تغمد الله صديقي العلامة الدكتور جودت القزويني برحمته الواسعة، الذي رحل عن عالمنا في لندن مساء 7 نيسان 2020، وأسكنه الله فسيح جناته، وألهم زوجته الكريمة أم صالح، وولديه صالح وأخيه وأختهما، وبيت القزويني الكرام، الصبر والسلوان على فقدانه.
خبر رحيله للملكوت الأعلى أسوأ خبر سمعته هذه الأيام الكئيبة، جودت القزويني من أعذب أصدقاء العمر، وهو من نوادر الأصدقاء الذين ظفرت بهم حياتي.كنت على تواصل مستمر معه هذه الأيام، لأني لا أطيق الغياب عنه طويلا، فكيف أطيق غيابه الأبدي.
جودت القزويني من الأصدقاء النوادر الحاضرين في ضميري، تواصلت معه قبل أربعة أيام، فلما أخبرني انه لا يستطيع إجابتي، لتفاقم مرضه، غرقت بحزن أسود. وفجأة هاتفني الصديق الشيخ أبو أنس يخبرني بوفاته الليلة، نزل عليّ الخبر كالصاعقة، وبمجرد انتهاء المكالمة الخاطفة، شعرت بوحشة مريرة، بكى لها قلبي وكأنه ينزف دما، دموعي انسكبت كالشلال من دون أن تتوقف، مثلما هي عادتها أن لا تكفّ عند فقدان الأحبة، إلا عندما أشرع برثائهم عبر كلماتي المكتوبة التي تحتفظ بها ذاكرة صداقتنا الطويلة. أستفاقت فجأة الليلة في داخلي لحظة الأسى عند رحيل صديقي العلامة السيد هاني فحص سنة 2014، وكيف غرقت لحظة سماعي نبأ إعلان وفاته باكتئاب شديد.
عاشرت كثيرا من الناس في رحلة العمر، وكان قليل ممن عاشرتهم يثرون حياتي بأجمل معانيها. لم أجد للحياة معنىً من دون هؤلاء، وكأن الحياة تعاقب قلبي كل مرة، لأنها تعرف كم أنا مولع بالأحبة، لذلك سرعان ما أفتقدهم، أما بمنفىً اضطراري، مثلما حدث مع صديق العمر منذ 1968 ماجد الغرباوي، الذي فرضت عليه الأيام أن يعيش بعيدا في سدني، قبلما يقارب عشرين عاما، كنت أبكي في اليوم الحزين الذي ودّعته فيه في المطار، بعد مغادرته سألني ابني، الذي كان معي لحظة التوديع: لماذا تتألم إلى هذا الحدّ يا أبي، فقلت له: يا ولدي العواطف تمتلكنا لا نمتلكها، لحظة تغلي تتحكم بنا لا نتحكم بها، العواطف من أسمى عطايا الله في حياتنا، العواطف تعبّر عن ينبوع المعاني الآسرة في شخصية الإنسان، العواطف تعلن فيها الإنسانية عن حضورها الفاتن في ضمير المرء، العواطف الصادقة بطبيعتها يتفجر لهيبها بشكل عفوي، يضعف عقل الإنسان وتخور إرادته أمام ضراوة لهيبها، وغالبا ما يفشل الإنسان في إخماده. أشعر كأني أدفن جزءا من كياني عند غياب أحد الأحبة المقيمين في ضميري، لذلك تراني عاجزا في الغالب عن ضبط إيقاع عواطفي لحظة اعتمالها بداخلي.
يضيق العالَم بالتدريج وينحسر ألقه عندما نفتقد الأحبة، فكلما رحل أحدهم رحلت معه حزمة ألوان مضيئة كانت تشرق بها حياتنا ساعات نكدها واختناقها. لكل صديق نكهة خاصة، وكل صديق صدوق جذّاب على شاكلته، لأنه يضيء حياتنا بجمال أخّاذ، لا نتذوقه في غيره، وكأن صورة العالَم لحظة فقدانه يعاد تشكيلها في أعيننا، فيبدو لنا العالَم لحظة غيابه بصورة تختفي عنها ألوانها البهيجة، وفجأة ينعكس الشحوب على ملامح جمال العالَم.
كلما تقدم عمرنا فقدنا أكثر الأصدقاء، الذين نسكن اليهم ويسكنون إلينا، أما بالرحيل إلى العالَم الآخر، أو بغياب في منفىً اضطرتهم إليه الأيام الموجعة التي اكتووا فيها بطغيان الأنظمة الشمولية في أوطانهم. وغالبا ما يفقد الإنسان الحر، الذي يفكر بمنطق عقلاني نقدي،جماعةً من رفاق الأمس، ممن تتصلب معتقداتهم وتنغلق بالتدريج كلما تقدمت أعمارهم، إلى أن يبلغوا حالة لا يطيقونك لو تواصلت معهم. ينصبون أنفسهم ناطقين باسم الله، وباسم الدين، وكأنهم لا يعرفون أن الله لم يفوضهم بالوصاية على معتقدات الناس وضمائرهم، أو يجعلهم ناطقين باسمه، والطريف أن هؤلاء من الذين لم يقرأوا التراث قراءة خبير متبصرة، ولا تقع علوم الدين في إطار تخصصاتهم العلمية.
لشخصية جودت القزويني فرادة وسحر خاص، يفتقر إليه معظم المتدينين الذين عشت معهم، ولم أتحسسه لدى أكثر من عاشرتهم في حياتي، ينفر جودت من أي بروتوكول يزهو به حديثو النعمة من السياسيين في أوطاننا، كانت: بساطته، ومباشرته في التعامل مع الناس، وزهده بكل شيء، وأسلوبه التهكمي، تكسر كل بروتوكول زائف.
عندما تلتقيه كأنك لم تفارقه، وعندما يلتقيك كأنه لم يفارقك، عندما تنقطع عنه لا يتسقط أخبارك، لا يكترث بتقصي التفاصيل الجزئية المملة في حياتك الشخصية، ولا يبحث عن سقطاتك وأخطائك وهفواتك، مثلما يفعل أكثر البشر في مجتمعاتنا، لا يعاتبك إن انقطعت عنه، ويضطرك لئلا تعاتبه إن غاب عنك، لأنه لا يتدخل في ما لا يعنيه أبدا، وهو لا ينزعج من أية فكرة تتحدث بها أمامه، أو معتقد غير مشهور تصرح به في حضوره، يفكر بطريقته الخاصة، غير أنه لا يهتم لمعتقداتك مهما كانت، مثلما يفعل شرطة العقائد في مجتمعنا، الذين يعتدون على خصوصيات الناس وينتهكون حرياتهم، لا تخضع صداقته معك لإيمانه ومعتقده، الكل أصدقاؤه أيا كانت مشاربهم وقناعاتهم وأديانهم.
جودت القزويني على الرغم من أنه شاعر مطبوع، وناقد خبير، ويعرف العربية مثلما يعرفها علماء اللغة، غير أن لغته عندما يتحدث لا يتكلف فيها أبدا، ينفر من تقعر اللغة وتصنّع اللسان، يزدري التصنّع المقرف المسكون به بعض المتحذلقين، حديثه ساحر جذاب، لفرط ما يطغى عليه من عفوية متدفقة، يتحدث بلغة تذكرك بلهجة السوق البغدادية المكشوفة،بكل ما يحفل به قاموسها من كلمات محلية عارية من الأقنعة، مما تتنكر لها اللغة المصنوعة.
ينفرد جودت القزويني من بين أبناء جيله من الأكاديميين في الجامعة بشغفه في وقت مبكر من حياته بالتواصل المكثف مع الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وبناء علاقات استراتيجية عميقة مع رجال الدين والدارسين والباحثين فيها، وسعيه الحثيث لاستكشاف عوالمهم المستترة، وما تفيض فيه ذاكرتهم من: مواقف، وحوادث، وعِبَر، وشجون، وتجارب، لا نعثر عليها في محيط آخر، ما أتاح له أن يتشبع بمناخات الموروث، ويتموضع في أطيافه، ويتوغل في شتى حقوله. استلهم صنعة التوحيدي في”البصائر والذخائر”، وابن عبد ربه في “العقد الفريد”، والبهائي في “الكشكول”، وغيرهم، حين أضحى يدوّن كل حكاية، أو قصة طريفة، أو واقعة اجتماعية ذات دلالة وعبرة، من أفواه رجال الدين والشعراء والأدباء والفنانين والباحثين، حتى تراكمت لديه موسوعة صدرت سنة 2016 في 10 مجلدات، أسماها “الروض الخميل: صفحات من سيرة أدبية مطولة”. تستوعب شطرا مهما من سيرته الشخصية، وعلاقاته المتنوعة الواسعة، وصداقاته الخاصة، وتستوعب: آداب، وفنون، ومواهب، وخبرات، حاضرة علمية دينية أدبية ثقافية، يجهل الناس كثيرا من وجوهها المضيئة.
وبموازاة ذلك حرص جودت القزويني على تقصي واستيعاب السير الذاتية لاؤلئك الذين عاصرهم، أو أدرك معاصريهم، من: رجال الدين، والمفكرين، والشعراء، والأدباء، والفنانين، وظل يلاحقهم ويحثهم على تدوين سيرتهم، والكشف عن تجاربهم الحياتية، والتعريف بمنجزهم الفكري والأدبي والإبداعي، كلّ حسب تخصصه، وآثر أن يبتعد عن كتب التراجم والمؤلفات حول الأعلام، معتمدا على ما يتلقاه مباشرة من هؤلاء بأقلامهم، أو ما يقدمونه له من أوراقهم وأرشيفهم الشخصي، واستمر منذ أكثر من أربعة عقود مكرّسا معظم وقته في منفاه، ومن قبل في موطنه، لهذه المهمة، بل وظّف رحلاته وأسفاره لذلك، فتكونت لديه موسوعة تضم أعلام العراق في القرن العشرين. وانفردت هذه الموسوعة بميزات لا يتوافر عليها كثير من المصنفات في هذا المضمار في العصر الحديث، ذلك أن مادتها لم تتكرر في الكتابات الأخرى،كما أن كثيرا من المُترجَمين فيها ممن لم تذكرهم وتدون سيرهم المؤلفات المهتمة بهذا الشأن. لم يقع جودت القزويني يوما ما ضحية رؤية أيديولوجية، أو مواقف تعصبية، أو حالة نرجسية، أو نزعات عنصرية في تعاطيه مع الآخر،كان فيما استوعبه عابرا للطوائف والإثنيات والمعتقدات والأديان والثقافات، تضم موسوعته أعلام العراق بغض النظر عن أديانهم، فمثلا نعثر في كتابه على السيرة الذاتية لصديقه الأديب اليهودي مير بصري رئيس الطائفة الموسوية في العراق، بجوار رجل الدين الشيعي الأديب والسياسي محمد رضا الشبيبي، والمؤرخ السني محمد بهجت الأثري. استوعبت موسوعته تراجم الأعلام من مسيحيي العراق، ولم يتردد في استيعاب الأرشيف الذي يتضمن تراجم أعلام يهود العراق فيها، والذي أخبرني انه تلقاه من صديقه مير بصري، سمعت عدة مرات منه ثناء عاطرا على أدب هذا الرجل وتهذيبه وعلمه وثقافته الغزيرة. يقول جودت: كنتُ عندما أزور مير بصري وزوجته، في بيته بلندن، يبتهج بقدومي، ويخجلني احتفاؤه بي وخلقه وكرمه.
لم تقتصر موسوعته على ما حكاه الأعلام عن حياتهم، بل حاول الدكتور جودت القزويني تأليف ترجمة تعبّر عن رؤيته لحياة المترجم ومنجزه، وربما شفعها بإشارات تقويمية ومراجعات لبعض المواقف، على هامش تلك الترجمة.
لعل الأسلوب الذي ترسمه السيد جودت في تصنيف موسوعته هذه يمثل الحلقة الأخيرة من فن يوشك على الاندثار، في عصر يغرق بطوفان من مختلف المعلومات والمعارف والأفكار والمفاهيم المتاحة على الأنترنيت، وتصوغ عالما افتراضيا مدهشا، يغتني كل لحظة بالمزيد من المعلومات المتدفقة كالشلالات، غير أنه يفتقر إلى صبر طويل وجلد لباحث يفني حياته في الجري وراء معلومات يستقيها من أصحابها مباشرة، ويثريها على الدوام بما يكتشفه من نصوص وبيانات ووثائق، ويغربل المعطيات ويستأنف النظر فيما هو متعارف منها، ويعمل على قراءتها في إطار السياقات الحافة بها.
بوسع باحث أن يزعم أن بإمكانه تأليف معجم للأعلام المعاصرين بحجم يتجاوز هذه الموسوعة، الصادرة في ثلاثين مجلدا، لكنه لا يستطيع أبدا أن يوفر لنا مادة منتقاة من أفواه الأعلام وأقلامهم، أو من خلال معاصريهم، تغطي القرن الأخير، بما حفل به من رجال ووقائع وحوادث ومنجزات بالغة الأهمية.
أتمنى ألا أكون متشائما حينما أقول إن جهود الدكتور جودت القزويني تمثل الحلقة الخاتمة في حقل يوشك على الغروب، ازدهر في العراق على يد سلسلة من العلماء المحققين، بدأت بالشيخ آغابزرگ الطهراني، والأب أنستاس ماري الكرملي، ثم مصطفى جواد، وجواد علي، وكوركيس عواد، وغيرهم، ولم يتوقف التدوين العلمي الجاد في هذا المجال في العراق فقط، بل إننا لا نصادف باللغة العربية أعمالا مهمة مميزة، بعد موسوعة”الأعلام” لخير الدين الزركلي، الذي يعدّ المرجع الأبرز والأدق المدون في عصرنا في حقل التراجم.
مما يؤسف له أنه لم يعد أحد من الباحثين يعنيه هذا اللون من التأليف، ماخلا جماعة قليلة من المحققين في الحوزات، أو ما تبقى من رجال الحواضر الدينية التقليدية، وطالما سمعت تهكما على هذه الصنعة في الكتابة، ما اضطرني لمغادرة هذا المجال نهائيا، وغلق كافة ما لدي من ملفاته، وإهمال مخطوطاتي غير المكتملة، قبل أكثر من ثلاثين عاما، بعد أن صنفت ونشرت أكثر من ثلاثين مجلدا فيه، والانتقال الى نمط مختلف من الكتابة، منحني فرصا أوسع للتواصل مع الآخرين وحضرت من خلاله للواقع بشكل مباشر.
لأني أدرك الجهود المضنية للتأليف في هذا الحقل، وأثره الفائق في حفظ الذاكرة، وتوثيق الماضي القريب، وتدوين ما أهمله، أو تجاهله، أو غفل عنه الباحثون والدارسون، أضحى منجز الأخ المرحوم الدكتور جودت القزويني مرآة لأحلامي الماضية، ومطامحي السابقة في التأليف، وكأني حققت من خلال آثاره ما تخليت عن إنجازه نهائيا بالأمس.
كما أن كافة الآثار تجسد الشخصية العلمية والأدبية والثقافية لأصحابها، وتؤشر على مواهبهم وخصائصهم، فإن “تاريخ القزويني” ما كان له أن يبلغ هذا المستوى من الاستيعاب والشمول والدقة، لولا السمات الشخصية للسيد جودت، فقد تميزت شخصيته برقة وتهذيب، وزهد غريب بالعناوين البراقة والسلطة والمال، وبكل ما يتكالب عليه أكثر أبناء جيله في العراق. ديناميكية شخصية جودت منحتها علاقات حميمة مع كل أصدقائه، والذين يعرفونه يتفقون على أنه: بسيط كالهواء، طري كالماء، بسيط وليس ساذجا، طري وليس هشا، عفوي وليس فوضويا، متواضع وليس متسكعا، متدين وليس متنطعا، أخلاقي وليس نرجسيا، إنساني وليس أنانيا، حرّ وليس متهتكا، مكتفٍ بذاته من دون أن يتتبع عثرات الآخرين وخطاياهم، عالِم يحسبه من يعاشره بأنه من عامة الناس، أديب وشاعر مبدع، لا يعرفه إلا الأدباء الموهوبون، والنقاد المحترفون، مؤرخ ذكي يغوص في التراث، ويحاكم وقائعه، ويمحص مروياته ويختبرها في ضوء معايير علمية موضوعية.
سألني صديق لماذا لم تكتب عن فلان الذي توفي قبل من مدة، وضجت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بالكتابة عنه، فقلت له: لا يمكن أن أكذب في كتابتي، فإن كتبت شيئا مما أعرفه عنه، يجرح ذلك مشاعر مريديه بعنف، وأنا لا أستطيع أن أتسبب بأذى عاطفي لأي إنسان صادق في مودته، وإن كان لا يدري أنه وقع ضحية تمثيل لممثل بارع، لا يرى الإنسان الصادق في مودته ما تراه أنت في أعماق شخصيته الغاطسة، المختفية خلف قناع زائف، تعلن الزهد والإعراض عن الدنيا وحطامها، وتخفي ما ينفي ذلك. كما قلتُ له: إن أكثر المشهورين من السياسيين وغيرهم في مجتمعنا شهرتهم أكثر بكثير من منجزهم وعلمهم وأخلاقهم.
جودت القزويني إنسان غير مشهور، علمه ومنجزه وأخلاقه أكثر بكثير من شهرته. برحيل جودت القزويني فقدَ العراق اليوم أحد أبرز علمائه المغمورين، عالِمٌ عاش زاهدا زهدا حقيقيا بكل شيء. سيعرف الناس، ولو بعد سنوات، ما أنجزه هذا العالِم المحقق من آثار مهمة، في حقل تخصصه واهتمامه. آثاره ستفرض نفسها على المهتمين والدارسين، لن تمحوها ذاكرة الأيام مهما تقادمت، ولا يمكن ان تنساها ذاكرة المكتبات… “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ”. الرعد، 17. “إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ”. ق،37.
بغداد، 7.4.2020