التربية على التسامح في الدين التوحيدي عند ليفيناس
ملخص الدراسة
انبثق سؤال التسامح في التراث الفلسفي الغربي من رحم النقاشات السياسية حول حدود تدخل السلطات المدنية في الشأن الديني، وقُدم كبديل للتعصب الديني ولما قد يترتب عن تأسيس الحقيقة على الاعتقاد، من عنف وفوضى. غير أن ليفيناس يعتبر هذا التحديد منافيا للحقيقة الدينية، ويؤكد في المقابل أن التربية على السلام والمحبة يمثلان جوهر الإيمان في اليهودية، وأن الطقوس والشعائر مدرسة حية في التربية على التسامح. وحجته في ذلك أن رسالة الدين التوحيدي تحمل مفهوما آخر للتسامح وتحث على تكريسه عمليا في العلاقة الأخلاقية بالآخر، بل تجعل التربية على التسامح فريضة دينية وتجسيدا للصلة الحقة بالله.
الكلمات المفتاحية
ليفيناس، التربية، التسامح، الوجه، الدين التوحيدي.
نص الدراسة
يرى إيمانويل ليفيناس[1] أن جوهر الدين تربية على التسامح وأن طقوس وشعائر اليهودية علمت البشرية أبجديات ثقافة التسامح ومحبة الآخر[2]. ويبدو رأيه هذا مناقضا لسير الحضارة الغربية ومعاكسا لمجرى التاريخ والأحداث؛ فالريبة التي قوبلت بها عودة الدين في الوقت الراهن والدماء التي سفكت باسمه على مر التاريخ، تجعلان من كل ربط بينه وبين التسامح مجرد دفاع عاطفي عن تراث منسي أو تمترس خلف جدران هوية ضيقة. والحال أن ربط التسامح بالدين جاء نتيجة لحوار عميق مع التقليد الفلسفي الغربي وبعد مراجعة سنين طوال من النقاشات حول المفاهيم المؤسسة للثقافة الغربية، خاصة ادعاء انبثاق مفهوم التسامح من أنقاض الدين وتحقق الطلاق البيّن بينهما. حيث أكد فيلسوف الوجه أن أصل العنف لا يرجع إلى الدين، إنما إلى منجز الفلسفة من المفاهيم والرؤى حول معنى الوجود الإنساني، ولاسيما اختيارات الفلاسفة الذين تعرضوا بالنظر لمفهوم التسامح ولتأويل الدين على حد سواء.
طرحت الفلسفة سؤال التسامح في سياق تاريخي مخصوص، جعل الدين في موضع المتهم واعتبره سببا رئيسيا في الدماء التي أريقت حينئذ وفي العنف الذي تعرض له الأبرياء من بني البشر. وجهت أصابع النقد إلى الحقيقة الدينية وتم ركنها جملة وتفصيلا في خانة الشأن الخاص والرأي، أو المنطقة الوسطى بين الحقيقة والوهم. ووقع الاتفاق على أن الدين ينتمي إلى مجال الاختيارات الشخصية التي إذا ما حق لنا أن نختلف بشأنها، لا يحق لنا أن نقتتل باسمها أو نعاقب أحدا عليها. لا يمكن أن نماري الناس فيما تكن الصدور إلا بالقدر الذي تخل به تلك المكنونات بالتعاقدات المؤسسة لعيشنا المشترك، يقول منظرو التسامح الأوائل[3].
لذلك ارتبط مفهوم التسامح في التراث الفلسفي الحديث بأبعاد ثلاثة من الوجود الإنساني، لا تخلو كلها من نفس سياسي، وهي: البعد الديني المتعلق بمدى قبول الاختلاف في العقيدة ومشروعية إجبار المختلف على تغيير قناعاته. والبعد السياسي الصرف الذي يُعنى بما يمكن للدولة الناشئة أن تبيحه أو تمنعه انطلاقا من التعاقدات والقيم المؤسسة للعيش المشترك. وأخيرا، البعد الأخلاقي الهادف إلى ضرورة احترام الكائن العاقل وتأسيس حرية الضمير واستقلالية الشخص. واتخذ بالنتيجة دلالات أربع: إما أن التسامح صبر وتحمل لآخر، أو أنه امتناع إرادي عن التحيز للرأي، أو طلب للموضوعية في الحكم على المختلف، وصولا إلى القبول الكامل للآخرين الذين نعرف أنهم مختلفون عنا، ومهما بلغت درجة هذا الاختلاف بالنسبة لنا وخطورته.
غير أن ليفيناس يرى أن هذا السياق التاريخي بالذات، الذي سمح بتشكل مفهوم التسامح، هو الذي ساهم في إبعاد الفلسفة الغربية عن الدلالة الحقيقية للمفهوم[4]. ذلك أن حصر التسامح في المعاني المشار إليها أعلاه يمثل، في الواقع، انحيازا للذاتية وترجمة لعيوبها ولتشبثها ببقايا التجارب الشخصية والثقافة الخاصة. إنه محض ترسيخ للنظرة الأنانية للأشياء والناس، لا يخلو من عنف إزاء الإنسان الآخر، بل يضع الإنسان في المنزلة نفسها مع الأشياء إذ ينظر إليه من زاوية التمركز حول الذات والرغبة في التملك والسيطرة. والحكم هنا ينطبق على كل ما ارتبط بالمفهوم من أحكام ومواقف، مثل تأويل الفلاسفة للدين، حقيقة وطقوسا، ثم ركنه في خانة الرأي، أو الفهم الأناني للعلاقة بالغير. وغيرها من المقاربات التي تؤكد سوء الفهم الكبير والتنكر المعيب لما قدمه الدين التوحيدي للبشرية من قيم ودروس أخلاقية. يؤكد ليفيناس أن التسامح الحق، الكفيل بمنع العنف وتحقيق قيم المحبة والسلام، يقوم على تأويل آخر للوجود الإنساني، مغاير للفهم الذي قدمه تاريخ الفلسفة. وهو تأويل يتقاطع مع الرسالة الإنسية التي حملها الدين التوحيدي إلى العالم منذ ما يقارب الثلاثة ألاف سنة[5].
لاستكمال قراءة الدراسة يمكنك تحميلها عبر النقر هنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] إمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas فيلسوف فرنسي من أصول يهودية لتوانية، ولد في 12 يناير 1906 بمدينة كوفنو (Kaunas) وتوفي بباريس في 25 دجنبر 1995. تلقى تعليما تقليديا في مسقط رأسه، أساسه التوراة والأدب الروسي، قبل أن ينتقل إلى ستراسبورغ بفرنسا لدراسة الفلسفة، حيث جاور كل من: شارل بلوندل وموريس هولبواش وموريس بارادين وموريس بلونشو. ثم انتقل سنة 1928 إلى فريبورغ ـ في ـ برسغو لدراسة الفينومنولوجيا على يد إدموند هوسرل ومارتن هيدغر. شارك في الحرب العالمية الثانية كمجند فرنسي وسجن من طرف الألمان لخمس سنين، شرع بعدها مباشرة في كتابة مؤلفه الفلسفي. كما شغل منصب مدير “مدرسة المعلمين اليهود الشرقية” التابعة للتحالف العالمي الإسرائيلي (ENIO) على امتداد 35 سنة، حيث قدم قراءاته التلمودية. ولم يبدأ مساره الجامعي إلا بعد سنة 1664 حيث درس في جامعة بواتييه ثم جامعة باريس ـ نناطير (1967)، فجامعة السوربون التي مكث بها إلى حين إحالته على التقاعد سنة 1976. كما قدم دروسا في جامعة فريبورغ بدعوة من المجتمع اليهودي هناك ما بين سنتي 1970 و1980. تتوزع كتابته بين الكتب الفلسفية والتعليقات التلمودية والمقالات التي ألقيت في مناسبات متعددة، ومنها:
Totalité et infini. Essai sur l’extériorité(1961) ; Autrement qu’être ou au-delà de l’essence (1974) ; Difficile liberté. Essais sur le judaïsme(1963) ; De dieu qui vient à l’idée (1982) ; Dieu, la mort et le temps(1993) ; Du sacré au saint : cinq nouvelles lectures talmudiques (1977).
ولأن نصوص ليفيناس الأساسية غير مترجمة إلى اللغة العربية، فإننا نحيل في دراستنا هذه على الأصل الفرنسي ونعتمد ترجمة شخصية للعناوين والنصوص المعتمدة.
[2] تناول ليفيناس موضوع التربية في نصوص عدة وأكد فيها جميعا أن اليهودية كانت سباقة إلى تجسيد مفهوم التربية على القيم الكونية والمحبة في مختلف الطقوس والشعائر التي تنظم حياة اليهود وتميزهم. وكانت هذه النصوص عبارة عن مقالات ومحاضرات ألقيت في مناسبات مختلفة وجمعت في كتاب “ Difficile liberté. Essais sur le judaïsme“. منها:
« Une religion d’adultes »(1957) ; « Religion et tolérance »(1960) ; Israël et l’universalisme »(1958) ; « Réflexions sur l’éducation juive »(1951) ; « Antihumanisme et éducation(1973) ».
انظر: E. Levinas, Difficile liberté. Essais sur le judaïsme. (Le Livre de poche) Albin Michel : Paris, [1976] 2007.
[3] إن المقصود هنا هو الشروط النظرية التي سمحت بتشكل مفهوم التسامح في الفلسفة الغربية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، بمعنى الإطار الفلسفي العام الذي استقر فيه المفهوم وليس فلسفة شخص بعينه أو طروحات المفكرين الذين سبقوا لحظة الاكتمال تلك. فإذا كانت الإرهاصات الأولى للمفهوم بدأت في الظهور خلال عصر النهضة في محاولات عدد من المفكرين، مثل نيكولا دي كوسا وبيكو دي لاميرندولا وإراسم، فإن تلك المحاولات بقيت مجرد ردة فعل إزاء الظروف الاجتماعية والسياسية السائدة حينها، أو محض خواطر تفتقر إلى الأساس النظري الفلسفي الذي اكتمل لاحقا بظهور مفاهيم الذات والفرد والحرية، وفي إطار محاولة تأسيس المشروعية السياسية، خاصة مع الفيلسوف الإنجليزي جون لوك الذي قدم أول صياغة للمفهوم في كتابه “رسالة في التسامح” لسنة 1689.
[4] E. Levinas, «Religion et tolérance », in : « Difficile liberté. Essais sur le judaïsme », op. cit. p.263.
[5] يصعب في الواقع تحديد اللحظة التاريخية التي ظهر فيها مفهوم التوحيد المقصود في قول ليفيناس. فهو لا يقصد مفهوم التوحيد الذي دخل دائرة المعقولية الفلسفية من جراء محاولة إدماج مفهوم الخلق الديني في المنظومة الأرسطية، الذي بدأ مع الفلسفة الاسلامية قبل أن ينتقل إلى الفلسفتين اليهودية والمسيحية بعدها؛ إنما يقصد دخول التوحيد كفكرة ناظمة لحياة اليهود الاجتماعية الذي بدأ في الرواية التوراتية من حقبة النبي موسى، ويرجح أنه حدث بعد القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وهو تاريخ غير مثبت علميا. كل ما نعرفه هو أن تدوين الكتاب المقدس اليهودي حصل بعد السبي البابلي الذي تعرض له اليهود سنة 597 قبل الميلاد، وذلك من أواسط القرن الخامس قبل الميلاد إلى أواسط القرن الثاني قبل الميلاد؛ وصولا إلى كتابة التراث الشفهي في التلمود الذي انتهى سنة 500 ميلادية. غير أن لحظة التدوين هذه جاءت بعد ظهور التوحيد بزمن غير يسير. لم يستشعر اليهود الخطر الداهم الذي يتهدد بقاءهم وينهضوا لكتابة تراثهم، إلا بعد أن كانت المفاهيم قد استقرت فعلا وتغلغلت في حياتهم وطقوسهم.