في حرية الضمير والمعتقد
مرّة أخرى: الإلحاد، كما الإيمان، سواء بسواء، حق من حقوق العقل البشري. ولا معنى للإيمان ولا قيمة إنسانية له إذا لم يكن خيارا من بين مطلقين أحدهما الإلحاد أو خيارين نسبيين أحدهما الكفر. فالكافر بمنظور الدين الذي ننتسب إليه قد لا يكون ملحدا، ولكنه مؤمن بدين آخر ورافض لديننا. يولد ابن الإنسان موضوعا بين خيارين، واقفا بين نجدين: إما مؤمنا شاكرا، أو كفورا. يجهّزه الخالق عز وجل من رحمته بالفطرة. وهي نداء داخلي وشعور وجداني نحو كل ما هو ملائم لتكوين الإنسان كما خلقه الله عز وجل. الكفر قد يكون فرصة وجودية وأخلاقية للإنسان للإفلات والتحرر من معتقدات بالية والتحول إلى معتقد سليم. قال الله عز وجل على لسان عيسى عليه السلام: “إني كفرت بما أشركتموني من قبل” (إبراهيم: 22). القدرة على الكفر هي شرط من شروط إمكان الإيمان. أي شرط الحرية. بالحرية نحن مؤمنون. ولو كنا مضطرين للدخول في “دين الملك” ما كنا مؤمنين حقا بفعل اعتقاد شخصي صميم. أي حر ونسعد به. الحرية دائما تفتح على أكثر من خيار.
الإلحاد هو أيضا إمكان عقلي. وهو نتيجة إفراط في استخدام دهراني وضعاني للعقل، على حساب نقد جدي لحدود العقل والإعراض عن الاستماع لنداء الفطرة.
الموقف الأخلاقي من الإلحاد ليس الحقد والتشهير والاستعداء، بل التفهّم والقبول بالمختلف وبالتعدد والتعايش ضمن المشترك الإنساني. ولكن متى ينقلب هذا الموقف لنقيضه؟ ينقلب هذا الموقف بعدم إبداء الملحد نفس الموقف الأخلاقي الذي يفترض بالمؤمن إبداءه إزاءه. أي عندما يكون الملحد غير متفهم للإيمان وإنما استئصاليا وحقودا وعنيفا. عندها من حق المؤمنين حماية حريتهم في الاعتقاد من جنون الملحدين أو المتعصبين لديانات ومذاهب أخرى. في إطار التنظيم الأشمل للمجتمع الذي يسمى الدولة، تتولى الدولة نيابة كل صاحب عقيدة في حماية حرية ضميره (بما في ذلك الحق في الإلحاد) من اعتداء أصحاب العقائد المختلفة، وتفرض على الجميع احترام مقدسات الأمة والشعب. في كل الحالات أمران يفرضان الاحترام أخلاقيا وبسلطة القانون: الحرية والعقل. وعندما نذكر الحرية فإننا نذكرها بمعناها الكوني لا بمعناها الذاتي والمزاجي. الجميع أحرار ولذا الجميع محترمون ومحميون من استفزاز الآخرين وعدوانيتهم واعتداءاتهم. أما العقل، ففضلا عن كونه مفتوح بطبيعته على متعدد في التفكير، فإن من حقه أن يخطئ. بل إنه من المستحيل عليه ألا يخطئ. ولذا لا تعامل مع تعدد الأفكار، التي بعضها يرجح بعضا في الوجاهة أو بعضها يساوي بعضا في الاختيار، ولا معالجة لانحرافات العقل، إلا بتعليم الصبيان والشباب مناهج التفكير السليم والمتشعّب وتثقيفهم بكنوز تراث البشرية بدءا بلغتهم الأم وثقافتهم الوطنية ومبادئ التفكير العلمي، وبمناظرة أصحاب المذاهب الفلسفية والدينية المختلفة مناظرة عقلية وعلمية، إما من طريق إلقاء المحاضرات أو تأليف المقالات والكتب، وإما وجها لوجه، الحجة بالحجة والدليل بالدليل.
وفي تونس، نحن نعتز ونفخر بعقول حرة بحق ونزيهة بحق مهما اختلفت بصدق: عبد الوهاب بوحديبة وهشام جعيط ومحمود المسعدي ومحمد الطالبي وفتحي التريكي وأبو يعرب المرزوقي وفتحي المسكيني وغيرهم…كما نحتفي في بلد شقيق كالجزائر بالمفكر مالك بن نبي وبالمفكر والباحث محمد أركون، وفي المغرب بالفلاسفة والمفكرين محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن وعبد الله العروي، وغيرهم في هذين البلدين الشقيقين وفي بقية البلاد العربية.