الليبرالية والأخلاق الإسلامية: على هامش الدرس الحسني لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية (2)
انتهى الوزير توفيق إلى أن حركات التجديد التي اشتهرت في العالم الإسلامي كانت حركات تنظير بعيد عن الواقع. افتقدت المعرفة الوظيفية بحقيقة مقولات: (الإسلام صالح لكل زمان ومكان) ومقولة( لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ماصلح به أولها). فقد افتقدت هذه الحركات إلى التشخيص المناسب وفهم الواقع المعاصر، خصوصا مايتعلق بالغرب. فإذا كان التجديد لايقصد به التجديد الشامل للدين، كما تدعي الحركات التجديد ية المخاصمة للدين، فإن الغرب نفسه ليس غربا واحدا، إذ تقتضي معرفته التمييز بين تفوقه القائم على العلم المادي وعلى تطبيقاته الصناعية، ثم المقارنة بين مثله ونماذجه الأخلاقية وبين أفاعيله في السياسة بمايحصل من مآسي في العالم باسمه. وفي المقابل يقدم لنا الغرب نموذجا ايجابيا ، بنظر الوزير التوفيق، هو النموذج الليبرالي، وهو قابل للاستلهام في شقه النافع. ويحتاج هذا الاستلهام إلى تركيب وصفة تجمع بين الشق النافع في الليبرالية وبين الجذر الديني الذي تقوم عليه إمارة المومنين في المغرب. وهو ماعمل الوزير التوفيق على صياغته في المحورين الثاني والثالث من درسه، يتعلق الأول ب( تجديد الدين في إمارة المومنين، ماضيا وحاضرا) والثاني ب(آفاق التجديد واستشراف المستقبل في الدين). وهو تركيب ينطوى على الكثير من التناقضات العملية والنظرية، والإحراجات الفكرية في السياق التداولي الإسلامي والمغربي تحديدا، أو على الأقل يحتاج إلى تفاصيل أخرى، ربما مما لم يسمح به سياق إلقاء الدرس، زمانا ومكانا، ولكنه يفتح نقاشا جديا حول حقيقة الخلفية النظرية التي يستند إليها مقترح الأستاذ التوفيق، ليس في هذا الدرس فقط بل في دروس أخرى ألقاها في حضرة الملك، وقد ترجمتها أو قد تترجمها إجراءات تدبيرية في الشأن الديني بشكل أوضح مستقبلا، جزئيا أو كليا.
يتحدد التجديد في الدين ماضيا عند الوزير التوفيق في إطار إمارة المؤمنين في منجز الدولة العلوية التي تميزت، بنظره، بتقديم برامج إصلاح ميدانية. وأما التجديد في الدين حاضرا فيحدده في العقدين الآخيرين من الحكم بالمغرب، وهو يقصد فترة الملك محمد السادس تحديدا، وكذلك فترة توليه هو، أي الوزير التوفيق، مسؤولية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وتدبير الشأن الديني. وكان الدرس، في هذا المستوى، أقرب إلى تقديم حصيلة برنامج إصلاح الشأن الديني خلال العقدين الآخيرين.
لايمكن فهم برنامج الإصلاح الديني الذي قادته الأسرة العلوية في المغرب، بنظر الوزير التوفيق، إلا بفهم منجزاتها الكبرى ذات الطابع السياسي، وهي: استعادة الوحدة السياسية للمغرب بعد التفكك الذي حصل أواخر الدولة السعدية(1548-1660)، وإعادة الأمن والاستقرار، وممارسة التحكيم المرضي بين مختلف عناصر المجتمع، ومواجهة الأطماع الأجنبية في الشرق والشمال. ورافق هذه المهام الكبرى إجراءات ميدانية في مستوى تجديد الدين سماها الوزير توفيق (علامات) لبناء الجذر الديني/ التعاقد بين السلطان والرعايا. وكانت هذه العلامات عبارة عن ( نصائح سلطانية) في شكل رسائل، أرسلها ملوك علويون هم مجددو قرونهم في المغرب، بنظر الوزير التوفيق. وحددها في ثمان رسائل، الأولى أرسلها سيدي محمد بن عبد الله باعتباره مجدد القرن الثاني عشر، والثانية والثالثة أرسلها مولاي عبد الرحمن، والرابعة سيدي محمد بن عبد الرحمن، والخامسة مولاي الحسن، والسادسة والسابعة مولاي عبد العزيز، والثامنة الحسن الثاني بمناسبة القرن الخامس عشر الهجري. وتضمنت الرسائل السبعة السابقة، خصوصا السادسة والسابعة، معاتبة الناس على التفريط في الدين وعدم الاهتداء بالعلماء، وتضمنت كذلك لوم العمال والقضاة على فتورهم وعدم تحمل مسؤولياتهم في تنزيل مقتضيات الدين، بإقامة العدل، وإقامة كل مسجد وإمام مشارط في كل حي. وأما رسالة الملك الحسن الثاني(وجهها سنة1981) فكانت أكثر وضوحا في التعبير عن الجذر الديني للنظام السياسي في المغرب، بمنظوره التجديدي. فقد عبر فيها الملك على أن الله أكرم المسلمين بدين صالح لكل زمان ومكان، وشريعة لاتحتاج إلى إدخال أي تعديل على مبادئها، وإنما يتوقف الأمر على استيعابها، عبر وساطة العلماء والمفكرين المستوفين لشروط الاجتهاد دون ضغوط وبلاشروط خارجية. لذلك ورد في نص الرسالة( وهي بالمناسبة موجهة للمغاربة ولعموم المسلمين) قول الملك الحسن الثاني :” معاشر المسلمين: لقد أكرمنا الله بدين متين الأساس راسخ البنيان، صالح لكل زمان ومكان، وما من شعيرة من شعائره، ولاشريعة من شرائعه، إلا وهي مؤسسة على تقوى من الله ورضوان(…)وأن نعيد للتربية الدينية والخلقية ماكان لها من الاعتبار والأهمية في تنشئة الأجيال، وأن نجعل من الأم المسلمة أما مثالية تعتز بأن تكون هي المربية الأولى للناشئة والأطفال(…) وأن نجعل من المدرسة والكلية والجامعة، إلى جانب المسجد، الملتقى المفضل للعلم والإيمان”. وأما في عهد الملك محمد السادس فقد حدد الوزير التوفيق علامات التجديد الميداني خلال العقدين الأخرين في عشرين نقطة/محطة تجديدية، هي: تثبيت لقب رئيس الدولة أميرا للمومنين، وتثبيت شرعية الحكم على أساس البيعة، والتزام الحاكم بالضرورات الشرعية أو قل: الكليات الخمس، وحفظ الدين من خلال توفير شروط الصلة مع الله، وحماية النفس بتوفير الأمن من الخوف على الحياة، وحماية العقل بصيانة المعروف الجماعي ضد الفوضى، وحماية المال بالاقتداء المنهجي بالأولين الذين فهموا مقتضيات ذلك في حدود عصرهم، وحماية العرض بضمان الكرامة الإنسانية من خلال توفير الحاجات الأساسية، والحريات العامة بما يتعلق بالسلوك في إطار التشريعات التي تقرها الدولة مما يعتبر من مستلزمات العصر، والاجتهاد في إطار عقيدة إمارة المومنين التي عبر عنها الملك بقوله:( لاأحرم حلالا ولا أحل حراما) واعتبار المجلس العلمي الأعلى مرجعا جماعيا للفتوى مع الأخذ، منهجيا، بماهو مطابق للعقل من جهة المصلحة، وحماية الأسرة على قاعدة المودة والسكينة دعما اجتماعيا وإصلاحا حقوقيا وتجديدا قانونيا، والعناية بالمرأة مناضلة إلى جانب الرجل، ورفع الحرج عن ضمير المسلمين مما سببه بعض المتكلمين في الدين ( ينظر درس حسني ألقاه الوزير التوفيق، بعنوان: الكلام في الدين:أسسه وتجلياته، 3رمضان 1431/14غشت 2010) عندما ادعوا، بنظر الوزير التوفيق، أن الربا هو الفائدة على القرض بأي قدر كانت، مع أن القرض اليوم يلتجئ إليه الناس، أو الدول حتى، للضرورة أو الاستثمار، وتكون الفائدة بقدر النمو الاقتصادي في البلد المعني، ثم إن حكمة القرآن في التصدي لاستعباد العاجز عن رد الدين بفوائد مضاعفة وهو الربا. لذلك تجلى تجديد الدين في المعاملات المالية في إمارة المؤمنين من خلال إحداث المعاملات المالية التشاركية( وقد أصدر المجلس العلمي الأعلى حوالي 170 فتوى في الموضوع). ومن علامات التجديد التي أوردها أيضا الوزير التوفيق في إطار إمارة المؤمنين العناية بالمسألة الاجتماعية في إطار برامج تضامنية، وكذا الاهتمام بالمسألة الثقافية من خلال تعزيز الارتباط بالأرض والبيان في القول، واعتبار آيات الجمال في الكون والطبيعة، ورعاية التعدد الثقافي واللغوي بين مكونات الأمة المغربية، وحماية القيم الروحية عبر دعم الزوايا وشيوخها وترميم الأضرحة والاحتفال بذكرى المولد النبوي، وحماية الخصوصية المغربية في إطار الانتماء للأمة الإسلامية، ورعاية نهج الوسطية في العقيدة، وحماية الأرض كجزء من حماية الدين، وصيانة الروابط العلمية والروحية مع إفريقيا وتعزيز المشترك العقدي والمذهبي من خلال تدابير مكملة عبر إحداث مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة.
كان إذن المحور الثاني من درس الوزير التوفيق أقرب إلى عرض حصيلته في تدبير الشأن الديني أمام الملك. وهي حصيلة انعكست بنظره على تدين الناس وعلى حياتهم، بما يحقق فارقا منهجيا وميدانيا مع دعوات التجديد التي بقيت محصورة في مقارباتها النظرية، سواء في فهم التجديد أو في مواجهة الغرب الأيديولوجي. وانتقد الوزير التوفيق في هذا السياق مفهوم (التوحيد السلفي) الذي تحول إلى وصفة سحرية لكنها معطلة لحالة التدين وعلاقته بحياة الناس. لذلك اقترح الوزير التوفيق إطارا تربويا ونظريا موجها للتجديد الميداني الذي تسير على خطاه إمارة المؤمنين في تجديد الدين، باعتباره أفقا استشرافيا، وهذا الإطار التربوي هو التصوف من أجل تحويل المؤمن إلى (إنسان جديد، مصطلح مفتاحي ورد في الدرس)، عبر التزكية بما هي تحرير للإنسان حتى يحب لأخيه مايحبه لنفسه، وعبر الذكر إعمالا له من أجل ايقاظ همة الذاكر. فهذا الموجه التربوي يساعدنا، بنظر الوزير التوفيق، على تجاوز عقدة الهوة بين الدين والتدين، أو قل بين المثال والسلوك، وتحقيق الربط الاستلزامي بين كمال الدين وجودة التدين. وجودة التدين هي العمل بالدين، والتحلي بالتوحيد كسبيل للحرية، وتحقيق الحياة الطيبة التي وعد الله بها الإنسان على شرط الإيمان والعمل الصالح، على قواعد: محاسبة النفس، والشكر برهانا على الإيمان، وآداء حقوق الله والغير والنفس، واعتبار العمل بالقانون من المعروف والإخلال به من المنكر، وتجنب الإسراف والتبذير. تفتحنا هذه المرجعية التربوية، بنظر الوزير التوفيق، على باراديغم جديد هو التوجه التخليقي والإنسان الجديد، بأفق عملي جديد يأخذ فيه العلماء المبادرة بالنزول إلى الميدان، انطلاقا من المسجد، وفي إطار إحياء (جماعة المسجد). يقتضي هذا التوجه التخليقي التواصل والتعارف مع من يوجدون خارج الدائرة الإسلامية، بحكم التزامات الدولة مع العالم، لذا حرص الوزير التوفيق على تكميل الإطار التربوي بإطار نظري جديد على ( التدين المغربي) وعلى المعرفة الدينية المغربية، الرسمية أو الحركية أو الشعبية، أو حتى الأكاديمية. وهو ماظهر في المرجعيات والأشخاص الذين صرح بهم الوزير التوفيق في درسه، وهم: وائل حلاق(فلسطيني مسيحي)، وصاحب كتاب (الدولة المستحيلة)، وتشارلز لارمور Charles Larmor( فيلسوف أخلاق أمريكي)، و ألسدير ماكنتاير Alasdair Maclntyre(فيلسوف أخلاق اسكتلندي). فهذا الثلاثي ينتمي إلى فئة فلاسفة الأخلاق المعاصرين، من الفضاء الأنجلوساكسوني، الأمريكي تحديدا. ثم إن الإثنين الأخيرين يمثلون توجها ليبراليا حداثيا، ويؤسسون لأطروحاتهم الأخلاقية من داخل النموذج الحداثي الصلب، ومازالوا يؤمنون بالحاجة إلى هذا النموذج برغم أزماته وانسداداته، وما سببه بنظر لامور نفسه من الفزع والرعب للإنسان. لذلك جاءت اقتراحاتهم في إطار تصور أكبر يتعلق بالفلسفة السياسية الليبرالية القادرة اليوم على ترميم جدار الحداثة المتهاوي. وجاءت مقترحاتهم في إطار الصراع المستمر الذي دشنته الحداثة أو قل عاشت فيه بين أخلاقها وأخلاق الدين. إن الإطار المرجعي الذي ينطلق منه لارمور وماكنتاير إطار حداثي استقلت فيه الأخلاق عن الدين كما استقلت عنه العلوم، فكيف يمكن تركيب هذا المرجع الحداثي على مرجع تربوي/صوفي يستمد أخلاقه من الدين، فلارمور في كتابه (أخلاق الحداثة) يعالج مشاكل مجتمع حديث تخطى الدين، ويوجد في ماوراء الدين، عالم لم يعدالإله قادرا فيه على تولي شؤونه، ولكن من دون أن يعني ذلك أن إنسان اليوم، في ظل الحداثة الصلبة، قادر على أن يكون وريث الله في تدبير العالم. إن نقاش الأخلاق في درس الوزير التوفيق هو نقاش في الدين، أو في التدين، أو هكذا يفترض، أما نقاش لارمور فهو نقاش في الفلسفة السياسية. فهل هذا يعني أن الباراديغم التوجيهي الجديد للتدين المغربي يستند نظريا على أفكار الفلسفة السياسية، وليس الأخلاق الإسلامية كما تعودنا في الميراث الفقهي والفكري الإسلاميين؟ إن فلاسفة الأخلاق المعاصرين لايجيبون عن أسئلة الدين بل عن أسئلة الحداثة، لذا كانت عناوين بحوثهم تدل على ذلك، فميشيل فوكو كان يبحث عن الاهتمام بالذات واستعمال الملفات في الحداثة، وهابرماس كتب في (أخلاق الحداثة) ، وفرانسوا ليوتار(1924-1998، عالم اجتماع فرنسي) في المختلف، وكتب جاني فاتيمو (1936-2023، فيلسوف وسياسي إيطالي) عن (نهاية الحداثة)، وتشارلز تايلور عن (عظمة الحداثة وبؤسها). وبرغم الموقف الوسط الذي كان يقف فيه لارمور في مجموعة من النقاشات الحادة في علاقة الأخلاق بالدين، فإنه كان يقول باستقلالية الأخلاق عن الدين، وبأن الحداثة هي مصدر تفكيرنا الأخلاقي،( ينظر كتابه: استقلالية الأخلاق، 2008).كما انحاز إلى الأخلاق العقلانية على حساب العدالة الإلهية، وقال بعدم تجانس الأخلاق… لقد قدم لارمور مدونة أخلاقية غنية ومتشعبة، ومملوءة بالنقد والسجال والتنظير، لكنها تفتقد إلى نقطة الارتكاز والثبات التي يوفرها الدين في النماذج الأخرى مثل النموذج المغربي، لذا كان النص الأقرب إلى الأفق الذي يتكلم عنه الوزير التوفيق هو منجز الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، والذي سيستغرب كل متتبع لدرس الوزير التوفيق تغييب أطروحته الأخلاقية وعدم استثمار هذا المنجز في البناء الاستدلالي الذي قدمه درس الوزير. مع أنه ذكر كتاب المفكر الفلسطيني وائل حلاق (الدولة المستحيلة)، وهو كتاب يهدم إحدى قواعد البناء التي ذكرها الوزير في درسه وهي اعتبار احترام قوانين الدولة الحديثة معروفا والخروج عنها منكرا، فكتاب الدولة المستحيلة هو أقرب إلى بيان حرب ضد الدولة الحديثة في المجتمعات الإسلامية، وإعلان انفصال لا رجعة فيه بين الحداثة والإسلام. فإذا كان لارمور يعالج أزمة الحداثة الأخلاقية بأدوات الحداثة، فإن وائل حلاق يشدد على أن هذه الحداثة وأدواتها أعجز على معالجة مشاكلنا، لذلك وضع عنوانا فرعيا لكتابه هو: الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي. لذا كان الكتاب المناسب لأطروحة الوزير التوفيق هو الكتاب الآخر لوائل حلاق بعنوان: (إصلاح الحداثة: الأخلاق والإنسان الجديد في فلسفة طه عبد الرحمن). فمشروع طه عبد الرحمن هو المناسب في هذا السياق، وليس كتب رموز فلسفة الأخلاق المعاصرين، لأنهم، وهم مفكرون عظماء بالمناسبة، يجيبون عن أسئلة حداثتهم، ومن غير المنطقي استحضارهم في سياقات لاتتحمل إجاباتهم، مثل السياق الديني المغربي، وإلا هل يمكن أن نسمع غدا في المسجد فقيها، أو واعظا ومرشدا، أو إماما في الجمعة، يحيل المصلين على لارمور، وماكنتاير، أو يشرح لهم منهجهم الأخلاقي، كما يحيل على الإمام مالك وعلى الغزالي وعلى القاضي عياض… فإذا كان الكلام في الدين من دون ضوابط مرجعية يشوش على اليقين العام للمؤمنين، وإذا كان استثمار الدين في السياسة يسمم الدين والسياسة معا، فإن الحديث في الدين بمنظورات مجتثة من سياقاتها، ينبئ بخطر على باراديغم دين المجتمع وتدينه، بما يهدد الأمن الروحي للمواطنين، وبما يسبب أتعابا لإمارة المؤمنين في تدبير الشأن الديني في هذه الظروف الصعبة فكريا ودينيا.
إن استثمار مفاهيم الفلسفة السياسية الليبرالية في معالجة قضية التجديد في الدين قد زج بدرس الوزير التوفيق في نقاش أقرب إلى السجال السياسي، فهي مفاهيم صلبة مستخرجة من تاريخ معقد من خصومة الحداثة والدين، بما يزيد في تسييل الدين تصورات ومفاهيم وقواعد ومعاملات(التسييل، من السيولة، تنظر أطروحة الفيلسوف البولندي زيغمونت باومانZygmunt Bauman(1925-2017)) ، واقتلاع كل ثابت في الدين، وتحويله إلى منظومة من (اللايقين)، بما يشكل خطرا على النسق الديني برمته. وقد برز هذا النوع، ربما غير الواعي وغير المقصود في درس الوزير، في ختامه، عندما قال، من غير سياق منسجم وتنبيه مسبق، بأن (تسديد التبليغ) هكذا، يخفف من كلفة التدبير السياسي، ومعرفا السياسة بأنها تدبير الضعف الذي خلق عليه الإنسان، وأن النفقات العمومية تكون على مقدار هذا الضعف، وإذا تقوى الإنسان بالتربية على محاسبة النفس والشكر على انفاق الجهد والمال فإن تكلفة التدبير السياسي ستنخفض لامحالة. كما أن اكتساب المناعة ضد التشويش الداخلي والخارجي باسم الدين وضد أنواع الفتنة يساعد على مواجهة التحديات. لقد انزلق الدرس بفعل فتنة الفلسفة السياسية من معالجة شؤون الدين إلى تبرير السياسة بالدين. ولا أتصور أن كل ما ادعيته في هذا التحليل يقصده الوزير في درسه، ولكنه يحفز على التأويل في ذلك الاتجاه، بما يتطلب المزيد من الدقة في التعبير وفي المعالجة وفي ضرب الأمثلة وذكر الإحالات.
شكرا جزيلا على هذه القراءة المستبصرة والكاشفة الأستاذ الفاضل