الصحبة وآفاق الإنسان فيما بعد الوباء
يحتفل المسيحيون اليوم عبر العالم بعيد الفصح لكن دور العبادة أغلقت أبوابها منذ زمن. لذلك، عوضاً عن الذهاب الى الكنيسة، قمت بجولة في المدينة على دراجتي. المدينة هي واشنطن عاصمة الوطن. وعند المرور بمعالم المدينة اندهشت بها كأنني لم اطلّع عليها من قبل. حيث مررت بالبيت الأبيض أقوى كيان تنفيذي في العالم. ثم مجلس النواب ومجلس الشيوخ أقوى المجالس التشريعية في العالم. ثم أردفت بمقرّ البنك الدولي وكذلك مقرّ صندوق النقد الدولي أقوى المؤسسات الدولية في العالم. أغلقت مراكز القوة هذه كلها أبوابها ليحيط بها السكون بل العجز نتيجة للوباء الذي سببه شيء أصغر من الجرثومة لا يستطيع القراءة ولا الكتابة ولا النطق بكلمة واحدة إلا أنه قد شلّ القوى الدنيوية كلها.
يسخر هذا الوباء الذي قد امتد الى أنحاء العالم كلها من الخصامات الفكرية التي تشغل عقول العلماء والمفكرين والتي تقسّم الإنسانية الى معسكرات اقتصادية ودينية وسياسية. وقد زادنا الوباء شعورا بهذا التقسيم. تكثر الاتهامات بخصوص المسؤولية عن تفشي الوباء وتنصبغ أحيانا بصبغة قومية وعنصرية. هكذا ليغلب الاغترار علينا في وقت الآلام المشتركة.
فهل نحن أعداء بعضنا البعض؟ أمأن هنالك عدوا واحدا نواجهه جميعا؟
لا يستطيع أحد أن يتنبأ بعواقب هذه الأزمة بدقة كاملة. إلا أن التاريخ رغم ذلك يثبت أن الأوبئة تغير العالم،ولا محيد لنا عن ذلك. وفي أطار النظر فيما نحن مقبلون عليه أذكر نقطتين تجدر الإشارة اليهما.
تخص الأولى منها القوة الدنيوية. من يقرأ “المقدمة” لابن خلدون أو “مدينة الله” للقديس أغسطينوس يدرك أن القوة الدنيوية لا غنى عنها في حكم المجتمع إلا انها تشكّل أيضا تهديدا لصلاح الإنسانية. والسبب في ذلك أن وجود القوة الدنيوية يترك أثرا على وجدان الإنسان، الأمر الذي يشعره بأن التغلب هو مقياس الإنسانية. لذا نتوهم أن التغلب الذي يُؤسَّس عليه حكم المجتمع هو الذي ينبغي أن نقتدي بها حتى نحوز نصيبا فيه بصورة أو بأخرى.قد لا نلاحظ هذه الظاهرة على مستوى الفرد ولكنها تمثل نزعة عامة في الإنسانية. تظهر رغبة التغلب فيما بين شعوب العالم إزاء المصالح الاقتصادية والدينية والسياسية. لذا، لا يبتعد عن الحق من يقول إن الإنسانية تتبع دواعي التكاثر والتفاخر فيما تنزع إليه نزعة عامة. وتظهر كذلك رغبة التغلب في التفاعل مع البيئة ومواردها، ما يفتح الباب مصرعا في الاعتداء عليها، الأمر الذي لا محيد من ان يسبب ظهور الأوبئة وتفشيها.
لا أظن أن هذا الوباء سيسفر عن القضاء على الرأسمالية العالمية، بما فيها حب الاستملاك وحب الاستهلاك فهذان الحبان يتبعان رغبة التغلب. كما يشهد التاريخ بقاء هذه النزعة مهما يقع من ثورات وانقلابات.
والآن آتي إلى النقطة الثانية. “ما لا يُدرك كله لا يُترك جله”. فمن ناحية لن يغيرنا الوباء تغييرا جذريا فلن ندرك ثمرات التجربة كلها. ومن ناحية أخرى لا بد من جني بعضها. هكذا نرتجي تعديلا نسبيا فقط قد يؤدي بنا إلى تحسين التعامل فيما بين بعضنا البعض، وذلك لحفظ أنفسنا في المستقبل من انتقام البيئة التي تردّ على ما يأتيها الإنسان من تهديد ردًا يُعجز قوته الدنيوية كافة.
في هذا السياق لا بد من الالتفات الى حكمة يُجمع عليها جميع الحكماء، فلا بد من تسليط الضوء عليها : لعلاج النزعة السلبية لا بد من تعزيز النزعة المضادة ولإضعاف الرذيلة لا بد من تقوية الفضيلة. على سبيل المثال، تدفع أفعال الإكرام نزعة الطمع والجشع، كذلك تدفع النشاطات العلمية هجومات الجهل على الإنسان.
ماذا قد يضاد رغبة الإنسان في التغلب وتلك الرغبة هي التي يكمن فيها بصورة أو بأخرى ظهور العدو المشترك الذي يسعى الى الانتقام منا جميعا؟ ماذا قد يضاد هذه الرذيلة التي تعود في معظم الأوقات بضرر على الفئة الضعيفة في المجتمع إلا أنها ستعود هذه المرة بضرر على الجميع.
ولا ينكر أحد أن رذيلة التغلب تضادها فضيلة الصحبة، ومن مطالب الصحبة الاعتراف بأن الآخر يستحق الاعنتناء والانتباه. هل يستعد أحد للصحبة ولا يستعد للاعتناء بالآخر والانتباه اليه؟ ذلك من جهة ومن جهة أخرى من يقرأ التاريخ قراءة فاحصة يكتشف أن السبب وراء بقاء المجتمع ونمائه هو نزعة الإنسان الى فضيلة الصحبة وتقديمها على رذيلة التغلب وإن توهمنا العكس. وتكثر الأمثلة أمامنا من حيث دلالتها على الاستقرار والازدهار الذي طال المجتمعات بسبب الاعتناء والانتباه القائم فيما بين أعضائه عند الضراء وعند السراء على السواء.
وبخصوص الأزمة اليوم فإني لا أتكلم عن الصحبة على مستوى الفرد لأن ذلك يجري مجراه تلقائا وإنما أطرح السؤال التالي : هل يمكن دمج نزعة الصحبة في مجالات الحياة كلها حتى تكون هي النزعة التي تغلب على عقول الجميع بدلا من نزعة التغلب؟ لا أدعو الى القضاء على الأسواق الحرة وما الى ذلك من مساعي الإنسان الى التطور والإبداعية. أطرح سؤالا فقط يخص النزعة التي نريد أن تسود في حياة البشرية.
فأنا بصفتي أستاذا في الجامعة حين يزورني الطلبة الذين يوشكون على التخرج أطرح عليهمدوما السؤال التالي : لأي مقصد كوّنتكم الجامعة؟ ويردّون دائما : التفكير في القوة إما بصورة إيجابية وإما بصورة سلبية. بالفعل ينبغي تنبيه الطلبة على سبل القوة لأنها لن تزال، لذا فلا بد من إتقان التعامل معها. لكن، مع ذلك لا يحسن اعتبار تكوين الطلبة لا يقصد إلا الى توجيههم نحو رذيلة بدلا من فضيلة. ألا يمكن دمج دراسة الصحبة في التكوين المدرسي والجامعي بما في ذلك الالتفات الى فعاليتها في تنمية المجتمع وكذلك تأثيرها على تقدمه ماديا ومعنويا على السواء بالإضافة الى دورها في تحسين الطرق التي تصبو إليها المنظمات والشركات لجلب مصالحها. مما لا شك فيه أن من يتقن سبل الصحبة هو أقدر على تلبية حاجات المجتمع وأقدر على جلب الرفعة للجميع وعلى حفظ كرامة الجميع.
الغريب في الأمر أنني لم أسمع أبدا وإلى حدود اليوم عن مادة في جامعة من الجامعات يدرسون فيها الصحبة لا بكونها رابطة تجمع بين فردين فقط بل بكونها قوة فعالة تترك آثارا واسعة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك بكونها سببا من أسباب استدامة الإنسانية عموما واستدامة تعاملها مع البيئة على وجه الخصوص. لن يظل شيء بعد الأزمة كما كان قبلها. فهل سنكون حينها قد تعلمنا الدرس بأن الفضائل وعلى رأسها الصحبة لا غنى عنها في حفظ المجتمع وتنميته بل وحفظ إنسانيتنا. فالفضائل لا تتناقض وسبل التقدم بل تترابط، الأمر الذي ستكشف عنه هذه الأزمة.
ماذا سنفعل استجابة لهذه الحقيقة؟ ماذا ستفعل – ماذا ستفعلين – استجابة لها؟ أما أنا فسأستمر في لفت الانتباه الى فضيلة الصحبة وضرورة دمجها في الدراسات الجامعية في كل ميادين العلم، وذلك تكوينا للطلبة في معرفة ما تجلبه الصحبة من خير في كل مجالات الحياة.