القاسية في سجن جزيرة غويانا الفرنسية الرهيب، هذا السِّجنُ الذي أعِدَّ خصِّيصاً لعتاة المجرمين، وقد حُوِّلت هذه السيرة الذَّاتية إلى إنتاجٍ سينمائي ناجحٍ…
القراءة عند الرفاعي هي هذا الواقعُ كلُّه بما حمل “الواقع معلِّمٌ عظيمٌ” (59)، وقد تقاطع في ذلك مع ميخائيل نعيمة المفكر والناقد اللبناني الألمعي… لكنَّ القراءة مع أهميَّتها، وضرورتها عند الرفاعي، ليستْ هدفاً في حدِّ ذاتها، وليستْ تزجيةً للوقتِ، وهي ليستْ سيفَ مبارزةٍ في صالونات المناقشة والكلام، القراءةُ عندهُ “منتجةٌ للمعنى” (ص57).
يبدأ الكاتبُ حكايته ومغامراته في عالم الكتابة من الصفحة 62، تناول فيها محاولاته الأولى، قبل وبعد انتسابه إلى حوزة النجف الأشرف (ص64)، هي بداياتٌ أوليَّة مترنِّحة ككلِّ البدايات، ثم بدأ يتدحرج بها تدحرج كرة الثَّلج صاعداً بها إلى قمَّة الجبل، لكنْ تبيَّن له مع الأيام أنَّها مصدر آلامٍ ومعاناةٍ، ليس له بدٌّ منْ أن يحْتملها، فإذا كانتِ القراءة تمنحُه لذَّةً، فإنَّ الكتابة تمنحُه وجعاً مستديماً، “ربما هربتُ إلى حيلٍ نفسية، تنقذني من هلع الكتابة” (ص68)، كان إزاءها مشلولاً: “كنتُ أحسبُ أني مصابٌ بشلل الإرادة” (ص68)، والكتابة تعذبه “الكتابة تعذبني وتستنزفني” (ص69)، لها عنده فعلُ الإدمان، فهي قلقُه وهدوؤه “قبل الكتابة أقلق، حين أفرغُ منها أهدأ” (ص70)، ومصدرُ الآلام آتٍ من كونه يتمثَّلُ كتاباته، يعيشُها، ويتماهى معها، يكتبُ نصه، ويهذبه، ويضيفُ إليه، ويرجع إليه مرة بعد أخرى، ويعيشُ في جوِّهِ، وهو ربما يكون قد فارقه لموضوعٍ أوْ نصٍّ آخر… فنصوصه مسودَّاتٌ أبداً، حتى ولو كانتْ بيد قارئه، ويأملُ أنْ يجد بعض العزاء لدى قارئه، بل مستعدٌّ أن يدفع ضريبة أخرى، هي ضريبة الصدق والإخلاص يقدِّمُها راضياً بين يديِ قارئه.
عنوان كتاباته الصَّرامةُ والجِدُّ وَالجدَّةُ، قارئه المثالي هو الرِّفاعي نفسه، قبل أن يحيلها إلى قارئه الخارجي، يرى الكتابة تشذيباً متواصلاً، فهي “فنُّ الحذف والاختزال” (ص71)، وله في ذلك نفسُ رؤية أقطاب الفكر الحداثي، كما يرى أنَّ اللغة تُخْفي أكثر ممَّا تصرح، “أكثرُ الكتابات المنشورة تُخفي أكثر ممَّا تُعلن” (ص72)، ويذهبُ إلى أنَّ جوهر الكتابةَ كامنٌ في التناصِّ، فهي عصارة جميع القراءات السَّابقة “كلُّ كتابة حقيقية تختزل سلسلةً طويلةً من قراءة كتبٍ متنوعةٍ” (ص73)، فلا يمكنُ لكاتبٍ أن يُخْرِجَ نصاً محترماً إلاَّ إذا كانتْ حصيلتُه نصوصاً كثيفةً متراكمةً، يصهرها الفكرُ، وتلوِّنها العواطفُ، وتؤطِّرها الخبرة والتجربة، وتجوِّدُها الموهبةُ (ص102)، ويتحدث في عالم الكتابة عن عالم الترجمة، فيرى أنَّ الترجمة الصادقة هي التي تنقلُ روح الكلمات والعبارات، لا شكلها الخارجي، فلكلِّ لغةٍ منطقها الداخلي الخاص بها، الترجمة تجديدٌ للغة المنقولة إليها، تستقبلُ مصطلحات لا عهد لها بها، فتغتني وتتنوَّع وتتجدَّدُ، والترجمةُ حوارٌ بين لغتين.
ولكنَّ للكتابة عند الرفاعي جانباً آخر مهمّاً، هو جانبُ التَّجربة التي لا تتوفَّر في القراءة، فتزوِّده بخبرتها الخاصَّة، “الكاتب الصبور يتعلم من الكتابة أكثر ممَّا يتعلَّم من القراءة” (ص74)، ولأغلب الكتَّاب والشُّعراء طقوسهم الخاصَّة، وأزمنتهم عندما يباشرون الكتابة، لكنَّ الأمر عند الرفاعي يختلف، فهو لا يجدُها، ويعلن ذلك بعفويته “ليستْ لديَّ قواعدُ مُلزمة للكتابة، ولا طقوس…” (ص77)، لكنَّ أرَقَ الكتابة الحقيقية عنده، هي ما تتضمَّنُه، هي محتوى ما يكتبه، هنا مكمنُ صداعه المزمن، فهو يؤمن بأنَّ “الفرادةَ”، و “التَّميُّزَ” خاصيَّةٌ لازمةٌ لكتابةٍ ذات قيمةٍ، ذات مصداقيةٍ، يكونُ الكاتبُ فيها هو ذاته، حرّاً، لا إمَّعَةً مقلِّداً، يكون صدى غيره… لا يكون الكاتبُ عند الرفاعي “قيمةً مضافةً” إلاَّ إذا عاش ممارساً حريته الكاتب الشخصية… “يسعى الكاتبُ أن يعثر على صوته الخاص، ولغته الصَّافيَّة، وطريقه الذي لا يمرُّ عبر طريق غيره” (ص78).
يسعى الرفاعي أن تكون كتاباتُه زبدة مخاضه، لا يقدمها إلاَّ بعد تصفيتها خضَّةً بعد أخرى، فيُزيلُ كافَّة شوائبِها، فلا تكونُ إلاَّ زبدةً خالصةً “ما أكتبهُ…خلاصة تأملات عقلية، وتعبيراً عن خبرةٍ روحية وحياة أخلاقية” (ص78) … إذَن فهو يشرَئبُّ نحو “الكتابة الإبداعيَّة”، ولا يسعى إلا نحوها.
يصارحُ قارئه بأنَّ قراءاته وكتاباته إنَّما هي حمياتٌ يتناولُها حرصاً على سلامته النفسية، وجلسات علاجية يتداوى بها من أمراض هذا العصر، أمراض الاغتراب النَّفسي، والقلق الناتج عن الحياة المركَّبة المعلَّبة، والشر الأخلاقي.
هذه الكتابة في نظره ترياقٌ لأدواء الروح والنَّفس والفكر… أدواء الطَّريق الطبيعية، التي تتحَّول مع الكتابة إلى سلالم للارتقاء والتكامل… هذه الأدواءُ هي أخطاء المسيرة الحياتية “الخطأ ضرورة لاستمرار الحياة وإثرائها وتجدُّدها” (ص84)، وهو من هذه الأخطاء، بدأ يتلمَّس طريق “الحقيقة”… الحقيقةُ هي جوهرةُ الإنسان المفقودة… لقد أدركها… “وأدركتُ أنَّ للحقيقة وجوهاً وطرقاً متنوعةً” (ص91)،
ويرى أنَّ للكتابة دوراً في ترقية الذات وتطويرها “أعيش الكتابة بوصفها أفقاً أتحقَّق فيه بطورٍ وجودي جديد” (ص76)، فكأنها حركة جوهريةٌ، إذْ يتماهى الكاتب مع قارئه، فهما معاً يتطوران أبداً… “العملية الإبداعية” عند الرفاعي تبدأ من القراءة، وتنتهي عند الكتابة النهائية… تبدأ لذَّة، وترتدُّ وجعاً، وتنتهي نشوة وسعادة.
مجموع الكتاب (23) ثلاث وعشرون مقالاً، يجمعها رباطٌ عامٌّ هو رابطةُ “السيرة الذاتية”، ورباطان خاصَّان، هما: “القراءة” و “الكتابة”، قد يتراءى لك من خلال قراءتك الكتاب، أنَّ الكاتب مهوسٌ بالقراءة، لكنَّ مع دقَّة الملاحظة، ستخرجُ بنتيجةٍ طريفةٍ، هي أنَّ الكاتب مسكونٌ بهوسِ الكتابة أكثر من هوسهِ بالقراءة… المتفحِّصُ لعناوين المقالات الثلاث والعشرين، لا يجد حضوراً للفظة “القراءة” سوى خمس مرات، مرَّةً واحدةً في فعل “يقرأ”، وأربع مرات في مصدر “القراءة”، بينما ترد لفظة “الكتابة” إحدى وعشرين مرةً: ثلاث عشرة مرَّةً مصدراً في كلمة “الكتابة”، ومرَّتين في لفظتي “الكتاب. كتابات”، ومرَّةَ واحدةً لكلِّ من ألفاظ ” الكتب. مكتباتنا. مكتب. نكتب”.
قد نستنتج حرصَه الدائب على “إبداعه المتميز”، والكلُّ عنده يعملُ من أجل ذلك، ومن اللطيفة أنْ تجد أنَّ ألمه بين لذَّتيْن، لذَّةٍ صغرى، وهي الحاصلة من فعل القراءة الأولى التَّراكميَّة، ثمَّ مرحلة الوجع في عملية الكتابة المخاضيَّة، حتَّى إذا استوى النصُّ بين يديه، وتكامل… دخل مرحلة الهدوء النَّفسي… مرحلة الارتخاء “قبل الكتابة أقلق، حين أفرغُ منها أهدأ” (ص70)، هي مرحلة اللَّذَّة الكبرى. استنتجتُ اللذة الأولى مع القراءات المتتاليات، ثم ممارسة الكتابات المتتاليات، وفيها الألم، ثم الوصول إلى النص النهائي، أي الجديد والإبداع، وهو عين اللذة الكبرى، فهو لا يتعلق إلا بالكاتب